أما قبل ...
مقدمات تاريخية
الامتيازات الأجنبية
إنجلترا وفرنسا
الديون
قناة السويس
الصهيونية
الدولة العثمانية
جنود وموظفون
نهضة الإصلاح
صفحة غير معروفة
أحمد عرابي
الخديو توفيق
من حملة إلى حملة
أما بعد ...
أما قبل ...
مقدمات تاريخية
الامتيازات الأجنبية
إنجلترا وفرنسا
الديون
قناة السويس
صفحة غير معروفة
الصهيونية
الدولة العثمانية
جنود وموظفون
نهضة الإصلاح
أحمد عرابي
الخديو توفيق
من حملة إلى حملة
أما بعد ...
ضرب الإسكندرية في 11 يوليو
ضرب الإسكندرية في 11 يوليو
صفحة غير معروفة
تأليف
عباس محمود العقاد
أما قبل ...
عند مشرق الشمس من يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882 أخذ الأسطول البريطاني في إطلاق قذائفه على الإسكندرية، فجاوبته إحدى قلاعها بعد الطلقة العاشرة، وجاوبته القلاع الأخرى بعد الطلقة الخامسة عشرة، واستمر إطلاق النيران من الأسطول على المدينة إلى الساعة الخامسة، ولم ينقطع تماما إلا عند الغروب.
وكان قائد الأسطول قد أجاب وكلاء الدول في الإسكندرية مطمئنا لهم حين سألوه عن خطر البقاء في الإسكندرية بعد إنذارها بالضرب، فأكد لهم أنه سيعمد إلى القلاع دون غيرها بقذائفه فلا خوف على أحد من سكان المدينة. ولكن القذائف قد أصابت المساكن الأوروبية والمصرية خبط عشواء، وقالت صحيفة الطان الباريسية يومئذ: «إن قذائف السفن أصابت مساكن الأوروبيين التي تبعد كثيرا عن خط القتال وسقطت إحداها في المستشفى الأوروبي، وقد أوت إليه الراهبات واليتامى وعليه رايات الصليب الأحمر، فلم تنفجر القذيفة لحسن الحظ، وأكد الإنجليز أنهم لم يروا على المستشفى أية راية ...»
وقالت صحيفة التيمس: «إن بعض القذائف قد سقط في الأحياء الأوروبية إلى جوار القنصلية الإنجليزية على مسافة ألفي متر من حصن قايتباي.»
وقالت صحيفة الفاردي ألكسندري: «إن قذائف الإنجليز التي كانوا يرمون بها حصن كوم الدكة، سقط منها اثنتان في حديقة دير الفرنسيسكان، وقذيفة في ساحة رهبان المدارس المسيحية، واثنتان بالقرب من دير الأيتام، واثنتان في الحدائق التي تكتنف أبنية المدرسة الإيطالية الجديدة.»
هذه رواية الصحف الأجنبية عن المواقع الأوروبية التي استهدفت لقذائف الأسطول، ومن السهل أن يتخيل القارئ مدى الخراب الذي أصاب المدينة كلها في مساكن الوطنيين وغير الوطنيين .
لقد كان عابر الطريق في الإسكندرية بعد ذلك اليوم المشئوم يعبر الأحياء العامرة، فلا يمر بغير الأطلال والأنقاض ولا تقع عينه على بيت قائم بين عشرات البيوت المنهارة أو المتداعية، وقد صدق أديب إسحاق حين قال في رثاء المدينة، وقد شهد الخرائب بعينيه:
يا وارد الإسكندرية طامعا
صفحة غير معروفة
بمنافع الإصدار والإيراد
أقصورها خفيت عن الأنظار أم
آثار قصري في القفار بوادي؟
هذي عروس الشرق ماتت فاكتسى
حزنا عليها الغرب ثوب حداد
بالأمس كانت والبياض دثارها
واليوم صارت أرسما بسواد
كانت ملاذ الخائفين فأصبحت
والخوف منها مبعد القصاد
كانت موارد للظماء وقد غدت
صفحة غير معروفة
ما أن بها من مورد للصادي
كانت مواقع نعمة فغدت وما
فيها سوى البأساء للمرتاد
كانت وكان الدهر سيد أهلها
فأصابها بالأهل والإسعاد
كانت وكنا لا ينام حسودنا
صارت وصرنا راحة الحساد
كم حامل خرجت بها محمولة
فوق الكواهل أو على الأعواد
ومعمر لم يبق في الدنيا له
صفحة غير معروفة
غير السكينة من منى ومراد
ومريض قوم غاب عنه طبيبه
وجفاه أنس الأهل والعواد
خرجوا وهم لا يهتدون سبيلهم
والنائبات روائح وغوادي
فيم كانت هذه الفاجعة الدامية؟ فيم استبيحت هذه المدينة لمن أنذروها وأصروا على ضربها فضربوها؟ •••
إن بيان ذلك مسطور في «الإنذار» الذي تلاه الغرب بعد يوم واحد، وهذه ترجمته إلى العربية:
أتشرف بإخبار سعادتكم أنه نظرا لحدوث استعدادات حربية آخذة في الازدياد منذ يوم أمس في حصون السلسلة وفاروس - قايتباي - وصالح، وهي موجهة بالطبع إلى الأسطول الذي تحت قيادتي، فقد عقدت العزم على أن أنفذ غدا عند شروق الشمس العمل الذي أعربت لكم عنه في خطابي المؤرخ في السادس من الشهر الجاري، إن لم تسلموا لي حالا قبل هذه الساعة البطاريات المنصوبة على رأس التين وعلى الشط الجنوبي لمنع التسلح بها.
ويفهم من هذا أن قائد الأسطول قد استباح ضرب المدينة العامرة بسكانها من جميع الأجناس؛ لأن حصونها تستعد لدفع الهجوم عنها، ففيم كان هذا الهجوم عليها؟
إن النائب الإنجليزي «ريتشارد» قد أغنانا عن تسخيف هذا العذر حين قال في مجلس النواب: «أرى رجلا يحوم حول داري وعلامات العدوان بادية على وجهه، فأعمد إلى الأقفال لأغلق أبوابي ونوافذي فيثور غضبا ويزعم أنني أهينه وأهدده وأنه يقتحم علي بيتي ليذودني عن نفسه ولا يزيد عن حق الدفاع.»
صفحة غير معروفة
وهذه علة بالغة في السخافة لو صح أن الأسطول البريطاني كان معرضا لشيء من الخطر بعد استعداد الحصون المصرية لدفع هجومه عليها، ولكنه مع هذا لم يكن عرضة للخطر على الإطلاق، ولم يكن أيسر عليه من تحويل موقعه فلا تصيبه قذيفة حصن من الحصون، وكانت مدافعها كما هو معلوم أقصر مدى من أضعف مدافع الأسطول. وفي ذلك يقول إنجليزي آخر هو مستر «رويل» الذي كان محاميا أمام محكمة الإسكندرية المختلطة، ثم عين مستشارا بمحكمة الاستئناف الوطنية، وألف كتابا عن الحملات المصرية، قال فيه: «إن الخطر الذي كانت تستهدف له مدرعات الأسطول من جراء الاستعدادات المصرية لم يكن إلا خطرا وهميا في ذلك الحين، وعلى فرض الخطر الحقيقي كان في الإمكان اتقاؤه إذا انحرف القائد بأسطوله بعض الانحراف.»
والقائد نفسه كان يدرك ما في معاذيره من الوهن والتجني المفضوح، فترك الوقائع ولجأ إلى الأحلام والنيات يعلل بها استباحته للمدينة العزلاء، وكان فيما كتبه إلى مجلس البحرية: «إن أحمد عرابي يشيع أن النبي يزوره كل ليلة ويرجو أن يوقع الأساطيل المتحدة في الفخ بمراكب محملة بالحجارة يغرقها في مدخل الميناء.»
وقد أطلقت دعاية الاستعمار في ذلك الحين كل قذائفها على مصر والمصريين، لعلها تحجب هذه الفعلة النكراء في جو من الأباطيل والأراجيف. ولكن الحقيقة كانت أوضح من أن تحتجب بهذه الدعاية كل الاحتجاب حتى في مجلس الوزراء الإنجليزي؛ فاستقال من وزارة «غلادستون» أقوى أعضائها وأخطب خطباء ذلك العصر في عالم السياسة الأوروبية، استقال «جون برايت» من الوزارة؛ احتجاجا على تلك الجريمة التي لا يسوغها شرع ولا عرف ولا أدب من آداب الحضارة. وأقام جماعة من ذوي الأخلاق احتفالا لتكريمه، خطب فيه الدكتور «دال»، فقال: «إن الإجلال والحب اللذين يوحيهما مستر برايت لا يكفي في تفسيرهما بيانه البليغ وخدمته العظيمة لبلاده. إن الرجل أعظم من فصاحته، إنه أنبل من خدمته، فقد كان في جميع الأحوال وفيا لضميره، لم تكن جميع الأباطيل والوشايات وأقاويل السخرية والبغضاء لتحيد به قيد شعرة عما اعتقد أنه جادة الحق والصواب.»
ثم تعاقبت الحوادث دراكا بما يثبت الواقع الغني بنفسه عن الإثبات.
إن ضرب الإسكندرية لم تكن له علة واحدة يبحث عنها الباحثون في أنباء ذلك اليوم ولا أنباء ذلك الشهر ولا أنباء تلك السنة أو تلك السنوات.
إن المدينة العامرة بسكانها قد استبيحت بالدم البارد والروية الطويلة لأسباب كثيرة ترجع قبل ذلك إلى مئات السنين. «أما قبل»، فهذا ما سنجمله فيما يلي من الفصول.
مقدمات تاريخية
تعتبر المسألة المصرية من جميع الوجوه حلقة من سلسلة الوقائع والمنازعات التي دارت سجالا بين الشرق والغرب من أقدم العصور التاريخية، وتعددت بواعثها بين عصر وعصر، وهي في جميع البواعث تدور على محورها «التقليدي» من هذا النزاع الدائم بين الشقين المتناظرين.
وقد عللت هذه المساجلات حينا بحب الفتح والغلب، وحينا بدفع الخطر واتقاء الغارة، وأحيانا بالبحث عن الموارد الزراعية والتجارية أو بتنازع البقاء بين زحام الشعوب في حيز محدود.
ولكنها في حوادثها التي انتهت باحتلال مصر، قد تمثلت في دورين كبيرين، أحدهما لاحق بالآخر ومتوقف عليه، هذان الدوران هما: دور الحروب الصليبية ثم دور المسألة الشرقية، واحتلال مصر لم يكن إلا صفحة من صفحات هذا السجل الواسع الذي اشتهر باسم المسألة الشرقية، وامتد من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى في حقبة من حقب التاريخ.
صفحة غير معروفة
بدأت الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر، واشتهرت باسم الحروب الصليبية؛ لأن الداعين إليها نشروا دعوتهم باسم الدين واستنفروا أمم أوربة للاستيلاء على بيت المقدس وموطن ميلاد السيد المسيح، ولكنها في حقيقتها لم تكن دينية بحتا ولم تخل من بواعث سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالدين ولا بالأماكن المقدسة.
ولهذا اتفق كثيرا أن جمهورية جنوا وجمهورية البندقية بذلتا المسعى الحثيث لتحويل زحف الجيوش الصليبية إلى القسطنطينية، وهي في أيدي العواهل المسيحيين ، وساعدتهما كنيسة رومة مرة بعد مرة في هذا المسعى المتواصل؛ لأنها كانت تشفق من نفوذ الكنيسة الشرقية وتبادلها «التحريم والحرمان» في عنف ولدد وخصومة تهون عندها جميع الخصومات. أما الجمهوريتان الإيطاليتان فكان همهما الأكبر تأمين المواصلات بين الشرق والغرب والاحتفاظ بطريق البحر الأبيض المتوسط؛ حذرا من تحول التجارة إلى البحار الغربية.
واتفق حينا أن أسقف فوقيس
استعدى السلطان بيازيد على مزاحميه من أساقفة اللاتين والإغريق، ودعاه إلى فتح المورة والاستيلاء عليها، كما اتفق من الجانب الآخر أن أذناب الدولة الفاطمية كتبوا إلى الصليبيين في إيطاليا الجنوبية يستعدونهم ليدفعوا بهم سلطان صلاح الدين.
وقد كانت الشعوب الأوروبية ولا ريب تهتم بالحروب الصليبية لأسباب دينية، ولولا ذلك لما سمح الآباء والأمهات بتجريد حملة من ثلاثين ألف طفل دون الخامسة عشرة (سنة 1212)؛ لاعتقادهم أن براءة الطفولة خليقة أن تنال من الله ما لا يناله الكبار الغارقون في الخطايا والذنوب. ولكن نظرة واحدة إلى أخبار الزمن وحوادثه السياسية تبدي لنا بواعث كثيرة إلى جانب البواعث الدينية، كان لها شأن عظيم في تجريد تلك الحملات ومواصلة الإمداد لها مائتي سنة أو تزيد.
مثال ذلك حالة إنجلترا في ذلك العصر، وهي لا تنتهي من نزاع الكنيسة حتى تدخل في نزاع بين النبلاء والملك ومصالحة بينهم على شروط الوثيقة الدستورية التي اشتهرت باسم الوثيقة الكبرى
Magna Carte .
ومثال ذلك طموح فرنسا إلى استبقاء لقب الدولة الرومانية المقدسة والتذرع بذلك إلى ضم الأقطار التي كانت مضمومة من قبل إلى الدولة الرومانية، ويقترن بهذا كله خلاف البابوات والملوك على فرض الضرائب ونقل الكنيسة من رومة إلى الأرض الفرنسية.
وقد كان معظم الحملة في الحروب الصليبية موجها إلى البلاد المصرية؛ لأنها كانت يومئذ أقوى الدول الإسلامية وكانت بيت المقدس تتبعها في كثير من الأوقات، ولكن العالم الشرقي كان قد تجاوب بأنباء هذه الحرب، وكانت هذه الأنباء باعثا من البواعث القوية لاستقدام الترك العثمانيين إلى آسيا الصغرى، فروسيا الجنوبية، فالأقطار التي كانت جيوش الصليبين تتجمع عندها في أوربة الوسطى، ولم تزل جيوش العثمانيين تطرق أبواب بودا وفيينا حتى هدأت الحروب الصليبية والحروب العثمانية بعض الشيء في أوائل القرن الخامس عشر، واستولى الترك على القسطنطينية (سنة 1453)، ثم تحولت حملاتهم إلى الأقطار الآسيوية وفتحوا مصر بعد ذلك بنيف وستين سنة (سنة 1517).
وانقضى نحو قرنين بعد قيام الدولة العثمانية في القسطنطينية وأمم أوربة مشغولة بالأحداث الجسام التي تعاقبت عليها خلال تلك الفترة، ومنها دعوة الإصلاح الديني وكشف أمريكا ونهضة الأمم الناشئة وحروب إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وظهور الدولة الروسية في أوربة الشرقية، فلم تجد متسعا من الوقت ولا من الوسيلة للبحث في الشئون الشرقية إلى أواخر القرن السابع عشر، ثم تنبهت إلى النزاع بين روسيا الناشئة والدولة العلية الشائخة، فكان هذا التنبه العام فاتحة المسألة التي عرفت باسم المسألة الشرقية.
صفحة غير معروفة
ولم يظهر لروسيا اسم في إبان الحروب الصليبية؛ لأنها كانت شعوبا متفرقة بعضها على الوثنية وبعضها حديث عهد بالمسيحية، فلما تمت لها الوحدة بين شعوبها وقامت على رأسها حكومتها القيصرية اتخذت لها سياسة تتلخص في «مداومة الحرب لفتح العالم»، وجمعتها الوصية المفصلة التي كتبها بطرس الأكبر، وجاء في مادتها الأولى: «يجب أن يقاد الجيش إلى الحرب على الدوام، وأن تظل الأمة الروسية على أهبة القتال ولا تغفل عنه إلا لراحة الجند وتوفير المال.»
وجاء في المادة التاسعة منها: «يجب الاقتراب جهد المستطاع من القسطنطينية والهند، وإذا كان معلوما مسلما أن القابض على القسطنطينية يقبض على الدنيا بأسرها كان لزاما أن تشن الغارة تارة على الدولة العثمانية وتارة على الدولة الإيرانية، ويجب ضم البحر الأسود شيئا فشيئا لإقامة دار لصناعة السفن على شواطئه، ولا غنى مع هذا عن ضم البحر البلطي لأن موقعه لازم لتحقيق هذه الخطة، ومن الواجب التعجيل بإضعاف دولة إيران أو القضاء عليها للوصول إلى خليج البصرة، لعلنا نتمكن من إعادة التجارة الشرقية القديمة إلى بلاد الشام والنفاذ منها إلى الهند التي هي مخزن الدنيا، وبهذه الوسيلة نستغني عن ذهب إنجلترا.»
وقد اشتملت مواد الوصية الأخرى على النصائح التي ينبغي اتباعها لبث الفتنة والفساد في البلدان المتاخمة لروسيا توطئة للزحف عليها أو ضمها بالوسائل السلمية.
وهكذا اتفق أن تنفيذ هذه الوصية وفتح باب المسألة الشرقية باسم تحرير المسيحيين من حكم الدولة العثمانية يمشيان مرحلة طويلة في طريق واحد، وتعاقبت المعاهدات تنفيذا لتلك الخطة، كمعاهدة كارلوتيز بين روسيا والنمسا وبولونيا وتركيا (1699)، ومعاهدة كجوق قينارجة بين الروسيا وتركيا (1774) ومعاهدات سابقة ولاحقة اشتركت روسيا وممالك أوربة الوسطى وشواطئ البحر الأبيض في معظمها.
إلا أن هذه الدعوة لم تخدع أوربة الغربية عن خفايا المقاصد التي انطوت عليها، وكانت فرنسا على الخصوص قد خرجت من الحروب الصليبية بلقب حامية البقاع المقدسة، وكانت إنجلترا التي انفصلت عن كنيسة رومة لا تنازعها هذه الدعوى، ولكنها تخشى على الهند وتأبى كل الإباء أن تسمح لروسيا بالتسلل إلى البحر الأبيض. فحدث غير مرة أن فرنسا كانت تهب للمطالبة بحماية المسيحيين اللاتين كلما هبت روسيا لحماية المسيحيين الإغريق، وأن إنجلترا كانت تتعلل بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية كما ضمنته المعاهدات، وكانت مع هذا لا تخلو من أناس يحبون أن يطلقوا على ملكهم لقبا من الألقاب الدينية، وظلت هذه الرغبة تساورهم إلى أيام الملكة فكتوريا التي كانت تود لو اعترف لها شعبها بلقب حامية الملة
Defonber of faith ، وسبقت فرنسا الدول إلى عقد معاهدة مع تركيا تعترف لها باللقب القديم، فانعقدت هذه المعاهدة بين لويس الخامس عشر والسلطان محمد خان (سنة 1740).
تمخضت الحروب الصليبية كما قدمنا عن حروب المسألة الشرقية، وظلت المسألة الشرقية زمنا طويلا، وهي حروب صليبية بعنوان آخر، وبخاصة في موقف الدول الأوروبية الكبرى بإزاء مصر، وعلى الأخص فيما يتعلق بقناة السويس؛ فإن الفيلسوف الألماني «ليبنتز» قد زين لعاهل فرنسا «لويس الرابع عشر» أن يضرب هولندة في تجارتها الشرقية بانتزاع مصر من قبضة الإسلام، وأنه بذلك يشل هولندة عن مقاومته؛ لأن اعتراضها إياه في غزوه لمصر يثير عليها الأمم المسيحية، وسيأتي في الكلام على قناة السويس أن المركيز «دار جنسون
Dar Genson » كان يعتبر حفر قناة السويس فتحا صليبيا يهم العالم المسيحي بأسره، ولكن المسألة الشرقية قد ذهبت شوطا آخر وراء ذلك، وتمخضت عن دور آخر في سياسة الدول الأوروبية نحو الدولة التركية، وهو الدور الذي عرف بالتفاهم على تركة الرجل المريض. •••
فبعد أن كان الغرض من المسألة الشرقية انتزاع الأقطار المسيحية في تلك الدولة أصبح الغرض المتفق عليه في هذا الدور تقسيم أقطار الدولة جميعا من مسيحية وإسلامية، وتبادل الإغضاء عن كل نصيب متفق عليه يقع في قبضة الطامعين فيه من المتنازعين على التركة، وصاحبها بقيد الحياة.
وعلمت الدنيا في القرن الثامن عشر أن شركة من الشركات التجارية نزلت بالهند فملكتها وضمتها إلى حوزة الدولة البريطانية. ونشأت الصناعات الكبرى في ذلك القرن، وتدفق الذهب من القارة الأمريكية على الدول الأوروبية، صواحب المستعمرات في تلك القارة، فحسن لدى بعضها أن تعتمد على الذهب وتعدل عن القتال لضم الأقطار المطموع فيها. وراقت هذه الخطة دول التجارة والمستعمرات، وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا، ففتحت خزائنها لطلاب الديون من بلاد الدولة العثمانية على الخصوص؛ لأنها تستند فيها إلى الامتيازات الأجنبية. ولم تستطع الدول الأخرى أن تجاريهما في هذا المضمار، ولم تستطع كذلك أن تقف في طريقهما لأنهما تعملان «بالوسائل السلمية» ولا تجردان السيف، فيتبع ذلك ما يتبعه من اشتباك دول شتى في حومة القتال، ولكن الدولتين صاحبتي المال والمستعمرات لم تتركا الدول المتربصة بغير عوض؛ فسمحتا لروسيا بضم ما شاءت ضمه من الديار الأوروبية، وتغاضتا عن خطتها «إلى الشرق» ما دامت بعيدة من مكمن الخطر، وسمحتا لروسيا ببعض الأقاليم في آسيا الغربية وأوقعتا في روعها دائما أن الحد الممنوع هو الحد الذي يؤدي إلى الاحتكاك في طريق البحر الأبيض وطريق الهند من أقصاه إلى أقصاه. •••
صفحة غير معروفة
وقبل أن ينتصف القرن الثامن عشر كانت أوربة كلها تتطلع إلى دولة فتية نبغت في وسطها، هي الدولة البروسية: ارتفع بها فردريك الكبير إلى مصاف الدول الكبرى، وقام على أمورها بعده بفترة وجيزة وزيرها القدير بسمارك صاحب السياسة التي وسمت يومئذ بسياسة الدم والحديد، وكان من مطامحه أن يضم إلى وطنه شعوب أوربة الجرمانية باسم ألمانيا العظمى، ونظر إلى الشرق فطمع في الدولة النمسوية؛ لأنها شائخة تتداعى، ونظر إلى الغرب فطمع في هولندة لأنها أصغر من أن تحمي نفسها في مصطرع الدول المحيطة بها. ولاح له أن تصفية الدولة العثمانية خير طريقة إلى المساومة على صفقته الرابحة، فإذا شجع روسيا على احتلال الآستانة ومضائق البسفور والدردنيل، وشجع إنجلترا على احتلال مصر وقناة السويس، أمكنه أن يستلحق الجرمان الأوروبيين شرقا وغربا بغير عناء. وتبقى فرنسا فلا يضيره أن يدفع اعتراضها بالسماح لها إلى حين بضم بلجيكا من جانب حدودها، ويتسنى له من ثمة أن يقبض على ميزان الفصل بين الخصوم والنظراء، فلا تستغني دولة من الدول عن مجاملته وخطب وده. ولولا أن دهاة إنجلترا وروسيا كانوا يحذرونه ولا يطمئنون إلى تحريضه، لاندفعوا حيث أراد أن يدفعهم، ولكنهم راوغوه ولم يقنطوه وتخادع له بعضهم ليخدعوه، فلم يزل يلعب لعبته بين إنجلترا وروسيا وفرنسا حتى بطلت الغاية منها فانقلب على الجميع واحدة بعد أخرى.
من مخازي هذا الدور - دور المسألة الشرقية - فضائح المذابح التي تعللت بها الدول لتحقيق غاياتها المرسومة، وقد لوحظ عليها أنها تحدث دائما في مكانها المطلوب وعند الحاجة إليها، فحدثت في أرمينية عندما شرعت روسيا في استلحاقها، وحدثت في لبنان عندما تهيأت فرنسا لبسط نفوذها عليه وتنصيب ولاته باختيارها، وحدثت في الإسكندرية والأسطول البريطاني يتحفز على شواطئها، وكانت حجة مشتركة تسعف المحتجين بها في ساعتها وفي مكانها.
وقد ثبت من الحوادث التي جرى التحقيق فيها بأعين العالم وسمعت فيها شهادات الأجانب أنفسهم، أن الاعتداء فيها كان يبدأ من ناحية الأجانب الذين كانوا يصولون على أبناء البلاد بامتيازاتهم المجحفة. وعرف في التاريخ أن الأرمن كانوا يعيشون مع جيرانهم الترك في سلام ومودة، وكان الترك يسمونهم «بملتى صادقة» ثقة بهم واطمئنانا إليهم، ومن دلائل ذلك في مصر إيثار بوغوص وأرتين ونوبار بمناصب الوزارة في أيام محمد علي وإسماعيل، وإيثار أسطفان وأرام في أيام عباس الأول، وقد أدى البحث في مذابح سنة 1895 إلى الوقوف على سبب هذه المذابح، وهو يعزز ما اشتهر من شعور الترك نحوهم، فقد سافر مئات من الترك في تلك السنة إلى الحجاز وتركوا أبناءهم ونساءهم في رعاية جيرانهم من الأرمن المقيمين معهم في بلادهم، فما هو إلا أن أبعدوا في السفر حتى اندس المحرضون من الخارج بين تلك القرى يحرضون الأرمن على الفتك بجيرانهم الموكولين إلى رعايتهم، فاعتدوا على الأرواح والأعراض وانقضوا على الصغار والشيوخ يقتلونهم أو يشردونهم. وسكت المؤرخون الغربيون عن هذه الحقائق ولم يذكروا من أخبار أرمينية غير ما سموه بالمذابح المسيحية، وتواطئوا على إخفاء الأخبار الصحيحة، كما جاء في دائرة معارف أفريمان من مادة تركيا بمجلدها الثاني عشر. ويستطيع من شهدوا في مصر عدوان المعتدين على المصريين عقب الحرب العالمية الأولى أن يعلموا سهولة هذا العدوان على من يسميهم أولئك الكتاب الغربيون بضحايا العسف والاضطهاد.
أما مذابح لبنان فقد حدثت في الوقت الملائم أيضا، لأنها لبثت بالانتظار - إذا صح هذا التعبير - حتى خرجت فرنسا وإنجلترا متفقتين من حربهما مع روسيا لصد روسيا عن بلاد الدولة العثمانية، وإبطال دعواها في حماية الملة، وانعقد مؤتمر باريس (1856) لإبرام الصلح وتقسيم ما تيسر تقسيمه من بلاد الدولة في أوربة وآسيا، وبعد هزيمة النمسا سنة 1858 واشتعال الحرب البروسية النمسوية وإلحاح الضرورة على نابليون الثالث لتوطيد مركزه بين المحافظين المتدينين مستعينا بهم على الغلاة من أنصار الجمهورية - سنحت الفرصة «لحامي الملة»، فجاءت مذابح لبنان في سنة 1860 ملبية لكل طلب موافقة لكل خطة. وتلاها ارتياد المعاهد الفرنسية لمدن لبنان وسورية تثبيتا للثقافة الفرنسية والثقافة العربية في وقت واحد؛ إذ كانت يقظة العرب لازمة لتقويض أركان الدولة وتقريب المسلمين مع المسيحيين إلى سياسة فرنسا باسم الدين من ناحية، واسم العلم والحضارة من ناحية أخرى، ثم نسيت ثقافة العرب، بل حوربت، بعد قضاء المأرب من تركة «الرجل المريض». •••
إن سياسة الدول في المسألة الشرقية درس تطبيقي مفصل لمذهب القائلين بالسياسة الجغرافية
Geopolitics ، وخلاصته أن مركز الأمة الجغرافي يملي عليها سياستها على اختلاف الحكومات والمعتقدات.
فالسياسة الروسية في عهد «بطرس الأكبر» هي بعينها سياسة الشيوعيين الذين يحاربون الملة، ولكنهم يحذون حذو العاهل القديم في مراميه ومساعيه للسيادة على مضائق البسفور والدردنيل والإشراف على البحر الأحمر وخليج البصرة وطريق الهند ومسالك إيران.
وفرنسا طمحت إلى ضم بيت المقدس ومصر على عهد ملوكها القديسين؛ لأن «لويس التاسع» كان يزعم أنه «أمين الأمة العيسوية»، كما قال في خطابه إلى الملك الكامل «أمين الأمة المحمدية»، ثم طمحت إلى هذه الغاية في عهد «لويس الخامس عشر»، قبيل الثورة وفي إبان حركة التمرد والإلحاد. ثم جاء نابليون الأول إلى مصر، وهو يقول للمصريين بعد افتتاح منشوره: «بسم الله الرحمن الرحيم ... الذي لا ولد له ولا شريك في ملكه، إنه أعظم احتراما للنبي والقرآن الكريم من المماليك، ويطلب إلى العلماء والأعيان أن يبلغوا أمتهم أن الفرنسيين مسلمون مخلصون ... يحبون الدولة العلية.»
يقول هذا في مصر وهو لم يبرح فرنسا حتى كان قد أقنع حكومة الإدارة «بأن مصر موصل تجاري بين الشرق والغرب ... وأنها إذا افتتحت وبقيت فيها فرنسا خمسين سنة غنيت فرنسا بما تأخذه من محاصيلها وما تبيعه في أسواقها ... ولم تقم لإنجلترا قائمة في بلاد الهند بعد احتلال شواطئ البحر الأحمر وشق القناة بين النيل والسويس ...»
ثم انفصلت فرنسا عن الكنيسة ولم تزل إلى أواخر القرن التاسع عشر تدعي لنفسها حق حماية المسيحيين في المشرق، ثم احتلت ما احتلته من هذا المشرق بحجة جديدة غير الحجة الدينية، وهي حق الدول الكبرى في الوصاية على الأمم الصغرى بانتداب من أمم الحضارة.
صفحة غير معروفة
أما إنجلترا فقد أملى عليها موقعها البحري واستيلاؤها على الهند أن تحتل جبل طارق ورأس الرجاء الصالح وعدن ومصر، كما تحتل جزيرة مالطة وجزيرة قبرص، وتعللت لاحتلال كل موقع من هذه المواقع بعلة بينها وبين العلل الأخرى أشد مما بين هذه المواقع جميعا من مسافات المكان، ولكن «السياسة الجغرافية» هي العلة الواحدة التي تطوي جميع تلك العلل، والغاية الأخيرة التي تسبق جميع تلك الغايات.
فإذا كذب الساسة وانخدع المسوسون، لم تكذب الجغرافية ولم ينخدع التاريخ.
الامتيازات الأجنبية
بلغت الديون التي ماطلت الدول الأوروبية المفلسة في سدادها عند نهاية القرن التاسع عشر أكثر من أربعمائة مليون جنيه، ولكن الدولة البريطانية لم تتخذ من دين واحد بين هذه الديون الكثيرة ذريعة للمساس باستقلال الدول المفلسة، ولم تكلف نفسها كتابة ورقة واحدة رسمية لاستقضاء هذه الديون بالنيابة عن الدائنين، فضلا عن الإلحاف والتهديد والمطالبة بتعيين الوزراء الأجانب للإشراف على خزائن الدول المدينة، كما فعلت في البلاد المصرية.
1
إلا أن الامتيازات الأجنبية تكفلت لها بذرائع العدوان على السيادة المصرية، والامتيازات الأجنبية أطمعت البيوت المالية - من إنجليزية وغير إنجليزية - في بذل ديونها بأكبر الفوائد التي لم يسمع بمثلها في معاملات الدول، وهي مطمئنة إلى استردادها مضاعفة والتوسل بها إلى المزايا السياسية والمغانم «الاقتصادية» التي تفوقها في الخطر والمنفعة.
كتب الخديو إسماعيل إلى سفيره «غير الرسمي» إبراهام بك في سنة 1874، يقول:
لأي سبب أو مناسبة تتدخل الدول في المسائل الداخلية للسلطنة - العثمانية؟ إن الامتيازات هي هذا السبب أو تلك المناسبة، وآية ذلك أن المغفور له الصدر الأعظم، وصف الامتيازات في مؤتمر باريس بأنها حجر عثرة في سبيل الإدارة الحسنة للسلطنة، فطلب إلغاءها لأنها مدعاة للاضطراب؛ أي للضعف. وما دامت الامتيازات كذلك فلا بد من إزالتها، ولكن ما السبيل؟ هل هو القوة؟ هل هو إلغاؤها بلا قيد ولا شرط، كما سمعت شخصية عالية في استامبول تقترح ذلك؟ كلا ثم كلا، لن يكون ذلك إلا حافزا للدول على مناهضة إلغائها واستفزازا للرأي العام في أوربة، مما يفوت علينا غرضنا بل يزيد تطبيقها عنفا، فالوسيلة الوحيدة، الوسيلة الكفيلة بإدراك غايتنا هي التي اصطنعتها في مصر، لما رأيت أن مصر ضائعة لا محالة إذا استمرت فريسة لتدخل القنصليات.
2
إلا أن الامتيازات الأجنبية التي وصفها الصدر الأعظم بأنها «حجر عثرة في سبيل الإدارة الحسنة للسلطنة العثمانية»، كانت في الواقع رحمة بالقياس إلى الامتيازات التي كانت تطبقها الدول في البلاد المصرية؛ فإن النظام العثماني كان يسمح بمحاكمة الأجانب أمام المحاكم الوطنية، أما في مصر فقد انتزعت «القنصليات» التي أشار إليها الخديو إسماعيل حقوقا مدعاة لم يرد لها ذكر في أي اتفاق من الاتفاقات الدولية. وساعدها على ذلك أن ولاة مصر شهدوا أثر القناصل في تنصيب الولاة وخلعهم، وفي الشفاعة لهم أو الشكوى منهم عند «الباب العالي»؛ فخافوهم وسلموا لهم في أمور لم تكن من حقهم في أرض الدولة العثمانية التي أنشأت هذه الامتيازات. وتمادى القناصل في انتزاع السلطة شيئا فشيئا حتى بلغت قنصلياتهم سبع عشرة قنصلية تحكم في قضايا الأجانب وتحكم على الوطنيين في المنازعات بينهم وبين رعاياها، بل تحكم على الحكومة المصرية بالغرامات والتعويضات كلما ادعى عليها مدع من الأوروبيين بأنها خالفت معه شرطا أو عرضته لخسارة مقصودة أو غير مقصودة. وقد أحصيت هذه التعويضات في أقل من أربع سنوات بين سنتي 1864 و1868 فبلغت ثلاثة ملايين من الجنيهات.
صفحة غير معروفة
وكانت الحكومة المصرية لا تجسر على سؤال أجنبي في أمر من الأمور - كبر أو صغر - إلا بحضور مترجم من القنصلية، فكانت القنصليات تتعمد منع المترجم من الحضور مع تكرار طلبه لكي تضطر صاحب الحق في النهاية إلى الرجوع إليها والمساومة معها في المصلحة المختلف عليها. وإذا وجب تفتيش بيت من بيوت الأجانب فلا بد من استئذان القنصلية قبل دخوله، ولا بد من تأجيل التفتيش يوما بعد يوم، بل أسبوعا بعد أسبوع، حتى يفرغ «المترجم» لمصاحبة الموظف المصري القائم بعمل التفتيش أو التحقيق. وكان المعهود المألوف في هذه الأحوال أن صاحب البيت المطلوب تفتيشه يعلم بالخبر من ساعي القنصلية أو من المترجم نفسه، فيبادر إلى تهريب ما عنده أو إلى إخفاء معالم الجريمة قبل إثباتها في محاضر التحقيق.
ولا يجوز نقض الحكم الصادر من القنصلية إلا أمام أقرب محكمة من محاكم الاستئناف في بلاد الدولة التي يمثلها القنصل، ويستدعي هذا أن المصري صاحب المصلحة في الاستئناف يسافر إلى أوربة أو يوكل عنه محاميا أوربيا يفرض عليه ما يشاء من الأتعاب، إن قبل التوكيل عنه في مخاصمة أحد من أبناء وطنه، ودون ذلك يهون ترك الحق واحتمال الضيم والتسليم في موضوع الخلاف. وقد يحتاج الأمر إلى محكمة في البرازيل أو الولايات المتحدة، بين الأمريكتين الشمالية والجنوبية، عدا أربع عشرة دولة في القارة الأوروبية.
واطمأن الأجانب إلى الحماية المطلقة في كل ما يعن لهم من الدعاوى المشروعة وغير المشروعة، فهانت عليهم أرواح المصريين واستخفوا بالعدوان عليها لسبب ولغير سبب، وشوهد مئات من القتلة يذهبون إلى بلادهم لمحاكمتهم أمام محاكمها العليا ثم يعودون بعد فترة وجيزة بأسماء أخرى أو بأسمائهم الأولى ولا تجسر الحكومة على إقصائهم أو استدعائهم لسؤالهم، ولا يجسر أحد من أقارب القتيل على مطاردتهم أو مناقشتهم؛ لأن دعواهم مقبولة ودعواه مرفوضة في جميع الأحوال، وإن قامت عليها البينات وعززتها شهادة الشهود.
وفي هذا وأمثاله، يقول شاعر النيل:
يقتلنا بلا قود
ولا دية ولا سبب
ويمشي نحو رايته
فتحميه من العطب
وإن السطوة الجامحة لتطغي الإنسان بين أبناء قومه، فكيف بمن يطغى على قوم ينظر إليهم نظرته إلى غريب مستباح الذمار يقتحم عليه بلاده ويبتز ماله ويسومه الخسف، وهو آمن وادع قرير العين والبال؟
ولعل بلدا من بلاد العالم لم يشهد حادثا كالحادث الذي رواه مستر «بتلر» في كتابه عن حياة البلاط بمصر؛ إذ روى قصة من أعجب القصص عن حماية الامتيازات الأجنبية لتجارة المهربات، وفحواها أن قنصلا كان يقاسم رعاياه المهربين أرباحهم من تهريب المحظورات، فنمى إليه يوما أن رجال حرس السواحل ضبطوا أولئك المهربين ومعهم مقدار كبير من البضائع المهربة، فجمع طائفة من زعانف قومه وهجم بهم على ثكنة حراس السواحل وأعملوا فيهم الضرب والطعن والسباب، وتكالب القنصل وزعانفه حتى بلغ من هياجه أنه أنشب أسنانه في ذراع أحد العساكر فانخلعت إحداها وبقيت في ذراع الجندي الجريح، وثبت ذلك للمحقق موريس بك «الأجنبي»؛ لأنه رأى أثر السن المخلوعة في فم القنصل الهمام، ثم احتج القنصل على الحكومة على ما لقيه من مقاومة جنودها، وآزره زملاؤه الأماثل، فانتهت القضية بعقاب الحراس والاعتذار للقنصل الشاكي من أولئك «المعتدين» المساكين! •••
صفحة غير معروفة
إن الكظم الذي عاناه أبناء مصر من عسف الامتيازات ليقع في نفوسنا اليوم موقع العجب من طول الصبر وطول الاحتمال. وقد كان الأفاقون يقابلون ذلك الصبر بمزيد من الشطط والمغالاة في الإيذاء؛ كأنهم يستصغرون كل طغيان يقف بهم دون الغاية من التحدي والإذلا. وروي عن بعضهم أنه كان يطلق عنان جواده في الطريق المزدحم، ويلذ له أن ينظر إلى الناس يتطايرون من حوله خوفا وهلعا ولا يقوى أحد منهم على كبح جماحه والوقوف في وجهه! ومن حوادث هذه الرعونة الوحشية حادث الحوذي الأوروبي الذي صدم جنديا فقتله وذهب به رفاقه إلى قصر رأس التين يطلبون من الخديو توفيق أن ينظر إلى هوان جنده على هؤلاء الزعانف من شذاذ الآفاق. فهذا الحادث قد كان من أسباب الثورة المباشرة كما كان مثلا للاستخفاف بالأرواح؛ حيث يظن أن لهذا الاستخفاف حدا يقف عنده على الأقل كرامة للجيش ورعاية للجندية وحسابا للنخوة العسكرية، فإذا هان الاستخفاف في هذا المقام فهو في غيره أهون ما يكون.
قال «لورد كرومر» في تقريره عن سنة 1905: «... الذي أغضب الوطنيين خصوصا أن يونانيا ووطنيا تشاجرا في السابع من ديسمبر على أمر حقير، قيل: إنه مشتري قطعة من الجبن، فاستل اليوناني سكينا وطعن الوطني طعنة كانت القاضية، وفي العاشر من ديسمبر جرت حادثة أخرى أذكرها بالتفصيل لأنها تدل «أولا» على صغر قدر الحوادث التي يمكن أن تفضي إلى عواقب وخيمة في مدينة مختلطة السكان مثل الإسكندرية، وثانيا على طيش كثيرين من رعاع الأجانب وخفتهم في استخدام السلاح: إن أربعة نجارين يونانيين دخلوا مطعما ووقفوا أمام مائدة حولها ثلاثة كراسي فقط، وكان على مقربة منها مائدة أخرى حولها ثلاثة كراسي أيضا، وقد جلس عليها يوناني اسمه قسطندي ووطنيان، ثم نهض أحد الوطنيين وخرج. وكان أحد النجارين الأربعة جالسا على ركبة رفيقه، فتقدم ليتناول الكرسي الخالي فمنعه قسطندي، فتشاجر الفريقان ولكن صاحب المطعم فصل بينهم ورد بعضهم عن بعض. ثم خرج قسطندي وما لبث أن عاد حاملا مسدسا، وكان النجارون قد خرجوا من المطعم في غيابه ودخلوا قهوة بالقرب منه، فتناول قسطندى كرسيا وجلس أمام باب المطعم حتى خرج النجارون من القهوة، فأطلق مسدسه على أحدهم فأخطأه ولكن الرصاصة أصابت وطنيا جالسا في حانوت مجاور وجرحته، فتجمهر الناس وحدثت مخاصمة جرح فيها ثلاثة وعشرون أوروبيا جروحا أكثرها خفيفة. وحضر رجال البوليس فقبضوا على كثيرين، ولم يمض إلا قليل حتى شاع أن يونانيا قتل وطنيا؛ فاجتمع رعاع الوطنيين في أسفل حي من أحياء الإسكندرية وجعلوا يصرخون: اقتلوا النصارى ... فحدثت مشاجرة أخرى وقبض فيها على كثيرين ... وأسرعت المحاكم فأنجزت قضية المشاغبين بالسرعة والدقة بعناية قاض وطني من الأكفاء ... وقد كان عدد الذين ضبطوا منهم 185 نفسا فبرئت ساحة 59 منهم وحكم على الباقين بالحبس من سنة إلى شهر ماعدا ثلاثة غلمان أدبوا بالجلد، ووقع أثقل الأحكام على الذين ثبت أنهم كانوا ينادون: اقتلوا النصارى ... وما شاكل ذلك من العبارات.»
روى اللورد «كرومر» هذه القصة ولم يكلف نفسه بعد مشقة أن يبحث عما أصاب الجناة من العقاب، وقد أطلقوا النار وأثاروا الفتنة لسبب لا يدعو عاقلا إلى التفوه بكلمة نابية، فضلا عن إطلاق النار بعد تربص وانتظار، ولم يكلف نفسه أن يذكر كم أجنبيا قبض عليهم في ذلك الشغب كما قبض على أولئك الوطنيين، ولم يكلف نفسه أن يذكر كم وطنيا أصيب غير ذلك القتيل كما كلف نفسه أن يذكر المصابين من الأجانب وأكثرهم مسلحون، وأكبر الظن - إن لم نقل: أقطع اليقين - أن حكاية «اقتلوا النصارى» هي التهويلة المعهودة التي تضاف دائما إلى الرواية لتسويغ هذا الإجحاف البين في المعاملة، حين يكون الوطنيون هم المصابين.
كتب «جورج بتلر» قنصل الولايات المتحدة إلى وكيل الخارجية الأمريكية في الحادي والثلاثين من شهر يناير سنة 1871، يقول عن أمن الأجانب في مصر: «لم أسمع قط أن وطنيا قتل أجنبيا في مدينة أو تعدى عليه.»
3
و«لورد كرومر» أحجى أن يعلم بعد أربعين سنة من كتابة هذه الشهادة الأجنبية أن تقدم الزمن قد أثبت هذه الحقيقة ولا يزال يزيدها ثبوتا بعد ثبوت، وأن الامتيازات الأجنبية أسيء استعمالها في كل حادث من حوادثها المشهورة قبل الاحتلال البريطاني وبعده بزمن طويل ، وهو الذي قال في كتابه «مصر الحديثة» بعد خروجه من مصر وبعد انقضاء ثلاثين سنة على الاحتلال: «إن هذه العهود - عهود الامتيازات - قد تحولت إلى أغراض خسيسة من أمثلتها أن تحمي جهنم القمار كما تحمي بائع الخمور المغشوشة والمتاجر في السلع المسروقة، والصيدلي الذي يبلغ به التهاون أن يعطي السم القاتل بدلا من الدواء الموصوف ...»
وقد قال «لورد ملنر» من قبله في كتابه عن إنجلترا بمصر: «إن الحركة الوطنية من الطبيعي أن تتجه بالتفاتها واهتمامها إلى المساوئ الشنيعة التي نجمت عن امتيازات الأجانب في الديار المصرية، فإن هذه المساوئ قد أصبحت أداة ينتفع بها شر الطغاة من الأوروبيين وأشباه الأوروبيين من متفرنجي الشرق الأدنى، ولا تزال حتى الآن كما سنرى كثيرا فيها بعد آخر بلاء مسلط على الديار المصرية، ولكنها تجسمت في أخريات عهد إسماعيل حتى بلغت مداها المخيف، وراح الأوروبي قناص الغنيمة وسمسار القروض المرهقة، والإغريقي صاحب الخان ومرتهن الأرزاق، واليهودي أو السوري المرابي ومن إليهم يسهل عليهم الاحتماء بإحدى الدول الأوروبية، يمتصون الخزانة العامة والفلاح والفقير ويقترفون في هذه الجناية ما يستعصى على التصديق ...» •••
ومع هذه الموارد التي استحل منها الأجانب ما يباح وما لا يباح، أعفتهم الامتيازات من الضرائب جميعا فلا يؤدون لخزانة الدولة درهما من ثرواتهم الضخام ولو نيفت على الملايين، ثم سمحت الدول في عهد إسماعيل بالتسوية بين الأجانب والمصريين في أداء ضريبة الأرض؛ لأنها تعلم أن الأجانب يعملون في التجارة والمراباة ولا يعملون إلا قليلا في الزراعة والفلاحة على أنواعها، وحيل بهذا بين المصريين ومنافسة الأجانب في ميادين التجارة؛ لأنهم مثقلون بأنواع من الضرائب أعفي منها الأجانب كل الإعفاء.
صبرت مصر زمنا على هذه الضربات التي لا تطاق، وارتفعت ضجة المصريين بالشكوى منها، تارة إلى الولاة وتارة إلى السلطنة العثمانية على غير جدوى. ثم تنبهت السلطنة العثمانية أخيرا إلى هذه النقمة، فأمرت «سعيد باشا» بالعمل على علاجها والتخفيف منها، وكأنها أحست أن الولاة يبتغون الزلفى إلى الدول الأوروبية بالسماح لها بالتوسع في تطبيق الامتيازات ، وأنهم يحتمون بهذه الزلفى في سلطان الآستانة، فتنبهت إلى الخطر بعد طول الغفلة عنه، وأمرت الوالي بالكف عن مجاراة القناصل في دعواهم، فلم يكترث لأمرها عجزا منه عن تنفيذه أو شعورا منه بالحاجة إلى مجاملة السلطة الأجنبية. ولم تتحرك حكومة مصر لتتدارك الخطر إلا في عهد الخديو إسماعيل بعد أن ثقلت عليه وطأة المغارم والخسائر وامتنع عليه التصرف في أمر من أمور الحكومة دون أن يتعرض للمقاومة والتهديد من قبل هذا القنصل أو ذاك؛ تمحلا لأسباب الشكاية أو المطالبة بالتعويض ولغير سبب معقول في كثير من الأحيان. وطالت المفاوضات بين الحكومة المصرية وحكومات الدول وحكومة الآستانة قبل أن تأذن بتوحيد القضاء وإنشاء المحاكم المختلطة التي كانوا يحسبونها في ذلك الوقت منحة عزيزة، وهي في حقيقتها نكبة من النكبات. ولم يمض على إنشائها غير قليل حتى صدمت الخديو إسماعيل صدمة لم تكن له في حساب؛ فقد كان يعتمد على المفاوضات السياسية بينه وبين أصحاب الديون في الخلاف على المطلوب منه وعلى مواعيد سداده، فلما أنشئت المحاكم المختلطة فصلت دفعة واحدة في قضية مستعجلة يتناول الخلاف فيها عدة ملايين من الجنيهات وألزمته بالنفاذ المؤقت وهدده قضاتها بإغلاق أبوابها ما لم يصدر أمره بتنفيذ الحكم في بضعة أيام.
على أن الدول لم تستجب إلى رجاء مصر في توحيد القضاء؛ رحمة بالمصريين أو حبا للإنصاف ورغبة في الإصلاح، بل استجابت هذا الرجاء في الواقع لأن الأجانب أنفسهم كانوا يشكون من تعدد القضاء بين القنصليات ويشكون من تناقض الأحكام ومحاباة بعض القناصل لرعاياهم في قضاياهم مع الأجانب الآخرين. وقد حدث أن شركة قناة السويس أجرت دارا في بورسعيد لبعض الأجانب فماطلها زمنا في سداد أجرته حتى اضطرت إلى مقاضاته عند قنصله، فنزل عن الإيجار لأجنبي آخر تابع لدولة أخرى، وما زال هذا النزول يتتابع من ساكن إلى ساكن سنوات عدة، وهي تنتقل بالقضية من قنصلية إلى أخرى حتى أنشئت المحاكم المختلطة، فأصبحت حيلة النزول غير صالحة للتأجيل والانتقال بالشكوى من قضاء إلى قضاء.
صفحة غير معروفة
واشتهرت مسألة أخرى باسم مسألة «تريكو»؛ لأن القنصل الفرنسي «تريكو» أضرب عن الحكم على أحد من رعايا فرنسا بحق من الحقوق بالغا ما بلغ من ثبوته للرعايا اليونانيين، لأن قنصل اليونان كان يحابي رعاياه في قضاياهم مع الأجانب الآخرين.
وحدث غير مرة أن يتعدد أصحاب المصالح وتتعدد حكوماتهم، فيصدر الحكم من كل قنصلية مناقضا لأحكام القنصليات الأخرى وتقف الحكومة حائرة بين أحكام متعددة كلها واجبة النفاذ وكلها مقرونة بالتهديد الذي لا بد منه في كل شأن من شئون الامتيازات.
لهذا استجابت الدول إلى رجاء الحكومة المصرية في توحيد القضاء وإنشاء المحاكم المختلطة، وصنعت الرشوة أحيانا ما لم تصنعه الحجة ولم تنفع فيه مصالح الأجانب والوطنيين. ومن الوثائق المحفوظة وثيقة بين الخديو إسماعيل وبين سفيره غير الرسمي إبراهام بك، ومدار هذه الوثيقة على تسليم السياسي الروسي المشهور «أجناتييف» عشرين ألف جنيه جزاء له على وساطته في استجابة ذلك الرجاء!
4 •••
كانت هذه الامتيازات في مبدئها منحة من الحكومات الشرقية لرعايا الدول الأوروبية تيسيرا لرحلتهم ومقامهم في الأرض المقدسة، وقد بدأت في أيام الحروب الصليبية لهذا الغرض، ثم توسع فيها السلطان «سليمان القانوني»؛ ترغيبا للتجار من جميع الأمم في تبادل التجارة مع بلاده، ومنعا لانتقال التجارة من طريق الشرق الأوسط إلى طريق رأس الرجاء بعد دخول البرتغاليين في مضمار الرحلات وتحول التجارة من أيدي أهل البندقية وجنوة في البحر الأبيض إلى البرتغاليين والإنجليز في البحار الغربية. وكانت الدولة العثمانية في أوج قوتها حين سخا سلاطينها بهذه المنح الكريمة على سبيل الإنعام والتشجيع، فلما ضعفت بعد قوة، وذلت بعد عزة، عرفت تلك المنح السخية باسم «شروط التسليم»؛ كأنها فرضت على الدول الشرقية في ميدان قتال، وهم يعرفون هذه الشروط أو هذه الامتيازات بأنها عقود بين الدول المسيحية وغير المسيحية، أو بين الدول المتقدمة والدول المتأخرة؛ لضمان العدل في معاملة الأجانب بشرائع الحضارة، ويطلبون هذا الضمان أحيانا من دول غير مسلمة كالصرب ورومانيا والصين واليابان.
إلا أن الواقع كما تقدم من شهادات الساسة الأوروبيين أن هذه الامتيازات لم تكن لازمة لحماية أحد يستحق الحماية، بل كانت في غالب أمرها حماية للبغاة والعيارين في وجه الشريعة ووجه الآداب والأخلاق، ولم تكن صناعة الحضارة الأوروبية في مهمتها هذه أشرف من صناعة حراس الليالي الذين تعودت مواخير اللهو والفساد أن تقيمهم على أبوابها لدفع الشرطة واجتلاب الرواد. وأسوأ ما توصم به حضارة أن تحمي الفساد وتنافس حراس الليالي في مهمتهم، وهي تتحدث بشرائع العدل والحضارة، وتهدم ما بنته الأديان والأخلاق!
إنجلترا وفرنسا
بدأ القرن التاسع عشر وإنجلترا وفرنسا - كما يقال - فرسا رهان في حلبة الاستعمار، وكانت أزمة السياسة الدولية في أيديهما تتنازعانها في أكثر الأوقات وتنفقان عليها حينا بعد حين. وقد كادت أزمة السياسة الدولية عند مفتتح القرن التاسع عشر تنحصر في أيديهما؛ لأن إنجلترا كانت يومئذ أقوى دول البحار، وفرنسا كانت أقوى الدول البرية في القارة الأوروبية. وكلتاهما تتجه إلى البحر الأبيض المتوسط وطرق المواصلات بين الشرق والمغرب. لأن إنجلترا ملكت الهند وأصبح من همها أن تحرس الطرق بين هذه المستعمرة الشاسعة وبين الجزر البريطانية، وفرنسا قد انهزمت في سياستها الهندية فأصبحت - مع رغبتها القديمة في السيادة على البحر الأبيض ودعواها التقليدية في حماية البقاع المقدسة - شديدة الطمع في تعويض خسارة الهند واغتنام الفرصة لانتزاع الهند كلها من أيدي بريطانيا العظمى، أو إضعاف قبضتها عليها.
وكانت الدولة العثمانية قد دخلت في دور الانحلال الذي سماها الساسة الأوروبيون من أجله بالرجل المريض في أوربة
The sick Man of Europe
صفحة غير معروفة
وأخذوا من ثمة يتقسمون تركتها بينهم في حياتها، وليس في هذه التركة ما هو أغلى وأنفس وأولى بالطمع فيه من الديار المصرية.
وكانت هذه الديار قد خرجت فعلا من سلطان الدولة العثمانية في أيام «علي بك الكبير» أحد أمراء المماليك، فأعلن استقلالها وسك النقود باسمه وأوشك أن يستولي بجيشه القوي على بلاد السلطنة متفقا مع ولاتها في الشام وما جاورها. ولعل المبارزة الدولية حول مصر - في العصر الحديث - قد ظهرت للمرة الأولى بين روسيا وإنجلترا لإحباط هذا الاستقلال، فقد استعان «علي بك الكبير» بالأسطول الروسي واستعان خصمه «محمد أبو الذهب» بالأموال الإنجليزية، وكان حليفا لإنجلترا وتعاقد معها على تبادل التجارة وتيسير وصول سفنها إلى السويس، واتفق هذا مع ثورة الخواطر في العالم الإسلامي على روسيا في تلك الفترة، فانفض أنصار «علي بك الكبير» من حوله وفت في عضده مناداة دار الخلافة بعصيانه، فتضاءل شأنه ومات سنة (1773) مغلوبا على أمره، وعادت مصر بعده إلى ما كانت عليه في عهد المماليك الأخير، ميدانا للمنافسة والشقاق بين الأقوياء من أمرائهم، وفريسة للنهب والسلب بين الأتباع والجند الذين يخدمون أولئك الأمراء.
ولم ينقطع نظر الدولتين - إنجلترا وفرنسا - إلى الديار المصرية في تلك الفترة، وكل منهما تقدر أن هذه المنازعات ستئول عاجلا أو آجلا إلى ظهور أحد الأمراء الأقوياء على خصومه ومنافسيه كما حدث في أيام «علي بك الكبير»، فحسبت حسابها لذلك اليوم وجعلت تترقب الأحوال وتمتحن النظراء والمتنافسين على الرئاسة، وترشح للإمارة على القطر أقواهم بأسا وأكبرهم أملا في النجاح، فتبذل له المعونة وتوقع في نفسه أن يعتمد عليها وينتظر المساعدة السياسية والعسكرية منها، وترجو أن يذكرها عند نجاحه فتبلغ على يديه ما كانت تطمع في بلوغه بالفتح والغلبة على الدول الأخرى.
ولم يكن من اليسير في ذلك العصر أن تطمع دولة كبيرة في ضم بلاد كمصر إلى حوزتها دون أن تثير عليها حربا ضروسا تشترك فيها الدول الكبرى بأجمعها وتنتهي بهزيمتها وضياع غنيمتها بل ضياع ما ملكته قبل اغتنامها؛ لأن القرن التاسع عشر قد طلع على القارة الأوروبية، وهي تضطرب بالدول الجديدة والأمم المتطلعة إلى الاستقلال والسيادة، فانفتح أمامها مجال السباق وأخذت على الرغم منها بسياسة التوازن والتألب على كل دولة تحاول الاستئثار بالأمر والانفراد بالسيطرة على السياسة العالمية، لهذا فضلت الدولتان - إنجلترا وفرنسا - أن تبسط كل منهما نفوذها من طريق «التدخل السلمي» في البلاد الشرقية. وأوله في تقديرها أن يشعر الولاة بفضلها عليهم، وأنهم مدينون لها بالتشجيع والمساعدة، ويتلو ذلك ما يتلوه عادة من ترويج المصالح ونشر الثقافة وادعاء «الحماية» فعلا إن لم تكن حماية صريحة باعتراف الدول وإقرار الشعوب المحمية.
فأما إنجلترا فقد هداها تقديرها إلى ترجيح كفة «الألفي بك» أحد الأمراء الأقوياء، بل لعله أقوى الأمراء المماليك في تلك الفترة، فاستمالته إليها ودعته إلى بلادها وأعادته إلى مصر محملا بالهدايا النفيسة والأموال الوافرة، لينفقها في جمع الأنصار وشراء الأعوان والمؤازرين، ويتوسل بالنفوذ الداخلي والنفوذ الخارجي إلى الاستقلال بولاية الديار المصرية.
ويظهر أن فرنسا كانت أعلم بحقائق الأحوال في مصر من منافستها في هذه المرة؛ لأن الحملة الفرنسية قد سبرت أغوار المماليك وترجح لديها أن دولتهم زائلة وأيامهم معدودة، فمال تقديرها إلى رجل من غير المماليك وعلى خلاف هذا الطراز في علاج الأمور وجمع الأنصار والأعوان، وهو «محمد علي الكبير».
ولبثت الدولتان تترقبان، ولم يطل الترقب في أوائل القرن التاسع عشر، فلما اتفقت كلمة العلماء والأعيان وقادة الرأي العام في مصر على ترشيح «محمد علي» للولاية بادرت فرنسا بوساطة الجنرال «سبستيان» سفيرها في الآستانة إلى تأييد هذا الترشيح. وبذل «ماثيو دلسبس» صديق «محمد علي» ووالد فرديناند صاحب مشروع القناة غاية مسعاه لإقناع السفير الفرنسي بموالاة العمل في هذا السبيل، فلم يقصر السفير في مسعاه جهد ما استطاع. وساعده في هذا المسعى أن بعض المماليك كانوا من أصل فرنسي تخلفوا في مصر ولم يستطيعوا السفر مع حملة نابليون عند عودتها إلى بلادها، فدانوا بالإسلام وعاشوا عيشة المماليك وانضموا إلى حزب «محمد علي»؛ فرجحت كفته بتأييد الشعب ومؤازرة حزبه من المماليك الأصلاء وهؤلاء المماليك المستشرقين.
وساعد الحظ «محمد علي» فمات منافسه «محمد الألفي» وخلفه على رئاسة المماليك رجل لا يضارعه في العزم والهمة، وإن كان معمولا مثله على القوة الإنجليزية. فلما صدر الفرمان العثماني بتولية «محمد علي» ثارت عليه ثائرة الإنجليز وأنفذوا إلى مصر حملة بحرية (1807) عسى أن تفلح في جمع شتات المماليك وتأليبهم حول «شاهين بك» أميرهم الجديد، ولكنها انهزمت في رشيد وأخفقت الحملة في أغراضها كما أخفقت مساعي إنجلترا السياسية في الآستانة؛ لأن علماء مصر وأعيانها عادوا إلى تأييد «محمد علي» ورفض الوالي الذي أرسلته الدولة ليعزله ويتولى أمر مصر في مكانه.
ولبثت إنجلترا تتحين الفرصة لضرب النفوذ الفرنسي في الديار المصرية وإخلاء الجو لمطامعها في هذه الديار، فلما جرد «محمد علي» حملة على بلاد الدولة العثمانية وطرقت جيوشه أبواب القسطنطينية، سنحت لها فرصتها المرتقبة واستفادت من شواغل فرنسا الداخلية، فأثارت الدول على «محمد علي» ونفخت في نفير الخطر من اشتعال الحرب العالمية إذا انهارت دولة بني عثمان وتجددت بانهيارها الفجائي منازعات الدول على تركة «الرجل المريض». وحاولت أن تكسب بذلك عطف المسلمين في الهند بدعوى الغيرة على دولة الخلافة، فكان لها ما أرادت واتفقت معها روسيا والنمسا وبروسيا على صد «محمد علي» عن بلاد الدولة وإعادته إلى حدود البلاد المصرية، وأبرمت في ذلك الحين معاهدة سنة 1840، فوقعت عليها تركيا مع الدول الأربع، ولم توقع عليها فرنسا لاشتغالها بشئونها كما تقدم، واعتراضها على السياسة البريطانية، وهي لا ترمي إلى شيء غير إخلاء الميدان المصري من كل نفوذ غير نفوذها.
وكانت هذه المعاهدة نكبة على مصر في حينها وبعد حينها إلى اليوم الذي انفصمت فيه علاقة السيادة بين مصر والآستانة، فقد سمحت لإنجلترا أن تتذرع بها تارة لتهديد الدولة العثمانية محافظة على امتيازات مصر، وتارة لتهديد مصر محافظة على امتيازات الدولة العثمانية.
صفحة غير معروفة
وتمكنت من التمادي في هذه اللعبة بعد وفاة «محمد علي الكبير»؛ لأن خلفاءه لم يكن لهم من بعد النظر ما اشتهر به ذلك العبقري الموهوب، وإن كانت ثقته بفرنسا قد دفعته إلى حرب لا يؤمن ضررها ولا يرجى من ورائها خير مضمون.
توفي «محمد علي الكبير» وتوفي أكبر أبنائه «إبراهيم» في حياته، وآل عرش مصر إلى «عباس باشا الأول» ابن الأمير «طوسن بن محمد علي»؛ لأنه كان المرشح الوحيد للولاية بغير مزاحم، ولم يكن محبوبا في الدوائر الأوروبية؛ لمحافظته وإعراضه عن الحضارة الحديثة. فنفر منه القناصل ووقفوا له بالمرصاد وأجمعوا أمرهم على مقاومته، فيما كان يحاوله من نقل وراثة العرش إلى ابنه إلهامي باشا، ثم مات عباس «مخنوقا» في قصره ببنها وفوجئ ولي العهد الشرعي «محمد سعيد » بالخبر وهو في الإسكندرية، فأسرع إلى القاهرة لإعلان ارتقائه إلى العرش قبل إحكام التدبير لإقصائه عنه. ولكنه علم في الطريق أن «الألفي باشا» محافظ القاهرة - وكان من أنصار عباس - قد سبقه إلى بنها وحمل جثة الوالي القتيل في مركبة التشريفة وجلس فيها أمامه، كما كان يجلس والوالي بقيد الحياة، ولم يستغرب النظارة شيئا، ولم يخامرهم الريب في الأمر لأنهم تعودوا أن يشهدوا الوالي من بعيد جالسا في مركبته لا يلتفت يمنة ولا يسرة لتحية الواقفين في الطريق. واتجه «الألفي باشا» توا إلى القلعة حيث تقام مراسيم الولاية، فاتفق مع أمير الجند بها على إيصاد أبوابها في وجه الأمير «محمد سعيد» حتى يحضر «إلهامي» ابن عباس من أوربة، فلما وصل الأمير «محمد سعيد» إلى القاهرة، وجد العلماء أو الأعيان وقناصل الدول في استقباله وتقدم وهم في ركابه إلى ناحية القلعة، وأبلغ القناصل محافظ القاهرة المتمرد أن الدول لن تعترف بولاية تخالف الشروط التي ضمنتها لمصر في معاهدة سنة 1840. وكان قناصل فرنسا وإنجلترا وأمريكا متفقين على هذا البلاغ، فسقط في يد المحافظ وأذعن للأمر الواقع، ولم يصبح الصباح في اليوم التالي حتى كان قد قضى نحبه غما وخوفا من عاقبة ما جناه.
محمد علي باشا.
لم يزل سعيد يذكر هذه اليد للقناصل ولا سيما قنصل فرنسا، وكان معجبا بالثقافة الفرنسية، كثير الاختلاط بالفرنسيين والأجانب على العموم، يجيد الفرنسية ويتكلم الإنجليزية. وفي عهده حصل «فرديناند دلسبس» على امتياز فتح القناة بشروط غاية في الإجحاف والخطر على حقوق مصر والدولة العثمانية. وفي عهده طلب «نابليون الثالث» فرقة سودانية لإخضاع الثائرين في المكسيك، فأجابه إلى طلبه وأنفذ إلى المكسيك فرقة من أبناء السودان ومصر لتحل هناك محل الجنود الفرنسيين الذين فتكت بهم الحمى الصفراء وتبين أنهم لا يحتملون أهوية البلاد وحمايتها كما يحتملها الأفريقيون. وأرادت البيوت المالية في إنجلترا أن تقابل هذا النفوذ الفرنسي بمثله، فعمدت إلى تشجيع الوالي على الاقتراض فأقدم عليه غير هياب لجرائره، ومات وعليه عدة ملايين من الديون الأجنبية يختلفون في مقدارها بين ثلاثة ملايين وأحد عشر مليونا من الجنيهات. وكان «سعيد باشا» يخفي حقيقة هذه الديون؛ لأن شروط الولاية لا تسمح له بعقد القروض الأجنبية، فعقد قروضه وأخفى مقدارها ليحسبها من الديون الخاصة أو الديون التي يضمنها بثروته «الشخصية» ولا يجوز للدولة أن تعترض عليها.
وكان «إسماعيل بن إبراهيم» قد أصبح وارث العرش بعد حادث كفر الزيات الذي سيأتي بيانه في الفصول التالية، فعمل جهده على الموازنة بين النفوذ الأجنبي في بلاده واستخدم الإنجليز كما استخدم الفرنسيين. وعلا شأن الولايات المتحدة في أيامه بعد قهرها لبريطانيا العظمى وظفرها باستقلالها على الرغم من «سيدة البحار» التي لا تغيب الشمس عن أقطارها، فاستدعى إلى مصر نخبة من الضباط الأمريكيين لتدريب جيشه، ولم يكتم عنهم أنه يعتمد عليهم في أمر خطير ويستعد بهم لتحقيق استقلال مصر، فخطبهم قائلا: «إنني معتمد على رزانتكم وإخلاصكم وغيرتكم للحصول على استقلال مصر.»
1
إلا أنه كان حريصا على علاقاته بفرنسا، دائبا على إغرائها بتأييده في طلب الاستقلال وتعليق آمالها بما تناله من وراء هذا التأييد، كما قال في حديثه لمسيو تاستو قنصلها بالإسكندرية حين فاتحه في هذا الشأن (سنة 1864)، فقال: «إني لا أطلب من الحكومة الفرنسية تأييدها المادي أو المالي، بل تأييدها الأدبي يكفي، فلتعمل على منحي الاستقلال وتنكشف لها نياتي بعد ذلك.»
وقال قبل ذلك لمسيو شيفر: «إنني من أسرة محمد علي، وكلنا نذكر ما ندين به لمعاونة فرنسا وما خصتنا به دائما من رعايتها.»
وكان يتوجه بطلب القروض إلى فرنسا ثم تحول إلى البيوت الإنجليزية بعد حرب السبعين وخروج فرنسا منها في حالة كحالة الإفلاس ثروة وسياسة، فتحولت إنجلترا أيضا من الدس له في الآستانة وتحريض الدولة عليه لتورطه في الاستدانة وعقد المعاهدات - إلى الدفاع عنه والوساطة له عند السلطان في توسيع حقوقه وامتيازاته والإصغاء إلى مطالبه، ومنها مطلبه في مسألة وراثة العرش، وهي المسألة التي وقفت منها موقف المقاومة على عهد «عباس باشا الأول»، وما هو إلا أن صدر الأمر السلطاني بتحقيق هذه الرغبة حتى كشفت عن غايتها من المقاومة تارة والمعاونة تارة أخرى، فصرح السير «هنري إليوت» سفيرها في الآستانة: «بأن ما ناله الوالي من الحرية في الإدارة الداخلية لا قيمة له ما لم تكن له الحرية المطلقة في ارتياد الأسواق الأجنبية لجلب الأموال التي لا غنى عنها في إنجاز المشروعات الضرورية لتنمية الثروة المصرية.»
ثم تفاقمت أخطار الديون واستحكمت أزماتها وضاق «إسماعيل» ذرعا بالسيطرة الأجنبية وتقييده بآراء الوزيرين الأجنبيين اللذين اتفقت إنجلترا وفرنسا على تعيينهما في وزارة المالية ووزارة الأشغال، وهما أهم وزارات القطر كله. فاحتضن الحركة الدستورية؛ أملا في نقل الرقابة على خزانة الدولة من الوزير الإنجليزي والوزير الفرنسي إلى مجلس النواب، وألغى أوامره السابقة التي سلم بها مقاليد الوزارة وأبواب الخزانة لصندوق الدين تارة وأيدي الوزيرين الأجنبيين تارة أخرى. فاتفقت إنجلترا وفرنسا معا على طلب عزله، وقبل الباب العالي هذا الطلب؛ لأنه حسب الفرصة سانحة للرجوع في امتيازات مصر بموافقة الدولتين، ولكنهما انقلبتا عليه على الأثر بعد موافقته على العزل، وعلمتا أنه يرشح الأمير «عبد الحليم» لمنصب الخديوية بدلا من الأمير «محمد توفيق بن إسماعيل»، فأبلغتاه أنهما لا تقران هذا الترشيح ولا تعترفان بالخديوية لغير ولي العهد «محمد توفيق». فعدل الباب العالي مكرها عن ترشيحه للأمير «عبد الحليم»، وأراد أن يستدرك في فرمان التولية ما فاته في تعيين خلف إسماعيل، فلم يزل يسوف في إرسال الفرمان حتى تم الاتفاق على انتقاص بعض الحقوق وتقرير بعض القيود، ومنها: حظر زيادة الجيش إلى أكثر من ثمانية عشر ألفا، وتبليغ الباب العالي نصوص المعاهدات التي تبرمها الخديوية المصرية، وحظر النزول عن جزء من أجزاء البلاد المصرية، وحظر القروض المالية، وكانت كلها شروطا موافقة لسياسة الدولتين، وإن ظهر أن بعضها يخالف هذه السياسة، كحظر القروض وحظر التصرف في أجزاء البلاد المصرية؛ فإن القروض كانت في ذلك الحين قد أدت رسالتها، وبلغت غايتها، وكانت «سلامة الأراضي المصرية» حجة تشهرها كل من الدولتين في وجه الأخرى إذا انفردت باحتلال البلاد واقتطاع جزء من أجزائها، فجاء فرمان 1879 ملغيا لفرمان 1873 في هذه المسائل ولم يبق منه على غير امتياز واحد من الامتيازات الهامة التي حصل عليها الخديو إسماعيل، وهو حصر الوراثة في أكبر الأبناء؛ لأن إلغاء هذا الامتياز يفتح الباب لسلاطين آل عثمان في تجديد مسألة الترشيح حينا بعد حين.
صفحة غير معروفة
الخديو إسماعيل باشا. •••
وأصبح هم «توفيق باشا الأكبر» بعد ارتقائه العرش في تلك الظروف أن يتقي غضب الدولتين ما استطاع، فأعاد منصب الوزيرين الأجنبيين باسم مفتشين وبمرتب أكبر من مرتب رئيس الوزارة، وقبل أن يحال عليهما عمل المراجعة، وأن يكون لهما الإشراف التام على خزانة الدولة. وألجأ رئيس الوزارة «شريف باشا» إلى الاستقالة؛ لأنه كان يصر على تجديد الحياة النيابية، فأشارت عليه إنجلترا باختيار «رياض باشا» للوزارة، وهو سياسي حازم كان يوافق الخديو في أمور ويخالفه في أمور، فقد كان معروفا بميله إلى الصرامة في معاملة الحزب العسكري والمتطرفين. ولكنه كان من الجانب الآخر معروفا بميله إلى الحد من سلطة الخديو ولا سيما حق الإنعام بالرتب والأوسمة، فكان الخديو يؤيده حينا ويخذله حينا ويتصل من ورائه بالمتطرفين مع أنه لا ينوي أن يجيبهم إلى ما يطلبون. واتسعت أبواب التدخل أمام إنجلترا، ما بين خلاف الأمير ووزيره وخلاف الأمير والوزير معا وقادة الجيش وطلاب الدستور. وكان «رياض باشا» يطلب إقالة بعض وزرائه - ومنهم «محمود سامي باشا» - لأنه اتهمهم بإفشاء أسرار الوزارة لقنصل فرنسا وزعماء العسكريين، فلا يصغى إليه. وقد كانت الأحوال كلها تسوء وتغضب ولا ترضي أحدا من المتطرفين ولا من المعتدلين، واشتدت أزمة العيش وأطبقت على النفوس عوامل السخط والثورة، وتفاقم الخطب بإثارة الضغائن والعصبيات بين الجراكسة والمصريين، فتألفت لجنة من عشرين عضوا للتحقيق والبحث في أسباب التذمر والإشارة بوجوه الإصلاح، لم يكن فيها غير مصري واحد هو «أحمد عرابي» والباقون بين إنجليزي وفرنسي وألماني وإيطالي وأمريكي وجركسي وتركي وكردي وألباني ... فكانت مقترحاتهم من قبيل التهدئة التي لا تطول!
ولما تفاقمت عوامل الثورة أخذت إنجلترا تنشر بين الدول فكرة الاستعانة بالدولة العثمانية وإقناعها بإنفاذ حملة إلى مصر تعيد النظام . وكان الغرض من نشر هذه الفكرة حمل الدول عن الامتناع عن «التدخل الفردي» في الشئون المصرية، لكي تنصرف جميعا عن التمهيد لهذا التدخل، وتترك الطريق ممهدا لها دون غيرها في الموعد المقدور!
وظهرت هذه النية ظهورا واضحا حين دعت فرنسا إلى عقد مؤتمر الآستانة، فانعقد في السفارة الإيطالية؛ لأن الدولة العثمانية لم تقبل الدعوة إليه، واقترح السفير الإيطالي الذي وقع الاختيار على سفارته لقدمه أن يصدر المؤتمر قرارا بمنع التدخل الفردي في الثورة المصرية، فسرعان ما اتفق المندوبون على هذا القرار حتى ألغوه فعلا بقبول اقتراح من اللورد «دفرين» مندوب إنجلترا، يقضي بإضافة استثناء واحد يجيز التدخل «الفردي» إذا دعت إليه الظروف القاهرة ... وشاعت الإشاعات عن أسباب هذه الموافقة، فقيل فيما قيل: إن دهاء اللورد «دفرين» لم يكن هو السلاح الوحيد الذي تذرع به السياسي الداهية إلى إلغاء القرار بهذا الاستثناء المريب، وإن «فارس الجنيه الإنجليزي» كان أمضى سلاحا في إقناع بعض المعارضين من كل برهان!
وقبل أن ينفض المؤتمر كان الأسطول البريطاني يضرب الإسكندرية ويقرر «التدخل الفردي» فعلا معتمدا على ذلك الاستثناء. وتتابعت بعد ذلك مناورات الدس والمناوأة بين فرنسا وإنجلترا حول المسألة المصرية وحول غيرها من المسائل الدولية، ولكن الأمر الذي هو جدير بالتقدير والتذكير أنهما كانتا ترجعان إلى التفاهم حينا بعد حين، كلما سنحت لهما فرصة المساومة وتبادل المنافع على قضية من القضايا السياسية. وحسب المؤرخ أن يسجل من هذه المساومات ثلاثة مواقف في أقل من ثلاثين سنة: «أولها» وساطة بسمارك أثناء انعقاد مؤتمر برلين (1878) بين الدولتين للاتفاق بينهما على إطلاق يد فرنسا في تونس تعويضا لها عن احتلال إنجلترا لجزيرة قبرس، وأن تعمل الدولتان يدا واحدة في مسألة الديون المصرية، وأن تعترف إنجلترا لفرنسا بما تدعيه من حق حماية المسيحيين التابعين للكنيسة اللاتينية في سورية.
و«ثانيها» الاتفاق المعروف باتفاق سلسبوري وكمبون في سنة 1899 عقب حادثة فاشودة على تقسيم القارة الأفريقية في السودان إلى شواطئ المحيط الأطلسي ...
و«ثالثها» اتفاق سنة 1904 على إطلاق يد فرنسا في المغرب وإطلاق يد إنجلترا في مصر والسودان ...
وفي هذه المواقف وما إليها تنبيه كاف لمن ينخدعون بالخلاف بين دول الاستعمار ويعتمدون على وعودها في هذه الحال، وأبلغ ما في هذه العبرة أن بعضنا قد توجه إلى برلين بعد خيبة الأمل في باريس، وقد كان أول اتفاق بين الدولتين - بعد طول خلاف - معقودا في مكاتب برلين.
الديون
قلنا في غير هذا الفصل: إن الديون لم تكن وسيلة للإشراف الأجنبي على حكومة من الحكومات غير الحكومة المصرية، وعلة ذلك راجعة إلى الامتيازات الأجنبية التي أباحت للدول في بلاد الدولة العثمانية ما لا يباح في بلاد غيرها. وقد كانت مصر استثناء ملحوظا بين البلاد التي ابتليت بنكبة الامتيازات، فإن تركيا نفسها قصرت في سداد الأقساط قبل مصر فلم تنكب بما نكبت به مصر من ضروب الإشراف مرة باسم الوزارة الأوروبية، ومرة باسم صندوق الدين أو لجنة التصفية، ومرات كثيرة بما شاءت الدول وشاء القناصل من الدعاوي والمعاذير، وعلة هذا الاستثناء راجعة إلى الطمع في احتلال مصر وبسط الحماية عليها فعلا أو رسما، دون أن يقابل ذلك اتفاق على صد الغارة عنها؛ كاتفاق الدول على صد الغارة على مجازي البسفور والدردنيل وما يليهما من التخوم العثمانية.
صفحة غير معروفة
وقد كان هذا الوضع «المستثنى» خليقا أن ينبه المسئولين عن السياسة المصرية إلى اجتناب الديون وإغلاق هذا الباب على الواغلين والمتطفلين، ولكنهم فتحوه على مصراعيه وفتحوا معه أبواب السرف والخلف وإضافة الجديد على القديم قبل الخلاص من القديم، وقبل أن تدبر وسائل السداد لهذا أو ذاك. بلغت الديون على عهد إسماعيل زهاء مائة مليون جنيه، لم يصل منها إلى الخزانة العامة أكثر من ستين مليونا على أحسن تقدير، ولم ينفق منها على الأعمال العامة غير جزء من هذا المقدار. وكان إنفاقه على قواعد تخالف المعروف المقرر من قواعد الإصلاح المنتج والتعمير المفيد؛ إذ كان من الخطل عند جميع العاملين في الميادين الاقتصادية أن تنفق في بضع سنوات أموال لا تؤتي ثمرتها قبل ستين أو سبعين سنة، وكان من الواجب دائما أن تجنى الثمرة ويحسب حساب موعدها على قدر المورد والمصرف، وإلا كانت إلى الغرم والخراب أقرب منها إلى الغنم والعمار!
من أمثلة التدبير السيئ في الحصول على القروض أن الحكومة المصرية أرسلت وسطاءها إلى أوربة لاقتراض اثنين وثلاثين مليونا من الجنيهات، فلبثوا نحو سنة (من يونيو سنة 1873 إلى مايو سنة 1874) ثم حصلوا على القرض فلم يتسلموا منه غير عشرين مليونا على التقريب منها تسعة ملايين سندات على الخزانة المصرية مؤجلة السداد، أما الباقي فقد ضاع في نفقات الوسطاء ورشوة السماسرة عدا ما يضيع بعد ذلك في الأرباح - بنسبة سبعة في المائة. •••
بدأت مصر في الاستدانة على عهد «محمد سعيد باشا»، فمات وعليه وعلى خزانة الحكومة أكثر من عشرة ملايين من الجنيهات، وقد أخذ قبل وفاته في جمع المال لسداد هذا الدين أو بعضه؛ فأمر بتسريح الجند إلى بلادهم، وباع المصانع في القاهرة والأقاليم، وباع كثيرا من الجواهر والتحف والذخائر المحفوظة، وجعل معاش الموظفين أرضا من ملك الحكومة وحسب المرتبات على ضرائب الأطيان، ولم يعرف كيف صرفت بعده حصائل هذه البيوع في سداد الديون!
وتعددت أنواع الديون في عهد إسماعيل، ومنها: الدين السائر؛ وهو مقابل الأعمال التي لا تدفع أجورها فورا، والدين الثابت؛ وهو القرض المضمون ببعض موارد الدولة كالموانئ والسكك الحديدية وخراج الأقاليم الغنية. ومنها: دين المقابلة؛ وهو قرض داخلي سمي بقرض المقابلة لأنه اشترط فيه أن من يؤدي ضريبة ست سنوات سلفا يعفى من نصف الضريبة إلى أجل غير محدود، وهذا الإعفاء في «مقابلة» التعجيل بأداء الخراج. ومنها: دين الرزنامة؛ وهو مجموع من سندات تخول صاحبها أن يقبض من الخزانة تسعة في المائة من جملة دينه!
وكان إسماعيل يتعهد أحيانا بوقف الاستدانة إلى أجل ثم يضطر إلى المال قبل انتهاء الأجل، فيعمد إلى بيع ما يمكن بيعه، كأسهم قناة السويس، أو يفوض إلى وكلائه تحصيل المال المطلوب من حيث يوجد في البلاد أو خارج البلاد.
ولما نفدت جميع الحيل في أقل من عشر سنوات لجأ إسماعيل إلى الاستعانة بالخبراء الأجانب لتنظيم الإدارة المالية متوسلا بذلك إلى كسب الثقة التي تتيح له عقد المزيد من القروض، فأنفذت إليه حكومة إنجلترا خبيرا من خبرائها يسمى مستر كيف
Cave
فلم يكن لعمله من ثمرة، غير أنه اطلع على أسرار الخزانة ووسائل الاستدانة وأودعها تقريرا كان لنشره فيما بعد أسوأ الأثر في تشويه سمعة مصر وغل أيديها في شئونها الداخلية!
ودق ناقوس الخطر الأكبر حين أعلن الباب العالي أن فوائد ديونه تسدد بعد أول يناير سنة 1876 بحساب النصف نقدا والنصف الآخر سندات لها فوائد خمسة في المائة.
وتبعته مصر بعد بضعة أشهر، فتوقف الخديو عن صرف سندات الخزانة وعرض على الدول أن تضمن ديون رعاياها بالإشراف على الخزانة المصرية، وأنشئ بعد أسبوعين من إعلان التوقف صندوق الدين (مايو سنة 1876) الذي اشتركت فيه الدول الدائنة ورفضت إنجلترا في مبدأ الأمر أن تشترك فيه؛ لأن ديون رعاياها مضمونة وثابتة، وديون سائر الدول من قبيل الديون السائرة. وقد بلغت الديون الموحدة نيفا وتسعين مليونا بفائدة سبعة في المائة تسدد في خمس وستين سنة. ثم اتفقت إنجلترا وفرنسا على إيفاد مندوبين لدراسة المسألة، فأسفرت بحوثهما عن الإشارة بإخراج أكثر من ثلاثين مليونا من الدين الموحد يسدد بعضها من أقساط دين المقابلة، ويسدد البعض الآخر - ويسمى بالدين الممتاز - من موارد السكة الحديد وميناء الإسكندرية، ويضمن الباقي بمزارع الدائرة السنية.
صفحة غير معروفة
ولم ترض الدول بأقل من فرض الرقابة الفعلية على ديواني المالية والأشغال، فاختير للوظيفتين ريفرز ويلسون
Rivers Wilson
الإنجليزي، وبلنيير
Blignieres
الفرنسي، ثم شكا هذان الموظفان من ضيق نطاق السلطة. واقترح مندوبو الدول في صندوق الدين ندب لجنة للتحقيق بدأت عملها باستدعاء وزير الحقانية «شريف باشا» لسؤاله فأنف الرجل أن يستدعى كما يستدعى المتهمون واستقال حين أصرت اللجنة على إحضاره ولم تقنع منه بالردود الكتابية على أسئلتها. ثم أشارت لجنة التحقيق بإقامة وزارة مسئولة يكون من أعضائها المراقبان الأجنبيان، فتألفت أول وزارة من هذا القبيل سنة 1878 برئاسة «نوبار باشا»، وفيها ريفرز ويلسون وزير للمالية وبلنيير وزير للأشغال. وكانت ألمانيا تؤيد إنجلترا وفرنسا في ضرورة الرقابة على أهم الدواوين في الحكومة المصرية؛ لأن بسمارك كان يخشى - إذا لم تتفق الدول على التدخل جميعا - أن تقدم إحداهن على الانفراد بالعمل، كما قال سفيره في العاصمة الإنجليزية اللورد «دربي»، وهو يلمح إلى فرنسا ويدور بخلده أنها هي التي يخشى منها أن تقدم على هذه الخطوة.
ولم يسترح الخديو إلى هذا الضغط على سلطته فعمل على مناوأة الوزيرين الأوروبيين. وقد قوبل تعيينهما بالسخط الشديد في مصر، وزاد المصريين سخطا على سخط أن الوزيرين لم يوفقا في كثير من الوسائل التي استخدماها لتحصيل الديون وتنظيم الإدارة، فلم يكن لهما هم غير إقناع الدول بقدرتهما على تحصيل الأقساط في مواعيدها، فعمدا إلى وسائل العنف والإكراه في جمع الضرائب، وعينا في الدواوين المحلية مئات من الموظفين الأجانب بعضهم لازم للعمل وأكثرهم عالة عليه يحلون في الوظائف محل المصريين. ولم يباليا بتأخير صرف المرتبات لإتمام الأقساط في مواعيدها، وأشارا بنقص عدد الجيش وفصل عدد كبير من الضباط. فلم يجد الخديو صعوبة في تبغيض هذا «النظام الجديد» إلى الأمة، وكان ضباط الجيش في طليعة الثائرين على الوزيرين وعلى رئيس الوزارة. وقد كان المعتقد أن الوزارة «الأوروبية» كما كانت تسمى يومئذ، ستؤدي المرتبات المتأخرة من قرض روتشيلد، وهو القرض الذي عقد برهن مزارع الخديو والأسرة الخديوية، وتبلغ أكثر من أربعمائة ألف فدان، فعقد القرض وظلت المرتبات متأخرة. وتفنن الوزيران في ابتداع الوسائل لتحصيل الضرائب، فكان من مقترحاتهما في هذا الباب فرض ضريبة تسمى ضريبة بدل السخرة يؤديها من يريد إعفاءه من العمل بغير أجر في الترع والجسور وفتح الطرق وما إليها، ولم تأت سنة 1879 حتى كانت القاهرة تموج بأصحاب المظالم وطلاب الإصلاح، وحان موعد القسط من تلك السنة، فسول سوء السياسة للوزيرين أن يتمما المبلغ المطلوب من مرتبات ضباط الجيش وأشارا على الوزارة «باستيداع» ألفين وخمسمائة ضابط تخلصا من مرتباتهم القديمة ونصف مرتباتهم الجديدة في وقت واحد. فاحتشد هؤلاء الضباط وغيرهم عند ديوان المالية وأخذوا يصيحون بطلب عزل الوزارة وخرج نوبار وويلسون وهم محتشدون فهجموا عليهما وأهانوهما واعتقلوهما في الديوان. وبادر الخديو إلى مكان الحادث ومعه فرقة من الحرس، ولم يتفرق المحتشدون إلا بعد أن صدر الأمر بإطلاق النار، فأطلقها أمير الحرس في الهواء.
ورأى الخديو أن الوقت ملائم لاسترداد سلطته فأبلغ الدول أنه لا يعتبر نفسه مسئولا عن هذا الحادث وأمثاله ما لم تكن في يديه السلطة الضرورية لتنفيذ أوامره. واضطر نوبار إلى الاستقالة فخلفه الخديو في رئاسة مجلس الوزراء. ولكن وكيل الحكومة الإنجليزية في مصر أبلغ الخديو أن هذا التصرف مخالف للعهد الذي أخذه على نفسه بمشورة الدول عند تأليف مجلس الوزراء المسئول. واهتدى الطرفان إلى اتفاق «وسط»، يحل ولي العهد «توفيق باشا» محل الخديو نفسه في رئاسة المجلس ويخول الوزيرين وقف كل أمر لا يقرانه، ويوجب على الخديو أن يطلع الدولتين - إنجلترا وفرنسا - على أسماء وزرائه قبل تعيينهم، وكان هذا الشرط الأخير «مفهوما» غير مكتوب. •••
هذه الحركة تعد في رأي المؤرخين مبدأ الثورة العرابية؛ لأن مطالب العسكريين بعدها لم تنقطع في شئونهم التي تخصهم أو في الشئون القديمة العامة، وفي مقدمتها إعلان الدستور ورد الأمر كله إلى الأمة تتولاه في مجالسها النيابية.
ومن عجائب المقادير أن زعيم الثورة العرابية لم يساهم في هذه الحركة بنفسه ولا بأحد من فرقته؛ لأنهم كانوا جميعا في رشيد وحضروا إلى القاهرة في اليوم السابق لوقوع الحادث واشتغلوا نهارهم بتسليم الأسلحة والذخائر إلى مخازن الوزارة، ولكن حزب الضباط الشراكسة في الجيش أراد أن يلصق بهم «تهمة» المؤامرة فوضعهم من حيث لا يدري على رأس الحركة ووجه إليهم أنظار الثائرين والمسالمين.
وربما صح أن يقال أن سنة 1879 هي السنة التي أطبقت فيها إرادة المصريين جميعا على إقامة الحياة النيابية، ولم تكن مصر قد عرفت منها قبل ذلك غير المجالس الشورية التي كانت تدعى في عهد «محمد علي الكبير» للاقتراح والمشورة، وقد أعادها إسماعيل باسم مجلس شورى النواب، وافتتح هذا المجلس في التاسع عشر من شهر نوفمبر سنة 1866، واختار أعضاءه من الوجهاء ورؤساء العشائر بغير انتخاب، ولكن الأعضاء المختارين كانوا في الواقع ممثلي الأمة الذين تختارهم برضاها لو وكل إليها أمر انتخابهم؛ لأنهم كانوا بمثابة قادة المجتمع في كل إقليم.
صفحة غير معروفة