أما قبل ...
مقدمات تاريخية
الامتيازات الأجنبية
إنجلترا وفرنسا
الديون
قناة السويس
الصهيونية
الدولة العثمانية
جنود وموظفون
نهضة الإصلاح
أحمد عرابي
الخديو توفيق
من حملة إلى حملة
أما بعد ...
أما قبل ...
مقدمات تاريخية
الامتيازات الأجنبية
إنجلترا وفرنسا
الديون
قناة السويس
الصهيونية
الدولة العثمانية
جنود وموظفون
نهضة الإصلاح
أحمد عرابي
الخديو توفيق
من حملة إلى حملة
أما بعد ...
ضرب الإسكندرية في 11 يوليو
ضرب الإسكندرية في 11 يوليو
تأليف
عباس محمود العقاد
أما قبل ...
عند مشرق الشمس من يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882 أخذ الأسطول البريطاني في إطلاق قذائفه على الإسكندرية، فجاوبته إحدى قلاعها بعد الطلقة العاشرة، وجاوبته القلاع الأخرى بعد الطلقة الخامسة عشرة، واستمر إطلاق النيران من الأسطول على المدينة إلى الساعة الخامسة، ولم ينقطع تماما إلا عند الغروب.
وكان قائد الأسطول قد أجاب وكلاء الدول في الإسكندرية مطمئنا لهم حين سألوه عن خطر البقاء في الإسكندرية بعد إنذارها بالضرب، فأكد لهم أنه سيعمد إلى القلاع دون غيرها بقذائفه فلا خوف على أحد من سكان المدينة. ولكن القذائف قد أصابت المساكن الأوروبية والمصرية خبط عشواء، وقالت صحيفة الطان الباريسية يومئذ: «إن قذائف السفن أصابت مساكن الأوروبيين التي تبعد كثيرا عن خط القتال وسقطت إحداها في المستشفى الأوروبي، وقد أوت إليه الراهبات واليتامى وعليه رايات الصليب الأحمر، فلم تنفجر القذيفة لحسن الحظ، وأكد الإنجليز أنهم لم يروا على المستشفى أية راية ...»
وقالت صحيفة التيمس: «إن بعض القذائف قد سقط في الأحياء الأوروبية إلى جوار القنصلية الإنجليزية على مسافة ألفي متر من حصن قايتباي.»
وقالت صحيفة الفاردي ألكسندري: «إن قذائف الإنجليز التي كانوا يرمون بها حصن كوم الدكة، سقط منها اثنتان في حديقة دير الفرنسيسكان، وقذيفة في ساحة رهبان المدارس المسيحية، واثنتان بالقرب من دير الأيتام، واثنتان في الحدائق التي تكتنف أبنية المدرسة الإيطالية الجديدة.»
هذه رواية الصحف الأجنبية عن المواقع الأوروبية التي استهدفت لقذائف الأسطول، ومن السهل أن يتخيل القارئ مدى الخراب الذي أصاب المدينة كلها في مساكن الوطنيين وغير الوطنيين .
لقد كان عابر الطريق في الإسكندرية بعد ذلك اليوم المشئوم يعبر الأحياء العامرة، فلا يمر بغير الأطلال والأنقاض ولا تقع عينه على بيت قائم بين عشرات البيوت المنهارة أو المتداعية، وقد صدق أديب إسحاق حين قال في رثاء المدينة، وقد شهد الخرائب بعينيه:
يا وارد الإسكندرية طامعا
بمنافع الإصدار والإيراد
أقصورها خفيت عن الأنظار أم
آثار قصري في القفار بوادي؟
هذي عروس الشرق ماتت فاكتسى
حزنا عليها الغرب ثوب حداد
بالأمس كانت والبياض دثارها
واليوم صارت أرسما بسواد
كانت ملاذ الخائفين فأصبحت
والخوف منها مبعد القصاد
كانت موارد للظماء وقد غدت
ما أن بها من مورد للصادي
كانت مواقع نعمة فغدت وما
فيها سوى البأساء للمرتاد
كانت وكان الدهر سيد أهلها
فأصابها بالأهل والإسعاد
كانت وكنا لا ينام حسودنا
صارت وصرنا راحة الحساد
كم حامل خرجت بها محمولة
فوق الكواهل أو على الأعواد
ومعمر لم يبق في الدنيا له
غير السكينة من منى ومراد
ومريض قوم غاب عنه طبيبه
وجفاه أنس الأهل والعواد
خرجوا وهم لا يهتدون سبيلهم
والنائبات روائح وغوادي
فيم كانت هذه الفاجعة الدامية؟ فيم استبيحت هذه المدينة لمن أنذروها وأصروا على ضربها فضربوها؟ •••
إن بيان ذلك مسطور في «الإنذار» الذي تلاه الغرب بعد يوم واحد، وهذه ترجمته إلى العربية:
أتشرف بإخبار سعادتكم أنه نظرا لحدوث استعدادات حربية آخذة في الازدياد منذ يوم أمس في حصون السلسلة وفاروس - قايتباي - وصالح، وهي موجهة بالطبع إلى الأسطول الذي تحت قيادتي، فقد عقدت العزم على أن أنفذ غدا عند شروق الشمس العمل الذي أعربت لكم عنه في خطابي المؤرخ في السادس من الشهر الجاري، إن لم تسلموا لي حالا قبل هذه الساعة البطاريات المنصوبة على رأس التين وعلى الشط الجنوبي لمنع التسلح بها.
ويفهم من هذا أن قائد الأسطول قد استباح ضرب المدينة العامرة بسكانها من جميع الأجناس؛ لأن حصونها تستعد لدفع الهجوم عنها، ففيم كان هذا الهجوم عليها؟
إن النائب الإنجليزي «ريتشارد» قد أغنانا عن تسخيف هذا العذر حين قال في مجلس النواب: «أرى رجلا يحوم حول داري وعلامات العدوان بادية على وجهه، فأعمد إلى الأقفال لأغلق أبوابي ونوافذي فيثور غضبا ويزعم أنني أهينه وأهدده وأنه يقتحم علي بيتي ليذودني عن نفسه ولا يزيد عن حق الدفاع.»
وهذه علة بالغة في السخافة لو صح أن الأسطول البريطاني كان معرضا لشيء من الخطر بعد استعداد الحصون المصرية لدفع هجومه عليها، ولكنه مع هذا لم يكن عرضة للخطر على الإطلاق، ولم يكن أيسر عليه من تحويل موقعه فلا تصيبه قذيفة حصن من الحصون، وكانت مدافعها كما هو معلوم أقصر مدى من أضعف مدافع الأسطول. وفي ذلك يقول إنجليزي آخر هو مستر «رويل» الذي كان محاميا أمام محكمة الإسكندرية المختلطة، ثم عين مستشارا بمحكمة الاستئناف الوطنية، وألف كتابا عن الحملات المصرية، قال فيه: «إن الخطر الذي كانت تستهدف له مدرعات الأسطول من جراء الاستعدادات المصرية لم يكن إلا خطرا وهميا في ذلك الحين، وعلى فرض الخطر الحقيقي كان في الإمكان اتقاؤه إذا انحرف القائد بأسطوله بعض الانحراف.»
والقائد نفسه كان يدرك ما في معاذيره من الوهن والتجني المفضوح، فترك الوقائع ولجأ إلى الأحلام والنيات يعلل بها استباحته للمدينة العزلاء، وكان فيما كتبه إلى مجلس البحرية: «إن أحمد عرابي يشيع أن النبي يزوره كل ليلة ويرجو أن يوقع الأساطيل المتحدة في الفخ بمراكب محملة بالحجارة يغرقها في مدخل الميناء.»
وقد أطلقت دعاية الاستعمار في ذلك الحين كل قذائفها على مصر والمصريين، لعلها تحجب هذه الفعلة النكراء في جو من الأباطيل والأراجيف. ولكن الحقيقة كانت أوضح من أن تحتجب بهذه الدعاية كل الاحتجاب حتى في مجلس الوزراء الإنجليزي؛ فاستقال من وزارة «غلادستون» أقوى أعضائها وأخطب خطباء ذلك العصر في عالم السياسة الأوروبية، استقال «جون برايت» من الوزارة؛ احتجاجا على تلك الجريمة التي لا يسوغها شرع ولا عرف ولا أدب من آداب الحضارة. وأقام جماعة من ذوي الأخلاق احتفالا لتكريمه، خطب فيه الدكتور «دال»، فقال: «إن الإجلال والحب اللذين يوحيهما مستر برايت لا يكفي في تفسيرهما بيانه البليغ وخدمته العظيمة لبلاده. إن الرجل أعظم من فصاحته، إنه أنبل من خدمته، فقد كان في جميع الأحوال وفيا لضميره، لم تكن جميع الأباطيل والوشايات وأقاويل السخرية والبغضاء لتحيد به قيد شعرة عما اعتقد أنه جادة الحق والصواب.»
ثم تعاقبت الحوادث دراكا بما يثبت الواقع الغني بنفسه عن الإثبات.
إن ضرب الإسكندرية لم تكن له علة واحدة يبحث عنها الباحثون في أنباء ذلك اليوم ولا أنباء ذلك الشهر ولا أنباء تلك السنة أو تلك السنوات.
إن المدينة العامرة بسكانها قد استبيحت بالدم البارد والروية الطويلة لأسباب كثيرة ترجع قبل ذلك إلى مئات السنين. «أما قبل»، فهذا ما سنجمله فيما يلي من الفصول.
مقدمات تاريخية
تعتبر المسألة المصرية من جميع الوجوه حلقة من سلسلة الوقائع والمنازعات التي دارت سجالا بين الشرق والغرب من أقدم العصور التاريخية، وتعددت بواعثها بين عصر وعصر، وهي في جميع البواعث تدور على محورها «التقليدي» من هذا النزاع الدائم بين الشقين المتناظرين.
وقد عللت هذه المساجلات حينا بحب الفتح والغلب، وحينا بدفع الخطر واتقاء الغارة، وأحيانا بالبحث عن الموارد الزراعية والتجارية أو بتنازع البقاء بين زحام الشعوب في حيز محدود.
ولكنها في حوادثها التي انتهت باحتلال مصر، قد تمثلت في دورين كبيرين، أحدهما لاحق بالآخر ومتوقف عليه، هذان الدوران هما: دور الحروب الصليبية ثم دور المسألة الشرقية، واحتلال مصر لم يكن إلا صفحة من صفحات هذا السجل الواسع الذي اشتهر باسم المسألة الشرقية، وامتد من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى في حقبة من حقب التاريخ.
بدأت الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر، واشتهرت باسم الحروب الصليبية؛ لأن الداعين إليها نشروا دعوتهم باسم الدين واستنفروا أمم أوربة للاستيلاء على بيت المقدس وموطن ميلاد السيد المسيح، ولكنها في حقيقتها لم تكن دينية بحتا ولم تخل من بواعث سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالدين ولا بالأماكن المقدسة.
ولهذا اتفق كثيرا أن جمهورية جنوا وجمهورية البندقية بذلتا المسعى الحثيث لتحويل زحف الجيوش الصليبية إلى القسطنطينية، وهي في أيدي العواهل المسيحيين ، وساعدتهما كنيسة رومة مرة بعد مرة في هذا المسعى المتواصل؛ لأنها كانت تشفق من نفوذ الكنيسة الشرقية وتبادلها «التحريم والحرمان» في عنف ولدد وخصومة تهون عندها جميع الخصومات. أما الجمهوريتان الإيطاليتان فكان همهما الأكبر تأمين المواصلات بين الشرق والغرب والاحتفاظ بطريق البحر الأبيض المتوسط؛ حذرا من تحول التجارة إلى البحار الغربية.
واتفق حينا أن أسقف فوقيس
استعدى السلطان بيازيد على مزاحميه من أساقفة اللاتين والإغريق، ودعاه إلى فتح المورة والاستيلاء عليها، كما اتفق من الجانب الآخر أن أذناب الدولة الفاطمية كتبوا إلى الصليبيين في إيطاليا الجنوبية يستعدونهم ليدفعوا بهم سلطان صلاح الدين.
وقد كانت الشعوب الأوروبية ولا ريب تهتم بالحروب الصليبية لأسباب دينية، ولولا ذلك لما سمح الآباء والأمهات بتجريد حملة من ثلاثين ألف طفل دون الخامسة عشرة (سنة 1212)؛ لاعتقادهم أن براءة الطفولة خليقة أن تنال من الله ما لا يناله الكبار الغارقون في الخطايا والذنوب. ولكن نظرة واحدة إلى أخبار الزمن وحوادثه السياسية تبدي لنا بواعث كثيرة إلى جانب البواعث الدينية، كان لها شأن عظيم في تجريد تلك الحملات ومواصلة الإمداد لها مائتي سنة أو تزيد.
مثال ذلك حالة إنجلترا في ذلك العصر، وهي لا تنتهي من نزاع الكنيسة حتى تدخل في نزاع بين النبلاء والملك ومصالحة بينهم على شروط الوثيقة الدستورية التي اشتهرت باسم الوثيقة الكبرى
Magna Carte .
ومثال ذلك طموح فرنسا إلى استبقاء لقب الدولة الرومانية المقدسة والتذرع بذلك إلى ضم الأقطار التي كانت مضمومة من قبل إلى الدولة الرومانية، ويقترن بهذا كله خلاف البابوات والملوك على فرض الضرائب ونقل الكنيسة من رومة إلى الأرض الفرنسية.
وقد كان معظم الحملة في الحروب الصليبية موجها إلى البلاد المصرية؛ لأنها كانت يومئذ أقوى الدول الإسلامية وكانت بيت المقدس تتبعها في كثير من الأوقات، ولكن العالم الشرقي كان قد تجاوب بأنباء هذه الحرب، وكانت هذه الأنباء باعثا من البواعث القوية لاستقدام الترك العثمانيين إلى آسيا الصغرى، فروسيا الجنوبية، فالأقطار التي كانت جيوش الصليبين تتجمع عندها في أوربة الوسطى، ولم تزل جيوش العثمانيين تطرق أبواب بودا وفيينا حتى هدأت الحروب الصليبية والحروب العثمانية بعض الشيء في أوائل القرن الخامس عشر، واستولى الترك على القسطنطينية (سنة 1453)، ثم تحولت حملاتهم إلى الأقطار الآسيوية وفتحوا مصر بعد ذلك بنيف وستين سنة (سنة 1517).
وانقضى نحو قرنين بعد قيام الدولة العثمانية في القسطنطينية وأمم أوربة مشغولة بالأحداث الجسام التي تعاقبت عليها خلال تلك الفترة، ومنها دعوة الإصلاح الديني وكشف أمريكا ونهضة الأمم الناشئة وحروب إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وظهور الدولة الروسية في أوربة الشرقية، فلم تجد متسعا من الوقت ولا من الوسيلة للبحث في الشئون الشرقية إلى أواخر القرن السابع عشر، ثم تنبهت إلى النزاع بين روسيا الناشئة والدولة العلية الشائخة، فكان هذا التنبه العام فاتحة المسألة التي عرفت باسم المسألة الشرقية.
ولم يظهر لروسيا اسم في إبان الحروب الصليبية؛ لأنها كانت شعوبا متفرقة بعضها على الوثنية وبعضها حديث عهد بالمسيحية، فلما تمت لها الوحدة بين شعوبها وقامت على رأسها حكومتها القيصرية اتخذت لها سياسة تتلخص في «مداومة الحرب لفتح العالم»، وجمعتها الوصية المفصلة التي كتبها بطرس الأكبر، وجاء في مادتها الأولى: «يجب أن يقاد الجيش إلى الحرب على الدوام، وأن تظل الأمة الروسية على أهبة القتال ولا تغفل عنه إلا لراحة الجند وتوفير المال.»
وجاء في المادة التاسعة منها: «يجب الاقتراب جهد المستطاع من القسطنطينية والهند، وإذا كان معلوما مسلما أن القابض على القسطنطينية يقبض على الدنيا بأسرها كان لزاما أن تشن الغارة تارة على الدولة العثمانية وتارة على الدولة الإيرانية، ويجب ضم البحر الأسود شيئا فشيئا لإقامة دار لصناعة السفن على شواطئه، ولا غنى مع هذا عن ضم البحر البلطي لأن موقعه لازم لتحقيق هذه الخطة، ومن الواجب التعجيل بإضعاف دولة إيران أو القضاء عليها للوصول إلى خليج البصرة، لعلنا نتمكن من إعادة التجارة الشرقية القديمة إلى بلاد الشام والنفاذ منها إلى الهند التي هي مخزن الدنيا، وبهذه الوسيلة نستغني عن ذهب إنجلترا.»
وقد اشتملت مواد الوصية الأخرى على النصائح التي ينبغي اتباعها لبث الفتنة والفساد في البلدان المتاخمة لروسيا توطئة للزحف عليها أو ضمها بالوسائل السلمية.
وهكذا اتفق أن تنفيذ هذه الوصية وفتح باب المسألة الشرقية باسم تحرير المسيحيين من حكم الدولة العثمانية يمشيان مرحلة طويلة في طريق واحد، وتعاقبت المعاهدات تنفيذا لتلك الخطة، كمعاهدة كارلوتيز بين روسيا والنمسا وبولونيا وتركيا (1699)، ومعاهدة كجوق قينارجة بين الروسيا وتركيا (1774) ومعاهدات سابقة ولاحقة اشتركت روسيا وممالك أوربة الوسطى وشواطئ البحر الأبيض في معظمها.
إلا أن هذه الدعوة لم تخدع أوربة الغربية عن خفايا المقاصد التي انطوت عليها، وكانت فرنسا على الخصوص قد خرجت من الحروب الصليبية بلقب حامية البقاع المقدسة، وكانت إنجلترا التي انفصلت عن كنيسة رومة لا تنازعها هذه الدعوى، ولكنها تخشى على الهند وتأبى كل الإباء أن تسمح لروسيا بالتسلل إلى البحر الأبيض. فحدث غير مرة أن فرنسا كانت تهب للمطالبة بحماية المسيحيين اللاتين كلما هبت روسيا لحماية المسيحيين الإغريق، وأن إنجلترا كانت تتعلل بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية كما ضمنته المعاهدات، وكانت مع هذا لا تخلو من أناس يحبون أن يطلقوا على ملكهم لقبا من الألقاب الدينية، وظلت هذه الرغبة تساورهم إلى أيام الملكة فكتوريا التي كانت تود لو اعترف لها شعبها بلقب حامية الملة
Defonber of faith ، وسبقت فرنسا الدول إلى عقد معاهدة مع تركيا تعترف لها باللقب القديم، فانعقدت هذه المعاهدة بين لويس الخامس عشر والسلطان محمد خان (سنة 1740).
تمخضت الحروب الصليبية كما قدمنا عن حروب المسألة الشرقية، وظلت المسألة الشرقية زمنا طويلا، وهي حروب صليبية بعنوان آخر، وبخاصة في موقف الدول الأوروبية الكبرى بإزاء مصر، وعلى الأخص فيما يتعلق بقناة السويس؛ فإن الفيلسوف الألماني «ليبنتز» قد زين لعاهل فرنسا «لويس الرابع عشر» أن يضرب هولندة في تجارتها الشرقية بانتزاع مصر من قبضة الإسلام، وأنه بذلك يشل هولندة عن مقاومته؛ لأن اعتراضها إياه في غزوه لمصر يثير عليها الأمم المسيحية، وسيأتي في الكلام على قناة السويس أن المركيز «دار جنسون
Dar Genson » كان يعتبر حفر قناة السويس فتحا صليبيا يهم العالم المسيحي بأسره، ولكن المسألة الشرقية قد ذهبت شوطا آخر وراء ذلك، وتمخضت عن دور آخر في سياسة الدول الأوروبية نحو الدولة التركية، وهو الدور الذي عرف بالتفاهم على تركة الرجل المريض. •••
فبعد أن كان الغرض من المسألة الشرقية انتزاع الأقطار المسيحية في تلك الدولة أصبح الغرض المتفق عليه في هذا الدور تقسيم أقطار الدولة جميعا من مسيحية وإسلامية، وتبادل الإغضاء عن كل نصيب متفق عليه يقع في قبضة الطامعين فيه من المتنازعين على التركة، وصاحبها بقيد الحياة.
وعلمت الدنيا في القرن الثامن عشر أن شركة من الشركات التجارية نزلت بالهند فملكتها وضمتها إلى حوزة الدولة البريطانية. ونشأت الصناعات الكبرى في ذلك القرن، وتدفق الذهب من القارة الأمريكية على الدول الأوروبية، صواحب المستعمرات في تلك القارة، فحسن لدى بعضها أن تعتمد على الذهب وتعدل عن القتال لضم الأقطار المطموع فيها. وراقت هذه الخطة دول التجارة والمستعمرات، وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا، ففتحت خزائنها لطلاب الديون من بلاد الدولة العثمانية على الخصوص؛ لأنها تستند فيها إلى الامتيازات الأجنبية. ولم تستطع الدول الأخرى أن تجاريهما في هذا المضمار، ولم تستطع كذلك أن تقف في طريقهما لأنهما تعملان «بالوسائل السلمية» ولا تجردان السيف، فيتبع ذلك ما يتبعه من اشتباك دول شتى في حومة القتال، ولكن الدولتين صاحبتي المال والمستعمرات لم تتركا الدول المتربصة بغير عوض؛ فسمحتا لروسيا بضم ما شاءت ضمه من الديار الأوروبية، وتغاضتا عن خطتها «إلى الشرق» ما دامت بعيدة من مكمن الخطر، وسمحتا لروسيا ببعض الأقاليم في آسيا الغربية وأوقعتا في روعها دائما أن الحد الممنوع هو الحد الذي يؤدي إلى الاحتكاك في طريق البحر الأبيض وطريق الهند من أقصاه إلى أقصاه. •••
وقبل أن ينتصف القرن الثامن عشر كانت أوربة كلها تتطلع إلى دولة فتية نبغت في وسطها، هي الدولة البروسية: ارتفع بها فردريك الكبير إلى مصاف الدول الكبرى، وقام على أمورها بعده بفترة وجيزة وزيرها القدير بسمارك صاحب السياسة التي وسمت يومئذ بسياسة الدم والحديد، وكان من مطامحه أن يضم إلى وطنه شعوب أوربة الجرمانية باسم ألمانيا العظمى، ونظر إلى الشرق فطمع في الدولة النمسوية؛ لأنها شائخة تتداعى، ونظر إلى الغرب فطمع في هولندة لأنها أصغر من أن تحمي نفسها في مصطرع الدول المحيطة بها. ولاح له أن تصفية الدولة العثمانية خير طريقة إلى المساومة على صفقته الرابحة، فإذا شجع روسيا على احتلال الآستانة ومضائق البسفور والدردنيل، وشجع إنجلترا على احتلال مصر وقناة السويس، أمكنه أن يستلحق الجرمان الأوروبيين شرقا وغربا بغير عناء. وتبقى فرنسا فلا يضيره أن يدفع اعتراضها بالسماح لها إلى حين بضم بلجيكا من جانب حدودها، ويتسنى له من ثمة أن يقبض على ميزان الفصل بين الخصوم والنظراء، فلا تستغني دولة من الدول عن مجاملته وخطب وده. ولولا أن دهاة إنجلترا وروسيا كانوا يحذرونه ولا يطمئنون إلى تحريضه، لاندفعوا حيث أراد أن يدفعهم، ولكنهم راوغوه ولم يقنطوه وتخادع له بعضهم ليخدعوه، فلم يزل يلعب لعبته بين إنجلترا وروسيا وفرنسا حتى بطلت الغاية منها فانقلب على الجميع واحدة بعد أخرى.
من مخازي هذا الدور - دور المسألة الشرقية - فضائح المذابح التي تعللت بها الدول لتحقيق غاياتها المرسومة، وقد لوحظ عليها أنها تحدث دائما في مكانها المطلوب وعند الحاجة إليها، فحدثت في أرمينية عندما شرعت روسيا في استلحاقها، وحدثت في لبنان عندما تهيأت فرنسا لبسط نفوذها عليه وتنصيب ولاته باختيارها، وحدثت في الإسكندرية والأسطول البريطاني يتحفز على شواطئها، وكانت حجة مشتركة تسعف المحتجين بها في ساعتها وفي مكانها.
وقد ثبت من الحوادث التي جرى التحقيق فيها بأعين العالم وسمعت فيها شهادات الأجانب أنفسهم، أن الاعتداء فيها كان يبدأ من ناحية الأجانب الذين كانوا يصولون على أبناء البلاد بامتيازاتهم المجحفة. وعرف في التاريخ أن الأرمن كانوا يعيشون مع جيرانهم الترك في سلام ومودة، وكان الترك يسمونهم «بملتى صادقة» ثقة بهم واطمئنانا إليهم، ومن دلائل ذلك في مصر إيثار بوغوص وأرتين ونوبار بمناصب الوزارة في أيام محمد علي وإسماعيل، وإيثار أسطفان وأرام في أيام عباس الأول، وقد أدى البحث في مذابح سنة 1895 إلى الوقوف على سبب هذه المذابح، وهو يعزز ما اشتهر من شعور الترك نحوهم، فقد سافر مئات من الترك في تلك السنة إلى الحجاز وتركوا أبناءهم ونساءهم في رعاية جيرانهم من الأرمن المقيمين معهم في بلادهم، فما هو إلا أن أبعدوا في السفر حتى اندس المحرضون من الخارج بين تلك القرى يحرضون الأرمن على الفتك بجيرانهم الموكولين إلى رعايتهم، فاعتدوا على الأرواح والأعراض وانقضوا على الصغار والشيوخ يقتلونهم أو يشردونهم. وسكت المؤرخون الغربيون عن هذه الحقائق ولم يذكروا من أخبار أرمينية غير ما سموه بالمذابح المسيحية، وتواطئوا على إخفاء الأخبار الصحيحة، كما جاء في دائرة معارف أفريمان من مادة تركيا بمجلدها الثاني عشر. ويستطيع من شهدوا في مصر عدوان المعتدين على المصريين عقب الحرب العالمية الأولى أن يعلموا سهولة هذا العدوان على من يسميهم أولئك الكتاب الغربيون بضحايا العسف والاضطهاد.
أما مذابح لبنان فقد حدثت في الوقت الملائم أيضا، لأنها لبثت بالانتظار - إذا صح هذا التعبير - حتى خرجت فرنسا وإنجلترا متفقتين من حربهما مع روسيا لصد روسيا عن بلاد الدولة العثمانية، وإبطال دعواها في حماية الملة، وانعقد مؤتمر باريس (1856) لإبرام الصلح وتقسيم ما تيسر تقسيمه من بلاد الدولة في أوربة وآسيا، وبعد هزيمة النمسا سنة 1858 واشتعال الحرب البروسية النمسوية وإلحاح الضرورة على نابليون الثالث لتوطيد مركزه بين المحافظين المتدينين مستعينا بهم على الغلاة من أنصار الجمهورية - سنحت الفرصة «لحامي الملة»، فجاءت مذابح لبنان في سنة 1860 ملبية لكل طلب موافقة لكل خطة. وتلاها ارتياد المعاهد الفرنسية لمدن لبنان وسورية تثبيتا للثقافة الفرنسية والثقافة العربية في وقت واحد؛ إذ كانت يقظة العرب لازمة لتقويض أركان الدولة وتقريب المسلمين مع المسيحيين إلى سياسة فرنسا باسم الدين من ناحية، واسم العلم والحضارة من ناحية أخرى، ثم نسيت ثقافة العرب، بل حوربت، بعد قضاء المأرب من تركة «الرجل المريض». •••
إن سياسة الدول في المسألة الشرقية درس تطبيقي مفصل لمذهب القائلين بالسياسة الجغرافية
Geopolitics ، وخلاصته أن مركز الأمة الجغرافي يملي عليها سياستها على اختلاف الحكومات والمعتقدات.
فالسياسة الروسية في عهد «بطرس الأكبر» هي بعينها سياسة الشيوعيين الذين يحاربون الملة، ولكنهم يحذون حذو العاهل القديم في مراميه ومساعيه للسيادة على مضائق البسفور والدردنيل والإشراف على البحر الأحمر وخليج البصرة وطريق الهند ومسالك إيران.
وفرنسا طمحت إلى ضم بيت المقدس ومصر على عهد ملوكها القديسين؛ لأن «لويس التاسع» كان يزعم أنه «أمين الأمة العيسوية»، كما قال في خطابه إلى الملك الكامل «أمين الأمة المحمدية»، ثم طمحت إلى هذه الغاية في عهد «لويس الخامس عشر»، قبيل الثورة وفي إبان حركة التمرد والإلحاد. ثم جاء نابليون الأول إلى مصر، وهو يقول للمصريين بعد افتتاح منشوره: «بسم الله الرحمن الرحيم ... الذي لا ولد له ولا شريك في ملكه، إنه أعظم احتراما للنبي والقرآن الكريم من المماليك، ويطلب إلى العلماء والأعيان أن يبلغوا أمتهم أن الفرنسيين مسلمون مخلصون ... يحبون الدولة العلية.»
يقول هذا في مصر وهو لم يبرح فرنسا حتى كان قد أقنع حكومة الإدارة «بأن مصر موصل تجاري بين الشرق والغرب ... وأنها إذا افتتحت وبقيت فيها فرنسا خمسين سنة غنيت فرنسا بما تأخذه من محاصيلها وما تبيعه في أسواقها ... ولم تقم لإنجلترا قائمة في بلاد الهند بعد احتلال شواطئ البحر الأحمر وشق القناة بين النيل والسويس ...»
ثم انفصلت فرنسا عن الكنيسة ولم تزل إلى أواخر القرن التاسع عشر تدعي لنفسها حق حماية المسيحيين في المشرق، ثم احتلت ما احتلته من هذا المشرق بحجة جديدة غير الحجة الدينية، وهي حق الدول الكبرى في الوصاية على الأمم الصغرى بانتداب من أمم الحضارة.
أما إنجلترا فقد أملى عليها موقعها البحري واستيلاؤها على الهند أن تحتل جبل طارق ورأس الرجاء الصالح وعدن ومصر، كما تحتل جزيرة مالطة وجزيرة قبرص، وتعللت لاحتلال كل موقع من هذه المواقع بعلة بينها وبين العلل الأخرى أشد مما بين هذه المواقع جميعا من مسافات المكان، ولكن «السياسة الجغرافية» هي العلة الواحدة التي تطوي جميع تلك العلل، والغاية الأخيرة التي تسبق جميع تلك الغايات.
فإذا كذب الساسة وانخدع المسوسون، لم تكذب الجغرافية ولم ينخدع التاريخ.
الامتيازات الأجنبية
بلغت الديون التي ماطلت الدول الأوروبية المفلسة في سدادها عند نهاية القرن التاسع عشر أكثر من أربعمائة مليون جنيه، ولكن الدولة البريطانية لم تتخذ من دين واحد بين هذه الديون الكثيرة ذريعة للمساس باستقلال الدول المفلسة، ولم تكلف نفسها كتابة ورقة واحدة رسمية لاستقضاء هذه الديون بالنيابة عن الدائنين، فضلا عن الإلحاف والتهديد والمطالبة بتعيين الوزراء الأجانب للإشراف على خزائن الدول المدينة، كما فعلت في البلاد المصرية.
1
إلا أن الامتيازات الأجنبية تكفلت لها بذرائع العدوان على السيادة المصرية، والامتيازات الأجنبية أطمعت البيوت المالية - من إنجليزية وغير إنجليزية - في بذل ديونها بأكبر الفوائد التي لم يسمع بمثلها في معاملات الدول، وهي مطمئنة إلى استردادها مضاعفة والتوسل بها إلى المزايا السياسية والمغانم «الاقتصادية» التي تفوقها في الخطر والمنفعة.
كتب الخديو إسماعيل إلى سفيره «غير الرسمي» إبراهام بك في سنة 1874، يقول:
لأي سبب أو مناسبة تتدخل الدول في المسائل الداخلية للسلطنة - العثمانية؟ إن الامتيازات هي هذا السبب أو تلك المناسبة، وآية ذلك أن المغفور له الصدر الأعظم، وصف الامتيازات في مؤتمر باريس بأنها حجر عثرة في سبيل الإدارة الحسنة للسلطنة، فطلب إلغاءها لأنها مدعاة للاضطراب؛ أي للضعف. وما دامت الامتيازات كذلك فلا بد من إزالتها، ولكن ما السبيل؟ هل هو القوة؟ هل هو إلغاؤها بلا قيد ولا شرط، كما سمعت شخصية عالية في استامبول تقترح ذلك؟ كلا ثم كلا، لن يكون ذلك إلا حافزا للدول على مناهضة إلغائها واستفزازا للرأي العام في أوربة، مما يفوت علينا غرضنا بل يزيد تطبيقها عنفا، فالوسيلة الوحيدة، الوسيلة الكفيلة بإدراك غايتنا هي التي اصطنعتها في مصر، لما رأيت أن مصر ضائعة لا محالة إذا استمرت فريسة لتدخل القنصليات.
2
إلا أن الامتيازات الأجنبية التي وصفها الصدر الأعظم بأنها «حجر عثرة في سبيل الإدارة الحسنة للسلطنة العثمانية»، كانت في الواقع رحمة بالقياس إلى الامتيازات التي كانت تطبقها الدول في البلاد المصرية؛ فإن النظام العثماني كان يسمح بمحاكمة الأجانب أمام المحاكم الوطنية، أما في مصر فقد انتزعت «القنصليات» التي أشار إليها الخديو إسماعيل حقوقا مدعاة لم يرد لها ذكر في أي اتفاق من الاتفاقات الدولية. وساعدها على ذلك أن ولاة مصر شهدوا أثر القناصل في تنصيب الولاة وخلعهم، وفي الشفاعة لهم أو الشكوى منهم عند «الباب العالي»؛ فخافوهم وسلموا لهم في أمور لم تكن من حقهم في أرض الدولة العثمانية التي أنشأت هذه الامتيازات. وتمادى القناصل في انتزاع السلطة شيئا فشيئا حتى بلغت قنصلياتهم سبع عشرة قنصلية تحكم في قضايا الأجانب وتحكم على الوطنيين في المنازعات بينهم وبين رعاياها، بل تحكم على الحكومة المصرية بالغرامات والتعويضات كلما ادعى عليها مدع من الأوروبيين بأنها خالفت معه شرطا أو عرضته لخسارة مقصودة أو غير مقصودة. وقد أحصيت هذه التعويضات في أقل من أربع سنوات بين سنتي 1864 و1868 فبلغت ثلاثة ملايين من الجنيهات.
وكانت الحكومة المصرية لا تجسر على سؤال أجنبي في أمر من الأمور - كبر أو صغر - إلا بحضور مترجم من القنصلية، فكانت القنصليات تتعمد منع المترجم من الحضور مع تكرار طلبه لكي تضطر صاحب الحق في النهاية إلى الرجوع إليها والمساومة معها في المصلحة المختلف عليها. وإذا وجب تفتيش بيت من بيوت الأجانب فلا بد من استئذان القنصلية قبل دخوله، ولا بد من تأجيل التفتيش يوما بعد يوم، بل أسبوعا بعد أسبوع، حتى يفرغ «المترجم» لمصاحبة الموظف المصري القائم بعمل التفتيش أو التحقيق. وكان المعهود المألوف في هذه الأحوال أن صاحب البيت المطلوب تفتيشه يعلم بالخبر من ساعي القنصلية أو من المترجم نفسه، فيبادر إلى تهريب ما عنده أو إلى إخفاء معالم الجريمة قبل إثباتها في محاضر التحقيق.
ولا يجوز نقض الحكم الصادر من القنصلية إلا أمام أقرب محكمة من محاكم الاستئناف في بلاد الدولة التي يمثلها القنصل، ويستدعي هذا أن المصري صاحب المصلحة في الاستئناف يسافر إلى أوربة أو يوكل عنه محاميا أوربيا يفرض عليه ما يشاء من الأتعاب، إن قبل التوكيل عنه في مخاصمة أحد من أبناء وطنه، ودون ذلك يهون ترك الحق واحتمال الضيم والتسليم في موضوع الخلاف. وقد يحتاج الأمر إلى محكمة في البرازيل أو الولايات المتحدة، بين الأمريكتين الشمالية والجنوبية، عدا أربع عشرة دولة في القارة الأوروبية.
واطمأن الأجانب إلى الحماية المطلقة في كل ما يعن لهم من الدعاوى المشروعة وغير المشروعة، فهانت عليهم أرواح المصريين واستخفوا بالعدوان عليها لسبب ولغير سبب، وشوهد مئات من القتلة يذهبون إلى بلادهم لمحاكمتهم أمام محاكمها العليا ثم يعودون بعد فترة وجيزة بأسماء أخرى أو بأسمائهم الأولى ولا تجسر الحكومة على إقصائهم أو استدعائهم لسؤالهم، ولا يجسر أحد من أقارب القتيل على مطاردتهم أو مناقشتهم؛ لأن دعواهم مقبولة ودعواه مرفوضة في جميع الأحوال، وإن قامت عليها البينات وعززتها شهادة الشهود.
وفي هذا وأمثاله، يقول شاعر النيل:
يقتلنا بلا قود
ولا دية ولا سبب
ويمشي نحو رايته
فتحميه من العطب
وإن السطوة الجامحة لتطغي الإنسان بين أبناء قومه، فكيف بمن يطغى على قوم ينظر إليهم نظرته إلى غريب مستباح الذمار يقتحم عليه بلاده ويبتز ماله ويسومه الخسف، وهو آمن وادع قرير العين والبال؟
ولعل بلدا من بلاد العالم لم يشهد حادثا كالحادث الذي رواه مستر «بتلر» في كتابه عن حياة البلاط بمصر؛ إذ روى قصة من أعجب القصص عن حماية الامتيازات الأجنبية لتجارة المهربات، وفحواها أن قنصلا كان يقاسم رعاياه المهربين أرباحهم من تهريب المحظورات، فنمى إليه يوما أن رجال حرس السواحل ضبطوا أولئك المهربين ومعهم مقدار كبير من البضائع المهربة، فجمع طائفة من زعانف قومه وهجم بهم على ثكنة حراس السواحل وأعملوا فيهم الضرب والطعن والسباب، وتكالب القنصل وزعانفه حتى بلغ من هياجه أنه أنشب أسنانه في ذراع أحد العساكر فانخلعت إحداها وبقيت في ذراع الجندي الجريح، وثبت ذلك للمحقق موريس بك «الأجنبي»؛ لأنه رأى أثر السن المخلوعة في فم القنصل الهمام، ثم احتج القنصل على الحكومة على ما لقيه من مقاومة جنودها، وآزره زملاؤه الأماثل، فانتهت القضية بعقاب الحراس والاعتذار للقنصل الشاكي من أولئك «المعتدين» المساكين! •••
إن الكظم الذي عاناه أبناء مصر من عسف الامتيازات ليقع في نفوسنا اليوم موقع العجب من طول الصبر وطول الاحتمال. وقد كان الأفاقون يقابلون ذلك الصبر بمزيد من الشطط والمغالاة في الإيذاء؛ كأنهم يستصغرون كل طغيان يقف بهم دون الغاية من التحدي والإذلا. وروي عن بعضهم أنه كان يطلق عنان جواده في الطريق المزدحم، ويلذ له أن ينظر إلى الناس يتطايرون من حوله خوفا وهلعا ولا يقوى أحد منهم على كبح جماحه والوقوف في وجهه! ومن حوادث هذه الرعونة الوحشية حادث الحوذي الأوروبي الذي صدم جنديا فقتله وذهب به رفاقه إلى قصر رأس التين يطلبون من الخديو توفيق أن ينظر إلى هوان جنده على هؤلاء الزعانف من شذاذ الآفاق. فهذا الحادث قد كان من أسباب الثورة المباشرة كما كان مثلا للاستخفاف بالأرواح؛ حيث يظن أن لهذا الاستخفاف حدا يقف عنده على الأقل كرامة للجيش ورعاية للجندية وحسابا للنخوة العسكرية، فإذا هان الاستخفاف في هذا المقام فهو في غيره أهون ما يكون.
قال «لورد كرومر» في تقريره عن سنة 1905: «... الذي أغضب الوطنيين خصوصا أن يونانيا ووطنيا تشاجرا في السابع من ديسمبر على أمر حقير، قيل: إنه مشتري قطعة من الجبن، فاستل اليوناني سكينا وطعن الوطني طعنة كانت القاضية، وفي العاشر من ديسمبر جرت حادثة أخرى أذكرها بالتفصيل لأنها تدل «أولا» على صغر قدر الحوادث التي يمكن أن تفضي إلى عواقب وخيمة في مدينة مختلطة السكان مثل الإسكندرية، وثانيا على طيش كثيرين من رعاع الأجانب وخفتهم في استخدام السلاح: إن أربعة نجارين يونانيين دخلوا مطعما ووقفوا أمام مائدة حولها ثلاثة كراسي فقط، وكان على مقربة منها مائدة أخرى حولها ثلاثة كراسي أيضا، وقد جلس عليها يوناني اسمه قسطندي ووطنيان، ثم نهض أحد الوطنيين وخرج. وكان أحد النجارين الأربعة جالسا على ركبة رفيقه، فتقدم ليتناول الكرسي الخالي فمنعه قسطندي، فتشاجر الفريقان ولكن صاحب المطعم فصل بينهم ورد بعضهم عن بعض. ثم خرج قسطندي وما لبث أن عاد حاملا مسدسا، وكان النجارون قد خرجوا من المطعم في غيابه ودخلوا قهوة بالقرب منه، فتناول قسطندى كرسيا وجلس أمام باب المطعم حتى خرج النجارون من القهوة، فأطلق مسدسه على أحدهم فأخطأه ولكن الرصاصة أصابت وطنيا جالسا في حانوت مجاور وجرحته، فتجمهر الناس وحدثت مخاصمة جرح فيها ثلاثة وعشرون أوروبيا جروحا أكثرها خفيفة. وحضر رجال البوليس فقبضوا على كثيرين، ولم يمض إلا قليل حتى شاع أن يونانيا قتل وطنيا؛ فاجتمع رعاع الوطنيين في أسفل حي من أحياء الإسكندرية وجعلوا يصرخون: اقتلوا النصارى ... فحدثت مشاجرة أخرى وقبض فيها على كثيرين ... وأسرعت المحاكم فأنجزت قضية المشاغبين بالسرعة والدقة بعناية قاض وطني من الأكفاء ... وقد كان عدد الذين ضبطوا منهم 185 نفسا فبرئت ساحة 59 منهم وحكم على الباقين بالحبس من سنة إلى شهر ماعدا ثلاثة غلمان أدبوا بالجلد، ووقع أثقل الأحكام على الذين ثبت أنهم كانوا ينادون: اقتلوا النصارى ... وما شاكل ذلك من العبارات.»
روى اللورد «كرومر» هذه القصة ولم يكلف نفسه بعد مشقة أن يبحث عما أصاب الجناة من العقاب، وقد أطلقوا النار وأثاروا الفتنة لسبب لا يدعو عاقلا إلى التفوه بكلمة نابية، فضلا عن إطلاق النار بعد تربص وانتظار، ولم يكلف نفسه أن يذكر كم أجنبيا قبض عليهم في ذلك الشغب كما قبض على أولئك الوطنيين، ولم يكلف نفسه أن يذكر كم وطنيا أصيب غير ذلك القتيل كما كلف نفسه أن يذكر المصابين من الأجانب وأكثرهم مسلحون، وأكبر الظن - إن لم نقل: أقطع اليقين - أن حكاية «اقتلوا النصارى» هي التهويلة المعهودة التي تضاف دائما إلى الرواية لتسويغ هذا الإجحاف البين في المعاملة، حين يكون الوطنيون هم المصابين.
كتب «جورج بتلر» قنصل الولايات المتحدة إلى وكيل الخارجية الأمريكية في الحادي والثلاثين من شهر يناير سنة 1871، يقول عن أمن الأجانب في مصر: «لم أسمع قط أن وطنيا قتل أجنبيا في مدينة أو تعدى عليه.»
3
و«لورد كرومر» أحجى أن يعلم بعد أربعين سنة من كتابة هذه الشهادة الأجنبية أن تقدم الزمن قد أثبت هذه الحقيقة ولا يزال يزيدها ثبوتا بعد ثبوت، وأن الامتيازات الأجنبية أسيء استعمالها في كل حادث من حوادثها المشهورة قبل الاحتلال البريطاني وبعده بزمن طويل ، وهو الذي قال في كتابه «مصر الحديثة» بعد خروجه من مصر وبعد انقضاء ثلاثين سنة على الاحتلال: «إن هذه العهود - عهود الامتيازات - قد تحولت إلى أغراض خسيسة من أمثلتها أن تحمي جهنم القمار كما تحمي بائع الخمور المغشوشة والمتاجر في السلع المسروقة، والصيدلي الذي يبلغ به التهاون أن يعطي السم القاتل بدلا من الدواء الموصوف ...»
وقد قال «لورد ملنر» من قبله في كتابه عن إنجلترا بمصر: «إن الحركة الوطنية من الطبيعي أن تتجه بالتفاتها واهتمامها إلى المساوئ الشنيعة التي نجمت عن امتيازات الأجانب في الديار المصرية، فإن هذه المساوئ قد أصبحت أداة ينتفع بها شر الطغاة من الأوروبيين وأشباه الأوروبيين من متفرنجي الشرق الأدنى، ولا تزال حتى الآن كما سنرى كثيرا فيها بعد آخر بلاء مسلط على الديار المصرية، ولكنها تجسمت في أخريات عهد إسماعيل حتى بلغت مداها المخيف، وراح الأوروبي قناص الغنيمة وسمسار القروض المرهقة، والإغريقي صاحب الخان ومرتهن الأرزاق، واليهودي أو السوري المرابي ومن إليهم يسهل عليهم الاحتماء بإحدى الدول الأوروبية، يمتصون الخزانة العامة والفلاح والفقير ويقترفون في هذه الجناية ما يستعصى على التصديق ...» •••
ومع هذه الموارد التي استحل منها الأجانب ما يباح وما لا يباح، أعفتهم الامتيازات من الضرائب جميعا فلا يؤدون لخزانة الدولة درهما من ثرواتهم الضخام ولو نيفت على الملايين، ثم سمحت الدول في عهد إسماعيل بالتسوية بين الأجانب والمصريين في أداء ضريبة الأرض؛ لأنها تعلم أن الأجانب يعملون في التجارة والمراباة ولا يعملون إلا قليلا في الزراعة والفلاحة على أنواعها، وحيل بهذا بين المصريين ومنافسة الأجانب في ميادين التجارة؛ لأنهم مثقلون بأنواع من الضرائب أعفي منها الأجانب كل الإعفاء.
صبرت مصر زمنا على هذه الضربات التي لا تطاق، وارتفعت ضجة المصريين بالشكوى منها، تارة إلى الولاة وتارة إلى السلطنة العثمانية على غير جدوى. ثم تنبهت السلطنة العثمانية أخيرا إلى هذه النقمة، فأمرت «سعيد باشا» بالعمل على علاجها والتخفيف منها، وكأنها أحست أن الولاة يبتغون الزلفى إلى الدول الأوروبية بالسماح لها بالتوسع في تطبيق الامتيازات ، وأنهم يحتمون بهذه الزلفى في سلطان الآستانة، فتنبهت إلى الخطر بعد طول الغفلة عنه، وأمرت الوالي بالكف عن مجاراة القناصل في دعواهم، فلم يكترث لأمرها عجزا منه عن تنفيذه أو شعورا منه بالحاجة إلى مجاملة السلطة الأجنبية. ولم تتحرك حكومة مصر لتتدارك الخطر إلا في عهد الخديو إسماعيل بعد أن ثقلت عليه وطأة المغارم والخسائر وامتنع عليه التصرف في أمر من أمور الحكومة دون أن يتعرض للمقاومة والتهديد من قبل هذا القنصل أو ذاك؛ تمحلا لأسباب الشكاية أو المطالبة بالتعويض ولغير سبب معقول في كثير من الأحيان. وطالت المفاوضات بين الحكومة المصرية وحكومات الدول وحكومة الآستانة قبل أن تأذن بتوحيد القضاء وإنشاء المحاكم المختلطة التي كانوا يحسبونها في ذلك الوقت منحة عزيزة، وهي في حقيقتها نكبة من النكبات. ولم يمض على إنشائها غير قليل حتى صدمت الخديو إسماعيل صدمة لم تكن له في حساب؛ فقد كان يعتمد على المفاوضات السياسية بينه وبين أصحاب الديون في الخلاف على المطلوب منه وعلى مواعيد سداده، فلما أنشئت المحاكم المختلطة فصلت دفعة واحدة في قضية مستعجلة يتناول الخلاف فيها عدة ملايين من الجنيهات وألزمته بالنفاذ المؤقت وهدده قضاتها بإغلاق أبوابها ما لم يصدر أمره بتنفيذ الحكم في بضعة أيام.
على أن الدول لم تستجب إلى رجاء مصر في توحيد القضاء؛ رحمة بالمصريين أو حبا للإنصاف ورغبة في الإصلاح، بل استجابت هذا الرجاء في الواقع لأن الأجانب أنفسهم كانوا يشكون من تعدد القضاء بين القنصليات ويشكون من تناقض الأحكام ومحاباة بعض القناصل لرعاياهم في قضاياهم مع الأجانب الآخرين. وقد حدث أن شركة قناة السويس أجرت دارا في بورسعيد لبعض الأجانب فماطلها زمنا في سداد أجرته حتى اضطرت إلى مقاضاته عند قنصله، فنزل عن الإيجار لأجنبي آخر تابع لدولة أخرى، وما زال هذا النزول يتتابع من ساكن إلى ساكن سنوات عدة، وهي تنتقل بالقضية من قنصلية إلى أخرى حتى أنشئت المحاكم المختلطة، فأصبحت حيلة النزول غير صالحة للتأجيل والانتقال بالشكوى من قضاء إلى قضاء.
واشتهرت مسألة أخرى باسم مسألة «تريكو»؛ لأن القنصل الفرنسي «تريكو» أضرب عن الحكم على أحد من رعايا فرنسا بحق من الحقوق بالغا ما بلغ من ثبوته للرعايا اليونانيين، لأن قنصل اليونان كان يحابي رعاياه في قضاياهم مع الأجانب الآخرين.
وحدث غير مرة أن يتعدد أصحاب المصالح وتتعدد حكوماتهم، فيصدر الحكم من كل قنصلية مناقضا لأحكام القنصليات الأخرى وتقف الحكومة حائرة بين أحكام متعددة كلها واجبة النفاذ وكلها مقرونة بالتهديد الذي لا بد منه في كل شأن من شئون الامتيازات.
لهذا استجابت الدول إلى رجاء الحكومة المصرية في توحيد القضاء وإنشاء المحاكم المختلطة، وصنعت الرشوة أحيانا ما لم تصنعه الحجة ولم تنفع فيه مصالح الأجانب والوطنيين. ومن الوثائق المحفوظة وثيقة بين الخديو إسماعيل وبين سفيره غير الرسمي إبراهام بك، ومدار هذه الوثيقة على تسليم السياسي الروسي المشهور «أجناتييف» عشرين ألف جنيه جزاء له على وساطته في استجابة ذلك الرجاء!
4 •••
كانت هذه الامتيازات في مبدئها منحة من الحكومات الشرقية لرعايا الدول الأوروبية تيسيرا لرحلتهم ومقامهم في الأرض المقدسة، وقد بدأت في أيام الحروب الصليبية لهذا الغرض، ثم توسع فيها السلطان «سليمان القانوني»؛ ترغيبا للتجار من جميع الأمم في تبادل التجارة مع بلاده، ومنعا لانتقال التجارة من طريق الشرق الأوسط إلى طريق رأس الرجاء بعد دخول البرتغاليين في مضمار الرحلات وتحول التجارة من أيدي أهل البندقية وجنوة في البحر الأبيض إلى البرتغاليين والإنجليز في البحار الغربية. وكانت الدولة العثمانية في أوج قوتها حين سخا سلاطينها بهذه المنح الكريمة على سبيل الإنعام والتشجيع، فلما ضعفت بعد قوة، وذلت بعد عزة، عرفت تلك المنح السخية باسم «شروط التسليم»؛ كأنها فرضت على الدول الشرقية في ميدان قتال، وهم يعرفون هذه الشروط أو هذه الامتيازات بأنها عقود بين الدول المسيحية وغير المسيحية، أو بين الدول المتقدمة والدول المتأخرة؛ لضمان العدل في معاملة الأجانب بشرائع الحضارة، ويطلبون هذا الضمان أحيانا من دول غير مسلمة كالصرب ورومانيا والصين واليابان.
إلا أن الواقع كما تقدم من شهادات الساسة الأوروبيين أن هذه الامتيازات لم تكن لازمة لحماية أحد يستحق الحماية، بل كانت في غالب أمرها حماية للبغاة والعيارين في وجه الشريعة ووجه الآداب والأخلاق، ولم تكن صناعة الحضارة الأوروبية في مهمتها هذه أشرف من صناعة حراس الليالي الذين تعودت مواخير اللهو والفساد أن تقيمهم على أبوابها لدفع الشرطة واجتلاب الرواد. وأسوأ ما توصم به حضارة أن تحمي الفساد وتنافس حراس الليالي في مهمتهم، وهي تتحدث بشرائع العدل والحضارة، وتهدم ما بنته الأديان والأخلاق!
إنجلترا وفرنسا
بدأ القرن التاسع عشر وإنجلترا وفرنسا - كما يقال - فرسا رهان في حلبة الاستعمار، وكانت أزمة السياسة الدولية في أيديهما تتنازعانها في أكثر الأوقات وتنفقان عليها حينا بعد حين. وقد كادت أزمة السياسة الدولية عند مفتتح القرن التاسع عشر تنحصر في أيديهما؛ لأن إنجلترا كانت يومئذ أقوى دول البحار، وفرنسا كانت أقوى الدول البرية في القارة الأوروبية. وكلتاهما تتجه إلى البحر الأبيض المتوسط وطرق المواصلات بين الشرق والمغرب. لأن إنجلترا ملكت الهند وأصبح من همها أن تحرس الطرق بين هذه المستعمرة الشاسعة وبين الجزر البريطانية، وفرنسا قد انهزمت في سياستها الهندية فأصبحت - مع رغبتها القديمة في السيادة على البحر الأبيض ودعواها التقليدية في حماية البقاع المقدسة - شديدة الطمع في تعويض خسارة الهند واغتنام الفرصة لانتزاع الهند كلها من أيدي بريطانيا العظمى، أو إضعاف قبضتها عليها.
وكانت الدولة العثمانية قد دخلت في دور الانحلال الذي سماها الساسة الأوروبيون من أجله بالرجل المريض في أوربة
The sick Man of Europe
وأخذوا من ثمة يتقسمون تركتها بينهم في حياتها، وليس في هذه التركة ما هو أغلى وأنفس وأولى بالطمع فيه من الديار المصرية.
وكانت هذه الديار قد خرجت فعلا من سلطان الدولة العثمانية في أيام «علي بك الكبير» أحد أمراء المماليك، فأعلن استقلالها وسك النقود باسمه وأوشك أن يستولي بجيشه القوي على بلاد السلطنة متفقا مع ولاتها في الشام وما جاورها. ولعل المبارزة الدولية حول مصر - في العصر الحديث - قد ظهرت للمرة الأولى بين روسيا وإنجلترا لإحباط هذا الاستقلال، فقد استعان «علي بك الكبير» بالأسطول الروسي واستعان خصمه «محمد أبو الذهب» بالأموال الإنجليزية، وكان حليفا لإنجلترا وتعاقد معها على تبادل التجارة وتيسير وصول سفنها إلى السويس، واتفق هذا مع ثورة الخواطر في العالم الإسلامي على روسيا في تلك الفترة، فانفض أنصار «علي بك الكبير» من حوله وفت في عضده مناداة دار الخلافة بعصيانه، فتضاءل شأنه ومات سنة (1773) مغلوبا على أمره، وعادت مصر بعده إلى ما كانت عليه في عهد المماليك الأخير، ميدانا للمنافسة والشقاق بين الأقوياء من أمرائهم، وفريسة للنهب والسلب بين الأتباع والجند الذين يخدمون أولئك الأمراء.
ولم ينقطع نظر الدولتين - إنجلترا وفرنسا - إلى الديار المصرية في تلك الفترة، وكل منهما تقدر أن هذه المنازعات ستئول عاجلا أو آجلا إلى ظهور أحد الأمراء الأقوياء على خصومه ومنافسيه كما حدث في أيام «علي بك الكبير»، فحسبت حسابها لذلك اليوم وجعلت تترقب الأحوال وتمتحن النظراء والمتنافسين على الرئاسة، وترشح للإمارة على القطر أقواهم بأسا وأكبرهم أملا في النجاح، فتبذل له المعونة وتوقع في نفسه أن يعتمد عليها وينتظر المساعدة السياسية والعسكرية منها، وترجو أن يذكرها عند نجاحه فتبلغ على يديه ما كانت تطمع في بلوغه بالفتح والغلبة على الدول الأخرى.
ولم يكن من اليسير في ذلك العصر أن تطمع دولة كبيرة في ضم بلاد كمصر إلى حوزتها دون أن تثير عليها حربا ضروسا تشترك فيها الدول الكبرى بأجمعها وتنتهي بهزيمتها وضياع غنيمتها بل ضياع ما ملكته قبل اغتنامها؛ لأن القرن التاسع عشر قد طلع على القارة الأوروبية، وهي تضطرب بالدول الجديدة والأمم المتطلعة إلى الاستقلال والسيادة، فانفتح أمامها مجال السباق وأخذت على الرغم منها بسياسة التوازن والتألب على كل دولة تحاول الاستئثار بالأمر والانفراد بالسيطرة على السياسة العالمية، لهذا فضلت الدولتان - إنجلترا وفرنسا - أن تبسط كل منهما نفوذها من طريق «التدخل السلمي» في البلاد الشرقية. وأوله في تقديرها أن يشعر الولاة بفضلها عليهم، وأنهم مدينون لها بالتشجيع والمساعدة، ويتلو ذلك ما يتلوه عادة من ترويج المصالح ونشر الثقافة وادعاء «الحماية» فعلا إن لم تكن حماية صريحة باعتراف الدول وإقرار الشعوب المحمية.
فأما إنجلترا فقد هداها تقديرها إلى ترجيح كفة «الألفي بك» أحد الأمراء الأقوياء، بل لعله أقوى الأمراء المماليك في تلك الفترة، فاستمالته إليها ودعته إلى بلادها وأعادته إلى مصر محملا بالهدايا النفيسة والأموال الوافرة، لينفقها في جمع الأنصار وشراء الأعوان والمؤازرين، ويتوسل بالنفوذ الداخلي والنفوذ الخارجي إلى الاستقلال بولاية الديار المصرية.
ويظهر أن فرنسا كانت أعلم بحقائق الأحوال في مصر من منافستها في هذه المرة؛ لأن الحملة الفرنسية قد سبرت أغوار المماليك وترجح لديها أن دولتهم زائلة وأيامهم معدودة، فمال تقديرها إلى رجل من غير المماليك وعلى خلاف هذا الطراز في علاج الأمور وجمع الأنصار والأعوان، وهو «محمد علي الكبير».
ولبثت الدولتان تترقبان، ولم يطل الترقب في أوائل القرن التاسع عشر، فلما اتفقت كلمة العلماء والأعيان وقادة الرأي العام في مصر على ترشيح «محمد علي» للولاية بادرت فرنسا بوساطة الجنرال «سبستيان» سفيرها في الآستانة إلى تأييد هذا الترشيح. وبذل «ماثيو دلسبس» صديق «محمد علي» ووالد فرديناند صاحب مشروع القناة غاية مسعاه لإقناع السفير الفرنسي بموالاة العمل في هذا السبيل، فلم يقصر السفير في مسعاه جهد ما استطاع. وساعده في هذا المسعى أن بعض المماليك كانوا من أصل فرنسي تخلفوا في مصر ولم يستطيعوا السفر مع حملة نابليون عند عودتها إلى بلادها، فدانوا بالإسلام وعاشوا عيشة المماليك وانضموا إلى حزب «محمد علي»؛ فرجحت كفته بتأييد الشعب ومؤازرة حزبه من المماليك الأصلاء وهؤلاء المماليك المستشرقين.
وساعد الحظ «محمد علي» فمات منافسه «محمد الألفي» وخلفه على رئاسة المماليك رجل لا يضارعه في العزم والهمة، وإن كان معمولا مثله على القوة الإنجليزية. فلما صدر الفرمان العثماني بتولية «محمد علي» ثارت عليه ثائرة الإنجليز وأنفذوا إلى مصر حملة بحرية (1807) عسى أن تفلح في جمع شتات المماليك وتأليبهم حول «شاهين بك» أميرهم الجديد، ولكنها انهزمت في رشيد وأخفقت الحملة في أغراضها كما أخفقت مساعي إنجلترا السياسية في الآستانة؛ لأن علماء مصر وأعيانها عادوا إلى تأييد «محمد علي» ورفض الوالي الذي أرسلته الدولة ليعزله ويتولى أمر مصر في مكانه.
ولبثت إنجلترا تتحين الفرصة لضرب النفوذ الفرنسي في الديار المصرية وإخلاء الجو لمطامعها في هذه الديار، فلما جرد «محمد علي» حملة على بلاد الدولة العثمانية وطرقت جيوشه أبواب القسطنطينية، سنحت لها فرصتها المرتقبة واستفادت من شواغل فرنسا الداخلية، فأثارت الدول على «محمد علي» ونفخت في نفير الخطر من اشتعال الحرب العالمية إذا انهارت دولة بني عثمان وتجددت بانهيارها الفجائي منازعات الدول على تركة «الرجل المريض». وحاولت أن تكسب بذلك عطف المسلمين في الهند بدعوى الغيرة على دولة الخلافة، فكان لها ما أرادت واتفقت معها روسيا والنمسا وبروسيا على صد «محمد علي» عن بلاد الدولة وإعادته إلى حدود البلاد المصرية، وأبرمت في ذلك الحين معاهدة سنة 1840، فوقعت عليها تركيا مع الدول الأربع، ولم توقع عليها فرنسا لاشتغالها بشئونها كما تقدم، واعتراضها على السياسة البريطانية، وهي لا ترمي إلى شيء غير إخلاء الميدان المصري من كل نفوذ غير نفوذها.
وكانت هذه المعاهدة نكبة على مصر في حينها وبعد حينها إلى اليوم الذي انفصمت فيه علاقة السيادة بين مصر والآستانة، فقد سمحت لإنجلترا أن تتذرع بها تارة لتهديد الدولة العثمانية محافظة على امتيازات مصر، وتارة لتهديد مصر محافظة على امتيازات الدولة العثمانية.
وتمكنت من التمادي في هذه اللعبة بعد وفاة «محمد علي الكبير»؛ لأن خلفاءه لم يكن لهم من بعد النظر ما اشتهر به ذلك العبقري الموهوب، وإن كانت ثقته بفرنسا قد دفعته إلى حرب لا يؤمن ضررها ولا يرجى من ورائها خير مضمون.
توفي «محمد علي الكبير» وتوفي أكبر أبنائه «إبراهيم» في حياته، وآل عرش مصر إلى «عباس باشا الأول» ابن الأمير «طوسن بن محمد علي»؛ لأنه كان المرشح الوحيد للولاية بغير مزاحم، ولم يكن محبوبا في الدوائر الأوروبية؛ لمحافظته وإعراضه عن الحضارة الحديثة. فنفر منه القناصل ووقفوا له بالمرصاد وأجمعوا أمرهم على مقاومته، فيما كان يحاوله من نقل وراثة العرش إلى ابنه إلهامي باشا، ثم مات عباس «مخنوقا» في قصره ببنها وفوجئ ولي العهد الشرعي «محمد سعيد » بالخبر وهو في الإسكندرية، فأسرع إلى القاهرة لإعلان ارتقائه إلى العرش قبل إحكام التدبير لإقصائه عنه. ولكنه علم في الطريق أن «الألفي باشا» محافظ القاهرة - وكان من أنصار عباس - قد سبقه إلى بنها وحمل جثة الوالي القتيل في مركبة التشريفة وجلس فيها أمامه، كما كان يجلس والوالي بقيد الحياة، ولم يستغرب النظارة شيئا، ولم يخامرهم الريب في الأمر لأنهم تعودوا أن يشهدوا الوالي من بعيد جالسا في مركبته لا يلتفت يمنة ولا يسرة لتحية الواقفين في الطريق. واتجه «الألفي باشا» توا إلى القلعة حيث تقام مراسيم الولاية، فاتفق مع أمير الجند بها على إيصاد أبوابها في وجه الأمير «محمد سعيد» حتى يحضر «إلهامي» ابن عباس من أوربة، فلما وصل الأمير «محمد سعيد» إلى القاهرة، وجد العلماء أو الأعيان وقناصل الدول في استقباله وتقدم وهم في ركابه إلى ناحية القلعة، وأبلغ القناصل محافظ القاهرة المتمرد أن الدول لن تعترف بولاية تخالف الشروط التي ضمنتها لمصر في معاهدة سنة 1840. وكان قناصل فرنسا وإنجلترا وأمريكا متفقين على هذا البلاغ، فسقط في يد المحافظ وأذعن للأمر الواقع، ولم يصبح الصباح في اليوم التالي حتى كان قد قضى نحبه غما وخوفا من عاقبة ما جناه.
محمد علي باشا.
لم يزل سعيد يذكر هذه اليد للقناصل ولا سيما قنصل فرنسا، وكان معجبا بالثقافة الفرنسية، كثير الاختلاط بالفرنسيين والأجانب على العموم، يجيد الفرنسية ويتكلم الإنجليزية. وفي عهده حصل «فرديناند دلسبس» على امتياز فتح القناة بشروط غاية في الإجحاف والخطر على حقوق مصر والدولة العثمانية. وفي عهده طلب «نابليون الثالث» فرقة سودانية لإخضاع الثائرين في المكسيك، فأجابه إلى طلبه وأنفذ إلى المكسيك فرقة من أبناء السودان ومصر لتحل هناك محل الجنود الفرنسيين الذين فتكت بهم الحمى الصفراء وتبين أنهم لا يحتملون أهوية البلاد وحمايتها كما يحتملها الأفريقيون. وأرادت البيوت المالية في إنجلترا أن تقابل هذا النفوذ الفرنسي بمثله، فعمدت إلى تشجيع الوالي على الاقتراض فأقدم عليه غير هياب لجرائره، ومات وعليه عدة ملايين من الديون الأجنبية يختلفون في مقدارها بين ثلاثة ملايين وأحد عشر مليونا من الجنيهات. وكان «سعيد باشا» يخفي حقيقة هذه الديون؛ لأن شروط الولاية لا تسمح له بعقد القروض الأجنبية، فعقد قروضه وأخفى مقدارها ليحسبها من الديون الخاصة أو الديون التي يضمنها بثروته «الشخصية» ولا يجوز للدولة أن تعترض عليها.
وكان «إسماعيل بن إبراهيم» قد أصبح وارث العرش بعد حادث كفر الزيات الذي سيأتي بيانه في الفصول التالية، فعمل جهده على الموازنة بين النفوذ الأجنبي في بلاده واستخدم الإنجليز كما استخدم الفرنسيين. وعلا شأن الولايات المتحدة في أيامه بعد قهرها لبريطانيا العظمى وظفرها باستقلالها على الرغم من «سيدة البحار» التي لا تغيب الشمس عن أقطارها، فاستدعى إلى مصر نخبة من الضباط الأمريكيين لتدريب جيشه، ولم يكتم عنهم أنه يعتمد عليهم في أمر خطير ويستعد بهم لتحقيق استقلال مصر، فخطبهم قائلا: «إنني معتمد على رزانتكم وإخلاصكم وغيرتكم للحصول على استقلال مصر.»
1
إلا أنه كان حريصا على علاقاته بفرنسا، دائبا على إغرائها بتأييده في طلب الاستقلال وتعليق آمالها بما تناله من وراء هذا التأييد، كما قال في حديثه لمسيو تاستو قنصلها بالإسكندرية حين فاتحه في هذا الشأن (سنة 1864)، فقال: «إني لا أطلب من الحكومة الفرنسية تأييدها المادي أو المالي، بل تأييدها الأدبي يكفي، فلتعمل على منحي الاستقلال وتنكشف لها نياتي بعد ذلك.»
وقال قبل ذلك لمسيو شيفر: «إنني من أسرة محمد علي، وكلنا نذكر ما ندين به لمعاونة فرنسا وما خصتنا به دائما من رعايتها.»
وكان يتوجه بطلب القروض إلى فرنسا ثم تحول إلى البيوت الإنجليزية بعد حرب السبعين وخروج فرنسا منها في حالة كحالة الإفلاس ثروة وسياسة، فتحولت إنجلترا أيضا من الدس له في الآستانة وتحريض الدولة عليه لتورطه في الاستدانة وعقد المعاهدات - إلى الدفاع عنه والوساطة له عند السلطان في توسيع حقوقه وامتيازاته والإصغاء إلى مطالبه، ومنها مطلبه في مسألة وراثة العرش، وهي المسألة التي وقفت منها موقف المقاومة على عهد «عباس باشا الأول»، وما هو إلا أن صدر الأمر السلطاني بتحقيق هذه الرغبة حتى كشفت عن غايتها من المقاومة تارة والمعاونة تارة أخرى، فصرح السير «هنري إليوت» سفيرها في الآستانة: «بأن ما ناله الوالي من الحرية في الإدارة الداخلية لا قيمة له ما لم تكن له الحرية المطلقة في ارتياد الأسواق الأجنبية لجلب الأموال التي لا غنى عنها في إنجاز المشروعات الضرورية لتنمية الثروة المصرية.»
ثم تفاقمت أخطار الديون واستحكمت أزماتها وضاق «إسماعيل» ذرعا بالسيطرة الأجنبية وتقييده بآراء الوزيرين الأجنبيين اللذين اتفقت إنجلترا وفرنسا على تعيينهما في وزارة المالية ووزارة الأشغال، وهما أهم وزارات القطر كله. فاحتضن الحركة الدستورية؛ أملا في نقل الرقابة على خزانة الدولة من الوزير الإنجليزي والوزير الفرنسي إلى مجلس النواب، وألغى أوامره السابقة التي سلم بها مقاليد الوزارة وأبواب الخزانة لصندوق الدين تارة وأيدي الوزيرين الأجنبيين تارة أخرى. فاتفقت إنجلترا وفرنسا معا على طلب عزله، وقبل الباب العالي هذا الطلب؛ لأنه حسب الفرصة سانحة للرجوع في امتيازات مصر بموافقة الدولتين، ولكنهما انقلبتا عليه على الأثر بعد موافقته على العزل، وعلمتا أنه يرشح الأمير «عبد الحليم» لمنصب الخديوية بدلا من الأمير «محمد توفيق بن إسماعيل»، فأبلغتاه أنهما لا تقران هذا الترشيح ولا تعترفان بالخديوية لغير ولي العهد «محمد توفيق». فعدل الباب العالي مكرها عن ترشيحه للأمير «عبد الحليم»، وأراد أن يستدرك في فرمان التولية ما فاته في تعيين خلف إسماعيل، فلم يزل يسوف في إرسال الفرمان حتى تم الاتفاق على انتقاص بعض الحقوق وتقرير بعض القيود، ومنها: حظر زيادة الجيش إلى أكثر من ثمانية عشر ألفا، وتبليغ الباب العالي نصوص المعاهدات التي تبرمها الخديوية المصرية، وحظر النزول عن جزء من أجزاء البلاد المصرية، وحظر القروض المالية، وكانت كلها شروطا موافقة لسياسة الدولتين، وإن ظهر أن بعضها يخالف هذه السياسة، كحظر القروض وحظر التصرف في أجزاء البلاد المصرية؛ فإن القروض كانت في ذلك الحين قد أدت رسالتها، وبلغت غايتها، وكانت «سلامة الأراضي المصرية» حجة تشهرها كل من الدولتين في وجه الأخرى إذا انفردت باحتلال البلاد واقتطاع جزء من أجزائها، فجاء فرمان 1879 ملغيا لفرمان 1873 في هذه المسائل ولم يبق منه على غير امتياز واحد من الامتيازات الهامة التي حصل عليها الخديو إسماعيل، وهو حصر الوراثة في أكبر الأبناء؛ لأن إلغاء هذا الامتياز يفتح الباب لسلاطين آل عثمان في تجديد مسألة الترشيح حينا بعد حين.
الخديو إسماعيل باشا. •••
وأصبح هم «توفيق باشا الأكبر» بعد ارتقائه العرش في تلك الظروف أن يتقي غضب الدولتين ما استطاع، فأعاد منصب الوزيرين الأجنبيين باسم مفتشين وبمرتب أكبر من مرتب رئيس الوزارة، وقبل أن يحال عليهما عمل المراجعة، وأن يكون لهما الإشراف التام على خزانة الدولة. وألجأ رئيس الوزارة «شريف باشا» إلى الاستقالة؛ لأنه كان يصر على تجديد الحياة النيابية، فأشارت عليه إنجلترا باختيار «رياض باشا» للوزارة، وهو سياسي حازم كان يوافق الخديو في أمور ويخالفه في أمور، فقد كان معروفا بميله إلى الصرامة في معاملة الحزب العسكري والمتطرفين. ولكنه كان من الجانب الآخر معروفا بميله إلى الحد من سلطة الخديو ولا سيما حق الإنعام بالرتب والأوسمة، فكان الخديو يؤيده حينا ويخذله حينا ويتصل من ورائه بالمتطرفين مع أنه لا ينوي أن يجيبهم إلى ما يطلبون. واتسعت أبواب التدخل أمام إنجلترا، ما بين خلاف الأمير ووزيره وخلاف الأمير والوزير معا وقادة الجيش وطلاب الدستور. وكان «رياض باشا» يطلب إقالة بعض وزرائه - ومنهم «محمود سامي باشا» - لأنه اتهمهم بإفشاء أسرار الوزارة لقنصل فرنسا وزعماء العسكريين، فلا يصغى إليه. وقد كانت الأحوال كلها تسوء وتغضب ولا ترضي أحدا من المتطرفين ولا من المعتدلين، واشتدت أزمة العيش وأطبقت على النفوس عوامل السخط والثورة، وتفاقم الخطب بإثارة الضغائن والعصبيات بين الجراكسة والمصريين، فتألفت لجنة من عشرين عضوا للتحقيق والبحث في أسباب التذمر والإشارة بوجوه الإصلاح، لم يكن فيها غير مصري واحد هو «أحمد عرابي» والباقون بين إنجليزي وفرنسي وألماني وإيطالي وأمريكي وجركسي وتركي وكردي وألباني ... فكانت مقترحاتهم من قبيل التهدئة التي لا تطول!
ولما تفاقمت عوامل الثورة أخذت إنجلترا تنشر بين الدول فكرة الاستعانة بالدولة العثمانية وإقناعها بإنفاذ حملة إلى مصر تعيد النظام . وكان الغرض من نشر هذه الفكرة حمل الدول عن الامتناع عن «التدخل الفردي» في الشئون المصرية، لكي تنصرف جميعا عن التمهيد لهذا التدخل، وتترك الطريق ممهدا لها دون غيرها في الموعد المقدور!
وظهرت هذه النية ظهورا واضحا حين دعت فرنسا إلى عقد مؤتمر الآستانة، فانعقد في السفارة الإيطالية؛ لأن الدولة العثمانية لم تقبل الدعوة إليه، واقترح السفير الإيطالي الذي وقع الاختيار على سفارته لقدمه أن يصدر المؤتمر قرارا بمنع التدخل الفردي في الثورة المصرية، فسرعان ما اتفق المندوبون على هذا القرار حتى ألغوه فعلا بقبول اقتراح من اللورد «دفرين» مندوب إنجلترا، يقضي بإضافة استثناء واحد يجيز التدخل «الفردي» إذا دعت إليه الظروف القاهرة ... وشاعت الإشاعات عن أسباب هذه الموافقة، فقيل فيما قيل: إن دهاء اللورد «دفرين» لم يكن هو السلاح الوحيد الذي تذرع به السياسي الداهية إلى إلغاء القرار بهذا الاستثناء المريب، وإن «فارس الجنيه الإنجليزي» كان أمضى سلاحا في إقناع بعض المعارضين من كل برهان!
وقبل أن ينفض المؤتمر كان الأسطول البريطاني يضرب الإسكندرية ويقرر «التدخل الفردي» فعلا معتمدا على ذلك الاستثناء. وتتابعت بعد ذلك مناورات الدس والمناوأة بين فرنسا وإنجلترا حول المسألة المصرية وحول غيرها من المسائل الدولية، ولكن الأمر الذي هو جدير بالتقدير والتذكير أنهما كانتا ترجعان إلى التفاهم حينا بعد حين، كلما سنحت لهما فرصة المساومة وتبادل المنافع على قضية من القضايا السياسية. وحسب المؤرخ أن يسجل من هذه المساومات ثلاثة مواقف في أقل من ثلاثين سنة: «أولها» وساطة بسمارك أثناء انعقاد مؤتمر برلين (1878) بين الدولتين للاتفاق بينهما على إطلاق يد فرنسا في تونس تعويضا لها عن احتلال إنجلترا لجزيرة قبرس، وأن تعمل الدولتان يدا واحدة في مسألة الديون المصرية، وأن تعترف إنجلترا لفرنسا بما تدعيه من حق حماية المسيحيين التابعين للكنيسة اللاتينية في سورية.
و«ثانيها» الاتفاق المعروف باتفاق سلسبوري وكمبون في سنة 1899 عقب حادثة فاشودة على تقسيم القارة الأفريقية في السودان إلى شواطئ المحيط الأطلسي ...
و«ثالثها» اتفاق سنة 1904 على إطلاق يد فرنسا في المغرب وإطلاق يد إنجلترا في مصر والسودان ...
وفي هذه المواقف وما إليها تنبيه كاف لمن ينخدعون بالخلاف بين دول الاستعمار ويعتمدون على وعودها في هذه الحال، وأبلغ ما في هذه العبرة أن بعضنا قد توجه إلى برلين بعد خيبة الأمل في باريس، وقد كان أول اتفاق بين الدولتين - بعد طول خلاف - معقودا في مكاتب برلين.
الديون
قلنا في غير هذا الفصل: إن الديون لم تكن وسيلة للإشراف الأجنبي على حكومة من الحكومات غير الحكومة المصرية، وعلة ذلك راجعة إلى الامتيازات الأجنبية التي أباحت للدول في بلاد الدولة العثمانية ما لا يباح في بلاد غيرها. وقد كانت مصر استثناء ملحوظا بين البلاد التي ابتليت بنكبة الامتيازات، فإن تركيا نفسها قصرت في سداد الأقساط قبل مصر فلم تنكب بما نكبت به مصر من ضروب الإشراف مرة باسم الوزارة الأوروبية، ومرة باسم صندوق الدين أو لجنة التصفية، ومرات كثيرة بما شاءت الدول وشاء القناصل من الدعاوي والمعاذير، وعلة هذا الاستثناء راجعة إلى الطمع في احتلال مصر وبسط الحماية عليها فعلا أو رسما، دون أن يقابل ذلك اتفاق على صد الغارة عنها؛ كاتفاق الدول على صد الغارة على مجازي البسفور والدردنيل وما يليهما من التخوم العثمانية.
وقد كان هذا الوضع «المستثنى» خليقا أن ينبه المسئولين عن السياسة المصرية إلى اجتناب الديون وإغلاق هذا الباب على الواغلين والمتطفلين، ولكنهم فتحوه على مصراعيه وفتحوا معه أبواب السرف والخلف وإضافة الجديد على القديم قبل الخلاص من القديم، وقبل أن تدبر وسائل السداد لهذا أو ذاك. بلغت الديون على عهد إسماعيل زهاء مائة مليون جنيه، لم يصل منها إلى الخزانة العامة أكثر من ستين مليونا على أحسن تقدير، ولم ينفق منها على الأعمال العامة غير جزء من هذا المقدار. وكان إنفاقه على قواعد تخالف المعروف المقرر من قواعد الإصلاح المنتج والتعمير المفيد؛ إذ كان من الخطل عند جميع العاملين في الميادين الاقتصادية أن تنفق في بضع سنوات أموال لا تؤتي ثمرتها قبل ستين أو سبعين سنة، وكان من الواجب دائما أن تجنى الثمرة ويحسب حساب موعدها على قدر المورد والمصرف، وإلا كانت إلى الغرم والخراب أقرب منها إلى الغنم والعمار!
من أمثلة التدبير السيئ في الحصول على القروض أن الحكومة المصرية أرسلت وسطاءها إلى أوربة لاقتراض اثنين وثلاثين مليونا من الجنيهات، فلبثوا نحو سنة (من يونيو سنة 1873 إلى مايو سنة 1874) ثم حصلوا على القرض فلم يتسلموا منه غير عشرين مليونا على التقريب منها تسعة ملايين سندات على الخزانة المصرية مؤجلة السداد، أما الباقي فقد ضاع في نفقات الوسطاء ورشوة السماسرة عدا ما يضيع بعد ذلك في الأرباح - بنسبة سبعة في المائة. •••
بدأت مصر في الاستدانة على عهد «محمد سعيد باشا»، فمات وعليه وعلى خزانة الحكومة أكثر من عشرة ملايين من الجنيهات، وقد أخذ قبل وفاته في جمع المال لسداد هذا الدين أو بعضه؛ فأمر بتسريح الجند إلى بلادهم، وباع المصانع في القاهرة والأقاليم، وباع كثيرا من الجواهر والتحف والذخائر المحفوظة، وجعل معاش الموظفين أرضا من ملك الحكومة وحسب المرتبات على ضرائب الأطيان، ولم يعرف كيف صرفت بعده حصائل هذه البيوع في سداد الديون!
وتعددت أنواع الديون في عهد إسماعيل، ومنها: الدين السائر؛ وهو مقابل الأعمال التي لا تدفع أجورها فورا، والدين الثابت؛ وهو القرض المضمون ببعض موارد الدولة كالموانئ والسكك الحديدية وخراج الأقاليم الغنية. ومنها: دين المقابلة؛ وهو قرض داخلي سمي بقرض المقابلة لأنه اشترط فيه أن من يؤدي ضريبة ست سنوات سلفا يعفى من نصف الضريبة إلى أجل غير محدود، وهذا الإعفاء في «مقابلة» التعجيل بأداء الخراج. ومنها: دين الرزنامة؛ وهو مجموع من سندات تخول صاحبها أن يقبض من الخزانة تسعة في المائة من جملة دينه!
وكان إسماعيل يتعهد أحيانا بوقف الاستدانة إلى أجل ثم يضطر إلى المال قبل انتهاء الأجل، فيعمد إلى بيع ما يمكن بيعه، كأسهم قناة السويس، أو يفوض إلى وكلائه تحصيل المال المطلوب من حيث يوجد في البلاد أو خارج البلاد.
ولما نفدت جميع الحيل في أقل من عشر سنوات لجأ إسماعيل إلى الاستعانة بالخبراء الأجانب لتنظيم الإدارة المالية متوسلا بذلك إلى كسب الثقة التي تتيح له عقد المزيد من القروض، فأنفذت إليه حكومة إنجلترا خبيرا من خبرائها يسمى مستر كيف
Cave
فلم يكن لعمله من ثمرة، غير أنه اطلع على أسرار الخزانة ووسائل الاستدانة وأودعها تقريرا كان لنشره فيما بعد أسوأ الأثر في تشويه سمعة مصر وغل أيديها في شئونها الداخلية!
ودق ناقوس الخطر الأكبر حين أعلن الباب العالي أن فوائد ديونه تسدد بعد أول يناير سنة 1876 بحساب النصف نقدا والنصف الآخر سندات لها فوائد خمسة في المائة.
وتبعته مصر بعد بضعة أشهر، فتوقف الخديو عن صرف سندات الخزانة وعرض على الدول أن تضمن ديون رعاياها بالإشراف على الخزانة المصرية، وأنشئ بعد أسبوعين من إعلان التوقف صندوق الدين (مايو سنة 1876) الذي اشتركت فيه الدول الدائنة ورفضت إنجلترا في مبدأ الأمر أن تشترك فيه؛ لأن ديون رعاياها مضمونة وثابتة، وديون سائر الدول من قبيل الديون السائرة. وقد بلغت الديون الموحدة نيفا وتسعين مليونا بفائدة سبعة في المائة تسدد في خمس وستين سنة. ثم اتفقت إنجلترا وفرنسا على إيفاد مندوبين لدراسة المسألة، فأسفرت بحوثهما عن الإشارة بإخراج أكثر من ثلاثين مليونا من الدين الموحد يسدد بعضها من أقساط دين المقابلة، ويسدد البعض الآخر - ويسمى بالدين الممتاز - من موارد السكة الحديد وميناء الإسكندرية، ويضمن الباقي بمزارع الدائرة السنية.
ولم ترض الدول بأقل من فرض الرقابة الفعلية على ديواني المالية والأشغال، فاختير للوظيفتين ريفرز ويلسون
Rivers Wilson
الإنجليزي، وبلنيير
Blignieres
الفرنسي، ثم شكا هذان الموظفان من ضيق نطاق السلطة. واقترح مندوبو الدول في صندوق الدين ندب لجنة للتحقيق بدأت عملها باستدعاء وزير الحقانية «شريف باشا» لسؤاله فأنف الرجل أن يستدعى كما يستدعى المتهمون واستقال حين أصرت اللجنة على إحضاره ولم تقنع منه بالردود الكتابية على أسئلتها. ثم أشارت لجنة التحقيق بإقامة وزارة مسئولة يكون من أعضائها المراقبان الأجنبيان، فتألفت أول وزارة من هذا القبيل سنة 1878 برئاسة «نوبار باشا»، وفيها ريفرز ويلسون وزير للمالية وبلنيير وزير للأشغال. وكانت ألمانيا تؤيد إنجلترا وفرنسا في ضرورة الرقابة على أهم الدواوين في الحكومة المصرية؛ لأن بسمارك كان يخشى - إذا لم تتفق الدول على التدخل جميعا - أن تقدم إحداهن على الانفراد بالعمل، كما قال سفيره في العاصمة الإنجليزية اللورد «دربي»، وهو يلمح إلى فرنسا ويدور بخلده أنها هي التي يخشى منها أن تقدم على هذه الخطوة.
ولم يسترح الخديو إلى هذا الضغط على سلطته فعمل على مناوأة الوزيرين الأوروبيين. وقد قوبل تعيينهما بالسخط الشديد في مصر، وزاد المصريين سخطا على سخط أن الوزيرين لم يوفقا في كثير من الوسائل التي استخدماها لتحصيل الديون وتنظيم الإدارة، فلم يكن لهما هم غير إقناع الدول بقدرتهما على تحصيل الأقساط في مواعيدها، فعمدا إلى وسائل العنف والإكراه في جمع الضرائب، وعينا في الدواوين المحلية مئات من الموظفين الأجانب بعضهم لازم للعمل وأكثرهم عالة عليه يحلون في الوظائف محل المصريين. ولم يباليا بتأخير صرف المرتبات لإتمام الأقساط في مواعيدها، وأشارا بنقص عدد الجيش وفصل عدد كبير من الضباط. فلم يجد الخديو صعوبة في تبغيض هذا «النظام الجديد» إلى الأمة، وكان ضباط الجيش في طليعة الثائرين على الوزيرين وعلى رئيس الوزارة. وقد كان المعتقد أن الوزارة «الأوروبية» كما كانت تسمى يومئذ، ستؤدي المرتبات المتأخرة من قرض روتشيلد، وهو القرض الذي عقد برهن مزارع الخديو والأسرة الخديوية، وتبلغ أكثر من أربعمائة ألف فدان، فعقد القرض وظلت المرتبات متأخرة. وتفنن الوزيران في ابتداع الوسائل لتحصيل الضرائب، فكان من مقترحاتهما في هذا الباب فرض ضريبة تسمى ضريبة بدل السخرة يؤديها من يريد إعفاءه من العمل بغير أجر في الترع والجسور وفتح الطرق وما إليها، ولم تأت سنة 1879 حتى كانت القاهرة تموج بأصحاب المظالم وطلاب الإصلاح، وحان موعد القسط من تلك السنة، فسول سوء السياسة للوزيرين أن يتمما المبلغ المطلوب من مرتبات ضباط الجيش وأشارا على الوزارة «باستيداع» ألفين وخمسمائة ضابط تخلصا من مرتباتهم القديمة ونصف مرتباتهم الجديدة في وقت واحد. فاحتشد هؤلاء الضباط وغيرهم عند ديوان المالية وأخذوا يصيحون بطلب عزل الوزارة وخرج نوبار وويلسون وهم محتشدون فهجموا عليهما وأهانوهما واعتقلوهما في الديوان. وبادر الخديو إلى مكان الحادث ومعه فرقة من الحرس، ولم يتفرق المحتشدون إلا بعد أن صدر الأمر بإطلاق النار، فأطلقها أمير الحرس في الهواء.
ورأى الخديو أن الوقت ملائم لاسترداد سلطته فأبلغ الدول أنه لا يعتبر نفسه مسئولا عن هذا الحادث وأمثاله ما لم تكن في يديه السلطة الضرورية لتنفيذ أوامره. واضطر نوبار إلى الاستقالة فخلفه الخديو في رئاسة مجلس الوزراء. ولكن وكيل الحكومة الإنجليزية في مصر أبلغ الخديو أن هذا التصرف مخالف للعهد الذي أخذه على نفسه بمشورة الدول عند تأليف مجلس الوزراء المسئول. واهتدى الطرفان إلى اتفاق «وسط»، يحل ولي العهد «توفيق باشا» محل الخديو نفسه في رئاسة المجلس ويخول الوزيرين وقف كل أمر لا يقرانه، ويوجب على الخديو أن يطلع الدولتين - إنجلترا وفرنسا - على أسماء وزرائه قبل تعيينهم، وكان هذا الشرط الأخير «مفهوما» غير مكتوب. •••
هذه الحركة تعد في رأي المؤرخين مبدأ الثورة العرابية؛ لأن مطالب العسكريين بعدها لم تنقطع في شئونهم التي تخصهم أو في الشئون القديمة العامة، وفي مقدمتها إعلان الدستور ورد الأمر كله إلى الأمة تتولاه في مجالسها النيابية.
ومن عجائب المقادير أن زعيم الثورة العرابية لم يساهم في هذه الحركة بنفسه ولا بأحد من فرقته؛ لأنهم كانوا جميعا في رشيد وحضروا إلى القاهرة في اليوم السابق لوقوع الحادث واشتغلوا نهارهم بتسليم الأسلحة والذخائر إلى مخازن الوزارة، ولكن حزب الضباط الشراكسة في الجيش أراد أن يلصق بهم «تهمة» المؤامرة فوضعهم من حيث لا يدري على رأس الحركة ووجه إليهم أنظار الثائرين والمسالمين.
وربما صح أن يقال أن سنة 1879 هي السنة التي أطبقت فيها إرادة المصريين جميعا على إقامة الحياة النيابية، ولم تكن مصر قد عرفت منها قبل ذلك غير المجالس الشورية التي كانت تدعى في عهد «محمد علي الكبير» للاقتراح والمشورة، وقد أعادها إسماعيل باسم مجلس شورى النواب، وافتتح هذا المجلس في التاسع عشر من شهر نوفمبر سنة 1866، واختار أعضاءه من الوجهاء ورؤساء العشائر بغير انتخاب، ولكن الأعضاء المختارين كانوا في الواقع ممثلي الأمة الذين تختارهم برضاها لو وكل إليها أمر انتخابهم؛ لأنهم كانوا بمثابة قادة المجتمع في كل إقليم.
أما الآن فالخديو نفسه كان أول المطالبين بالمجلس المنتخب الذي يراقب الخزانة ويكون له الرأي القاطع في موارد الدولة ومصارفها؛ لأنه يخلصه من سيطرة الوزيرين التي تحميها الدول بقوة المال والسلاح. فلم يجد طلاب الحياة النيابية معارضة من الخديو في إقامتها وتوسيع حقوقها. وتلاقت آراء العسكريين وغير العسكريين على حل واحد اعتقدوا أنه ترياق صالح لجميع السموم أو أنه على الأقل تجربة يرجى منها أن تفلح حيث خابت جميع التجارب في مشكلة الديون ومشكلة الإدارة.
وقد أيد الخديو موقفه بعجز «الوزارة الأوروبية» عن جمع قسط الدين في موعده وعزم المندوبين الدوليين في صندوق الدين على إعلان الإفلاس وتأجيل سداد الأقساط. وكان جوابه على احتجاج الوزيرين واتهامه بتعويق عملهما أنه أعد نظاما ماليا لسداد الديون لا يستلزم شهر الإفلاس. ثم أقال الوزارة واستدعى «محمد شريف باشا» لتأليف الوزارة الجديدة، وهو معروف بغيرته الوطنية ومبادئه الدستورية، ودعي مجلس شورى النواب للاجتماع فكان مطلبه الأول فرض رقابته على خزانة الدولة والاعتماد على النظم التي يرتضيها لسداد الديون.
وقد استند الخديو في عمله إلى إجماع الأمة، وقد كان إجماعها حقا منعقدا على رفض السيطرة الأجنبية وإسناد الأمر إلى وزارة وطنية. واتفق على طلب هذا من الخديو رؤساء الدين ووجهاء العاصمة والأقاليم وقادة الجيش، فكان جواب المندوبين الأوروبيين والموظفين الذين جاءوا بهم في الدواوين، إعلان الإضراب ورفض التعاون مع النظام الجديد. وأصروا على رفض التعاون حتى حين أبلغهم «شريف باشا» أنه مستعد لأداء القسط بفائدة خمسة في المائة، فامتنعوا عن تسلمه ولجوا في عنادهم وفضحوا نياتهم ونيات دولهم، فعلم من لم يكن يعلم أن السيطرة على البلاد هي الغرض المقصود، وأنهم لم يشيروا على الخديو بإنشاء مجلس الوزراء المسئول غيرة منهم على المبادئ الدستورية، وإنما هي سلطة ينقلونها من يد الخديو إلى أيديهم ويتشبثون بها ولو تكفلت لهم الوزارة المصرية بسداد الديون وقدمت برهانها الأول على صدق نيتها أن تؤدي القسط في ميعاده، بعد تعويل صندوق الدين والوزيرين الأوروبيين على شهر إفلاس البلاد!
وقد كان الخديو يقبل إعادة الرقابة الثنائية تفضيلا لها على تسليم مجلس الوزراء إلى وزيرين أجنبيين. ولكن الدول لم تقبل «أن تكون هيئة النظارة مشكلة من أعضاء وطنيين مصريين ومكلفة المسئولية لدى مجلس الأمة»، كما جاء في الأمر الخديوي بتأليف الوزارة الشريفية، وبرز بسمارك في الميدان بإيعاز من «نوبار باشا» رئيس الوزارة المقال، وكان نوبار قد تجنس بالجنسية البروسية ودأب على إثارة الدول على الخديو وحكومته، فحرض سفير ألمانيا في لندن أصحاب الديون ودولهم على المبادرة إلى حماية مصالحهم وحماية المحاكم المختلطة، وقد كانت تصدر أحكامها على الخديو كلما رفعت إليها قضية من قضايا الدائنين. وبدأت الدول بإسداء «النصيحة» إلى الخديو أن يعتزل العرش وهددته - إذا هو لم يأخذ بنصيحتها - أن تسعى عند الباب العالي لإلغاء فرمان الوراثة وتنصيب الأمير «حليم» عمه بدلا من ابنه الأمير توفيق، فلم يصغ إلى هذه «النصيحة» وعلق رجاءه بحماية السلطان العثماني لحقوقه. ولكن السلطان العثماني لم يقو على معارضة الدول مع إجماعها على طلب العزل، وتوهم أن موافقة الدول في هذه الأزمة قد تمكنه من استرداد بعض الامتيازات التي حصل عليها إسماعيل بفرمان سنة 1873، فأبرق إلى مصر بخلع إسماعيل وتنصيب ابنه توفيق في مكانه، وغادر إسماعيل مصر بعد وصول أمر الخلع بأربعة أيام (في آخر يونيو سنة 1879).
وقد قيل: إن المصائب لا تأتي فرادى، وصدق هذا القول على أتمه بما تعاقب من المصائب الطبيعية و«الاقتصادية» في عهد «إسماعيل»، فابتليت مصر بوباء الماشية ثم بوباء الهيضة «الكوليرا»، ثم بالقحط من جراء شح النيل تارة وطغيانه تارة أخرى، وحدث في خلال ذلك هبوط سعر القطن بعد ارتفاعه في إبان الحرب الأمريكية، فلم يبق في مصر من يرضى بحاله ولا يتحفز جهده لتغيير هذه الحال كيفما اتفق التغيير، وكانت الثورة عند جلوس «توفيق» على العرش نتيجة محتومة تنتظر موعدها من الزمان، ولا تتمهل في الانتظار.
قناة السويس
هذه القناة في رأي الأكثرين هي بيت القصيد من الخطة التي انتهت بضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882؛ لأنها سبيل مهم من سبل المواصلات الإمبراطورية ومسلك نافع من مسالك التجارة العالمية. ومن لم يحسبها بيت القصيد من الخطة كلها فهي في تقديره غرض هام من أغراض السياسة الإنجليزية في القرن الماضي ولا تزال كذلك في القرن الحاضر، ولا سيما بعد انحسار النفوذ البريطاني في الهند وتطلع القوم إلى تعويضه بالسيطرة على موارد القارة الأفريقية، ويكفيهم من هذه الموارد خامات الصناعة الموفورة في أرجائها، إن لم يتحقق لهم ما يترقبه الخبراء من التنقيب عن المعادن في أجوافها. وقد طوى الساسة البريطانيون أسبابا كثيرة من ذرائع الاحتلال وظلوا يتشبثون بسبب واحد يزعمون أنه بغيتهم من الإصرار على إبقاء جيوشهم في الأراضي المصرية، وهو حماية القناة والتأهب لرد الهجوم عنها.
والغالب على اعتقاد المؤرخين أن الطريق بين البحر الأحمر ونهر النيل لم تنقطع قط في عهد من عهود الحضارة القديمة، وأن تجارة جزيرة العرب وبلاد الهند بعينها كانت هي بغية المصريين الأقدمين من العناية المتواصلة بهذه الطريق على تعدد المواقع والأزمنة.
ففي عهد الأسرة السادسة - وكان مقرها جزيرة أسوان - كان الملك «مريرع» يتخذ هذه الطريق على مقربة من مقر حكمه ويوالي العناية بمسالك البر بين قفط على النيل وبرنيس على البحر الأحمر، ولا يقل تاريخ هذه الطريق عن نحو ثلاثين قرنا، سبقتها قرون عدة في طريق غير ممهد لسير القوافل والبحث عن المعادن في بعض الجهات.
ولما انتقل الملك إلى أقاليم الشمال وجدت في عهد «سيتي الأول» - قبل الميلاد بأربعة عشر قرنا - قناة تمتد من فرع النيل عند «بوبسطة» وتصل إلى البحر الأحمر وتصلح للملاحة في أكثر أيام السنة، وهي القناة التي اشتهرت باسم «سيزوستريس» ورسمت صورتها على معابد الكرنك، ثم تجددت بعد هجرها قبل الميلاد بسبعة قرون في عهد الملك «نخاو» ولم يثابر على تجديدها؛ لأنه رأى في المنام أن الأرباب تحذره من تسليم مصر إلى الغرباء من جرائر هذه الطريق.
ورأى الفرس أنها نافعة لهم لتيسير الاتصال بين بلادهم ووادي النيل؛ فعمل دارا على حفرها وتعميقها، وتركها قبل أن يفرغ من فتحها فظلت مهملة من القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن الثالث قبله؛ إذ تم فتحها في عهد بطليموس الثاني، ولم ينتفع بها بعد أيامه لتتابع الفتن والمخاوف، إلى أن فتح العرب مصر فجددوها لنقل الميرة إلى الحجاز في عام المجاعة. وظلت صالحة للملاحة إلى أوائل أيام العباسيين، وفي سنة (770م) أمر «أبو جعفر المنصور» بردمها منعا لنقل الأزواد منها إلى الثائرين عليه في الحجاز.
ومضى عليها مردومة مهملة أكثر من عشرة قرون، وطريق التجارة بين وادي النيل والبحر الأحمر لا تنقطع في هذه الأثناء ولا سيما أيام الحروب والقلاقل، بين مصر والشام؛ فانتظمت في هذه الأثناء طريق قنا والقصير وطريق أسوان وعيذاب، واستمرت هذه «المواصلات» في أحرج الأوقات.
وكانت هذه الطرق تنتظم أحيانا وتختل أحيانا أخرى، والتجارة الشرقية تنتقل على الدوام من الخليج الفارسي إلى الشام أو إلى مصر، فيجني منها الولاة على الشام ومصر مكوسا مضاعفة. وينقلها البندقيون إلى القارة الأوروبية فيزيدون أثمانها أضعافا على أضعاف. ولم تكن بضائع الشرق كلها من قبيل البذخ والزينة أو الكماليات التي يطلبها الموسرون والمترفون، بل كان منها - كالتوابل والأفاديه - ما هو ضروري لحفظ اللحوم في الشتاء حين تشح الزروع والضروع ولا يجد الفقراء ولا الأغنياء طعاما غير اللحوم المحفوظة والبقول، ومن هذه البقول ما يحمل إلى القارة الأوروبية من بلاد الشرق والجنوب.
لهذا أحس الأوروبيون بالمغالاة في المكوس والأرباح، وقيل: إن طمع الملوك والأمراء الغربيين في حصة من هذه الثروة كان في مقدمة الدوافع التي جنحت بهم إلى الإصغاء للدعاة الصليبيين، ولا شك أن هذا الطمع كان أحد الدوافع - بل ربما كان الدافع الوحيد - إلى اجتهاد البرتغاليين في البحث عن طريق للتجارة الشرقية غير طريق مصر والشام، وإلى اجتهاد الكشافين في مغامرات السياحة آملين من ثم أن يصلوا غربا إلى الشرق بعد أن تعلموا من العرب أن الأرض كرة وأن التوجه إلى المغرب يؤدي إلى البلاد الهندية من طريق «بحر الظلمات».
وقد انقسمت الدول الأوروبية شطرين في هذه النزعة؛ فكانت الدول القريبة من المحيط الأطلسي تحارب كل محاولة يراد بها تقريب المسافات من ناحية برزخ السويس، وكانت البندقية وجنوا تسعيان إلى استئناف سير القوافل من البلاد المصرية خاصة، واقترحت البندقية فعلا فتح البرزخ وألحت في هذا الاقتراح بعد اشتباكها في حروبها مع الدولة العثمانية وتعويلها على الطرق المصرية دون غيرها، ولولا هذه الحروب المتتابعة لسبقت الأمم إلى فتح القناة. وقد خطر لفرنسي هو «المركيز دار جنسون» أن يعلن الدعوة إلى فتحها باسم الدين لخير جميع المسيحيين، فأعلنها في عهد لويس الخامس عشر، ولم يفلح في اجتذاب الأسماع إليها.
إلا أن الرحالة من أمم الغرب قد توافقت خواطرهم على الاتجاه إلى المحيط الأطلسي جنوبا أو غربا، فكشف «دياز» البرتغالي طريق أفريقية الجنوبية في سنة 1486، وكشف «كولمبس» أمريكا بعد ذلك ببضع سنوات، ووصل «دي جاما» إلى الهند من طريق رأس الرجاء بعد ذلك بأربع سنوات. وجرت هذه الكشوف إلى وقائع بحرية بين البرتغاليين والمماليك المصريين انتصر فيها المماليك ثم انهزموا في أوائل القرن السادس عشر (1509) فيئسوا من طريق تجديد التجارة كما كانت قبل حقبة يسيرة، وساءت أحوالهم وقلت مواردهم واشتبكت بينهم الحروب والفتن مما زادهم خسارا على خسار، وأطمع الدول الغربية في انتزاع البلاد من أيديهم. ودخلت قناة السويس لأول مرة في ألاعيب السياسة الدولية على يد فيلسوف من فلاسفة الألمان أحس الخطر على بلاده من مطامع «لويس الرابع عشر» فأراد أن يحول مطامعه من القارة الأوروبية إلى القارة الأفريقية؛ هذا الفيلسوف هو جو تفريد ولهلم «ليبنتز» (1646-1716) صاحب الرسالة المشهورة عن «البعثة المصرية» وسفير حكومته زمنا في بلاط باريس، لكن هذه المغامرة قد ادخرت في الغيب لمغامر أوربة الأول في القرن الثامن عشر «نابليون بونابرت»، فلم تتحرك حكومة باريس لحشد الجيوش إلى مصر إلا في عهد ذلك المغامر الكبير.
جاء نابليون إلى مصر ومعه بعثة من العلماء والمهندسين وفي ذهنه مشروع وصل البحرين، إما من طريق النيل كما كانا متصلين في عهد الفراعنة، أو بحفر قناة السويس إلى موقع يقابلها على البحر الأبيض المتوسط. ولكن ضخامة النفقات التي قدرت لإنجاز المشروع أقعدته عن العمل، وانصرف عنه كل الانصراف كما قيل؛ لأن مهندسه «لابير
Lapere » توهم أن البحرين لا يستويان وأن بينهما فرقا يقرب من ثلاثين قدما. فكان هذا مع ضخامة النفقات سبب انصراف نابليون عن تنفيذ المشروع كما وعد حكومته، وقد خامر بعض الظنون أن حسبة «لابير» مصطنعة لتعجيز المحاولين ريثما يتيسر تدبير النفقات، ودعا إلى احتمال هذا الظن أن «التوصيلة» المطلوبة، كانت ميسورة بمد فرع النيل كما كان في العهد القديم لولا عقبة النفقات.
على أن خطأ الموازنة بين مستوى البحرين لم يلبث أن ظهر للفرنسيين أنفسهم عندما تولى البحث جماعة السيمونيين
Simonians ، وهم أنصار الوحدة الإنسانية والتقريب بين أجزاء العالم. وتعاقبت بحوث العلماء في هذا الموضوع نحو خمسين سنة بعد الحملة الفرنسية، وممن اشتغل به لجنة من الإنجليز (1846) كان بين أعضائها «جورج ستيفنسن»
Stephenson
ابن صاحب المخترعات البخارية المشهور، ولكنها لم تتقدم خطوة وراء البحث في إمكان التنفيذ وتقدير التكاليف. وظل الاعتقاد الغالب على غير المختصين أن المشروع «مخرقة» أو حيلة لابتزاز المال كما قال بالمرستون في مجلس النواب الإنجليزي حين أخرجه بعض الأعضاء لتقاعده عن تشجيع الشركة التي تأسست لفتح القناة، ويغلب على الظن أن مصلحة ستيفنسن الخبير بالسكك الحديد هي التي زينت له تفضيل الاتصال بالخطوط الحديدية، وعليه اعتمد بالمرستون.
واهتم التجار والمهندسون الإنجليز بإحياء الطريق المصري لنقل البضائع والمسافرين من الهند إلى إنجلترا، وساورهم في الوقت نفسه أمل الاتفاق على حفر القناة. وكان سفيرهم في مصر «جورج بلدوين» من أصحاب الخيال الشعري فسير سفينة من إنجلترا إلى الإسكندرية وأخرى من الهند إلى السويس وصعد ذات يوم إلى قمة الهرم الأكبر ومعه ثلاث قوارير، إحداها مملوءة بماء النيل والثانية بماء التامز والثالثة بماء الكنج، وشرب مع أصحابه نخب الصداقة بين الأنهر الثلاثة. ولكن مشروعه حبط في ذلك الحين لامتناع الآستانة عن منح الرخصة الضرورية لإباحة الملاحة في البحر الحمر. ثم عاود رجال شركة الهند الشرقية مسعاهم عند «محمد علي الكبير» لاستئناف السير في الطريق البرية بين السويس والإسكندرية، فلم تثبت لهم فائدة الطريق البرية في اختصار الوقت والكلفة إلا في أواخر سنة 1845. واستقر الرأي أخيرا على اتخاذ مرسيليا محطا لبواخر الشركة بعد أن كانت ترسي بواخرها في تريسته وتنقل البضائع منها إلى الشواطئ البلجيكية، ويشاهد إلى اليوم في ميناء السويس تمثال «توماس وجهورن» صاحب المساعي التي عاد بفضلها طريق التجارة البرية إلى الأرض المصرية، وكان الرجل يعزو ذلك الفضل إلى تشجيع «محمد علي» وموالاته برعايته، ويستحث قومه على العرفان بجميله، فاجتمعت نخبة من جلة القوم وأعربت عن شكر الأمة الإنجليزية لتلك الرعاية المتوالية، وأهدت إليه نوطا نقشت صورته على أحد وجهيه وكتبت على الوجه الآخر صيغة الإهداء: «إلى نصير العلم والتجارة والنظام، حامي رعايا الدول المتنافرة وأموالها وفاتح طريق البر إلى الديار الهندية.»
وكان تقديم هذا الاعتراف «ذي الوجهين» في سنة 1840 نفس السنة التي وقفت فيها إنجلترا مع الدول «المتنافرة» لكي تنسى تنافرها وتتفق على صد «محمد علي» عن أبواب الآستانة.
لقد كان «محمد علي الكبير» يعلم بثاقب نظره أن هذه الدول «المتنافرة» تتفق عليه إذا سنحت لها الغرة منه أو من خلفائه، وقد سمع منها جميعا طلبا بعد طلب في مسألة القناة بعينها، فلم تكن إنجلترا ولا فرنسا وحدهما صاحبتي الغرض الأكبر في هذه الطريق، بل حدث أن «مترنيخ» قطب السياسة الأوروبية في عصر نابليون أرسل إليه من يقنعه بفتح القناة؛ لأن النمسا في ذلك العصر كانت تشرف على الشواطئ الإيطالية، وقد تلقى «مترنيخ» مذكرة بهذا الطلب من وزير دفاعه «الكونت فيكلمونت» (1843) وجاء رسول النمسا إلى القاهرة ومحمد علي في الفيوم فلم ينتظر عودته بل ذهب إليه ليعرض مطلبه في ساعة صفو وخلو من التكاليف، فكان جواب محمد علي، كما كان جوابه لمن فاتحوه في الأمر من قبل ومن بعد «أن القناة تفتح - إن فتحت - بمال مصر وعملها ولا يكون ذلك قبل اتفاق الدول على حيدة مصر والقناة.»
ومن نقائض مصر الخالدة أن مشروع القناة جذب إليه غلاة الاشتراكيين وأقطاب رءوس الأموال والصناعات في وقت واحد، فكان الفضل في تصحيح الأخطاء الهندسية التي صرفت الأنظار عن المشروع راجعا إلى أتباع «سان سيمون» كما تقدم، وكان خليفته «آنفانتين» داعية القناة الأكبر في الدوائر العلمية والمالية، وكانت دوائره العلمية تجمع المهندسين والمؤرخين من فرنسيين وإيطاليين ونمسويين وإنجليز، رمزا إلى الإخاء و«تضامن» الأسرة الإنسانية، ووجهتها ربط الشرق والغرب في وشائج هذه الأسرة العامة، فاشترك «تالبوت» الفرنسي و«نيجريللي» الإيطالي النمسوي و«ستيفنسن» الإنجليزي في تقسيم العمل وقيام كل طائفة على دراسة قسم منه. ولكن صداقة «آنفانتين» للمهندس الفرنسي «دلسبس» هي التي خرجت بالمشروع من دور الأحلام إلى دور «الشغل» المثمر كما يقولون. وأصغى «دلسبس» إلى المبشر الإنساني يوم شهد بعينيه حركة الميناء في مرسيليا فشحذت همته وأنعشت آماله وابتعثته ابتعاثا إلى إعادة الكرة عند «محمد علي»؛ لأنه كان يجهل جوابه لمندوب النمسا وغيره من رسل أوربة الوسطى. ولكن محمد علي كان كما قدمنا يتخوف من تسلط الأجانب على الطرق المصرية بحرا وبرا فأعرض عن حفر القناة، كما أعرض عن مد السكة الحديد بين الإسكندرية والسويس، وظلت البضائع في أيامه تنقل على ظهور الجمال أو على السفن الصغيرة في ترعة المحمودية. ولبثت أدوات السكة الحديد معطلة إلى أيام «عباس الأول» الذي أذن بمدها فكان ذلك حافزا جديدا لمعاودة البحث في حفر القناة.
وما من شيء يدل على أثر العلاقات الشخصية أحيانا في تمهيد الوسائل إلى الأعمال الجسام، ما يدل عليه نجاح «فردينان دي لسبس» صاحب مشروع القناة في إقناع «محمد سعيد باشا» - بعد وفاة عباس الأول - بإمكان حفر القناة وعظم الفوائد التي تعود على مصر من فتح هذه الطريق العالمية في أرضها.
فقد كان «محمد سعيد باشا» في صباه يميل إلى البدانة وكان أبوه «محمد علي» حريصا على تربية أبنائه على الحياة العسكرية والنشأة الرياضية، فكان يحتم على الصبي محمد سعيد أن يسبح ويعدو كل يوم مسافات طويلة، ويأمر له بالقليل من الطعام الذي لا يسمن ولا يشبع. وكان «ماتيو دلسبس» والد «فردينان» صديقا لمحمد علي يحبه من عهد وساطته عند الباب العالي في اختياره للأريكة المصرية، وكان يأذن لأبنائه في زيارة القنصل لتوثيق عرى المودة وإتقان اللغة الفرنسية. فكان «محمد سعيد» يجد في دار القنصل شبعه من المكرونة التي كان مشغوفا بأكلها، وكانت صحبته لفردينان الصغير خير شفيع للمهندس الفرنسي فيما بعد، لاستجابة رجائه بعد طول التردد فيه على أيام أبيه.
فردينان دي لسبس.
واتفق أيضا أن فردينان هذا كانت تربطه بالإمبراطورة «أوجيني» صلة قرابة ومودة، فلولا صحفة المكرونة وهذه المصادفة التي ربطت بين دلسبس وبلاط فرنسا لما استطاع الرجل أن ينجح حيث أخفق غيره، ولحبط العمل كله بعد الشروع فيه لولا اليد القوية التي كانت تنقذه من ورطة بعد ورطة في بلاط باريس.
إلا أن «دلسبس» قد استخدم كل ما في جعبته من الوسائل لإقناع «سعيد باشا» بفوائد مشروعه وضمن ذلك خطابه التاريخي الذي يحسن بنا إثباته في هذا المقام بقليل من التصرف لبيان وجهات النظر التي مثلها أو تمثلها القائمون بحفر القناة قبل الشروع فيه، قال: «طالما اهتم أقطاب العالم - ولاسيما ملوك مصر - بالصلة بين البحرين الأحمر والأبيض، ومنهم «سيزوستريس» الأشهر و«الإسكندر الأكبر» و«يوليوس قيصر» و«عمرو بن العاص» و«نابليون الكبير» ووالدك العظيم. وأفلح بعضهم فوصل بين البحرين بترعة تمتد من النيل بقيت فترة قبل الهجرة المحمدية بنحو تسعة قرون ثم أهملت وانقطع عنها ماء النيل وظل منقطعا إلى أن أعيد بعد ذلك. وبقيت الترعة زهاء أربعة قرون ونصف قرن صالحة للملاحة في أيام البطالسة حتى علاها التراب في القرن الرابع قبل الهجرة وجاء «عمرو بن العاص» فأصلحها وجرى الماء فيها مائة وثلاثين سنة ...
ولما قدم بونابارت إلى مصر ود لو أمكنه إعادة الترعة وأن تقترن شهرة هذا العمل العظيم بشهرته ... فندب للبحث في هذه المسألة كبار المهندسين وعلماء السير والآثار ... وطلب إليهم إبداء الرأي في إمكان التوصيل بين البحرين من غير طريق النيل وإحصاء تكاليفه ... فكتب أحدهم مسيو لوبير تقريره ... ووقف بونابرت على تكاليف المشروع فاستعظمها ... وتمنى لو تأتى للدولة العثمانية أن تصل بين البحرين فتدل بذلك على حياتها وتنفي الشبهة عن بقائها وتسدي للحضارة يدا لا تنساها ... ولا يخفى أن اتفاق دول أوربة على رد العدوان على الآستانة وبقائها في يد الدولة ... إنما يرجع إلى موقع خليج السويس بين البحرين وخوف الدول من تسلط إحداهن عليه فتقوى على غيرها ويختل التوازن بينها وبين نظيراتها ... فكيف لو تمت الصلة وقبضت مصر على مفاتيح العالم؟! إن الدول إذن تجمع على حرية هذا المجاز ولا تسمح لغير الدولة العثمانية بالسيادة عليه ...»
ثم استطرد المهندس الفرنسي إلى مسألة الأموال والأيدي اللازمة لحفر القناة، فقال: إن مسيو لوبير منذ خمسين سنة قدر عدد العمال بعشرة آلاف ينجزون حفرها في أربع سنوات ... وإن مسيو تلابوت منذ عشر سنين استحسن أن تمتد القناة إلى القناطر الخيرية فالإسكندرية وقدر تكاليف إنجازها بنحو مائة وثلاثين أو مائة وأربعين مليون فرنك، يضاف إليها عشرون مليونا لإنشاء الميناء بالسويس ... ثم ذكر أن مهندس القلاع الفرنسي في عهد «محمد علي» وضع رسما للمشروع وكتب عنه تقريرا عاونه فيه المهندسان الفرنسيان لينان وموجيل ... وتبين من جميع هذه البحوث أن المشروع «عملي» قابل للتنفيذ محقق الفائدة خلافا لما وقر في بعض الأذهان.
ثم تكلم عنه من الوجهة الدولية، فذكر من أسباب معارضة إنجلترا له أنها تريد أن تستأثر بالسيادة البحرية ولا تحب التقدم لغيرها مع أنها تملك أهم المواقع البحرية في العالم كجبل طارق ومالطة وجزائر الأرخبيل وعدن وسنغافورة وأستراليا فلا ضرر عليها من التقريب بين البحرين، وقال: إن ابتداء العمل فعلا خليق أن يحسم الخلاف ويحمل الدولتين إنجلترا وفرنسا على قبول الاستمرار فيه، أما الدول الأخرى؛ فالنمسا قد اعترفت بحرية الملاحة في نهر الدانوب، والمجر ترحب بالقناة لأنها عظيمة النفع لميناء تريسته والبندقية، ولا ينتظر من روسيا معارضة في حفر القناة؛ لأنها تروج تجارتها ، ولا من الولايات المتحدة؛ لأنها تؤكد العلاقة بينها وبين الهند والصين، ولا من إسبانيا؛ لأنها تيسر مواصلاتها مع جزر الفليبين، ولا من هولندة لأنها تيسر مواصلاتها مع جاوه والصومال وبرنيو ... فالعالم كله يسعد بفتح هذه القناة ... وما من أحد ينظر إلى موقعها الخالي من الخريطة إلا اندفع شوقا إلى الأمل في محو ذلك الخلاء.
ولم يكد خبر الموافقة على مقترحات دلسبس يسري إلى أوربة حتى تناولته الصحافة الإنجليزية، وفي مقدمتها الصحف الهزلية، بالتسخيف والتقريع، واتهمت دلسبس بالدجل ونبزته بألقاب السخرية وأطلق عليه بعضها لقب سيزوستريس القرن التاسع عشر، وتساءلت: من هذا الذي يريد في هذا العصر أن يعيد أساطير الأولين؟!
وقد كان أخوف ما يخافه «سعيد باشا» أن يغضب إنجلترا وأن يستهدف لمكائدها في الآستانة، فسأل قنصلها عن رأي دولته فلم يسمع منه اعتراضا؛ لأن إنجلترا كانت في تلك الفترة شديدة الرغبة في مرضاة فرنسا لمقاومة روسيا في غارتها على الدولة العثمانية، وبعد أخذ ورد ووعد وتسويف صدر الإذن (يناير سنة 1856) بالبدء في حفر القناة، ولكنه لم يبدأ قبل انقضاء ثلاث سنوات.
ويرى القراء مما تقدم أن دلسبس قد استغل موقف الدول من «محمد علي» في سنة 1840 لإقناع خليفته بمزايا فتح القناة في بلاده، فاعتقد «سعيد باشا» أن وجود هذا المجاز العالمي في مصر ضمان لها من عدوان إحدى الدول عليها، كما كان وجود الآستانة بين مضائق البسفور والدردنيل ضمانا لها من هجمات روسيا ومصر عليها، واعتقد أنه اتخذ الحيطة الكافية لإعلان حرية القناة وحيدتها العالمية بالنص في «الرخصة» على تأليف شركة دولية تجمع كلمة الدول على مباشرة العمل فيها.
غير أن شروط الاتفاق كانت في جملتها مجحفة بمصر وشروط تنفيذها أشد إجحافا؛ لأنها أوجبت على مصر أن تنزل للشركة عن الأرض التي تحف بضفتي القناة، وأن تسمح للشركة ببيع الماء العذب من الترعة التي تمدها إلى الإسماعيلية، وأن تسخر للشركة أربعة أخماس العمال المشتغلين بها، وأن تخولها الانتفاع بمناجم الحكومة ومعادنها، وأن تعفيها من الضرائب والرسوم على وارداتها، وأن تقسم أرباح الشركة - بعد خصم خمسة في المائة في مقابلة الفوائد وخمسة في المائة تدخر للمال الاحتياطي - على النسبة الآتية: عشرة في المائة لمؤسسي الشركة وخمسة وسبعون في المائة لأصحاب الأسهم والموظفين والعمال، وخمسة عشر في المائة للحكومة المصرية، وتئول القناة بعد تسع وتسعين سنة إلى ملك الحكومة.
أما إنجلترا فإنها عملت على إحباط المشروع من جهة وعلى كسب نفوذ لها في مصر يقابل هذا النفوذ من جهة أخرى، فلم تأت سنة 1862 حتى تورط «سعيد باشا» في صفقة جائرة مع بيت «فرهلنج جوشن» بلندن فعقد معه قرضا بأكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات، تبعتها قروض أخرى كانت هي أول الكارثة التي استفلحت بعد ذلك حتى قضت على استقلال البلاد وعرضتها للرقابة الأجنبية.
وفي خلال هذه السنوات لم تهدأ الخطة عن محاربة المشروع عند «الباب العالي» فتأخرت موافقته عليه من سنة 1856 إلى سنة 1858، ولما صدر الفرمان بالموافقة عرضت الأسهم في الأسواق - وعدتها أربعمائة ألف بمائتي مليون فرنك - فاشترت فرنسا (207111 سهما) واشترت البندقية ألفا وثلاثة وثمانين سهما واشترت حكومة البيمونت ألفا وثلاثمائة وخمسين سهما، واشترت هولندة وأسبانيا وتركيا ما بقي من الأسهم، ماعدا حصة مصر وقدرها (136642) منها ستة وتسعون ألف سهم رصدها دلسبس لحساب محمد سعيد باشا على غير علم منه، فاضطر إلى قبولها بعد الممانعة؛ خوفا من تهمة الإفلاس وحبوط العمل بعد الشروع فيه، وتخلفت أثمان هذه الأسهم ديونا إلى أن سددها إسماعيل باشا بأسناد مالية كتبها على الحكومة المصرية. •••
ولم تيأس إنجلترا من تدبيراتها للقضاء على المشروع فاتخذت من نغمة العصر في تلك الآونة حجة للتشهير به واستثارت الضمير الإنساني عليه، وكانت نغمة العصر محاربة الرق وتجريد الحملات لمطاردة النخاسين، فراحت ألسنة السياسة البريطانية تذيع أخبار السخرة في القناة، وأخبار الوباء «حمى التيفود» الذي سرت عدواه من القناة إلى القطر كله فأهلك عشرات الألوف من العمال والفلاحين، وصدقت في القول ولم تصدق في النية؛ لأن المتعهدين ضنوا بالأجر اليومي على قلته - وهو عشرة مليمات للعامل - فهلك العمال جهدا وجوعا. وشاع التذمر بين المصريين من شركة القناة ومن كل ما يتعلق بالقناة، وأوشكت إنجلترا أن تنجح في تدبيراتها بين الآستانة والقاهرة وعواصم الدول الأوروبية. ثم مات سعيد باشا في هذه الأثناء وآلت الأريكة المصرية إلى إسماعيل باشا فأحس النقمة على المشروع من جانب إنجلترا ومن جانب الدولة العثمانية. ولم يشأ أن يغضب فرنسا فبادر بسداد ثمن الأسهم التي لم يسددها سعيد باشا وقيمتها مليونان من الجنيهات، وأعلن الشركة بعزمه على نقص العمال ورد الأرض التي وضعت يدها عليها إلى ملك الحكومة وأنذرها بوقف العمل إن لم تبلغه موافقتها في وقت وجيز. فلجأ دلسبس إلى حكومته وتحرجت الأمور بين إسماعيل ونابليون فإذا بالتهديد الذي وجهه إسماعيل إلى الشركة يئول إلى مصلحتها وخسارة مصر. لأن إسماعيل رضي أن يعرض الخلاف على هيئة من المحكمين في فرنسا فحكموا على مصر بغرامة قدرها ثلاثة ملايين وثلثمائة وستين ألف جنيه؛ تعويضا للشركة عن إلغاء السخرة ورد الأرض التي على الضفتين وتكاليف حفر الترعة العذبة، فانتفعت الشركة بهذا المال وهي محتاجة إليه، وأبرأ إسماعيل ذمته أمام الآستانة ولندن، وأقبل على مساعدة الشركة بكل ما استطاع، وكان في الواقع يساعدها في أشد أوقات الخلاف، فقد أعطاها ثلاثمائة ألف جنيه ثمنا لأرض في وادي الطحيلات اشترتها في عهد سعيد بأربعة وسبعين ألف جنيه، وأعطاها مليونا ومائتي ألف جنيه ثمنا للمباني التي أقامتها بالسخرة والأدوات المعفاة من الرسوم.
وفرغت الشركة من حفر القناة في أواخر سنة 1869 فنجمت مشكلة جديدة كانت خواتمها أخطر جدا من فواتحها؛ لأنها غيرت قلب السلطان العثماني على الخديو وفتحت أبواب الآستانة للدسائس والوشايات التي اشتركت فيها الدول وأمراء البيت العلوي ممن حرموا حقوقهم أو آمالهم في الوراثة بعد نقل ولاية العهد إلى أبناء إسماعيل فجرت إلى خلعه بعد سنوات.
وخلاصة هذه المشكلة المتشعبة أن الخديو وجه الدعوة إلى الملوك والأمراء لشهود حفلة الافتتاح باسمه، وأغفل السلطان في هذه الدعوة؛ فداخله الريب وأمر الصدر الأعظم بالاحتجاج لدى الدول والعتب على من قبل الدعوة دون الرجوع إلى ولي الأمر «المتبوع» فصادف هذا الاحتجاج هوى في نفوس المحنقين على الحفلة كلها لما فيها من تمييز نابليون الثالث «محتضن المشروع» في مجامع السياسة الدولية، وهموا بالاعتذار لولا التوسط في الأمر والاتفاق على تسوية المشكلة بمرور من يشاء من المدعوين بالآستانة قبل السفر إلى القاهرة. وكأنما أراد السلطان أن يضرب دولة بدولة وأن يطفئ نجم نابليون بنجم أكبر منه، فألجأه الحنق إلى انتقام غير لائق بمكانته ولا بدعواه وأناب عنه مندوب إنجلترا وفوض إليه أن يشكر المدعوين باسمه. وقد تعمد هذا المندوب أن يتأخر قليلا في سفره إلى الإسماعيلية فوصل والقوم يخطبون ويشيدون بذكر الخديو دون الإشارة إلى السلطان، فإذا به يقف هاتفا لأمير المؤمنين ويتبعه الحاضرون بهذا الهتاف - وكان افتتاح القناة في السابع عشر من نوفمبر سنة 1869. •••
وهذا هو مجمل وجيز للبيانات الرسمية المصرية عن سير العمل في القناة إلى يوم افتتاحها، كما جاءت في تقويم النيل لصاحبه «أمين سامي باشا» المؤرخ المشهور: (1)
كان مبدأ العمل في حفر قنال السويس حصل في بورسعيد يوم (25 أبريل سنة 1859 / 21 رمضان سنة 1275). (2)
صرفت شركة مساهمة القنال في برزخ السويس 480 مليونا من الفرنكات، بما في ذلك أماكن العمال وبناء مدينتي بورسعيد والإسماعيلية والمحاط والمكافآت التي كانت تعطى زيادة على المرتبات. (3)
بلغ عدد العمال الوطنيين الذين أعدتهم الحكومة لهذا العمل بدون أجرة - سخرة - 27000 نفس، وأما عدد المستأجرين والمستخدمين فبلغ خمسة آلاف نفس تقريبا. (4)
بلغ طول القنال من بورسعيد إلى السويس - محطة توفيق - 87 ميلا. (5)
حصل الاحتفال بالسفر فيه في يوم 17 نوفمبر سنة 1869 وقد حضر هذا الاحتفال كل من جلالة إمبراطورة فرنسا وجلالة إمبراطور النمسا والمجر، والأمراء أولياء الروسيا وبروسيا وهولندة، وحضر أيضا بالنيابة عن دولة إنجلترا، رئيس عمارة حربية. (6)
وأول سفينة تجارية مرت بالقنال بعد الاحتفال بافتتاحه دافعة عوائد الأمور باعتبار عشرة فرنكات عن كل طونولاته هي السفينة المسماة «أمبيراتريس» وهي من سفن المساجيري أمبيريال، وهي الآن مساجيري ماريتيم.
وهذه البيانات المتقدمة أجوبة على أسئلة وجهها إلى شركة القناة صاحب تقويم النيل.
وقال «جرجس حنين بك» صاحب كتاب «الأطيان والضرائب»:
في تاريخ 13 يناير سنة 1863 جلس على أريكة الخديوية المغفور له إسماعيل باشا، ولم يمض أكثر من سبع سنوات على تاريخ جلوسه حتى تم حفر برزخ السويس وأعد رسميا لمرور البواخر في 19 نوفمبر سنة 1869.
وقد تكلفت خزانة الحكومة في تيار إنشائه نحو ستة عشر مليونا ونصف مليون جنيه، هذه مفرداتها: (1)
ثلاثة ملايين ونصف مليون قيمة السهام التي اشتراها المغفور له «سعيد باشا». (2)
ثلاثة ملايين قيمة الترضية التي حكم بها على الحكومة المصرية الإمبراطور «نابليون» تعويضا لشركة القنال عما ألم بها من الضرر بسبب ما نسب إلى الحكومة من أنها منعت تشغيل الأنفار بالترع. (3)
أربعمائة ألف جنيه ثمن أراضي ومباني رأس الوادي التي أخذتها الحكومة من الشركة، «وهي أطيان جفلك الوادي التي كانت أخذتها شركة القنال من خديو مصر بمليون وسبعمائة ألف فرنك، ثم أعيدت بعد ذلك للحكومة في مقابل عشرة ملايين من الفرنكات.» (4)
أربعمائة ألف جنيه نظير تعويض للشركة عن أعمال، قيل: إن الشركة قامت بإجرائها في الترعة الحلوة. (5)
ثمانمائة ألف جنيه صرفت إلى المقاولين الفرنساويين لإتمام إنشاء الترعة الحلوة. (6)
أربعمائة ألف جنيه أنفقتها الحكومة في إنشاء الترعة الحلوة. (7)
مليون جنيه نفقات المهرجان الذي أعد للاحتفال بفتح القنال رسميا، ويتبع ذلك نفقات أسفار إلى أوربة والآستانة في شئون الترعة. (8)
سبعة ملايين جنيه فائدة هذا المال لتمام استهلاكه.» وجاء في كتاب «تاريخ مصر في عهد إسماعيل»:
في (غرة صفر سنة 1286 / 6 يوليو سنة 1864) أصدر نابليون الثالث إمبراطور فرنسا حكمه في الإشكالات التي كانت بين سمو إسماعيل باشا والي مصر والموسيو دولسبس رئيس شركة قنال السويس بما يأتي:
أولا:
إعادة ستة آلاف فدان من الأطيان الممنوحة للشركة إلى الحكومة المصرية بتخفيض مقدار الأرض التي كانت للشركة على جانبي الترعة من كيلو متر إلى ستين مترا.
ثانيا:
إعادة جميع الأطيان التي باشرت الشركة فلاحتها وزراعتها وقدرها 63000 هكتار إلى الحكومة على ألا تبقي لنفسها منها سوى ثلاثة آلاف هكتار.
ثالثا:
تتخلى الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في مد الترعة ذات الماء العذب من مصر إلى السويس وبورسعيد، وإلزام الحكومة المصرية بمدها، وهي الترعة المعروفة الآن بالإسماعيلية، مع حفظ حق الشركة في الانتفاع بها.
رابعا:
إبطال حق الشركة في مطالبة الحكومة المصرية بالعمال إلا على سبيل العارية المأجورة.
خامسا:
إلزام الحكومة المصرية مقابل ذلك جميعه، وعلى سبيل التعويض بدفع مبلغ 84 مليونا من الفرنكات.
وخير ما يعقب به على هذا الحكم قول الشاعر الهازل:
منك الدقيق ومني النار أنفخها
والماء مني ومنك السمن والعسل
قال «فرانسوا جوزيف» إمبراطور النمسا ل «إسماعيل باشا»، وهو يودعه في محطة القاهرة: «اسمح لي يا صاحب السمو أن أبدي رأيي الخاص: إن مصر لو كانت في حوزتي لوضعتها بين جفني عيني وأحكمت إغلاقهما عليها حتى لا يراها أحد.»
لم يكن «فرنسوا جوزيف» مغمض العين حين فاه بهذه الكلمة؛ لأنه قد نظر بعيدا جدا إلى الأعين التي فتحت على مصر في أرجاء العالم كله، ساعة الافتتاح!
وكأنما شاءت المقادير لقناة السويس هذه أن يحيط بها سوء التقدير من كل جانب وفي كل حقبة؛ فإن «دلسبس» نفسه قد أساء التقدير كثيرا حين قدر أن اختصار المسافة من 11379 ميلا إلى 7528 ميلا سيحول السفن الشراعية حتما من طريق رأس الرجاء إلى طريق السويس، وحين قال لأصحاب الأموال من الإنجليز وهم معرضون عنه: «ليست بواخركم التي تعنيني ولكنني أخطب ود السفائن ذوات الشراع.» فانقضت سنتان وهذه السفائن ذوات الشراع تتجنب الطريق الجديدة، وهبطت قيمة السهم في السوق من عشرين جنيها إلى سبعة جنيهات، ولم تقو الشركة على تعويض الخسارة إلا بعد موافقة الدول في مؤتمر الآستانة - باقتراح الإنجليز في هذه المرة - على زيادة الرسوم بنسبة أربعين في المائة؛ لأن الكشف عن مناجم الذهب في أستراليا وزيلندة الجديدة قد ضاعف حركة الملاحة بينها وبين هذه الجزر النائية. وكان تقدم الآلات البخارية قد نقص من تكاليف الوقود فاعتمدت الشركة على هذه «البواخر» التي خف حسابها في تقدير دلسبس وحاملي الأسهم الأولين.
وإذا رجعنا إلى العلة الحقيقية لنقص موارد القناة تكشفت لنا هذه العلة عن غش صريح في تقدير حمولة السفن وتقدير الرسوم تبعا لهذه المغالطة؛ فقد كانت الحمولة «الواقعية» أضعاف حمولة المركب المسجلة في الرخصة، فأعلنت الشركة في أول يوليو سنة 1872 أنها ستحصل الرسم على الحمولة الموجودة فعلا في كل سفينة. وصدر الحكم لمصلحتها في الخلاف بينها وبين بواخر «المساجيرى ماريتيم»، ولكن البواخر الإنجليزية فزعت إلى حكومتها ودارت المفاوضات بين هذه الحكومة والحكومات ذوات المصلحة في القناة، واتفقت الدول جميعا على عقد مؤتمر الآستانة للنظر في هذه المسألة سنة 1873، ورفض المؤتمر الأخذ بمبدأ الشركة في تقدير الحمولة، ولكنه نظر - كما قال - إلى «تضحيات» حاملي الأسهم فأضاف ثلاثة فرنكات على رسوم الطن المسجل حسب الطريقة الإنجليزية، وأربعة فرنكات على الرسم المسجل بغير هذه الطريقة، وتقرر البدء بتحصيل الرسوم على هذا الحساب من 28 أبريل سنة 1874، ولكن هذا التعديل لم يسر على السفن الحربية.
وقبل أن تستفيد مصر من هذا التعديل ضاعت من يدها أسهم الشركة التي كانت تملكها إلى ذلك الحين، وتألبت المصاعب الداخلية والدسائس الخارجية على حرمانها هذا النصيب الوحيد الذي خرجت به من أسهم الشركة، فقد علم صحفي إنجليزي - هو فردريك جرينوود محرر البال مال جازيت - أن أزمات الديون قد ألجأت الخديو إسماعيل إلى المساومة على بيع حصة الحكومة المصرية من أسهم القناة السويس، فبادر إلى إطلاع دزرائيلي على الخبر وتبين من سؤال الخديو أنه صحيح وأن بيتا من بيوت فرنسا عرض على الخديو ثلاثة ملايين وستمائة وثمانين ألف جنيه ثمنا للأسهم، وهي قرابة «177000سهم» نحو نصف الأسهم جميعا وعدتها أربعمائة ألف سهم كما تقدم، ولم تعارض الحكومة الفرنسية في عقد هذه الصفقة مع الحكومة الإنجليزية؛ لأنها كانت محتاجة إلى تأييدها أمام هجمات بسمارك ومحتاجة إلى معونتها والاشتراك معها في القناة؛ دفعا لمناوراتها السياسية والاقتصادية حولها وحول غيرها من المرافق الكبرى، فأوعز دوق ديكاز
Dicaze
إلى البيت الفرنسي بكف يده عن المسألة، وقدم الصفقة هدية إلى دزرائيلي فبادر هذا إلى اغتنام الفرصة ولم ينتظر إذن البرلمان بعد عودته إلى العمل من إجازة الخريف، وأسعفه روتشيلد بالمبلغ المطلوب وهو أربعة ملايين وتمت الصفقة في نوفمبر سنة 1875. •••
بعد هذه الصفقة لم يحدث شيء ذو بال يتعلق بالقناة غير اتفاق الدول في سنة 1888 على حيدة القناة، وقد وقع على هذا الاتفاق مندوبو إنجلترا وألمانيا وروسيا وفرنسا والنمسا والمجر وإيطاليا وهولندة وتركيا. وصرحت إنجلترا بأنها لا تتقيد بهذا الاتفاق أثناء احتلالها العسكري للبلاد المصرية إلا بشرط يقضي بتعيين لجنة دولية لتنفيذ الميثاق عند تهديد سلامة القناة، وأعلنت في المادة السادسة أنها تقر معاهدة 29 أكتوبر سنة 1888 وتعمل على تنفيذها.
وعلى الرغم من هذه الحيدة «المضمونة» وهذا العهد المكفول بموافقة ثماني دول، فقد استخدمت القناة في الحرب الروسية اليابانية (1904-1905) لشل حركات الأسطول الروسي المعروف بأسطول البحر البلطي، وقد كان أقوى عدة للروس في حروب البحر، وكان تعويلهم عليه أكبر من تعويلهم على السكة الحديد في سيبيريا لكسب الحرب البرية. وجلية الأمر أن «المصادفات» كما قالت صحافة إنجلترا يومئذ قد انتظرت إلى أن وصل الأسطول الروسي إلى مدخل القناة فأغرقت - أي المصادفات - سفينة عابرة وسط القناة وتعطل مرور السفن إلى أن سمحت المصادفات أيضا بغلبة اليابانيين على الروس في الشرق الأقصى، فأزيلت السفينة الجانحة عن الطريق، ووصل الأسطول إلى مقصده بعد فوات الأوان. •••
وأهم ما حدث بعد معاهدة الحيدة وحادث الأسطول البلطي أن شركة القناة أرادت بعد الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا بفترة وجيزة، أن تمد أجل الامتياز أربعين سنة بعد انتهائه في 17 نوفمبر سنة 1968، وعرضت على مصر في مقابلة ذلك أن تقسم الأرباح مناصفة بين الحكومة والشركة، وأن تدفع الشركة إلى الحكومة أربعة ملايين من الجنيهات على أربعة أقساط تبتدئ من سنة 1910 وتنتهي في سنة 1913 وتنزل الحكومة من أجل ذلك عن أرباحها - وهي خمسة عشرة في المائة من جملة الأرباح - ابتداء الأجل الجديد.
وقد كان الزعيم الخالد «سعد زغلول باشا» وزيرا يومئذ في الوزارة فاشترط للدفاع عن الاقتراح أمام الجمعية العمومية أن يكون رأيها قاطعا في قبوله أو رفضه، ووافقت دار المندوب البريطاني على هذا الشرط لأنها لم تشأ - بعد الاتفاق الودي بينها وبين فرنسا - أن تصدمها برفض الاقتراح، فرأت في إحالة المسألة إلى الجمعية العمومية مخلصا من المشكلة كلها، وكان الرأي العام في مصر متجها إلى رفض الاقتراح؛ كراهة منه لذكرى القناة وعقابيل القناة. •••
في خلال هذه السنين تضخمت السفن وتعذر مرور بعضها من القناة فوسعت وعمقت بين سنة 1885 وسنة 1889 حتى بلغ عرضها خمسة وستين مترا أو خمسة وسبعين مترا على حسب المواقع في الأماكن المستقيمة وثمانين مترا في الأماكن المنحنية وبلغ عمقها تسعة أمتار. وبعد الإصلاحات التي تمت في سنة 1933 أصبحت القناة تتسع للسفن التي حمولتها خمسة وأربعون ألف طن.
وقد بنيت بعد الحرب العالمية الأولى مدينة بورفؤاد على الضفة الشرقية أمام بورسعيد، وأقيمت على القناة بعد نشوب الحرب العالمية الثانية قنطرة للسكة الحديدية تصل بين القاهرة وبيروت.
ولم تزل إنجلترا تسعى عند دول البحر الأبيض المتوسط حتى اعترفت لها فرنسا وإيطاليا بأهمية القناة العسكرية بالنسبة إلى مركز إنجلترا في الهند وما وراءها، ونصت المادة الثامنة من المعاهدة المصرية الإنجليزية (1936) على إبقاء قوة بريطانية بجوار القناة للدفاع عنها ريثما يستقل الجيش المصري بهذه المهمة.
وقد أدى تطبيق قانون الشركات الذي أصدرته حكومة «النقراشي باشا» إلى زيادة الأعضاء المصريين في مجلس الإدارة وزيادة عدد الموظفين والعمال في الشركة وقضى اتفاق (7 مارس سنة 1949) بين الحكومة المصرية والشركة بإجراء إصلاحات أخرى لتعميق القناة نصف متر؛ تيسيرا لمرور السفن التي يبلغ غاطسها ستة وثلاثين قدما، ولا تقل حصة مصر بمقتضى ذلك الاتفاق عن ثلاثمائة وخمسين ألف جنيه.
لقد جنى الإنجليز من أرباح القناة أكثر من عشرة أضعاف الثمن الذي بذلوه في الأسهم المصرية، وقدرت قيمة الأسهم منذ سنوات بأكثر من ثلاثين مليون جنيه، وخولتها هذه الأسهم أن تعين في مجلس الإدارة عشرة أعضاء من ثلاثة وثلاثين، ولكن دعوى إنجلترا في القناة تتبدل في كل دور من أدوار السياسة البريطانية وكل دور من أدوار السياسة العالمية.
قال النائب الإنجليزي باسيل وريفولد
Worsfold
في كتابه «مستقبل مصر»: «إن سياسة إنجلترا في مصر عرضة للانحراف أو للنقض من جراء المفاجآت في تطورات العلاقة بين الدول الكبرى.»
وقال قبل ذلك: «إن العناصر المهمة في تطورات الموقف، هي: (1) استقرار بريطانيا كقوة رئيسة في شواطئ أفريقية الشرقية مع شبكة من النظام تتناول السودان وأوغندة وأفريقية الشرقية البريطانية وأفريقية البريطانية الوسطى وروديسيا الشمالية والجنوبية. و(2) امتداد الإمبراطورية الهندية وعلاقتها التي يحتمل أن تزداد اتصالا بتلك الشبكة من النظام. و(3) إنشاء القوات الوطنية وتدريبها بإشراف أفريقية الجنوبية وأستراليا وزيلندة الجديدة مع تأسيس بحريات محلية في أستراليا وزيلندة الجديدة. و(4) ارتباط الهند وأفريقية الشرقية لأغراض الدفاع.» «وعلى هذا، ومع حسبان الحساب للنقص المتتابع في أهمية قناة السويس من الوجهة العسكرية، تظل مصر عاملا له قيمته في الدفاع عن الإمبراطورية، ويمكن أن يقال: إنه مهما يبلغ من استعداد الشعب المصري سريعا لحكم نفسه لن تنجلي بريطانيا العظمى إلا على شروط تخولها العودة إلى السيطرة العسكرية في حالة الاضطراب الداخلي أو التهديد من الخارج.»
لا جرم إذن تصبح قناة السويس هي بيت القصيد من حوادث الإسكندرية وحوادث مصر عامة في الحادي عشر من يوليو سنة 1882.
ولكنه بيت قصيد يتغير معناه ولا يزال متغيرا مع الزمن كما يشاءون، إلا أن يشاء الله.
الصهيونية
من العوامل التي مهدت للاحتلال البريطاني عامل هام لا يجوز إهماله عند تقدير الواقع في كل مسألة خطيرة، ولا سيما المسألة المصرية، وهو عامل «الصهيونية» التي تسمى أحيانا باليهودية الدولية.
وقد رأينا طائفة من المؤرخين يتكلمون عن هذا العامل الهام في سياسة العالم؛ كأنه «هيئة منظمة» تتألف من شيوخ محنكين يجتمعون في عواصم مختلفة ويصدرون في كل اجتماع قرارا يتبع إلى موعد الاجتماع التالي، ويوشك أن تنطبق الحوادث في هذه الفترة حرفا حرفا على ما رسموه ورتبوه.
ونحن لم نعرف فيما اطلعنا عليه دليلا قاطعا يثبت وجود هذه الهيئة من الشيوخ المحنكين والرؤساء المطاعين الذين لا يعلم أحد كيف يقع عليهم الاختيار، وكيف تنعقد لهم طاعة الملايين في أقطار العالم المعمور. ولكننا نحسب أن الحوادث التي يذكرها أولئك المؤرخون لا تستلزم تفسيرها بوجود تلك الهيئة المختارة ، وأن التدبير المقصود يمكن أن يتم بما بين أقطاب الصهيونيين من وحدة الغرض والقدرة على اغتنام الفرص والانتشار في جهات العالم التي تفتح لهم منافذ الفرصة في أمكنة متعددة، مع اشتغالهم جميعا بأسواق المال والتجارة التي تتصل سرا وجهرا بمسائل السياسة.
وسنرى فيما يلي مثالا «للتدبير» الذي يتم في حينه خطوة بعد خطوة على غير تفاهم سابق، فيظهر بعد حين كأنه خطة مرسومة وضعها أناس متفاهمون، وأملوها على أتباع يدينون لهم بصدق الطاعة وإخلاص النية، ولا تفاهم هناك في الحقيقة والإملاء.
اتفق في سنة 1798، سنة الحملة الفرنسية على مصر، أن يهوديا فرنسيا أذاع في باريس خطابا إلى قومه يدعوهم فيه إلى تأليف مجلس عام يضم إليه مندوبين من اليهود المنتشرين في أنحاء العالم، ويكون اجتماعه الأول في باريس لتقديم طلب إلى الحكومة الفرنسية يسألونها أن تساعدهم على رد وطنهم القديم، ويشفعون هذا الطلب بالسعي في الآستانة لإقناع السلطان العثماني بقبوله. وقد جاء في ذلك الخطاب أن البلاد التي يريدونها تشمل الوجه البحري في مصر إلى عكا والبحر الميت وشواطئ البحر الأحمر، وهي رقعة من الأرض تجعلهم سادة التجارة الهندية والعربية والفارسية، ويقول صاحب الخطاب: إن فرنسا يمكن أن تستمال إلى هذه المهمة بما نخصها به من الربح والعوض والمقايضة على النفوذ.
نقل سوكولوف
Sokolow
هذا الخطاب في كتابه عن تاريخ الصهيونية من سنة 1600 إلى سنة 1918، ونقل معه التصريح الذي أعلنه «نابليون» في الصحيفة الرسمية بعد ذلك بسنة واحدة، ودعا فيه يهود أفريقية وآسيا إلى موافاة جيشه ليدخل بهم في ظل رايته إلى مملكة «أورشيلم».
وقد فشلت حملة نابليون كما هو معلوم، وحبطت معها مشروعات كثيرة، ومنها هذا المشروع. لكن الفكرة لم تزل تساور أذهان الصهيونيين، ولم يزل لها دعاة في القارة الأوروبية، يعالجون تحريكها حيث سنحت لهم سانحة في الرجاء، وقد جاءت الحركة التالية من يهودي متجنس بالجنسية الإنجليزية يسمى السير «موسى حاييم مونتفيور»، ويشتغل بالتجارة في الشرق، وله معرفة بوالي مصر في ذلك العصر «محمد علي الكبير »، وقد كتب في مذكرته بتاريخ الرابع والعشرين في شهر مايو سنة 1839 «أنه سيطلب من محمد علي أن يؤجر له إقليما يزرعه من أرض فلسطين ويؤلف لاستغلاله شركة إنجليزية تؤدي أجرته مدة خمسين سنة ...» ثم تغيرت الأحوال بعد معاهدة سنة 1840 وإخراج فلسطين من حوزة محمد علي، فقنع الرجل بوعد من بالمرستون بحماية اليهود في البلاد التركية، واستأجر في سنة 1854 أرضا في صغد؛ لإقامة نحو خمسين أسرة إسرائيلية.
وكما اتفق في سنة الحملة الفرنسية توجيه تلك الدعوة التي أشرنا إليها، اتفق كذلك في سنة الاحتلال البريطاني - 1882 - أن جماعة باسم «بيت يعقوب تعالوا نذهب» تألفت في الآستانة لاستئناف المساعي، حيث انتهى بها «موسى حاييم مونتفيور»، وكان اثنان من الإنجليز المسيحيين، هما: اللورد «شافتسبري» والمستر «لورنس أوليفانت» يبذلان المال لتوسيع الأرض التي يزرعها اليهود في فلسطين.
وقد بلغ النفوذ الصهيوني أوج القوة والشهرة بين الإنجليز في تلك الحقبة، وكان رئيس الوزارة الإسرائيلي - لورد بيكنسفيلد - يتولى الحكم من سنة 1874 إلى سنة 1880، وهو الذي اشترى أسهم مصر في قناة السويس من الخديو إسماعيل بعد إعراض الإنجليز زمنا عن المساهمة بكثير أو قليل في شركة القناة، وخطابه إلى الملكة فكتوريا عن هذه الصفقة يدل على كثير؛ حيث يقول:
الآن تمت، وهي في يديك سيدتي ... أربعة ملايين من الجنيهات ... وتكاد تؤدى فورا، ولم يوجد غير بيت واحد يعقدها، هو بيت روتشيلد ... لقد سلكوا مسلكا عجبا، بذلوا المال بفائدة قليلة، وباتت حصة الخديو كلها اليوم ملك يديك سيدتي ...!
وقد مر بنا في هذه العجالة أن دزرائيلي - أي اللورد بيكنسفيلد - قد اشترى الصفقة في غيبة البرلمان وبغير إذنه، وهي مجازفة نادرة في تاريخ السياسة البريطانية.
ودزرائيلي هذا هو المؤلف المشغول بالحملة على الشرق وفلسطين وسيناء، أحد أبطاله في رواية «تانكرد» أو «الحملة الصليبية» الحديثة يتلقى الوحي والبشارة في سيناء، وبطل آخر من أبطاله الصهيونيين في رواية «كوننجزبي»
Coningsby
يقول:
إن الثورة العتية التي تتأهب هذه الآونة في ألمانيا ... ولا يعرف في إنجلترا حتى الساعة إلا القليل عنها، تجري بأعين اليهود الذين كادوا أن يستأثروا بكراسي التعليم في بلاد الألمان ... فأنت ترى يا عزيزي كوننجزبي أن الدنيا يتولى حكمها أناس آخرون غير هؤلاء الذين يتخيلهم من لا ينظرون فيما يجري وراء الستار.
وقد زار دزرائيلي مصر زيارة استطلاع وجاس خلالها من الإسكندرية إلى الشلال.
أما روتشيلد فهو القائل: «لا يهمني إذا صرفت مال أمة من يضع لها قوانينها!» وبيت روتشيلد هو صاحب الدين المضمون في مصر، وهو الذي وفق بفروعه المتشعبة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بين دزرائيلي وبسمارك. وأصحاب الديون من الألمان اليهود هم الذين جعلوا وزير ألمانيا يتوسط للتوفيق بين الإنجليز والفرنسيين في المسألة الشرقية، على طريقة المقايضة.
وقد تتراءى لنا أهمية العمل الذي أقدم عليه دزرائيلي بتشجيعه بيت روتشيلد على إقراض الخديو، إذا عرفنا أن حملة الاحتلال قد حدثت في عهد وزير الأحرار غلادستون، وأن غلادستون كان معارضا في الاحتلال، وقد استقال أحد وزرائه استنكارا لضرب الإسكندرية. ولكن قروض روتشيلد وغيره قد صورت المسألة بصورة الحيطة لحماية حق الدائنين، وأضيفت إليها حماية أرواح المسيحيين المهددين، فحدث على يد وزير الأحرار «القديس» ما كان خليقا أن يحدث على يد الوزير المحافظ بيكنسفيلد، أول من سمى الملكة فكتوريا بإمبراطورة الهند، وأوشك أن يجعل من ألقابها الرسمية «حامية الملة» ليصبح من حقها يوما ما أن تشرف على طريق الهند باسم المال واسم الدين.
والشائع على الألسنة أن دزرائيلي عرضت له فرصة شراء الأسهم المصرية، فأسرع إلى اغتنامها على غير تدبير سابق في هذه الصفقة ولا في غيرها من صفقات أسهم القناة، غير أن الواقع أن شراء الأسهم كلها أو معظمها أو بعضها كان من الخواطر الملازمة لتفكير دزرائيلي من قبل سنوح هذه الفرصة. وكان هذا السياسي على الدوام من وراء المضاربات المالية التي كان يراد بها استدراج حملة الأسهم إلى بيعها بالسعر البخس في أزمات العملة التي كانت تلعب بالنقد وأسهم الشركات في أيام الحروب والفتن، وقد سعى جهده عند دلسبس لبيع الأسهم الفرنسية للحكومة الإنجليزية مغريا له بالمعونة الدولية التي تضمنها شركة القناة إذا تعددت الحكومات التي تنتفع بها. وكان دلسبس يميل إلى عقد الصفقة معه ويتردد في طرق أبواب لندن بعد إغلاقها في وجهه مرات في أيام وزارة غلادستون، وبعد أن تبين له أن وزراء الإنجليز - ومنهم اللورد دربي - لا يرحبون بصفقة من هذا القبيل. ولما حصل دزرائيلي أخيرا على الأسهم المصرية لم يكتم محاولته السابقة ولا مقاصده التالية في تصريحه أمام مجلس النواب بجلسة الحادي والعشرين من شهر فبراير سنة 1876، فقال: «إنني لم أزل من زمن أوصي بالحصول على أسهم القناة، وقد عقدتها صفقة مالية وسياسية واعتبرتها صفقة لازمة لتمكين الإمبراطورية، وهذا الذي أعنيه اليوم وقد ارتاحت إليه البلاد التي تفهمني جيدا وتقبلته بالغبطة والسرور، أما الذين انتقدوني من أجل هذه الصفقة فهم كما يخيل إلي لا يفهمون المسألة على هذا الوجه.» •••
من هذا القبيل أثر النفوذ الصهيوني في السياسة الدولية، وفي المسألة المصرية على الخصوص: اتفاق في الغرض واغتنام للفرصة، وتوزيع للعمل بين دوائر السياسة والمال في مختلف الجهات.
الدولة العثمانية
من مقدمات ضرب الإسكندرية التي تتعلق بالدولة العثمانية ما هو متقدم يرجع إلى تاريخ فتح مصر، وما هو متأخر يرجع إلى يوم الضرب نفسه أو قبله بيوم واحد، وتتلخص هذه المقدمات فيما يلي: (1)
إضعاف موارد الثروة. (2)
الامتيازات الأجنبية. (3)
مسألة وراثة العرش. (4)
الاشتراك في الحروب. (5)
موقف الدول من حوادث الثورة العرابية.
فمصر كانت غنية قوية قبل الفتح العثماني، وقد هزمت الجيوش العثمانية أكثر من مرة في الشام وعلى الحدود المصرية. وكانت على الرغم من تحول التجارة إلى البرتغال قد احتفظت بحصة كبيرة من أرباح التجارة البرية، وبقيت فيها صناعات نفيسة يشتغل بها ألوف من العمال وتدر الرزق على ألوف من التجار. فلما فتحها السلطان سليم أخذ معه نحو ألف «معلم» من معلمي هذه الصناعات، وترك المماليك يتنازعون الأقاليم ويعتمدون على النهب والتسخير ومضاعفة المكوس على القوافل التجارية، فكانت حالة مصر في أيام المماليك مقدمة للحملة الفرنسية، فالمناورات السياسية بين فرنسا وإنجلترا لاحتلال مصر أو تغليب النفوذ فيها.
أما الامتيازات الأجنبية فقد تورطت فيها الدولة العثمانية بعد فتح مصر ببضع عشرة سنة، فعقد السلطان «سليمان القانوني» أولى معاهداتها مع «فرنسوا» ملك فرنسا سنة (1535)، وكانت الرغبة في استئناف طرق التجارة الشرقية في بلاد الدولة أهم دواعيها والمغريات عليها، ولم يكن ذلك مما يعني الترك يوم كانت مصر والشام في أيد غير أيديها.
ومسألة وراثة العرش قد نشأت في مصر وتركيا في وقت واحد، ولكنها تمت في مصر ولم تتم في تركيا إلى أن فارقها آخر خليفة من بني عثمان.
وكانت التقاليد العثمانية في وراثة العرش أن يتعاقب العرش الأكبر فالأكبر من أمراء الأسرة المالكة، ولم يكن «محمد علي الكبير» يشغل باله بتعديل هذا النظام؛ لأن ابنه الأكبر إبراهيم كان أكبر الأمراء بطبيعة الحال، ولعله كان ينوي أن يقرره على أساس ثابت لولا المرض الذي أصابه في أخريات حياته فاضطره إلى الاعتزال.
وقد بدأ الخلاف بين إبراهيم وعباس الأول ابن أخيه طوسن، فخاف عباس على نفسه وسافر إلى الحجاز، فلما استدعي للولاية بعد وفاة إبراهيم ضيق الخناق على أبناء أخيه جميعا، واتهم إسماعيل بقتل أحد خدمه؛ لأنه علم أن الأمراء متفقون على شكايته إلى السلطان، فأراد أن يشعره بمقتهم عنده، وقد سافر الأمراء فعلا إلى الآستانة وبقي إسماعيل فيها بعد عودة إخوته إلى القاهرة والإسكندرية.
وقد عرف في عهد عباس أنه كان يسعى لتعديل نظام الوراثة واختيار ابنه الأمير «إلهامي» وليا لعهده، وفي سبيل موافقة الدولة على هذا التعديل أفرط في الخضوع لمطالبها وسير الجيوش المصرية إلى نجدتها في حربها مع الروسيا. ولكنه لم يوفق لتعديل نظام الوراثة، وفوجئ بالقتل قبل تحقيق رجائه، وقيل: إن لمقتله علاقة بمسألة الوراثة، وإنه دبر في الآستانة.
وبعد إخفاق الحركة التي قام بها محافظ العاصمة لإقامة «إلهامي باشا» على العرش آلت الأريكة إلى «محمد سعيد باشا»، فحدثت في أيامه حادثة فاجعة غيرت ترتيب المرشحين لولاية العهد؛ وهي حادثة غرق الأمراء في كفر الزيات لإهمال ربط المركبات على القنطرة المتحركة، ونجا «إسماعيل» من الغرق لأنه استدعي في اللحظة الأخيرة قبل سفر القطار من الإسكندرية.
وبقي من الأمراء، مرشحان لولاية العهد، «مصطفى فاضل بن إبراهيم» و«عبد الحليم بن محمد علي» - وكان لنحافته قد تمكن من مغادرة المركبة الغارقة من إحدى نوافذها - فاستطاع «إسماعيل» لأسباب كثيرة أن ينقل ولاية العهد إلى أكبر أبنائه «محمد توفيق»، ومن هذه الأسباب أن السلطان «عبد العزيز» نفسه كان يفكر في تعديل نظام الوراثة، وأن إقامة «إسماعيل» في الآستانة عرفته بأصحاب النفوذ فيها وفتحت له مسالكها.
وقد كان تعديل نظام الوراثة مريحا لأولياء الأمر في مصر، متعبا لهم في الآستانة؛ لأن الأمراء المحرومين لجئوا إليها ودأبوا على خلق المشكلات لإسماعيل وأبنائه، وتحريض السلاطين والصدور - رؤساء الوزارات - عليهم في كل مناسبة، وقد كانت الدول الأجنبية تستغل هذه المشكلات وتتذرع بها لتهديد الخديويين والسلاطين على حسب المصالح والأهواء.
وقد دعت الدولة ولاة مصر من عهد «محمد علي» إلى عهد «إسماعيل» لنجدتها في حروبها، فكانت نجدة مصر من الأسباب التي جعلت الدول تتواطأ على إضعاف جيشها وتقييد عدده وعدته، وتأييد السلطان في سياسة إضعاف الجيش المصري بعد هزيمة تركيا أمام الحملات المصرية. وقد كانت إنجلترا تحذر سلاطين آل عثمان من تجريد الحملة على مصر اكتفاء بالقيود التي تفرض على جيشها.
أما موقف الدولة العثمانية من الثورة العرابية، فقد كان خطة مرسومة ولم يكن - كما قال بعض المؤرخين الأوروبيين والشرقيين - جريا على عادتها في التردد والتناقض بين ساعة وأخرى.
فإنها أرادت عند خلع «إسماعيل» أن تغير نظام الوراثة وحقوق الخديوية المصرية، فلم توافقها الدول الأوروبية. فلما نشبت الثورة لم تقبل الدولة أن ترسل جيشا من عندها لقمعها؛ لأنها كانت تنقم من الخديو «توفيق» موالاته لإنجلترا وفرنسا، وكانت تعلم من الأمراء العلويين في الآستانة أن «أحمد عرابي» يفضلهم على الخديو وأنهم هم يقبلون ولاية مصر بشروطها التي تريدها الدولة، فأحجمت عن إرسال الجيش التركي عند طلبه انتظارا للنتيجة. ورأت أن مصلحتها في ترك الخديو وشأنه أجدى عليها من تأييده ثم الجلاء على الأثر كما اشترطت عليها الدول الأجنبية .
وكانت دوائر الآستانة ترجح أن الدول تمنع انفراد واحدة منها باحتلال مصر، وزادها ترجيحا لذلك أن الأسطولين الإنجليزي والفرنسي يرسوان معا في ميناء الإسكندرية. وقد اعترضت على المؤتمر الدولي الذي انعقد في الآستانة لدرس المسألة المصرية، فقاطعته إلى اليوم التاسع من شهر يوليو. ثم نمى إليها خبر عن تردد فرنسا وإخلائها الطريق لإنجلترا، فأبلغت مؤتمر الآستانة عزمها على الاشتراك فيه من الغد، فأسرعت إنجلترا إلى ضرب الإسكندرية قبل أن تعلن الدولة عن خطة تحمل الدول على إسناد الأمر إليها وكف يد الإنجليز عن الانفراد بعمل حربي في الإسكندرية، وبعد ضرب الإسكندرية بأسبوعين أعلن «الباب العالي» عزمه على إرسال جيش إلى مصر لإعادة النظام.
ترى لو أن الدولة العثمانية أرسلت جيشها إلى مصر، أكانت تمنع الاحتلال البريطاني بعد أن أحكمت بريطانيا تدبيرها له وأعدت عدتها أعواما طوالا لوضع قدميها في وادي النيل؟
إن الذي حدث بعد ذلك يدل على أن إنجلترا كانت وثيقة العزم على صد الجيش التركي عن النزول في مصر بكل حيلة مستطاعة، فلما تأهب الباب العالي لإرسال جنوده اشترطت عليه إنجلترا شروطا عدة، منها: ألا تزيد الحملة على ستة آلاف جندي إلا بعد موافقتها، وأن يكون نزولها في رشيد أو أبي قير أو دمياط ولا ينزل منها أحد بالإسكندرية أو بورسعيد، وأن تكون أعمال الجيش التركي وجيش الاحتلال الإنجليزي باتفاق القائدين، وأن يبرح الجيشان مصر في وقت واحد.
وقبل أن يتفق الطرفان، نشرت صحيفة التيمس كلمة، قالت فيها: إن الحكومة الإنجليزية وقعت على رسالة من السلطان إلى عرابي تؤكد استمرار الوفاق بينهما على خطة مجهولة، وأخذ الإنجليز يتحدثون عن خطر اتفاق الجيش التركي والجيش العرابي إذا اجتمعا بمصر، وكان هذا التلويح هو «الدفع الاحتياطي» الذي تدخره السياسة الإنجليزية لمنع الجيش التركي من النزول بمصر لو أذعن السلطان للشروط المفروضة على حركات جيشه وسكناته في الديار المصرية.
فإنجلترا كانت تطلب الجيش التركي وتشترط عليه الشروط التي تعلم أنه يأباها، وتستعد في الوقت نفسه بالحيلة التي تتوسل بها لصده في حالة القبول.
وغاية ما ينتظر من هذه المراوغة أنها كانت تؤجل المكيدة بضعة شهور.
جنود وموظفون
إذا كان موضوع الكلام تاريخ ثورة أو تاريخا يتعلق بالثورة ومقدماتها وجرائرها، فمن أمهات المسائل التي يدور عليها البحث بصفة خاصة، مسألة السلطة ومن يتولاها من الموظفين المدنيين والعسكريين؛ لأن خروج الأمر من أيدي السلطة هو الثورة أو هو الحالة التي تؤدي إليها؛ وقد كانت الثورة العرابية على الخصوص وثيقة العلاقة بمسألة السلطة في الديار المصرية، على نحو لم يعرف له نظير في ثورات الأمم الحديثة، فكان «نظام» التجنيد والتوظيف علة مباشرة من علل اختلال النظام.
كان الموظفون العسكريون والمدنيون في مصر طائفة غريبة عن الأمة المصرية، فلم يكن بينهم وبين المحكومين تفاهم في اللغة ولا تقارب في العادات والأخلاق، وهذه الغرابة وحدها كافية لدوام النفرة بين الرعاة والرعايا، أو هي في الواقع حالة ثورة كامنة في انتظار الثورة الفعلية، كلما تهيأت لها دوافع الانفجار.
لم يكن نظام التوظيف هذا مقصودا في بادئ الأمر كما وقع في وهم بعض المؤرخين، بل لعله كان نظاما مكروها دعت إليه الضرورة القاسرة؛ لأن المماليك الذين حكموا مصر بعد الدولة الأيوبية كانوا يجهلون اللغة العربية إلا القليل منهم، وكانت مخاطباتهم كلها باللغة التركية وموظفوهم كلهم من العارفين بها ما عدا صيارفة البلاد ومحصلي الضرائب، فكان احتكار الوظائف الكبرى للترك والأمم الشرقية التي تتكلم بلسانهم ضرورة تفرضها «الظروف» ولا يقصدها الحاكمون على نظام مرسوم. وتكاثرت من ثم طوائف الغرباء الذين يتولون الحكم أو يستأثرون بالثقة والحظوة عند الحكام، فكان منهم الترك والشراكسة والألبانيون والأرمن واليونان، وغيرهم من رعايا «الدولة العلية» المحسوبين من العثمانيين.
وليس من النادر في هذه الأحوال أن تصبح العادة تقليدا متبعا، وأن يصبح التقليد «مصلحة محتكرة» يغار عليها المنتفعون بها ويعملون ما في وسعهم لاستبقائها ويشفقون من زوالها مع الزمن كلما لاح لهم أنها في خطر من المزاحمين والمتطلعين. ومن هنا تنجم العداوة بين الغرباء وأبناء البلد لعصبية المنفعة مع عصبية الجنس واللسان. وقد تمكن هذا «التقليد» في دواوين مصر حتى أصبح من المضحكات التي لا تعقل لولا أنها مكتوبة محفوظة في سجلات الدواوين، فمن الأوامر التي أصدرها «كتخدا باشا» في سنة 1265 هجرية (1849م) أن يرسل المستخدمون بالممالك المحروسة لحاهم كما هو جار في دار السعادة، وعليهم - كما جاء في الأمر - «أن يرسلوا لحاهم حينما تظهر ولا يحلقوها وأن ينفذوا هذا الأمر حالا على أثر تبليغهم إياه!»
وفي عهد «محمد علي الكبير» بدأ تعليم المصريين في المدارس العصرية، وصدرت الأوامر المشددة باختيار النوابغ من طلاب الجامع الأزهر لإتمام الدراسة في مصر والبلاد الأوروبية، فكان لهم نصيب من الوظائف العلمية وبقيت وظائف «التنفيذ» في أيدي العسكريين وحكام الإدارة من الغرباء. وقد سار التطور الحديث بطيئا على الخصوص في الوظائف العسكرية، فكان «أحمد عرابي» زعيم الثورة أول ضابط مصري ترقى إلى رتبة «قائم مقام»، وظل في هذه الرتبة تسع عشرة سنة بغير ترقية؛ لأن رؤساءه نظروا إليه نظرتهم إلى المقتحم الدخيل في هذه الرتب التي كانت مقصورة قبله على الغرباء. ومن مفارقات الزمن أن الأمر الذي صدر بإنصافه بعد تكرار شكواه كتب إليه باللغة التركية، بما معناه أن قد عفي عنه من عقوبة التأخير، وتلقاه «ديوان جهادية ناظري» بالعبارة الآتية:
6 جي بيادة سابق قائمقام أحمد عرابي بك أشبوعر ضحال منظورم أولدي خطا سني عفوا يتمشى أولد يغمدن حاله مناسب خدمة ظهورنك استخدام ايتدير لمسي حقنده إيجابتي أجرا إيتمكز أيجون أشبو أمرم إصدار قلندي ...
وقد عرف عن «محمد سعيد باشا» والي مصر بعد «إبراهيم باشا الكبير» أنه كان شديد الميل إلى توظيف المصريين وتقديمهم في المراكز العليا بالقاهرة والأقاليم، ومن أوامره الأولى بهذا الصدد يتبين أن هذا التطور جرى على سبيل التجربة التي يتوقف المضي فيها على نتائجها، لأنها أول تجربة من قبيلها، وهذه صورة أمر منها صدر في سنة 1273 هجرية (1856) على سبيل الاختبار والإعذار؛ حيث يقول بعد الديباجة: ... قد سنح لخاطرنا أن أجعل الحكام ممن يوثق باعتمادهم في الأمور الدينية والمدنية من عمد أبناء العرب بنواحي المديريات مع أبناء الترك على سبيل التجربة وإبراز ما انطووا عليه من الثمرات المقصودة بالذات أو ضدها، هنالك يكون الإقدام على تقدمهم أو تعيين تأخرهم عن برهان واضح، فابتدأنا بتنصيب اثنين من عمد نواحي مديرية المنيا وبني مزار نظار أقسام وجعلناهما موقعا للتجربة، وأمرنا مدير الجهة المذكورة بتنصيب جانب من العمد حكام أخطاط، والآن قد تعلقت إرادتنا أن يكون حصول ذلك عموما بسائر الأقاليم، فأصدرنا أوامرنا إلى المديرين عموما، وهذا إليكم لتنتخبوا من عمد أبناء العرب المجربين الأطوار المتصفين بحسن الاستقامة والسياسة من يليق للتقدم لمناصب الحكومة وترتبوا نظار أقسام مديريتكم على الثلث منهم بأن يكون اثنان منهم نظار أقسام.
ولم يأت عهد إسماعيل حتى كان الفريقان قد انساقوا إلى موقف التناحر السافر والاصطدام العنيف: تزايد المصريون الصالحون للمناصب فطالبوا بحقهم واعتزوا بكرامتهم، واقترب الخطر من مراكز الغرباء فأصابهم مثل الجنون من رعونة الغيظ والخوف وحماقة الغطرسة والعصبية، وبلغ سوء الظن غايته من نفوس الفريقين، فأوشكت حوادث الإساءة ورد الإساءة أن تكون حوادث كل يوم وكل ديوان.
جاء في كتاب «مصر المسلمة والحبشة المسيحية»، كما روى صاحب كتاب «مصر في عهد إسماعيل باشا»: «اتفق لملازم أول مصري والجيش معسكر في قرع قبل واقعة 7 مارس أن عثمان بك آلايه الشركسي ضربه ذات يوم بدون سبب وبدون ذنب، فرفع الملازم شكواه من ذلك إلى السردار راتب باشا وبينها بيانا مفصلا، فلم يلتفت السردار إليها وضرب بها عرض الحائط، فرأي الملازم أن ضربه وهو ملازم لا يتفق مع الكرامة المطلوبة له، والتي تطالبه نفسه بها ولا مع هيئته في نظر مرءوسيه فتخلى عن وظيفته ورجع إلى الصف بصفته جنديا بسيطا ... ولكن أمير آلايه الشركسي عد عمله هذا خارجا عن حدود الأدب العسكري ومستوجبا عقابا صارما يردع غيره عن الاقتداء به، وشاطره راتب باشا رأيه، فما استقر في حصن ممر قياخور إلا وأمر بذلك الرجل الأبي، فسيق أمام مجلس حربي وحوكم محاكمة أصولية على زعمهم فحكم المجلس عليه بالموت تحت الرصاص ونفذ الحكم فيه.»
وروى المصدر نفسه: «أن قائم مقام مصريا شعر بتوعك في مزاجه، والتمس من القائد إسماعيل باشا الشركسي التصريح له بالبقاء في الحصن حتى يشفى، فأبى عليه ذلك زاعما أن مرضه ليس مما يستوجب الإمهال، فألح قائم المقائم، لا سيما أن الرفض الصادر من رئيسه زاد فعلا في وطأة الداء على جسمه، فأمر إسماعيل باشا طبيب الفرقة بالكشف عليه، واستعمل في أمره ألفاظا أدرك الطبيب منها أن الباشا يرتاح إلى تقرير لا يكون موافقا للمريض، فكشف عليه وقرر أن المرض ليس ذا بال، فما كان من الباشا إلا أنه ذهب بنفسه إلى خيمة ذلك القائم مقام وأمر باقتلاعها وقلبها على رأسه، وحتم أن يسير الرجل مع أورطته مشيا على قدميه، فازداد المرض ثقلا على المسكين وحال دون تمكنه من الاستمرار على المشي، فتأخر عن أورطته، فأمر إسماعيل باشا الشركسي بتجريده من رتبته وتنزيله إلى الصف نفرا بسيطا ففعل، ولكن ذلك لم يشف غليله كأنه كان بينه وبين ذلك القائم مقام ثأر قديم، فلما استقر الجيش العائد من قرع في قياخور طلب محاكمته أمام مجلس عسكري فحوكم وحكم المجلس عليه بالإعدام فأخذوه وأجلسوه على الأرض موثق الركبتين مغلول الكوعين وراء كتفه، وأطلقوا عليه الرصاص فجرح جروحا عدة ولكنه لم يمت، فكلف باشجاويش بالإجهاز عليه، فقتله جبرا.»
هاتان حادثتان رواهما رجل أجنبي، واخترناهما من مئات الحوادث لأنهما وقعتا في أثناء حرب - هي حرب الحبشة - حيث تجري العادة دائما باصطناع الحسنى وتكلف المودة بين الرؤساء والمرؤسين، فيقاس عليها ما يجري في أوقات السلم التي لا مبالاة فيها بالمحاسنة والتودد ويتخيل القراء ألوانا من أمثال هذه المظالم تتكرر في كل يوم وتسري أخبارها إلى كل بيئة، ويقضي العمل فيها بالتعاون بين أناس ينطوي بعضهم لبعض على مثل هذا الشعور.
وقد طرأ على الموقف في أواخر عهد إسماعيل طارئ آخر من طوارئ الحرج والنزاع، وهو امتلاء الوظائف الكبرى في دواوين السكة الحديد والموانئ ووزارة المالية ووزارة الأشغال بالموظفين الأوروبيين الذين جاء بهم المراقبون الأجانب ليضمنوا سداد الديون من موارد تلك الدواوين، وفرضوهم على كل ديوان ينظمون موارده ومصارفه؛ لأنهم أعلنوا أنهم لا يضمنون حسن العمل ولا انتظام المورد والمصرف في مصلحة حكومية ما لم يكن فيها أناس يثقون بهم ويعولون على اجتهادهم وخبرتهم، فشجر بين هؤلاء الموظفين وبين الفريقين من موظفي الحكومة المصريين والشرقيين خلاف دائم يحال في كل مرة على مرجع من مراجع السلطة العليا، وهي موزعة بين المراقبين الأوروبيين وبين الشرقيين الغرباء وبين المصريين المغضوب عليهم من هؤلاء وهؤلاء.
وكأنما كانت هذه المحرجات المتراكبة بحاجة إلى مزيد من دسائس السياسة، فجاءت هذه الدسائس من كل صوب، وجعل الرؤساء يضربون كل طائفة من هذه الطوائف بغيرها، ويقربون هذه يوما ويقربون تلك يوما آخر وفقا لأهواء الساعة، فكانت السلطة التي يوكل إليها حفظ النظام هي مصدر الفوضى التي تخل بكل نظام.
وابتدأ عهد الخديو توفيق والحالة تتأزم والحرج يتفاقم ويتجسم، وشاع فيما شاع أن أصحاب المناصب الكبرى ينقسمون إلى فريق يرحب بالعهد الجديد، وفريق يعمل على إعادة عهد إسماعيل أو عهد أمير من الأمراء المقيمين في الآستانة بعد تحويل الوراثة إلى سلالة إسماعيل، فانتشرت الريبة وسوء الظن في كل بيئة من بيئات الحكومة، وعمل المتنافسون غاية ما في طاقتهم للإيقاع بمنافسيهم. وكان على وزارة الحربية ناظر شركسي زعم أنه يقمع الفتنة في مكمنها، فأمر بمنع الترقية من تحت السلاح - أي من صف الجنود - بامتحان أو بغير امتحان، وفرق رؤساء الكتائب المصريين ليتمكن من إخضاعهم وتشتيت شملهم، فلما اجتمعوا ولجئوا إلى الشكوى عوملوا معاملة المتمردين وسيقوا إلى المحاكمة بحيلة من الحيل، فقيل لهم: إنهم مدعوون إلى وليمة وأخذوا في ثكنات قصر النيل على حين غرة، فهجم زملاؤهم على الثكنات لإنقاذهم، وحدثت للمرة الثانية في مدى سنوات قليلة مظاهرة عسكرية تتحدى أوامر الرؤساء.
وبات كل فريق على حذر، واشتد الحذر كما يشتد على الدوام مع الريبة والتحفز وفساد النية، فسرى من الدواوين إلى البيوت، واتهم الخدم بدس السم للمخدومين وخامرت الظنون رؤساء الكتائب فأصبح كل اتصال بين ضباط من ضباطهم وبين رجال الكتائب الأخرى محلا للريبة والاشتباه. ولما حوكم فريق من الضباط الشراكسة لاتهامهم بالتآمر على اغتيال الضباط المصريين، استكبر الخديو توفيق عقوبتهم واستبدل بها - بعد مشاورة الآستانة - عقوبة أخف منها كالنفي والاستيداع. كذلك كانت علاقة السلطة بين موظفيها وجنودها ... أما المحكومون بتلك السلطة فكانوا ضحية النزاع الدائم وعرضة لسطوة كل فئة من الموظفين تنافس غيرها في القدرة على تحصيل الضرائب أو جمع «القرض» بعد استيفاء الضرائب أو استنباط الحيلة لتقديم الأقساط في مواعيدها، ومنها ثمن الإعفاء من السخرة كما تقدم أو ثمن الإعفاء من الجندية، مع العلم بأن عدد الجيش محدود وأن الحكومة لا تحتاج إلى جنود.
نهضة الإصلاح
شاعت الثورات وحركات الإصلاح في الغرب والشرق خلال القرن التاسع عشر، وقيل في تعليلها: إنها عدوى الثورة الفرنسية التي بدأت في القرن الثامن عشر، ولم تزل تتجدد إلى ما بعد سقوط نابليون الكبير فنابليون الصغير.
ومهما يكن من أثر العدوى بين الأمم - وهو أثر محقق لا جدال فيه - فمن النادر جدا، إن لم يكن من المستبعد عقلا، أن تثور أمة لمجرد العدوى وحب التشبه بغيرها، فلا بد لكل ثورة من بواعث متعددة في أحوال الأمة نفسها تساعدها العدوى على الظهور.
وهكذا كانت الحال في مصر من منتصف القرن الثامن عشر، بل ربما خصت مصر باجتماع طائفة من بواعث السخط لم تجتمع قط في أمة واحدة في وقت واحد، فتضافرت البواعث السياسية والوطنية والمعيشية والفكرية وكل باعث يوغر الصدور على إزعاج الأمة المصرية.
ونفى الأمن والطمأنينة عن نفوس أبنائها طغيان الدول الأجنبية ومساوئ الامتيازات التي بلغت القحة بأصحابها أن يحسبوها فرصة لاستذلال المصريين بغير داع وفي غير مصلحة معروفة، وأثقال الضرائب والقرض والسخرة والمصادرات التي استنفدت الأرزاق في زمن قلت فيه المحاصيل والمرافق وتتابعت فيه الأوبئة ونوبات القحط تارة والفيضان تارة أخرى، واختلال الحكم وتنازع السلطة بين الحاكمين من الأجانب والغرباء والوطنيين، وجرح الشعور الديني بإباحة المنكرات علانية وتمادي أشرار الأجانب المحميين بامتيازاتهم في التحريض على الفساد بجميع أنواعه، ومنه الفجور والقمار والربا الفاحش وما يقترن بها من الفضائح والمخزيات.
لا عجب في أمثال هذه الأحوال أن ترهف الأمة أسماعها لالتقاط كل دعوة إلى الإصلاح ولو لم يكن فيها غير الأمل في التغيير.
وقد كانت النهضة الفكرية في إبانها، وكان المتعلمون من أبناء مصر يسمعون أخبار النهضات الفكرية ويتناقلون أفكار دعاتها ومذاهب الساسة والحكماء القائمين عليها. وقد قرأ الكبار والصغار في عهد «محمد علي الكبير» كتاب رفاعة بك بدوي الطهطاوي الذي سماه «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز» وفيه بيان للدستور الفرنسي وحقوق الفرنسيين ومبادئ الثورة وحرية القول والكتابة، ومن ذلك قوله عن الصحف، ننقله بنصه حيث يقول: «أما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه، خصوصا الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات؛ الأولى جمع جرنال، والثانية جمع كازيطة، فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، سواء كانت داخلية أو خارجي؛ أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد بها من الكذب ما لا يحصى إلا أنها قد تتضمن أخبارا تتشوف نفس الإنسان إلى العلم بها على أنها بما تضمنت مسائل علمية جديدة التحقيق أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير. لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحقتر الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير، فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها، وقال الشاعر:
لما سمعت به سمعت بواحد
ورأيته فإذا هو الثقلان
فوجدت كل الصيد في جوف الفرا
ولقيت كل الناس في إنسان
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلا عظيما أو رديئا وكان من الأمور المهمة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلوما للخاص والعام لترغيب صاحب العمل الطيب ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلوما من إنسان كتب مظلمته في هذه الورقات فيطلع عليها الخاص والعام، فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها ولا تبديل ، وتصل إلى محل الحكم ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر.»
وكانت لرفاعة بك منظومات وطنية منها أناشيد تناسب ذلك العصر، وفي أحدها يقول مخاطبا الجنود:
هيا انتظموا وارقوا الأوجا
هيا اقتحموا فوجا فوجا
هيا التحموا عند الهيجا
هيا هيا سونكي دوران •••
لا تعطوا الأعدا مقودكم
لا ترضوا أن يستبعدكم
والله تعالى أسعدكم
بقتال وهزم ذوي الطغيان
للحرب هلموا يا شجعان
حب الأوطان من الإيمان
ولبثت هذه الأفكار أكثر من أربعين سنة تسري في الأذهان وتتغلغل في الطوايا ويتوارد عليها في كل فترة مدد جديد من أفكار الناشئين في مدارس مصر والعائدين من المدارس الأوروبية والمطلعين على الكتب المؤلفة والمترجمة، وتواتيها بواعث النفوس القلقة والخواطر المتحفزة فتندفع كل يوم إلى غاية لا محيد عنها.
ثم وفد إلى مصر مصلح الشرق العظيم «جمال الدين الأفغاني» (مارس 1871) فوجد العقول مهيأة لقبول دعوته. وأقام فيها سنوات ثمانيا يعلم ويخطب ويستنهض الهمم ويلقى الكبراء والرؤساء، وينصح لهم بتنظيم الحكومة على القواعد الدستورية ويحض تلاميذه على الكتابة والخطابة، ومنهم أمثال: محمد عبده وسعد زغلول واللقاني وعبد الله نديم وأديب إسحاق، فكان كالقائد الذي جاء في حينه لحشد القوى المتفرقة وتوحيد وجهتها وإلهاب الحماسة والنخوة في نفوسها. وقد جمع في محفله الماسوني نحو ثلاثمائة عالم ورئيس، منهم ولي العهد «محمد توفيق» و«أحمد عرابي» القائد المشهور.
قال تلميذه الأكبر الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» في وصف هذه النهضة وأثرها في نفوس طلابه: «كانوا ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصا في القاهرة. كل ذلك والحاكم القوي في علو مكانه أرفع من أن يناله هذا الشعاع في ضعف شأنه. وما زال هذا الشعاع يقوى بالتدريج البطيء، وينتشر في الأنحاء على غير نظام إلى أن نشبت الحرب بين الدولة العثمانية ودولة روسيا (1887) ... وجد الناس من نفسهم لذة في الاطلاع على ما يكون من شأن الدولة العثمانية صاحبة السيادة عليهم مع دولة روسيا. فتطلعوا إلى ما يرد من أخبار الحرب، وكثرة الأجانب في هذه البلاد سهلت ورود الجرائد الأوروبية إلى طلابها من الأوروبيين، ومخالطتهم للعامة والخاصة مهدت الطريق إلى العلم بما فيها. وسرى هذا الشعور إلى بعض الجرائد العربية التي كانت لا تزال إلى هذا العهد مقصورة على ما لا يهم، فانطلقت في إيراد الحوادث. فوجد في الناس الناقم على تلك الجرائد والناصر لها، وحدث بين العامة نوع من الجدال لم يكن معروفا من قبل. ثم استحدثت جرائد كثيرة لمباراة ما سبقها في نشر الأخبار ومناوأتها في المشرب، واندفعت الرغبات إلى الاشتراك فيها إلى حد لا يمكن منعه، وقضى سلطان الوقت على سلطان الإرادة القاهرة.
ولم يكن ما ينشر في الجرائد محصورا في حوادث الحرب بل اجترأ الكثير منها على نشر ما عليه سائر الأمم في سيرتهم السياسية والمعاشية وزادوا على ذلك نشر ما كان قد بدأ في الحكومة المصرية من سوء الأحوال المالية. وأخذ جمال الدين في حمل من يحضر مجلسه من أهل العلم وأرباب الأقلام على التحرير وإنشاء الفصول ... وأخذت الحرية الفكرية تظهر في الجرائد إلى درجة يظن الناظر أنه في عالم خيال ...»
ووقع ما لا بد أن يقع من اصطدام بين هذه الدعوة ورجال الحكم من الأجانب والمصريين وأحاطت الدسائس بجمال الدين من كل جانب، وتقرر نفيه من الديار. ودلت شدة الامتعاض منه على استحالة التفاهم بين دعاة الإصلاح ومن يعارضونهم وينفرون من دعوتهم. وكان الخبر الذي نشرته الوقائع المصرية - 31 أغسطس سنة 1879 - تسويغا لنفيه، يدل دلالة كافية على مبلغ ذلك الامتعاض واستحالة التقارب بين من يفكرون على هذا النحو ومن يؤمنون بآراء جمال الدين، وهذا بعض ما جاء في ذلك الخبر السخيف:
لما كان الأمن والأمان، والراحة والاطمئنان، يتوقف عليهما تمام العمران في جمع الممالك والبلدان، ومن أنجح الأبواب وأصلح الأسباب، التي بها نجاح الممالك، وسلوكها في أقدم المسالك، قطع دابر المفسدين الساعين فيما يضر بالدنيا والدين ويكون ذريعة للطائشين المتظاهرين بين الناس بمظهر الحرية بدون أساس، البانين ذلك على غير شرع، وأصل ثابت وفرع، وإنما هو مجرد خزعبلات وترهات، وأشراك وأحبولات، نصبوها لاقتناص أمثالهم السفهاء والجهال، الذين هم بمعزل عن معرفة شيء من صالح الأحوال.
إلى أن يقول عن جمعيته السرية: «رئيسها شخص يدعى بجمال الدين الأفغاني مطرود من بلاده ثم من الآستانة العلية؛ لما ارتكبه من أمثال هذه المفسدة في ديارنا المصرية ... وهذا من أكبر ما يغير الأفكار، ويجب أن يعامل مرتكبه بالتشديد والإنكار. فالتزمت هذه الحكومة الحازمة أن تتخذ الطرق اللازمة، وتستعمل السداد في قطع عرق هذا الفساد، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية، ووجهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية ...»
بمثل هذا السخف خيل إلى ولاة ذلك العهد أن يسلكوا أعظم المصلحين أمام التاريخ في زمرة المفسدين، فنقض التاريخ ما أبرموا وجرهم نفي الرجل إلى نقيض ما قدروا، وتسامع عارفوه بنفيه على هذه الصورة المزرية فأخجلتهم الفضيحة واستفزهم الغضب لكرامته إلى إتمام سعيه والدأب على منهاجه. فلما بدأت حركة الانقلاب بعد سنة من تاريخ نفيه كان تلميذه «محمد عبده» إمامها الروحي، وتلميذه «عبد الله نديم» خطيبها المتوقد، وتلميذه «سعد زغلول» قائد الطلبة في مظاهرتها، ثم أفلت الزمام من كل يد فكانت دعوة جمال الدين رحمة إلى جانب الدعوات التي انتشرت في كل مكان على هدى العقل حينا وعلى غير هدى في أحايين.
قال المؤرخ المصري «أحمد شفيق باشا» في الجزء الأول من مذكراته يصف القاهرة في تلك الأيام:
وانقلبت مصر مسرحا للخطباء في كل مجتمع وناد حتى في المساجد، ولم يبق مجلس للسمر أو للاحتفال بعرس أو غيره إلا اقتحمه الخطباء واعتلوا منصة المغنين بعد إقصائهم عنها وغيرهم، حتى لقد سمعت أن محمد عثمان المغني الشهير كان إذا سئل: في أي فرح تغني الليلة؟ أجاب في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم!
وكثيرا ما كان الخطيب يستصحب معه بعض طلبة المدارس، وبعد خطابته يقدم أحدهم إلى الجمع ليخطب فيهم إلى جانبه ، فينبري الطالب مثيرا في الحاضرين الغيرة والحمية، وقد شاهدت عبد الله نديم مرة يقدم فتحي أفندي زغلول الطالب بمدرسة الحقوق ليخطب في حفلة عظيمة وبعد أن جال بخطبته في السياسة كل مجال، أمسك عبد الله النديم بذراعه، وقال للحاضرين:
ألا تعجبون لما أبداه هذا التلميذ في خطبته من العلم والبيان والتفنن في المواضيع مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعا واحدا في خطبته. ... وقدم مرة أخرى في إحدى الحفلات الطالب مصطفى أفندي ماهر فخطب القوم وراقتهم خطبته، فقال عبد الله نديم: أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد على أمرها.
وكان عرابي والبارودي وعبد العال حلمي وعلي فهمي وغيرهم من زعماء الحركة يحضرون أكثر هذه الحفلات ويتصدرونها، فتلقى الخطب والقصائد في مدحهم وتقديسهم وتعداد مناقبهم ولا ينصرفون عنها إلا بالتهليل والتكبير، فإذا انتهت خرج الناس منها وكأنهم أهل سياسة ورياسة، وأصبح الناس كلهم عرابي وأصبح عرابي الناس كلهم، وانحلت الطبقات، واختلط الحابل بالنابل والعالي بالسافل. وقد كان عرابي يمثل في شكل البطل المنقذ، وقد وزعت صورته في أنحاء البلاد، وهو جالس ينظر نظرات بعيدة وعلى رأسه عبد العال قابضا على سيفه وإلى جانبه علي فهمي وهو يمسك بيده ورقة مطوية كتب عليها «الدستور».
وهكذا سارت الروح العرابية في الأمة بأسرها وجعلت كل الطبقات في صعيد واحد ممتزج بعضها ببعض.
وقد اختلط الحابل بالنابل والعالي بالسافل حقا في تلك الحركة، كما قال صاحب المذكرات، ولكنه اختلاط لم تسلم منه حركة قومية ولا تعاب به الحركات القومية من قبيلها، بل من شروط كل دعوة تتناول الشعوب أن يهتم بها العامة والدهماء، كما يهتم بها الخاصة وقادة الآراء. وقد كانت نهضة مصر في القرن التاسع عشر نهضة قوية وحركة طبيعية لا غبار عليها، ولكنها كانت تخطو في طريقها وأمامها عقبات السياسة كلها خارجا وداخلا تصدها إلى الوراء، وعلى كواهلها أوزار الماضي الثقال تهبط بها إلى الأرض، فتعثرت ولم تنطلق إلى غايتها، ولكننا نحن اليوم لم ننته إلى شيء لم يبدأ فيه طلاب الإصلاح بدايتهم التي لا محيص عنها في ذلك الجيل.
أحمد عرابي
سميت الثورة التي أعقبها الاحتلال البريطاني باسم الثورة العرابية؛ نسبة إلى زعيمها «أحمد عرابي» بطل الحرية والدستور في عصره. وهي نسبة صادقة وتسمية مطابقة؛ لأن زعامة عرابي لتلك الثورة كانت من مشيئة القدر التي لا محيد عنها، فلا حيلة فيها لعرابي نفسه ولا لأحد من أشياعه وأتباعه. وينظر المتأمل في تاريخها فيحار في اختيار اسم آخر يقترن بها ويقوم بأعبائها، فكأنما كانت قرعة ألقاها القدر فوقعت على عرابي دون غيره، وسيقت إليه كما سيق إليها من فعل الحوادث وفعل الزمن وفعل المصادفات التي تتوافى على قدر واتفاق.
لم يكن في الجيش المصري من هو أقدر من عرابي ولا أعرف منه بمطالبه وأحق منه بعرضها والدفاع عنها، وكانت حالة الجيش في ذلك العصر تلخص حالة الأمة المصرية في جملتها.
كان المصريون من الضباط قد برزوا في عهد «محمد سعيد باشا» وفي طليعتهم «أحمد عرابي»، وكان أول ضابط فلاح وصل إلى رتبة قائم مقام وعرف حقه في التقدم بالقياس إلى زملائه من الترك والشراكسة. ونكب الجيش بعد ذلك في حرب الحبشة من جراء عجز القيادة وغيرتهم من مرءوسيهم المصريين الذين أبلوا في تلك الحرب أحسن بلاء وشهدوا بأعينهم خيانة رؤسائهم وتواطؤهم مع الأعداء. فاعتقدوا أن التحقيقات التي أثبتت عليهم تهمة التقصير الشديد على الأقل سوف تنتهي إلى إقصائهم وتأخيرهم وترشيح مرءوسيهم للترقي إلى مناصبهم. فلم يكن شيء من ذلك بل كان نقيضه في مناصب الجيش وفي غيرها من المناصب الكبرى. وتمت البلية بتمكين المقصرين والمتهمين من الانتقام كما يشاءون ممن عرضوهم للملامة والاتهام.
أحمد عرابي باشا.
وقد لبث «عرابي» تسع عشرة سنة في رتبة القائم مقام، ووصل إليه الظلم حيث كان كلما تطلع إلى الإنصاف والمساواة. ومن ذلك أنه حرم نصيبه من الأرض التي أمر الخديو إسماعيل بتوزيعها على الضباط في إقليم الغربية وإقليم المنوفية. وكان الخديو قد دعا ضباط الجيش إلى وليمة عامة ثم أعلن بعد الفراغ من تناول الطعام أنه قد أنعم على كل واحد من الباشوات بخمسمائة فدان، وكل واحد من أمراء الألايات بمائتي فدان، وكل قائم مقام بمائة وخمسين فدانا من زيادة المساحة.
قال «عرابي» في مذكراته: «ولكن عند الشروع في استلام تلك الأطيان ظهر الظلم وتجسم بأكمل معانيه، فقد كان يتوجه كل واحد من المندوبين من طرف المنعم عليهم بأمر من المديرية إلى بلد يختاره من أحسن البلاد تربة، ويطلب تحديد المقدار المعين قطعة واحدة في أخصب حوض من الأراضي المملوكة لأربابها، فيجاب إلى طلبه ثم يحال المالكون الضعفاء على الحيضان الأخرى التي توجد بها زيادة المساحة وقد لا توجد.»
إلى أن قال: «وقد حماني الله من الوقوع في شرك هذه المآثم على غير إرادة مني، وذلك أن خسرو باشا أمير اللواء ... كان رجلا جاهلا متعصبا لجنسه تعصبا زائدا عن حد المعقول. وكان قد أخبرنا ناظر الجهادية إسماعيل باشا سليم - الرومي الأصل - بأني صلب الرأي شرس الأخلاق ... وطلب منه توقيف تسليمي الأطيان المنعم بها علي لحين تحقيق ما افتراه من الكذب، فعرض ناظر الجهادية الأمر على الخديو مشافهة وصدر بناء على ذلك أمر المعية لمديرية الغربية بعدم تسليمي تلك الأطيان.»
ولفقت لعرابي تهمة ثبتت براءته منها بعد أن عرضت أوراقها على «إبراهيم باشا خليل» رئيس قلم العرائض، ولكنه ظل - بعد ثبوت براءته - ثلاث سنوات يتردد على الديوان ويطلب إعادته إلى الخدمة ولا يجاب إلى طلبه، ثم أعيد إلى الخدمة المدنية ولم يصدر الأمر بإعادته إلى الخدمة العسكرية إلا بعد أربع سنوات.
لقد أصاب الرجل كل ما أصاب قومه من الحيف وابتلى الضنك في نفسه وصحبه، وأقامته الحوادث هدفا للاضطهاد من جانب الأقوياء وقبلة للرجاء من جانب الضعفاء. وكان ولا شك رجلا ممتازا بكفاءته وخلقه ملحوظا حيث كان باستقامته واقتداره، ولم يعهد إليه عمل من الأعمال المدنية أو العسكرية إلا أبدى فيه من الاجتهاد وحسن التصريف ونزاهة القصد ما يشهد به المنصفون من رؤسائه وزملائه، وبعض هذه الأعمال غريب عن تربيته ونشأته، كوقاية الجسور وبناء القناطر وتسليم المحصولات، فلم يؤخذ عليه عيب من عيوب الإهمال أو التواني أو الاختلاس التي كانت فاشية في زمنه. ووضحت كفاءته الممتازة لكل من خبروه ولازموه في حياته العامة أو الخاصة. ولا ريب أن الوالي «سعيد باشا» قد لمح فيه هذه الكفاءة الممتازة حين خصه بهدية عجيبة في بابها وأسلوبها ولكنها كبيرة الدلالة في مغزاها؛ إذ أهدى إليه نسخة من سيرة نابليون الكبير مترجمة إلى اللغة العربية، ولم يعرف عنه أنه أهدى مثل هذه الهدية إلى أحد من ضباط جيشه وهم ألوف، وقد تكلم عنه الضابط الأمريكي داي صاحب كتاب «مصر المسلمة والحبشة المسيحية»، فقال: «إنه خليق أن يكون من خيرة الضباط في غير البلاد المصرية.»
ويلوح لنا أن الرجل مخلوق من طينة العبقرية التي يمتحن صاحبها بشقوتها كما يمتحن بنعمتها وفضلها، ففي رأي «لمبروزو» وغيره من علماء المدرسة النفسانية التي عنيت بدراسة الممتازين والنوابغ، أن العبقرية تمتزج بالأعراض العصبية، وقد رأى لمبروزو من دراسة نابليون الكبير نفسه أنه مثل لهذه الطبيعة
Epileptoid Nature
ورأى من دراسة القادة والزعماء أن عقولهم تتقبل البدوات والأعاجيب وتولع بالأسرار والخفايا. ومن قصة عرضية وقفنا عليها في خلال أجوبة عرابي على أسئلة المحققين يظهر لنا أنه لم يسلم من ضريبة العبقرية كما فرضتها الفطرة على نظرائه؛ فقد قال عن حادثة تفتيشه بعد القبض عليه: «صار يفتشني حتى أخرج الجزمة من قدمي وفتشها أيضا فلم يجد معي شيئا إلا جملة أحجبة كانت تحت ملابسي، وهي ليست بشيء وإنما كان حملها بسبب أن أولادي كانت تموت بداء التشنج في حال الصغر ولم تجدهم نفعا أدوية الحكماء، ففزعنا - وعلى حسب اعتقاد الناس في التحفظ على الأولاد - بحمل تلك الأحجبة، وبالواقع حفظهم الله بسبب ذلك ...»
على أن العلامة التي لا تخطئ من علامات العبقرية هي «الخصوبة الذهنية» وهي أن يثمر الذهن محصولا وافرا من بذور قليلة. وقد كانت الدروس التي تلقاها «عرابي» في صباه قسطا مشتركا بينه وبين كل صبي من صبيان القرى؛ حضر مبادئ القراءة والحساب وما إليها في الكتاتيب وأروقة الأزهر المعدة للمبتدئين، ولكننا نقرأ أقواله في الحكم النيابي والمبادئ الديمقراطية والحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام، فيتمثل أمامنا حظ وافر من الفهم والمعرفة لا يتهيأ للكثيرين ممن أحاطوا بالمعلومات المستفيضة في هذه الشئون.
ولد هذا الزعيم في عصر يتمخض بالأحداث الجسام - 1841 - وكان مولده بقرية «هرية رزنة» من إقليم الشرقية، وأبوه السيد «محمد عرابي» عالم تقي ينتمي إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، ويبذل ماله القليل في عمل الخير ومواساة الفقراء من أبناء قريته. وقد أنشأ لهم مكتبا يتعلمون فيه، كان ابنه «أحمد» من تلاميذه. ثم دخل «أحمد» للجندية خلافا لعادة الوجهاء الذين كانوا يحتالون على الخلاص من التجنيد بما وسعهم من الحيل وهي كثيرة في ذلك الزمن، فانتظم في الجيش جنديا بسيطا وترقى في صفوفه بكفاءته واجتهاده. وكانت تبدو عليه مخايل الزعامة من نشأته الباكرة، فأحاط به رفاقه والتفت إليه رؤساؤه. واتفق في تلك الأيام أن تولى الإمارة «محمد سعيد باشا»، وأنه كان عظيم السخط على كبار الرؤساء؛ لأنهم اشتركوا في اضطهاده أيام ولاية «عباس باشا الأول»، فأعرض عنهم وأقبل على الناشئين من المصريين يشجعهم ويكافئهم بالترقية والعناية، فكان «أحمد عرابي» صاحب النصيب الأول من عنايته، وكان كما تقدم أول مصري وصل في الجيش إلى رتبة «قائم مقام»، وكانت ترقيته إلى رتبة الملازم بالامتحان أمام لجنة من الخبراء العسكريين. ثم تتابعت ترقيته في عهد سعيد وذهب إلى الحبشة في عهد إسماعيل وهو «قائم مقام»، فكانت له في الحرب الحبشية صفحة مشرفة بشهادة الأجانب والحبشان أنفسهم، ولم يرتق إلى الرتبة التي تليها إلا بعد تسع عشرة سنة في أيام الخديو توفيق، وقد ظلت فرقته خالية من رتبة «أميرالاي» ثماني سنوات وهو لا يرقى إليها.
ويعنينا من تاريخه في هذا الكتاب ما يرتبط بعلل الثورة ويساعد على تفسيرها. وخلاصة مواقفه منها أنه زج فيها ولم يكن له محيد عنها، وأن أول ما أخذ عليه أنه تظلم من الحيف فلم يغتفر له هذا التظلم ، وهو أهون ما ينتظر من ذي كرامة لقي ما كان يلقاه هو وزملاؤه، ولم يزل بمرصد للانتقام منذ وقع عليه الظلم فشكاه.
وليس في تاريخه ما يدل على أنه كان يتطوع للشكوى بغير سبب ملجئ إليها، فلما حدثت أول مظاهرة للضباط حول وزارة المالية في وزارة «نوبار باشا»، أقحم خصومه اسمه في الحركة ولم تكن له يد فيها؛ لأنه كان في دمياط وعاد منها ليلة وقوع المظاهرة، وقضى يومها وهو مشغول بتسليم عهدته في مخازن الوزارة.
ولما اعتقل هو وزميلاه «عبد العال حلمي» و«علي فهمي» - أول فبراير سنة 1881 - لم تكن فرقته من الفرق التي هجمت على معسكر قصر النيل لإنقاذهم من الموت المحقق، ولكنه اشترك مع الفرق التي توجهت بعد الإفراج عنهم إلى قصر عابدين لرفع خبر المكيدة المدبرة لهم إلى مقام الأمير.
وقد صدر الأمر بإقصائه عن القطر زمنا، وهو يعلم أن النتيجة المحققة لإخلاء مكانه هي التنكيل بكل من شاركه في طلب الإنصاف، وتشتيت شمل المتظلمين والمتطلعين إلى الإصلاح. فبقي في مكانه ليصيبه ما يصيب زملاؤه ومرءوسيه، أو تكتب لهم السلامة أجمعين.
ولو انحصرت شكايته في مظالم الرتب والوظائف لكان حكم التاريخ عليه وعلى أصحابه أنهم أناس لا يعنيهم من صلاح الحكم إلا زيادة المرتبات والأرزاق، ولكنهم طلبوا إصلاحا لم يكن في مصر كلها من لا يطلبه ولم يحل بينهم وبين تحقيقه إلا هوان شأن المصريين على الأجانب المسلطين عليهم، وأولهم أصحاب الديون.
ففي الوقت الذي رصد فيه الحاسبون والخبراء كل مورد في مصر لسداد كل مليم من الديون الأجنبية، عمدوا بجرة قلم واحدة إلى إلغاء دين المقابلة وقيمته سبعة عشر مليون جنيه؛ لأنه دين وطني يستحقه المصريون ولم يساهم فيه الأوروبيون، وألغوا كذلك أسهم المصريين في الدين الوطني وقيمتها خمسة ملايين.
وخلاصة دين المقابلة هذا أن الحكومة المصرية أعلنت في عهد الخديو إسماعيل أنها تعفي من نصف الضريبة كل من يسدد الضرائب دفعة واحدة عن ست سنوات، فلما أشرف الأجانب على الميزانية وحسبوا حسبتهم لتوفير أقساط الديون الأوروبية، أسقطوا هذا الدين كله وقرروا تحصيل الضرائب كاملة على جميع أصحاب الأطيان، فوجب على نحو مليون مصري أن ينهضوا بخسارة اثنين وعشرين مليونا بغير عوض وأن يغرموا ضرائبهم في كل سنة بالعصا والكرباج، وهناك إحدى النكبات المتراكمة التي جمعت كلمة الأمة بأسرها على ضرورة الإشراف على ميزانية الدولة صونا لأقوات المصريين في زمن عزت فيه الأقوات وكسدت فيه الأسواق وأحاطت فيه الآفات بمحصولات الزراعة، فلم يكن هذا الإجماع بدعا في رأي أحد لم يسقط المصريين عنده من كل حساب.
بدأت الحركة التي سميت بعد ذلك «بالعرابية» منذ رفع الضباط المصريون عريضتهم يلتمسون العدول عن أوامر وزير «الجهادية» التي قضت بمنع الترقية من تحت السلاح، وتفريق الضباط الذين حصلت ترقيتهم قبل ذلك في جهات الأقاليم. وقد طلبوا فيها عزل وزير الجهادية وتقرير مبدأ الترقية بالامتحان والاختبار، فعولت الوزارة على محاكمتهم وفوضت إلى وزير الجهادية «المطلوب عزله» أن يتولى عقابهم بنفسه. فدعا الضباط الثلاثة الذين وقعوا العريضة - وهم أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي - إلى ثكنات قصر النيل كأنهم يدعون إلى كمين، وقيل لهم: إنهم مدعوون للاحتفال بزفاف الأميرة «جميلة هانم» شقيقة الخديو. فلما ذهبوا إلى الثكنات أحاط بهم الضباط الشراكسة الذين اجتمعوا هناك من رتبة الملازم إلى رتبة الفريق، وجردوهم من سيوفهم وساقوهم إلى حجرات الاعتقال ريثما ينعقد المجلس العسكري للمحاكمة. ولكنهم كانوا قد أوجسوا خيفة مما وراء هذه الدعوة واتفقوا مع زملائهم على المبادرة إلى إنقاذهم إن أحسوا الخطر على حياتهم، فأسرعت فرقتان من رجال الحرس الخديو إلى الثكنات وكادت تكون مذبحة لولا أن «عرابيا» وقف بين الجند والضباط الشراكسة ونهاهم أن يمسوهم بسوء. وانضمت فرق أخرى إلى الفرقتين وتوجهوا جميعا إلى قصر عابدين؛ حيث عرضوا مطالبهم من جديد، فصدر الأمر بعزل وزير «الجهادية» وتعيين «محمود سامي البارودي» لهذه الوزارة، وتأليف لجنة للنظر في أحوال الضباط والجنود، وكان مرتب الجندي لا يزيد في الشهر الواحد على ريال.
ثم عزل «محمود سامي باشا» ولما يمض على تعيينه ستة شهور وعين «داود يكن باشا» في مكانه. وظل كل فريق يتربص بالفريق الآخر ويرتاب في مقاصده وأعماله، واتسعت الهاوية بينهما حين فوجئ غلام شركسي يدس السم في طعام «عبد العال حلمي» وقد كان وصيا عليه؛ لأنه ابن زوج حرمه المتوفى. وانكشفت مؤامرات شتى للإيقاع بالضباط المصريين، وأحيطت منازلهم بالحراس والجواسيس، وصدر الأمر من وزير الجهادية الجديد بمنع التزاور في البيوت ومعاقبة كل ضابطين يسيران معا في الطريق. وتتابعت المواعيد بتنفيذ قوانين الإصلاح وإجراء الانتخاب لمجلس النواب. وشاع أن مندوب إنجلترا مستر «ماليت» يتردد على الديوان العالي وعلى الوزارة لإرجاء الانتخاب والاعتراض على إنشاء مجلس النواب.
وكانت الحركة في هذه الأثناء قد شملت المدنيين والعسكريين، فأبلغ كبار الضباط الديوان العالي أنهم حاضرون مع فرقهم - في اليوم التاسع من سبتمبر سنة 1881 - للشكوى من تأخير تنفيذ القوانين وإعلان الدستور. فأشار مستر «كوكسن» قنصل إنجلترا في الإسكندرية على الخديو بالخروج لمقابلتهم واستدعاء عرابي إلى مقربة منه ثم إطلاق النار عليه، ولكن الخديو تردد في العمل بمشورته. ولم يصغ إليه حين استعجله وهو واقف إلى جانبه في ميدان القصر، واكتفى بأن أمر عرابيا بالترجل، ثم سأله: لماذا حضرت إلى هنا؟ فأعاد عرابي بيان المطالب؛ وهي: إقامة وزارة دستورية وافتتاح مجلس نواب وإبلاغ الجيش إلى العدد المنصوص عليه في الفرمانات. وجاءت كلمة العبيد على لسان الخديو، فقال عرابي: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا.»
عهد الخديو إلى «محمد شريف باشا» بتأليف الوزارة والاستعداد للانتخاب، ونمى الخبر إلى الآستانة، فتخوف السلطان من سريان العدوى إلى بلاده وقيام الأمة هناك بحركة كهذه الحركة للمطالبة بالحكومة الدستورية، فقدمت إلى مصر بعثة «علي نظامي باشا». واتفق الرأي على إقصاء عرابي عن القاهرة، ولكنه أرجأ سفره إلى أن يصدر الإعلان عن موعد الانتخاب. ولم يلبث أن أعيد إلى القاهرة؛ لأن الأقاليم التي مر بها جميعا أسرعت إلى موكبه تهتف له وتنادي بحياته، وهرع إليه طائفة من الأعيان والشبان يتبعونه حيثما سار.
وغضبت إنجلترا وفرنسا لاستجابة الخديو إلى مطالب الأمة ، وأصر النواب على مراجعة الميزانية، وأراد «شريف باشا» أن يتوسط في الأمر بعرض جزء منها على المجلس وإبقاء جزء منها في رقابة المندوبين الأوروبيين؛ فاستقالت الوزارة حين تعذر التوفيق بين موقفها وموقف النواب والأمة، وقامت وزارة غيرها برئاسة «محمود سامي باشا»؛ إذ اشترك فيها عرابي وزيرا للجهادية - فبراير 1882 - فأرسلت الدولتان «لائحة» أو مذكرة تطلبان فيها إقصاء عرابي من القطر وإقالة الوزارة - 25 مايو 1882 - وعلم رئيس الوزارة أن الخديو قبل المذكرة، فاستقال محتجا على تعرض الدول لشئون الحكومة الداخلية، وجاء الأسطولان الإنجليزي والفرنسي يعززان هذا التصرف بالإنذار والتهديد.
حدث هذا في السادس والعشرين من شهر مايو، ولم ينقض أسبوعان حتى وقعت مذبحة الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يونيو، وكانت منتظرة - أو كأنها منتظرة - لأنها تمام التدبير الذي بدأ بذلك النذير.
كان في الإسكندرية يومئذ محافظ يسمى «عمر لطفي باشا» لم يحرك ساكنا لاتقاء هذه المذبحة أو وقفها قبل تفاقمها واستشرائها، وسئل في ذلك، فقال أنه تلقى أمرا من «عرابي» بالكف عن كل عمل في ذلك اليوم ... ولكن كذب الرجل ينجلي من أمرين لا يقبلان اللبس والمكابرة: أحدهما أنه دخل الوزارة على أثر ذلك توا وزيرا للجهادية، والآخر أن «أحمد عرابي» لم تكن له مصلحة في الفتنة، بل كانت الفتنة حربا عليه وحجة لمن أرادوا أن يسجلوا عليه القصور في حماية الأرواح والأموال وحفظ الأمن والنظام.
وغني عن القول أن الأسطول الإنجليزي لم يأت إلى الإسكندرية ليرجع أدراجه كما أتى، فقد طلب قائد الأسطول الإنجليزي وقف الترميم والتسليح في قلاع الميناء، ثم طلب تسليم تلك القلاع ليحول بين الحامية المصرية ومعاودة الترميم بعد وقفه، وزعم أنه يدفع الخطر عليه من تلك القلاع، وهو الخطر الذي لم يشعر به الأسطول الفرنسي الواقف إلى جانبه. فانقسم الساسة وذوو الرأي إلى فريقين: فريق يرى التسليم وفريق يعارضه، ومنه «درويش باشا» مندوب الباب العالي الذي حضر من الآستانة في تلك الأيام وحجته أن تسليم الحصون المصرية أمر لا يملكه الخديو بموجب الفرمانات، وكان «عرابي» من المعارضين ؛ لأن نية الافتيات ظاهرة من الطلب المتعسف فلا فائدة تجنيها البلاد من إجابة القائد إليه.
ولا ريب أن مجال القيل والقال هنا متسع لأصحاب الحكمة الخالدة: حكمة ماذا يجري لو كان؟ وماذا يجري لو لم يكن؟ وماذا تصنع حين ينتهي كل صنيع؟
فقد قيل يومئذ، ولا يزال يقال إلى اليوم: إن معارضة «عرابي» في تسليم القلاع هي التي جرت إلى الاحتلال، مع أن تسليم القلاع هو الاحتلال بعينه مقبولا برضى الجميع من غير مقاومة ولا اعتراض.
وقد استمر «عرابي» يقاوم بما عنده من وسائل المقاومة إلى ما بعد ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليو، ولم يكن نجاحه في صد الجيش الإنجليزي ميئوسا منه، بل كان على نقيض ذلك أملا راجحا لولا الأوامر التي صدرت بمساعدة الجيش الإنجليزي، ولولا خيانة المأجورين على هداية ذلك الجيش في دروب الصحراء، ولولا إعلان السلطان عصيان «عرابي» بإلحاح من الإنجليز.
فمن شاء أن يلوم الرجل فليلمه؛ لأنه طلب الإصلاح وتعرض للانتقام، أو فليلمه لأنه رفض الدسائس والذرائع المختلفة من الدول الأجنبية، وليقم الدليل القاطع على أن الخير كل الخير في اجتناب ذلك الملام.
إنما يلام «عرابي» في اعتقادنا؛ لأنه ضعف في منفاه واستسلم لإغراء المحتلين الذين أطمعوه في العفو، ثم أرسلوا إليه من يسأله عن إلغاء السخرة وتنظيم الإدارة وإصلاح الأرض، فحمد الله لأنه أراد شيئا حققه الزمن. ولكن الرجل الذي أفضى بذلك الحديث كان شيخا فانيا خابت آماله في أبناء قومه فلم يكفهم ما أصابه من أجلهم حتى جبهوه بوصمة الخيانة وهو براء منها. ولم يكن سعي الإنجليز في العفو عنه إلا لأنهم يستندون إلى فساد الحكم للبقاء في البلاد، فليس في وسعهم أمام العالم المتمدن أن يقضوا بالإعدام على رجل ضاق ذرعا بالفساد وتمرد عليه، ولئن حق عليه اللوم بعد هذا لأحق منه باللوم من فتحوا الصدور للاحتلال وتقبلوه بالترحيب.
الخديو توفيق
استهل الخديو «توفيق» ولايته بعهد كتبه إلى رئيس مجلس الوزراء «شريف باشا»، قال فيه: «... إني عظيم الميل إلى بلادي ، شديد الرغبة في تحقيق آمال الأمة التي أظهرت السرور بولايتي وفي إخراجها من هذه الحال السيئة، ومع هذه العواطف فإني عازم عزما أكيدا على بذل الجهد وصرف الهمة إلى التماس أحسن الوسائل لإزالة هذا الاختلاف المفسد لكثير من المصالح ...»
وقال في الأمر الآخر: «إن الحكومة الخديوية يلزم أن تكون شورية ونظارها مسئولين، فإنني اتخذت هذه القاعدة للحكومة مسلكا لا أتحول عنه، فعلينا تأييد شورى النواب وتوسيع قوانينها لكي يكون لها الاقتداء في تنقيح القوانين وتصحيح الموازين ...»
الخديو توفيق.
صدر هذا الأمر في الثالث من شهر يوليو سنة 1879، وفي الخامس منه - أي بعد يومين - فض مجلس شورى النواب، واستقالت وزارة «شريف باشا»، فألف الخديو الوزارة برئاسته، وأشير عليه باستدعاء «رياض باشا» من إنجلترا فاستدعاه، ووكل إليه تأليف الوزارة فألفها، ولم يذكر فيها شيئا عن المجلس والنظم النيابية. وبقيت الحياة النيابية معطلة إلى أوائل سنة 1881، ولم يعمل أحد على التمهيد لإعادتها إلا بعد أن أذاع «عرابي» منشوره الذي قال فيه: «اعلموا يا معاشر الوطنيين، أن أولادكم المنتظمين في سلك الجهادية قد اتكلوا على الباري سبحانه وتعالى وعزموا على منع كل ما من شأنه الإجحاف بحقوقكم، وذلك لا يتم إلا بسقوط وزارة رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب ليحصل الوطن على الحرية المبتغاة.»
وعلى أثر ذلك ذهب وفد من الوجهاء إلى «شريف باشا» وعلى رأسهم «سلطان باشا» و«سليمان أباظة باشا» و«الشريعي باشا» ... ومعهم عريضة وقعها نحو ألف وستمائة وجيه وعالم وكبير، يطلبون استئناف الحياة النيابية. ولم تكن هذه العريضة وليدة المنشور الذي أذاعه «أحمد عرابي» على الأمة؛ لأنها كتبت في اليوم التالي لمظاهرة عابدين - 9 سبتمبر 1881 - ووضح من ذلك أن العسكريين والمدنيين كانوا صوتا واحدا في طلب الحياة النيابية.
أما سياسة الخديو «توفيق» في هذه الحركة، فقد كانت سياسة تردد وتسويف، وحينا يشجع العرابيين لإحراج الوزارة الرياضية، وحينا يشجع الوزارة الرياضية لكبح العرابيين، وفي كل حال من هذه الأحوال يداري الدول الأجنبية، ولا سيما إنجلترا فلا يرفض لها طلبا تصر عليه.
وكان على اتصال دائم بقناصل الإنجليز ، يطلعهم على المطالب العرابية والأزمات الوزارية، ويأذن لهم بمصاحبته وهو يستقبل الرؤساء والوزراء. وقد علمته التجارب دروسا كثيرة، ولكنه لم ينس قط أن إنجلترا وفرنسا سعيا في خلع أبيه واستخلاص الفرمان الذي يحفظ له أهم الحقوق الخديوية ... فحاذر جهده أن يشتبك مع الدولتين في خلاف حاسم، ولا سيما الدولة الإنجليزية.
ومن كلام أخصائه الإنجليز - ومنهم ألفريد بتلر المؤرخ المشهور - يبدو أنه كان يحتفل بمجاملتهم بين كبار موظفيه، فيقضي الساعات يتكلم معهم باللغة الإنجليزية التي لا يعرفها أولئك الموظفون، ويذكر الأسماء بالحروف الهجائية في سياق أحاديثه؛ ليخفي موضوع الكلام عن سامعيه الذين لا يعرفون أصحاب تلك الأسماء، ويفضي في هذه الأحاديث بأخبار من المعلومات الخاصة والأوراق المحفوظة تتعلق بالأسرة وعظماء البلاد!
وليس بالمعقول أن يقال عن أمير: إنه يرتضي باختياره تسليم سلطانه للأجانب وتحكيم أولئك الأجانب في بلاده، ولكن الخطأ في سياسة الخديو «توفيق» أنه اعتقد أن التدخل الأجنبي مؤقت، وأن المعاهدات الدولية والمنافسات بين الدول تمنع ضم مصر إلى دولة منها، فلم يحذر الاحتلال البريطاني ووجه الحذر كله إلى مقاومة العرابيين.
لهذا أصدر أمره في الرابع عشر من شهر أغسطس - بعد ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليو - منذرا من يقاوم الجيش الإنجليزي بشديد العقاب، وجاء في ذلك الأمر ما يلي:
ليكن معلوما عند السلطات الملكية والعسكرية في منطقة قناة السويس أن أميرال الأسطول الإنجليزي وقائد الجيوش البريطانية العام، إنما أتيا إلى مصر لإعادة الأمن والنظام إليها، ومن ثم قد سمحنا لهما باحتلال جميع الأمكنة التي يريان في احتلالها ما يساعد على قمع العصيان، ومن يخالف أمرنا هذا ينزل به أشد العقاب.
وعلى حين فجأة، ينكشف الستار وتنجلي الغشاوة ويبدأ المحتلون حكمهم في القاهرة بتهديد مسند الخديوية الذي زعموا أنهم جاءوا لتأييده وتمكينه، فما هو إلا أن اختلف الخديو وقادة الإنجليز على طريقة محاكمة العرابيين حتى أبرق إليه اللورد جرانفل مهددا متوعدا في أسلوب خشن ولفظ قارص، وأبلغ الحكومة المصرية بصريح العبارة: «أنه ليس هذا أوان ظهور الحكومة المصرية بمظهر المعارضة والممانعة، وأن استمرارها على الإباء يعرضها للفشل والخطر، ولا تكون هذه النتيجة مقتصرة على الوزارة وحدها بل تتناول مركز الخديو نفسه، وإذا لم تقبل الحكومة المصرية طلب الحكومة الإنجليزية فلا يسعها أن تتحمل تبعة ما يترتب على رفضها من النتائج السيئة بعد انقضاء ثمانية أيام على تبليغ هذا الإنذار ...»
تلقى الخديو هذا الإنذار من الوزارة البريطانية قبل أن ينقضي على جيش الاحتلال شهر واحد في القاهرة، ولو تسنى له أن يتراجع في سياسته لتراجع وأمعن في التراجع، ولكن سبق السيف العذل وبلغ الكتاب أجله وانتهت الحيل بترك الحيلة مع أقطاب الاحتيال والاغتيال ...
جمال الدين الأفغاني.
من حملة إلى حملة
1780-1880
قبيل الحملة الفرنسية كانت مصر مستقلة وظلت على استقلالها عن الدولة العثمانية بضع سنوات، نادى باستقلالها عن الدولة «علي بك بلاط»، الذي اشتهر باسم «علي بك الكبير»، ولكنه أخفق في محاولته؛ لأن أعوانه وغير أعوانه اعتبروا هذا الاستقلال مطمعا شخصيا ليس له سند مشروع باسم الخلافة أو باسم الشعب المحكوم. وكان معظم أهل الصعيد منكرين لولايته، وتنكر له كثيرون من أتباعه بعد استعانته بالأسطول الروسي على حرب الدولة العثمانية، فلم يدم استقلاله أكثر من ثلاث سنوات - من سنة 1769 إلى سنة 1772.
وقدم «نابليون» إلى مصر معتبرا بهذا الدرس من ناحيتيه ... فأرسل سفيرا له إلى الآستانة يسترضي السلطان عن حملته، ثم جمع العلماء والأعيان في مصر وعول على تأييدهم في غارته على المماليك المفسدين في الأرض، المارقين من طاعة السلطان، معلنا في منشوره الأول: «من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها.»
ولكن أهل القاهرة ثاروا عليه قبل انقضاء شهرين على احتلاله. وليس بصحيح أن هزيمة الأسطول الفرنسي في معركة أبي قير التي دارت بينه وبين أسطول نلسون هي التي دفعت الشعب المصري إلى الثورة؛ فإن جيش نابليون بقي على قوته في مصر بعد الهزيمة، ولم يحدث من أثر الهزيمة البحرية ما يضعفه في نظر المصريين. وإنما ثار الشعب لأنه كان يتحفز للثورة بعد تسليم المماليك، وبعد أن أخلف نابليون وعوده في ذلك المنشور.
على أن «نابليون» فهم بعد الثورة على الخصوص أن القوة العسكرية وحدها لا تغنيه في سياسة الأمة المصرية، فأنشأ في مصر مجلسا شوريا يسمى بالديوان الوطني قوامه تسعة من العلماء والوجهاء.
وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر في «21 يونيو سنة 1798» وخرجت منها في «18 سبتمبر سنة 1801»، ومن أثار هذه الحملة في السياسة المصرية المقبلة أن خروجها كان على يد قوة تركية وقوة إنجليزية، وأن القوة الإنجليزية فارقت مصر بعد جلاء الجيش الفرنسي، فاعتقد بعض الساسة المصريين أن دخول الجيش الإنجليزي إلى مصر مأمون العاقبة في أمثال هذه الظروف؛ لأنه يدخل إليها وهو على نية الخروج!
وأهم الحوادث التي ارتبطت بمركز مصر السياسي بعد الحملة الفرنسية ولاية «محمد علي الكبير» على مصر باختيار الأمة المصرية وبناء على مشورة علمائها ووجهائها. وكانت عبرة «علي بك بلاط» أو «علي بك الكبير» ماثلة في الأذهان، فاجتنب «محمد علي الكبير» غلطاته ولم يقبل الحكم إلا بعد الاطمئنان إلى الشعب والزعماء في مصر السفلى ومصر العليا، وحاذر جهده أن يعتمد على معونة علنية من دولة أجنبية. ولما كتبت الدولة العثمانية إلى واليها «خورشيد باشا» تأمره أن يعيد «محمد علي» وجنوده إلى بلاده أظهر «محمد علي» الطاعة واستعد للرحيل ولم يعدل عن السفر إلا برجاء من طائفة من كبار العلماء والرؤساء أحلوه من هذه المخالفة في انتظار الموافقة من السلطان.
وقد جاءت الموافقة السلطانية إلى مصر - في شهر يوليو سنة 1805 - ولمس «محمد علي» أثر المعونة الشعبية في مقاومة الحملة التي أنفذتها الحكومة الإنجليزية إلى مصر بعد توليته عليها بأقل من سنتين؛ فإن مزاحمه «الألفي بك» لم يتعلم ما تعلمه «محمد علي» من درس «علي بك الكبير»، فأرسل إلى إنجلترا يستنجدها على الدولة العثمانية وعلى المماليك، فجاءت حملتها بعد وفاته، وكان وصولها إلى رشيد و«محمد علي» مشغول بقتال المماليك في أسيوط ، فتصدى لها الفلاحون والعرب وحامية المدينة الصغيرة وأبادوها على آخرها. وأمر شيخ الأزهر طلابه بترك الدروس والانتظام في الجيش، وجمع السيد «عمر مكرم» أكثر من ألف كيس لنفقات الدفاع. وقد تخوف «محمد علي» من العاقبة، فأعد العدة للمقاومة وللمفاوضة، وساعده الجد الناهض، فانهزمت النجدة الإنجليزية بعد مناوشة يسيرة، وقفلت إلى بلادها وكل ما ألحقته بالإسكندرية وضواحيها من الضرر أنها أعادت إطلاق الماء الملح على بحيرة مريوط، ولو وجدت في مصر عونا من المماليك أو من الشعب لما ارتدت بهذه السهولة بعد طول التربص والانتظار في الإسكندرية.
ومن الراجح جدا أن إنجلترا كانت تعاود الكرة لو حلت بها هزيمة كتلك الهزيمة في ظروف غير ظروفها الداخلية والخارجية في تلك الآونة، ولكنها كانت مشغولة يومئذ بما هو أهم لديها وأخطر عليها من المسألة المصرية: كانت مشغولة بتأليب الدول الأوروبية على نابليون، وكانت سياسة «التأليب» تضطرها إلى مصانعة روسيا وتأجيل كل عمل من شأنه أن يفتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه. وعرضت لها في الوقت نفسه مشكلة المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، ووافق الزمن ثورة الصناعة الكبرى وتنبه الأفكار إلى إصلاح الحياة النيابية وتوسيع حقوق الانتخاب للطبقة العاملة، وقد مضت المدة بين 1807 وسنة 1832 في شواغل كبرى تملأ فراغ السياسة البريطانية؛ منها: أزمة الحصار البحري التي اشتركت فيها الولايات المتحدة بأمر «حظر التصدير» إلى كل من بريطانيا وفرنسا - سنة 1807 - وحروب نابليون التي انتهت في سنة 1815، ومذهب منرو الذي أعلن في سنة 1822، وتعديل نظام الانتخاب الذي تقرر في سنة 1832، فانقضت هذه الفترة - وهي ربع قرن - وإنجلترا عاجزة كل العجز عن الاستقلال بعمل قوي في المسألة المصرية، وقصرت سياستها في هذه المسألة على اغتنام الفرصة الدولية كلما جرت في مجراها وطابقت أغراضها. وفي هذه الفترة نشبت الثورة اليونانية، واستعانت الدولة العثمانية بجيش مصر وأسطولها لقمعها في مقرها، وسنحت للسياسة البريطانية فرصتها الأولى، فدعت الدول إلى عقد مؤتمر لندن - 1827 - الذي اتفقت فيه إنجلترا وفرنسا وروسيا على فصل اليونان من تركيا مع بقاء السيادة التركية، وكانت هذه المعاهدة حجة صالحة لتحطيم الأسطول المصري في ميناء نوارين والتخلص من هذه القوة البحرية الجديدة في البحر الأبيض المتوسط، وزادت فرنسا، فأرسلت جيشها إلى بلاد المورة لإكراه الجيوش المصرية على إخلائها.
إذا صح أن المصادفة لها «دور مهم» في التاريخ، فهذه الفترة من الفترات التي أطلت فيها طوالع المصادفة كلها على المسألة المصرية، فلو تم استعداد «محمد علي» في مصر أيام حروب نابليون لما وجدت دول أوربة فراغا من الوقت للتألب عليه في حربه مع الدولة العثمانية، ولكنه أقدم على هذه الحرب في أوائل سنة 1832 - بعد أن كانت الدول قد فرغت أو كادت من مشكلات نابليون وعقابيلها المتشعبة - فأسرعت روسيا إلى عرض مساعدتها على السلطان «محمود» وخافت إنجلترا وفرنسا من عواقب هذه المساعدة وحيل بين «إبراهيم باشا» وبين التقدم، فقنع بما عرضه عليه السلطان من ولاية سورية وضم إليه بموافقة الدول إقليم أطنة في آسيا الصغرى.
وكان هذا النذير كافيا لوقف الحروب مع تركيا، ولكن فرنسا وعدت «محمد علي» بعد الحرب الأولى بالمساعدة، وعززت وعدها برفض الاشتراك مع إنجلترا لانتزاع الأسطول التركي الذي أوى باختياره إلى الموانئ المصرية. ونشبت الحرب الثانية و«محمد علي» يرجو خيرا من التفرقة بين السياستين الفرنسية والإنجليزية في المسألة الشرقية، ولكن فرنسا لم تصنع شيئا وإنجلترا لم تيأس من مساعيها عند الدول الأخرى، فجددت الدعوة إلى مؤتمر آخر في عاصمتها، وأسفر المؤتمر - باتفاق إنجلترا وروسيا وبروسيا والنمسا - عن المعاهدة التي عرفت باسم «معاهدة لندن سنة 1840» وتقرر فيها حرمان «محمد علي» من ثمرات انتصاره وإعطاؤه جزءا من سورية الجنوبية على شريطة الموافقة من جانبه على هذا الصلح في خلال عشرة أيام.
وقد اعتقد «محمد علي» أن انفصال فرنسا عن الدول - وهي دولة البحر الأبيض المتوسط - يمكنه من رفض معاهدة لندن لصعوبة الاتفاق بين الدول «القارية» على تسيير الجيوش إلى ميدان القتال في سورية وآسيا الصغرى، ولكن إنجلترا وتركيا والنمسا اتفقت على تلفيق حملة بحرية برية لاقتحام سورية، وساعدها على النجاح في هذه الحملة ثورة السوريين وسوء الأحوال في داخل البلاد المصرية ، فأسفرت هذه الحروب والمناورات جميعا عن حرمان «محمد علي» ما استولى عليه خارج البلاد الأفريقية. وصدرت فرمانات سنة 1841 بإقرار «محمد علي» في ولاية مصر وجعلها وراثية للأكبر فالأكبر من أمراء الأسرة العلوية وإلزامه بخراج سنوي للدولة أربعمائة ألف جنيه، وتخويله منح الرتب العسكرية إلى رتبة أميرالاي، وضرب العملة الذهبية والفضية والنحاسية باسم السلطان، وألا يزيد عدد الجيش على ثمانية عشر ألفا في أيام السلم، يرسل من مقترعيهم كل سنة أربعمائة إلى دار الخلافة، وأن تشتمل حدود المملكة المصرية على مقاطعات النوبة ودارفور وكردفان وملحقاتها.
كذلك كان مركز مصر السياسي في أيام «محمد علي» الأخيرة، ومن مزاياه أنه مضمون بموافقة الدول، ومن عيوبه أن هذا الضمان قد فتح الباب للتدخل في المسألة المصرية بحجة المحافظة على «المركز المضمون».
أما نظام الحكم الداخلي على عهد «محمد علي»، فقد كان وسطا بين الحكومة المطلقة والحكومة الدستورية، فكان للوالي مجلسان، أحدهما يشبه مجلس الوزراء ويسمى المجلس المخصوص، والآخر يشبه الجمعية التشريعية ويسمى مجلس المشاورة، ويختار الوالي أعضاءه من وجوه الأقاليم وكبار الموظفين.
وقد اعتزل «محمد علي» الحكم قبل وفاته، ولم يطرأ على مركز مصر ولا على نظام حكومتها تغيير يذكر في عهد خلفه «إبراهيم»، وتولى «عباس الأول» بعد «إبراهيم»، فنقض كثيرا مما بناه جده الكبير، وتم في عهده مد السكة الحديدية من الإسكندرية إلى القاهرة، وأريد بمدها قطع السبيل على «مشروع قناة السويس» الذي توجس منه «محمد علي الكبير» كما تقدم.
وقتل «عباس» فخلفه «محمد سعيد»، وأهم المحدثات التي طرأت في عهده إصدار قانون الأراضي الذي نقل الأرض الزراعية من حكر الحكومة إلى أيدي الفلاحين. وعقد أول قرض أجنبي والترخيص في فتح قناة السويس. وكان يطمح إلى الاستقلال، فاعتقد أن فتح هذا المجاز العالمي في مصر يضمن لها مدافعة الدول عن حوزتها. واتخذ له سياسة وطنية تتجه دائما إلى تقريب المصريين وترقيتهم إلى المناصب الكبيرة، وصك على سبيل التجربة نقودا من العملة الصغيرة باسمه، ثم أخفاها حذرا من غضب الدولة العثمانية، وقد كان يتطلع إلى موافقتها على مشروع القناة.
أما الغير الكبرى كلها فقد تمت في عهد «إسماعيل خلف سعيد»، ففي عهده امتازت مصر بمركز خاص بين الولايات العثمانية، وأطلق لقب الخديو على واليها، وانتقلت الوراثة من الأكبر في الأسرة إلى الأكبر في الأبناء، واتسعت الدولة المصرية في أعالي النيل وأوشكت أن تشمل بلاد الحبشة لولا خيانة القادة من الأجانب على الخصوص، وأنشئت المحاكم المختلطة التي وحدت فروع القضاء الأجنبي وجمعته في نظام واحد، وساهمت مصر في تحريم تجارة الرقيق وتضييق المسالك على النخاسين، وتضاعفت الديون الأجنبية على عجل وفرغ العمل في قناة السويس، فبيعت حصة مصر فيها سدادا لبعض الديون. وكان لهذه الديون مع فتح القناة في إبان اقتراضها وسداد أقساطها، شأن كبير في توجيه مركز مصر السياسي وجهته التي سلكها من منتصف القرن التاسع عشر إلى هذه الأيام في منتصف القرن العشرين.
أصبح من «الأسرار» الشائعة في دوائر الدول العليا أن بريطانيا العظمى تريد أن تتسلل إلى القطر المصري منذ أيام «محمد علي الكبير».
وقد قال القيصر «نقولا الأول» - في فبراير سنة 1839 - لمسيو «بارانت
Barante » سفير فرنسا عنده: «إن الإنجليز يضعون أعينهم على مصر، إن تلك البلاد ضرورية لهم من أجل مواصلاتهم التي يريدون تعبيدها بينهم وبين الهند، وقد وطدوا أقدامهم في البحر الأحمر والخليج الفارسي، وسوف تتعرضون للمتاعب معهم في تلك البلاد.»
واستراب «محمد سعيد باشا» - على قلة احتياطه - في نيات «السائحين» الإنجليز الذين يلتمسون الإذن بزيارة القلاع على الشواطئ، فزجر المشرفين على تلك القلاع لأنهم يرجعون إليه قبل رفض التماسهم، وأمرهم بأن يجعلوا هذا الرفض قاطعا غير قابل للمراجعة والاستثناء.
ولما اقترضت الحكومة المصرية من البيوت الإنجليزية انفردت هذه البيوت بطلب الضمان لقروضها من موارد الضرائب والرسوم في الجمارك والسكك الحديدية وضرائب الأقاليم الغنية، وليس لذلك إلا غرض واحد وهو تسويغ السيطرة على دواوين الحكومة في يوم من الأيام.
وقد شغلتهم الخطوب الدولية من عهد محمد علي إلى عهد سعيد عن اختلاق أسباب «التسلل» المترقب منذ زمن بعيد، ولكنهم «أفاقوا» لاختلاقها بعد تراكم الديون على مصر وعجز الحكومة المصرية عن سدادها.
ففي سنة 1876 قدمت إلى مصر بعثة «كيف
Cave » الإنجليزية، ومهدت صحيفة التيمس لها قائلة: «إن الخديو سيذعن صاغرا للسيطرة البريطانية على الإدارة الحالية.»
وفي السنة نفسها أنشئ صندوق الدين، وأضيف إلى «اختصاصه» الإشراف على أخصب المديريات، وهي: الغربية والمنوفية والبحيرة في الوجه البحري وأسيوط في الوجه القبلي، مع الإشراف على منافذ القطر جميعا، وهي: جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش، وغير ذلك من المصالح ذات الإيراد كالسكك الحديدية والقناطر واحتكار الملح والدخان، وتضاف إليها موارد الدائرة السنية التي يملكها الخديو «إسماعيل»، وقد نصت المادة الثامنة من الأمر الصادر بإنشاء «الصندوق» على أن الحكومة المصرية لا يحق لها تعديل الضرائب والرسوم بما ينقص إيراد الدولة.
وفي سنة 1878 تألفت لجنة التحقيق واشترك فيها السير «ريفرز ويلسون» وكيلا لها ومسيو «دلسبس» رئيسا والكابتن بارنج - اللورد كرومر فيما بعد - عضوا. ثم سافر «دلسبس» فجأة، فحل محله في الرئاسة المندوب الإنجليزي، وأصبحت اللجنة في حقيقتها لجنة إنجليزية بحتا، فأشارت في تقريرها بالحد من سلطة الخديو وتأليف مجلس وزراء مسئول يشتمل على وزيرين، أحدهما إنجليزي للمالية والآخر فرنسي للأشغال. واقترحت عقد قرض جديد - قدره ثمانية ملايين ونصف مليون - تضمنه أملاك الأسرة الخديوية، وهي تزيد على أربعمائة ألف فدان.
وفي هذه السنة حدثت مظاهرة الضباط حول وزارة المالية، وأسقط الخديو وزارة نوبار وأقام في مكانها وزارة برئاسة الخديو توفيق.
ومن حسنات نكبة الديون - إن كان للنكبات حسنات - أنها وحدت كلمة الأمة والأمير في طلب الحياة النيابية؛ لأن السلطة الأجنبية أبطلت حقوق الراعي والرعية على السواء.
وقد كان في مصر على أول عهد «إسماعيل» مجلس كالمجلس الذي كان معروفا باسم مجلس المشورة في عهد جده الكبير، افتتح في سنة 1866 وسمي بمجلس شورى النواب وتقرر ألا يزيد عدد أعضائه على خمسة وسبعين، وقد استمر هذا المجلس ينعقد فترة في كل سنة إلى سنة 1878، ثم استبدل به مجلس نيابي واسع الاختصاص بموافقة الخديو إسماعيل.
ومن المخجل أن مدارس الحكومة المصرية ظلت تلقن أبناء المصريين في عهد الاحتلال أنباء وأساطير تزري بالحياة النيابية بين المصريين، ومنها أسطورة رواها مسيو «ماك كون» في كتابه «مصر كما هي» زعم فيها أن النواب جميعا هرعوا إلى مقاعد اليمين حين طلب منهم «شريف باشا» أن يقسموا أنفسهم إلى فريقين: فريق يناصر الحكومة ويجلس إلى اليمين، وفريق يعارضها ويجلس إلى اليسار، وهي قصة لم تحدث قط بل حدث نقيضها من محاسبة الحكومة ودعوة وزرائها إلى حضور جلساته. وشهد المتتبعون لأعمال المجلس أن أعضاءه كانوا يدا واحدة في رعاية المصالح القومية؛ لأنهم كانوا يفهمون من وظيفة النيابة أنها أمانات وأعباء، ومنهم من كان يساق إليها سوقا؛ لأنه في غنى عن استغلال مركزه، وكل ما يتوقعه من النيابة أن تضطره إلى الاصطدام بولاة الأمور، ولو كانوا يقصرون واجبهم على التسليم، لتهافتوا على النيابة تهافت «المنتفعين المستغلين».
ثم انعقد مجلس شورى النواب في الثاني من شهر يناير سنة 1879، فبدأ جلساته باستدعاء الوزارة إليه، ومنهم وزير المالية الإنجليزي، وقبل أن يذهب بعض النواب إلى ديوان المالية للاجتماع بالوزير، على أن يكون هذا الاجتماع مقدمة لحضور الوزير في جلسة من الجلسات، ولكن الوزارة أصرت على تجاهل المجلس وفضته في شهر مارس ولما ينظر في الميزانية، فثار المجلس ثورته القوية وجبه «رياض باشا» وزير الداخلية بما لا يرضاه وهو يتلو عليه الأمر بفض الدورة، وبقي الأعضاء في أماكنهم معلنين أنهم لا ينفضون قبل أن يفرغوا من أعمالهم. وتسامعت القاهرة ثم الأقاليم بأخبار تلك الجلسة التاريخية، فاجتمع مئات من العلماء والرؤساء والأعيان والضباط في منزل «إسماعيل راغب باشا» ورفعوا إلى الخديو عريضة يحتجون فيها على الوزارة ويطلبون تمكين مجلس النواب من حقوقه الدستورية في مراقبة المالية، وهي العريضة التي اعتمد عليها الخديو في إقالة الوزارة وتكليف «شريف باشا» بتأليف وزارة تخلف الوزارة الأوروبية التي «كانت سببا لتغيير قلوب الأمة ونفورها من هيئة النظارة كل النفور.» وقد شهدت التيمس يومئذ - 16 أبريل سنة 1879 - أن مجلس النواب لم يكن عاملا في هذا الموقف بإيعاز الخديو، فقالت : «مهما تكن طريقة الانتخاب للمجالس النيابية، فهذه المجالس تشعر بشيء من الاستقلال لا محالة عند اجتماعها، ولعل مجلس نواب مصر غير مستثنى من هذه القاعدة ...»
على أن التيمس وغيرها عادت بعد ذلك تذكر «تعنت المجلس» ولا تذكر غطرسة الوزير الإنجليزي الذي لا يجوز عندها أن ينزل إلى حضور الجلسات، ولو من قبيل المجاملة ومجرد الاطلاع!
فلما أقيلت الوزارة النوبارية وخلفتها وزارة «شريف باشا» قامت قيامة الدائنين والحكومة الإنجليزية على الخصوص، ولم تنم لحظة من الشهرين اللذين انقضيا بعد تأليف الوزارة الجديدة عن السعي الحثيث لإحباط هذه الحركة المباركة. ففي الأسبوع الأول من شهر أبريل تألفت الوزارة، وفي أواخر يونيو صدر الفرمان بعزل الخديو إسماعيل وتولية ولي عهده «محمد توفيق» - 25 يونيو سنة 1879 - وأبلغ مجلس النواب أن التطور الجديد سوف يشغل الحكومة عن تقديم أعمال إليه، فانفض ولم يدع للاجتماع في خلال تلك السنة ولا في خلال السنة التالية.
ولكن الأمر كان قد خرج من قبضة الحكومة والمجلس، وصار إلى أيدي الأمة كلها ممثلة في الحزب الوطني الذي جعل شعاره «مصر للمصريين»، وجاهر بالانتماء إليه كل ذي خطر في البلاد.
محمد سلطان باشا.
أما بعد ...
نقترب الآن من اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882، نقترب من النهاية التي تلتقي فيها كل هذه المقدمات.
فإذا كان اليوم الحادي عشر من شهر يوليو نقطة في الغيب، فهذه السوابق خطوط تنحدر إليها من محيط الزمن وتنحو نحوها من بعيد: تنحدر إليها من جهات شتى تتفرق في مناشئها وتلتقي في غايتها، وتترك العلامة مرسومة بينها وبين تلك الغاية، تنتظر «التسويد» بمداد الأيام.
كانت النهضة الوطنية كلها في ختام عهد «إسماعيل» صفا واحدا في المطالبة بحقوق الدستور أو حقوق الأمة في بلادها. وابتدأ عهد «توفيق» والأمل قوي في ثبات هذه النهضة على وجهتها، ولكن الخديو عرف موقف الدول من مجلس النواب، فأراد أن يغفله ويغفل معه مجلس الوزراء، فلما اعتزل «شريف باشا» الوزارة لتأخير دعوة المجلس النيابي، تولى الخديو رئاسة الوزارة بنفسه ، ثم تنحى عن رئاستها غير مستريح في الواقع إلى هذا التنحي، وأسندها إلى «مصطفى رياض باشا»، وهو كذلك لا يستريح إليه.
وأعلنت اللجنة التي شكلت لتصفية الديون تقريرها في مستهل عهد الخديو «توفيق»، فإذا هو يلغي دين المقابلة الوطني ويعوض الدائنين عنه في آجال بعيدة تمتد إلى خمسين سنة.
وبينما الدائنون المصريون يألمون لهذه الضربة إذا بضربة أخرى تلحقها على الأثر وتصيب الضباط المصريين دون غيرهم، وخلاصتها الوجيزة جدا - مع التجاوز عن المكائد والدسائس والمناورات - أن وزير الجهادية أحال على الاستيداع ألف ضابط ليس فيهم ضابط واحد من غير المصريين. ولما اجتمع بعضهم في أوائل الحركة عند - رئيس المترجمين بإدارة الخزانة - محمد أفندي فني - صدر الأمر باقتحام الدار والقبض على من فيها، وحوكم صاحب الدار بالسجن سنتين، وعلى زواره بالسجن شهورا أو بالإقصاء إلى مساقط رءوسهم في القرى والمدن الريفية.
وتلا ذلك رفع الظلامة من كبار الضباط إلى الحضرة الخديوية، فقرر مجلس الوزراء أن يكل الأمر إلى وزير الجهادية لينكل بأولئك الضباط مع الأناة والحذر من العواقب، فكان كل ما اهتدى إليه من الحيطة أنه دعا الضباط - وهم أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي - إلى ثكنات قصر النيل «للتشاور في ترتيب زفاف الأميرة جميلة هانم شقيقة صاحب السمو الخديو.» فلما لبوا الدعوة قبض عليهم وعقد مجلسه العسكري وأمر بخلع سيوفهم واعتقالهم إلى أن يفصل في أمرهم، وكان زملاؤهم أصدق في حذرهم من وزير الجهادية فخفوا إلى الثكنة بجنودهم وحملوهم على الأعناق وساروا في موكب يحف به ألوف من السابلة إلى قصر عابدين يطلبون عزل الوزير.
وقد نمى إلى الوزارة أن قنصل فرنسا ينافس قنصل إنجلترا ويؤيد حركة الضباط، فطلبت نقله من مصر، واجتمع كبار الفرنسيين بفندق «أبات» في الإسكندرية يؤيدونه ويحملون على الوزارة ويوقعون العرائض إلى دولتهم بطلب استبقائه، فجاء الرد من باريس باستدعاء القنصل الفرنسي في الحال، وكان ذلك إيذانا من الدولة الفرنسية بنفض يدها من السياسة المصرية وإطلاق اليد للقنصل الإنجليزي، يفعل ما يشاء غير معترض عليه من حكومة لندن أو حكومة القاهرة.
وفي الوقت نفسه سمع «مصطفى رياض باشا» أنه متهم بممالأة الضباط ليصعد على أكتافهم إلى مسند الخديوية، فنفى التهمة عنه بالتشدد في معاقبتهم وخرج من سواء الرأي إلى اصطناع المداراة ودفع الشبهات، فأخطأه التوفيق فيما رآه.
ذاع بين الناس في تلك الظروف أنه لا وفاق بين الضباط والوزارة ولا بين الوزارة والخديو، وتحدث الناس بالشقاق بين الضباط الشراكسة والضباط المصريين، وأن الحكومة ترى في هذا الشقاق منفذا لحفظ سلطانها بين الفريقين.
وجاء «محمود سامي» بعد «عثمان رفقي» المعزول من وزارة الجهادية، ثم جاء «داود يكن» بعد «محمود سامي» صديق العرابيين، فاستراب الضباط المصريون واشتدت ريبتهم حين أبلغ بعضهم أمر النقل من القاهرة إلى الأقاليم. فسارت الحوادث بعد ذلك على عجل وحدثت مظاهرة الجيش المشهورة أمام قصر عابدين، ونفخ فيها المراقب الإنجليزي - وكان قنصل فرنسا يومئذ في طنطا - فراح يحرض الخديو على قتل عرابي ويستفز عرابيا إلى المجازفة والاستيئاس في المقاومة، ثم فتقت الحيلة للمستر كوكس قنصل إنجلترا في الإسكندرية أن يقنع عرابيا بإحالة «الطلبات» القومية إلى سدة الخلافة لينظر فيها «أمير المؤمنين» بما يستحسنه، وهو - بطبيعة الحال - لم يكن يستحسن في ذلك الحين إنشاء مجلس نواب في القاهرة يتبعه مجلس نواب في الآستانة، فأسرع عرابي إلى الموافقة على إحالة الأمر إلى سدة الخلافة، ولكنه أصر على عزل الوزارة؛ لأنه شأن من الشئون المصرية. ثم استجاب الخديو آخر الأمر إلى عريضة الضباط وعريضة الأعيان التي رفعت بعدها بيوم واحد، فاستدعى «محمد شريف باشا» لتأليف وزارة دستورية، فاعتذر كثيرا واشترط لقبول تأليفها إقصاء زعماء الضباط إلى الأقاليم ولم ينزل عن هذا الشرط، فتوسط علية القوم بينه وبين الضباط ووعد عرابي وأصحابه بالسفر من القاهرة إلى حيث تنقلهم الوزارة بعد إعلان الدعوة إلى انتخاب مجلس النواب.
محمود سامي البارودي باشا.
في العاشر من أكتوبر - 1881 - قدم إلى مصر وفد من الباب العالي مؤلف من «علي نظامي باشا» رئيسا و«علي فؤاد بك» وكيلا واثنين من رجال التشريفات في المابين الهمايوني، مهمته التحقيق في المذكرات التي وصلت إلى السلطان من جانب الخديو وجانب العرابيين. وقد كانت إحالة المسألة إلى الباب العالي اقتراحا من مندوب إنجلترا كما تقدم، ولكن تاريخ الاستعمار البريطاني أو تاريخه في مصر على الخصوص، قد أثبت على الدوام أن الحكومة البريطانية تلجأ إلى «الحجة الشرعية» لكي تغتصب من ورائها غنيمة من الغنائم ولا تستند إليها إلا بالقدر الضروري لاغتصاب تلك الغنيمة. فما هو إلا أن وصل الوفد العثماني إلى مصر حتى ثارت إنجلترا واستثارت فرنسا واتفقتا على إرسال أسطوليهما إلى الموانئ المصرية على سبيل التهديد والتربص. ولما احتج الباب العالي على هذا التدخل السافر لغير علة، وطلب سحب السفن من المواني المصرية اشترط اللورد «فرين» أن يبرح الوفد العثماني مصر أولا ثم يتلوه الأسطولان في اليوم نفسه!
وقد يسر «شريف باشا» المهمة على الوفد العثماني بإعلان طاعة الجيش، وصدع قادة الجيش بالأوامر التي صدرت إليهم فبرحوا العاصمة إلى الأقاليم التي نقلوا إليها، وزالت هذه الحجة من حجج التدخل والتهديد.
وكما ظهرت قيمة «الحقوق الشرعية» عند الإنجليز في حادث الوفد العثماني، ظهرت كذلك في موقفهم من مجلس النواب المصري بعد انتخابه، فلم يكن حق الدستور هو الذي أوحى إليهم تقييد سلطان الخديو بمجلس وزرائه، وإنما قيدوه بهذا المجلس لتنطلق فيه يد وزير المالية الإنجليزي ويصبح من حقه أن يرفض كل قانون لا يرتضيه، ولهذا غضبوا من مجلس النواب الجديد؛ لأنه يحرص على حقه في الرقابة على الميزانية، فأبرق مستر ماليت إلى حكومته يقول: إن التدخل العسكري ضرورة لا محيص عنها إذا أصر مجلس النواب على رأيه. وقد كانت هذه هي الخطة المرسومة قبل ترميم القلاع المزعوم وقبل المذبحة المدبرة في الإسكندرية بنحو ستة شهور - 2 يناير سنة 1882.
وفي الثامن من شهر يناير - أي بعد ستة أيام من إرسال تلك البرقية - تلقت مصر مذكرة مشتركة بين الدولتين، قالتا فيها: «والحكومتان تفهمان أن الخديو سيستمد من هذا التصريح ما يلزمه من الثقة والقوة لإدارة شئون البلاد.»
وردت هذه المذكرة قبل أن يفرغ «شريف باشا » من بحثه مع مجلس النواب في اختيار الخطة التي توفق بين جميع المطالب. وقبل الخديو المذكرة والمجلس يتشاور مع الوزارة في موضوع الخلاف وكله دائر على نظر الميزانية، فقنع المجلس بمناقشة أبواب الميزانية ما عدا الأبواب التي ترتبط بالالتزامات الدولية، وقنع بعد ذلك بتأليف لجنة من النواب يشترك معهم عدد مثلهم من الوزراء، ويؤخذ بالقرار الذي يرجحه صوت الرئيس، فرفضت الدولتان كل هذه المقترحات، وبرز الوزير الفرنسي «جمبتا» في هذه المسألة؛ لأنه كان من ألد أعداء الأسرة المالكة في فرنسا، وكان يتهم مصر بممالأة تلك الأسرة ومساعدتها في الخفاء على استرداد عرش فرنسا، ولم يسلك مثل هذا المسلك مع اليونان وإسبانيا وهما غارقتان في الديون، والأمل في وفائهما أضعف جدا من الأمل في وفاء الحكومة المصرية!
استقال «شريف باشا» وخلفه «محمود سامي البارودي باشا» - 5 فبراير سنة 1882 - واختار «أحمد عرابي باشا» وزيرا للحربية. وأهم ما حدث بعد ذلك في عهد هذه الوزارة حادث القبض على الضباط الشراكسة بتهمة التآمر على اغتيال رئيس الوزارة ووزير الحربية ومعاونيه من كبار الضباط المصريين. وقد حوكموا في مجلس عسكري برئاسة الفريق «راشد حسني باشا» وصدر الحكم بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى السودان، فرفع «عرابي» الحكم إلى الخديو وسأل سموه تخفيف الحكم إذا شاء، فآثر الخديو أن يحيل هذه المسألة أيضا إلى الباب العالي، ولكنه لم ينتظر جواب الباب العالي وأمر بتخفيف الحكم والاكتفاء بالإقصاء من الديار المصرية. ووقع هذا التخفيف على غير ما ينتظر الوزراء الذين كانوا مهددين بالاغتيال، فاحتكموا إلى مجلس النواب واجتمع المجلس بصفة غير رسمية في بيت رئيسه «سلطان باشا»، ومشى كبار أعضائه بالصلح بين الأمير ووزرائه، ورأى الأمير إخراج رئيس الوزارة وإبقاء الوزراء الآخرين. وإذا بالأسطولين يظهران مرة أخرى في ميناء الإسكندرية، ولما تنته المشاورات في اختيار الرئيس الجديد، فرأى «محمود سامي باشا» و«عرابي باشا» طي مسألة الضباط الشراكسة ... ولكن وصول الأسطولين، أعقبه «في الخامس والعشرين من شهر مايو» تقديم إنذار بإقالة الوزارة ونفي عرابي، فقبل الخديو المذكرة واستقالة الوزارة في اليوم التالي. وفزع النواب لما رأوه من بوادر الخطر ولمسوه من هياج الأفكار، فالتمس «سلطان باشا» رئيس المجلس ومعه النواب وطائفة من الأعيان أن يعاد «عرابي» إلى وزارة الحربية لحسم الشر واتقاء الهياج، فرفض الخديو. وجدد النواب الرجاء وفاتح الأجانب عرابيا في كفالة الأرواح والأموال وأضافوا رجاءهم إلى رجاء أعيان البلاد، فتكفل عرابي بحفظ الأمن وأمر الخديو بإعادته إلى وزارة الحربية وأبرق إلى الباب العالي يلتمس فيه إيفاد مندوبين للتحقيق وعرض الأمر على السلطان.
في السابع من شهر يونيو وصل المندوب العثماني «رءوف باشا» وفي صحبته السيد «أحمد أسعد» وكيل السلطان في الفراشة النبوية: هذا لاستطلاع طلع العرابيين، وذلك لاستطلاع طلع الخديو، فتركا كلا من الفريقين يفهم أن السلطان معه، وأنه يوصيه بمسالمة الفريق الآخر من باب التقية ودفع الشرور. ولكن الشرور كانت تعدو عدوا إلى غايتهما المرسومة من قديم الزمن، وكانت هناك حاجة إلى علة عاجلة فوجدت العلة العاجلة في حينها، وحدثت مذبحة اليوم الحادي عشر في الإسكندرية، وليس أدل على تدبيرها من وقوعها في الوقت المطلوب. وقد سبق في تاريخ تلك الفترة أن خلت مصر من الوزارة وأن اختلف الأمير والوزارة وأن اختلف الضباط والساسة، فلم تحدث مذبحة ولا معركة في بقعة من بقاع القطر، كما حدثت تلك المذبحة التي جاءت في أوانها المطلوب!
تتلخص قصة المذبحة في مشاجرة بين مكار ورجل مالطي من أتباع الحكومة البريطانية، ركب معه ثم أعطاه أجره قرشا واحدا بعد ساعات من الطواف في جوانب المدينة في أشد أيام القيظ الذي بلغ أشده صيف تلك السنة. فلما استزاده وألح عليه طعنه المالطي بمدية فقتله، وتجمع السابلة من هنا وهنا بعضهم من الأجانب وبعضهم من المصريين، وأكثر الأجانب مسلحون ولا سلاح في أيدي المصريين. وراح بعض الأجانب يطلق الرصاص من النوافذ ويهجمون على من وجدوه من الوطنيين. وتنادى الوطنيون يطلبون الغوث فقتل من قتل وجرح من جرح في هذه الجلبة. واختلف الرواة في إحصاء القتلى والجرحى، ولكنهم على اختلاف الروايات قد اتفقوا على أن قتلى المصريين وجرحاهم أضعاف من قتلوا وجرحوا من الأجانب على تعدد الأجناس.
يطول الشرح في سرد التهم والدفوع التي تبادلها جميع الأطراف حول هذه المذبحة، ولكن الثابت أن مندوبي الدول - ولا سيما مندوبي إنجلترا وفرنسا واليونان - رفضوا الاستمرار في التحقيق بعد أن طلبه وكيل القنصلية الفرنسية، وأن المالطي الذي قتل المكاري كان له أخ يعمل في القنصلية الإنجليزية، وأن «عمر لطفي باشا» اعترف بإحجامه عن قمع الفتنة إلى المساء، ووقع عليه الاختيار بعد ذلك لوزارة الحربية، وأن المذبحة استخدمت على الأثر للطعن على عرابي والسخرية من كفالته للأمن من قبل ذلك بأيام، وربما كان أهم من هذا كله أن المذبحة استخدمت للطعن في بعوث السلطان والبحث في وسيلة أخرى لتهدئة الحالة «والأسطولان الإنجليزي والفرنسي مرسيان في ميناء الإسكندرية!» فانعقد المؤتمر الدولي في الآستانة في الثالث والعشرين من شهر يونيو، وأحس الباب العالي ما وراءه فلم يعترف به ولم يشترك فيه، وروى صاحب تاريخ «الكافي»، وهو ممن شهد وقائع الثورة واطلع على كثير من أسرارها، أن اللورد دفرين واصل السعي عند الباب العالي للإنعام على عرابي بلقب أو وسام فأنعم عليه بالنوط المجيدي الثاني، فقامت قيامة الصحف الإنجليزية بعد ذلك تتهم السلطان بتحريض العرابيين وتوقع بين الآستانة والقاهرة وتشكك في الفائدة التي ترجى من تسيير الجيش العثماني إلى مصر لقمع الثورة العرابية، وهو المقصود!
وقد تحقق أسوأ الظنون قبل أسبوع واحد، فراح الأسطول الإنجليزي يعمل عمله والمؤتمر منعقد، وتلقى الأسطول من لندن في الثالث من شهر يوليو أمرا بإنذار الحكومة المصرية أن تكف عن تحصين القلاع وإلا أطلق مدافعه عليها، وكأنما كان أمير الأسطول محتاجا إلى حافز «خاص» - مع بواعث الاستعمار - لاستعمال الضربة المدبرة! فإنه خشي أن يتأخر ضرب المدينة إلى حين حضور أسطول «المانش» إلى البحر الأبيض، وأميره دويل
Dowel
أعلى منه في الرتبة فسبقه إلى العمل قبل أن تضيع منه «المفخرة» ومكافآتها.
وكان الخديو قد انتقل إلى الإسكندرية بعد المذبحة بيوم، وأقام وزارة جديدة برئاسة «إسماعيل راغب باشا» - في 18 يونيو - فلما تلقت هذه الوزارة إنذار أمير الأسطول بذلت جهدها في تحويله عن عزمه فلم يقبل، وأضاف إلى إنذاره التشديد في المطالبة بتسليم القلاع إليه.
وقد طال الأخذ والرد وحان الموعد المقرر لضرب الإسكندرية، فضربت كما تقدم في الفصل الأول، ونزل الجند الإنجليز بالمدينة، فاستدعى الخديو إليه «أحمد عرابي»، وقال في أمر الاستدعاء: «اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدونتمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية وتخريبها، إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما كان يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها. والآن قد حصلت المكالمة مع الأميرال فأفاد بأنه ليس للدولة الإنجليزية مع الحكومة الخديوية أدنى خصومه ولا عداوة، وأنه تقرر من جميع الدول العظمى في المؤتمر بأنه لا ينتقص من امتيازات الحكومة ولا حريتها ولا مس حقوق الدولة العلية، بل هي تبقى ثابتة لها كما كانت. وأن يصير إرسال عساكر شاهانية لأجل استتباب الراحة بمصر، فلذلك يلزم أن تصرفوا النظر عن جميع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية التي تجرونها بوصول أمرنا هذا وتحضروا حالا إلى سراي رأس التين لأجل إعطاء التنبيهات المقتضبة الشفاهية على حسب أمرنا هذا وما استقر عليه رأي مجلس النظار.»
وقد أجاب «عرابي» على هذه الدعوة بكتاب قال فيه: «... في شريف علم مولاي المعظم أن المحاربة التي وقعت بيننا وبين الإنجليز وبلغت مسامع عظمتكم وعرضت على مجلس نظاركم المنعقد تحت رئاسة سموكم بحضور كثير من ذوات البلاد المنتخبين ودولتلو درويش باشا نائب الحضرة السلطانية، ولما تحقق عند جميعهم أن هذه الطلبات مضرة بالحكومة الخديوية ومخلة بشأن البلاد قرر المجلس المذكور لزوم زيادة خمسة وعشرين ألف عسكري وصدرت الأوامر إلى المديريات بطلبهم وقرر المجلس أيضا أنه لا تطلق المدافع من جهتنا إلا بعد إطلاق خمسة مدافع من السفن الإنجليزية. ولما ابتدأت السفن بضرب النيران على مدينة الإسكندرية لم نقابلها إلا بعد عشرين طلقة، ولم يكن عندنا قبل وقت الضرب أدنى استعداد لاستمرار الأوامر بعدم الاستعداد .»
إلى أن قال: «إنني كنت أتمنى أن أتمثل بين يدي عظمتكم لإبداء هذه الملحوظات، لكن من الأسف أنه تحقق عندي من الاكتشافات الحقيقية أن مدينة الإسكندرية مشغولة الآن بعساكر الإنجليز، فمن المعلوم عند مولاي أنه لا يمكنني الحضور لتلك المدينة لهذا السبب، فإذا حسن لدى مولاي فليصدر أمره السامي بحضور حضرات النظار أو سعادة رئيس مجلس النظار إلى مركز الجيش للمداولة في هذا الأمر لنكون على بينة من الحقيقة.»
وقرر «عرابي» دعوة الرؤساء وذوي الرأي في البلاد إلى مؤتمر عام، فاجتمع في القاهرة في - 17 يوليو - أكثر من أربعمائة رئيس وعالم ووجيه، وتداولوا في الموقف مليا ثم أعلنوا وقف العمل بأوامر الخديو؛ لأنه مغلوب على أمره في يد الأعداء، ووكلوا إلى عرابي مهمة الاستمرار في الدفاع.
وممن وقع على هذا القرار شيخ الأزهر وكبار علمائه ورؤساء الطوائف الدينية ووكلاء الوزارات ومعظم من في القاهرة من سروات البلاد، وعلى رأسهم ثلاثة أمراء، هم: الأمير إبراهيم أحمد باشا والأمير كامل فاضل باشا والأمير أحمد كمال باشا، وكل من بقي في القاهرة من النواب.
وقد استمر القتال بين الإنجليز والجيش المصري، فصمد هذا الجيش على قلة استعداده أكثر من شهر في كفر الدوار، وجاء المدد إلى الجيش الإنجليزي غير مرة من قبرس ومالطة وجبل طارق، وعلم الإنجليز أن «النزهة» التي تخيلوها، حرب عوان لا يأمنون عقباها، فاستعانوا بالرشوة والخيانة وأشاعوا في مصر منشورا من الباب العالي يرمي العرابيين بالعصيان والمروق من طاعة السلطان!
قال «أحمد شفيق باشا» الذي عمل بالمعية الخديوية من قبل الثورة إلى أيام الخديو عباس الثاني: «في وقت إعلان عصيان عرابي أرسل السلطان ستة آلاف جندي إلى فرضة صوداء بكريد لإرسالها لمصر عند اتفاقها مع إنجلترا على مشاركة هذه الجنود للقوة الإنجليزية ... ومما ساعد أيضا على نجاح الإنجليز أن الجناب الخديو عين «محمد سلطان باشا» رئيس مجلس النواب مندوبا خديويا وبمعيته بعض ياوران سموه لدى الجنرال ولسلي وناط به نشر الدعوة - وخصوصا بين العرب - لمساعدة الجيش الإنجليزي الذي يحارب العرابيين باسم الخديو، أضف إلى ذلك الهبات المالية التي كان الإنجليز يغدقونها على العربان، وخصوصا الذين قيدوا منهم بقلم الاستعلامات الإنجليزي.»
وجاء في مذكرات «شفيق باشا» أيضا: «وفي 22 أغسطس أصدر الخديو إلى الدوائر الملكية والعسكرية في القطر المصري إرادة أخرى، قال فيها: إنه لما كان الغرض الوحيد من الأعمال العسكرية التي يقوم بها السير جارنت ولسلي هو استتباب الأمن في مصر، فنحن قد صرحنا له باتخاذ التدابير العسكرية التي يرى لزوما لاتخاذها، فيجب عليكم حال وصول أمرنا هذا إليكم أن تبذلوا له المساعدات اللازمة وتطيعوا أوامره كما لو كانت صادرة منا، فمن يخضع له كأنه خضع لنا شخصيا ومن خالفه يعد عاصيا لنا، ويعامل معاملة العاصي، وقد أصدرنا أمرنا هذا إليكم للعمل بمقتضاه.»
ولا حاجة إلى الإسهاب في سرد أسباب الهزيمة التي منيت بها الجيوش المصرية في التل الكبير، فليس من العسير أن نفهم كيف ينهزم جيش يحيط به الجواسيس وينقلون أخباره إلى الأعداء وينساق إلى خذلانه أقرب الناس إليه.
إلا أن المؤرخين علقوا بعض أسباب الهزيمة على موقف الجيش من قناة السويس، وحسب كثير منهم أن ردم القناة كان خليقا أن تعطل حركات الإنجليز في الجهة الشرقية، وهو كلام يلقى على عواهنه. لأن عرابيا لم يكتف بما أخذه دلسبس على نفسه من العهود المؤكدة، وأمر بإرسال قوة إلى القناة لمواجهة الحال بما تقتضيه.قال الأستاذ الإمام في تعليقاته على الثورة العرابية: «وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القنال كان الجيش الإنجليزي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش 15 ساعة في مخابرة دلسبس، ويظهر أنه كان في الحاضرين خونة حملوا الأخبار وأبطئوا في المخابرة.»
أما وجهة نظر عرابي في هذا التأخر، فهي تقديره أن الإنجليز يعملون منفردين بين الدول، وأن ردم القناة يجنح بالدول إلى تأييدهم. وقد أبلغ السلطان خطته في رسالة برقية، قال فيها بعد أن أشار إلى قطع الإنجليز للمواصلات البرقية بين الإسماعيلية والسويس: «أما نحن فبالنظر إلى احترامنا لعهود الترعة، بأن تكون على الحياد وإلى عدم تفويتنا لتلك النقطة وعدم وجود قوة عسكرية تقوم بشأن المحافظة على النقط فيما عدا نقط العساكر المستحفظة وموالاة التحريض الشديد على عدم مس حقوق الترعة، كل ذلك جعلنا في مأمن تام من تحمل أي تبعة كانت.» •••
هذه كلمة مجملة في خطة الجيش المصري حيال القناة، وليست هذه الخطة على كل حال هي سبب الهزيمة؛ لأن الهزيمة كانت ضربة لازب بين عوامل الخذلان التي أحاطت بالجيش المصري في حالته تلك؛ وهي حالة النقص في العدد والعدة، على الرغم من تكرار المطالبة بزيادته وتسليحه، ولو كان في مصر عدد كاف من الجنود المدربين لأمكن رصد «المخافر» اللازمة منهم لحماية قناة السويس من غير حاجة إلى ردمها وتسليم المحتلين بذلك حجة يسوغون بها هجومهم ويمثلونه للدول في صورة «المهمة الدولية»، ويأتون بالشهود من مصر وغيرها على سبق المصريين إلى العمل الذي أوجب الهجوم لحماية القناة في حينها، واليوم - في سنة 1952 - كانت حجة المحتلين أمام الدول بدعوى حماية القناة تسبق حجة المصريين إلى الإقناع، مع تضارب الأهواء.
ويبقى أن تقال هنا كلمة أخرى عن المذابح التي وقعت داخل البلاد بعد خروج الجيش المصري من الإسكندرية، فإن أخبار المهاجرين من الإسكندرية عن قتلاها وحرائقها وخرائبها كانت قد ملأت بلاد الوجه البحري، وذاع معها أن الذي حدث في الإسكندرية سيحدث في المدن الأخرى عند وصول الجنود الإنجليز إليها، فثارت ثائرة الغوغاء واشتبكت بينهم وبين الأجانب والمسيحيين مشاجرات قتل فيها أناس من هؤلاء، كما قتل فيها أناس من المسلمين. والذي ينبغي أن يلفت النظر أن أعيان المسلمين خفوا إلى نجدة الأجانب والمسيحيين المعتدى عليهم، وأن كبير هؤلاء الأعيان في إقليمه «أحمد المنشاوي بك» تلقى من مؤتمر الأجانب الذي انعقد بفندق «أبات» في الإسكندرية خطاب تقدير باللغتين العربية والإيطالية، قالوا فيه: «إننا نحن الواضعين إمضاءاتنا بذيله المستوطنين في القطر المصري والتابعين لدول مختلفة بناء على ما اشتهر لدينا، مما أتيتم به من الإعانة والغيرة نحو ساكني طنطا على اختلاف أجناسهم وأديانهم، قد رأينا من الواجب علينا أن نقدم لسعادتكم هذه العريضة برهانا على إقرارنا الأبدي بحميتكم وشكرنا الدائم لسعادتكم. وإنه ليسرنا ويعزينا كثيرا أن نرى في القطر المصري مع ما أصيب به من النوائب رجالا دافعوا عن حقوق الإنسانية وراعوا زمام التمدن بحمايتهم أولئك الأبرياء.»
أما الجزاء الذي قابل به الاحتلال ذلك الشكر الأبدي فهو النظر بعين السخط إلى أولئك الحماة، وقد تمحل الممثلون العلل لسجن الرجل الذي تلقى ذلك الاعتراف بالجميل، فاتهموه بالعنف في إكراه بعض اللصوص على الاعتراف بجريمتهم، وساقوه إلى المحاكمة «تكفيرا» عن حقوق الإنسانية. ومغزى هذه المعاملة وأمثالها أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، فهي - إلى مكافأة عمر لطفي وشركائه - برهان يغني عن كل بيان ...
يضيق الصدر بعد هذا بما جرى في أثر الهزيمة المصرية من عودة الخديو إلى القاهرة محفوفا بالجيوش الإنجليزية، وبما جرى من الفضائح والمخزيات في محاكمة الزعماء العرابيين، ولكننا نلخصها موجزين، فنقول: إن الإنجليز لم يضعوا أقدامهم في القاهرة حتى بدءوا بتهديد الخديو في مركزه كما تقدم، وبادر الشاعر الأيرلندي «بلنت» الثائر على الدولة البريطانية إلى نجدة أصدقائه العرابيين، فندب للدفاع عنهم محاميا إنجليزيا خبيرا بالشئون الشرقية هو مستر «برودلي» صاحب كتاب «تونس في ماضيها وحاضرها» وكتاب «كيف دافعنا عن عرابي؟» فعلم هذا المحامي بمشاوراته مع المراجع الإنجليزية العليا أن إنجلترا لا تستطيع الحكم بالإعدام على عرابي؛ لأنها تتذرع بفساد الحكم لتسويغ الاحتلال، فلا يلائم هذه الدعوى أن تعاقب بالإعدام من يثور على الفساد، ولكنها كذلك قد تذرعت بعصيان عرابي وتثبيت مركز الخديو لتسويغ حملتها على البلاد المصرية، فلا مناص إذن من الاعتراف بالعصيان.
وفي المحكمة تولى المحامي الدفاع على هذا الأساس، فكانت المحاكمة كلها فصلا من فصول التمثيل، ولما يسدل الستار بعد على الفصل الأخير.
إلا أن المقادير توالي سياسة الاستعمار بالسخرية التي لا تنقطع في مرحلة من مراحله، فالاحتلال البريطاني يبقى اليوم باسم القناة التي بدءوا أعمالهم في غزو مصر باقتحام حرمتها ونقض عهودها، ونحن اليوم نحتج عليهم بمقاومتنا لاحتلالهم، وقد كانت هذه المقاومة نكبة القائمين بها أمس، فهي شفاعتهم اليوم في التقدير والإنصاف.
جنرال سيمور.
الأسطول الإنجليزي يستعد لتدمير الطابية.
طابية الفنار بعد تدميرها.
الأجانب يهاجرون من الإسكندرية في السفن قبل إنذار سيمور.
صفحة غير معروفة