اتضح لثلاثتنا، أخيرا، أن مشكلة موضوع الغموض تتمثل في أنه ... «غامض»، فكيف يمكن تعريف الغموض بدقة، في حين أن طبيعته نفسها - أي سبب كونه مشكلة يتحتم التعامل معها في المقام الأول - هي أن تحديده أمر شديد الصعوبة؟ مع ذلك، فنحن بحاجة لتحديده، وإلا فلن يمكننا تعيين كيف يمكن لشكل تنظيمي محدد أن يتكيف معه على نحو أفضل من شكل آخر. توصلنا إلى أن مفتاح اللغز يكمن في تناول الغموض تناولا غير مباشر عن طريق التركيز على «آثاره» بدلا من أصوله، فعند حل مشكلات معقدة في بيئات يكتنفها الغموض، يعوض الأفراد معرفتهم المحدودة بالاعتماد المتبادل بين مهامهم المختلفة وعدم يقينهم بشأن المستقبل بتبادل المعلومات - المعرفة والنصائح والخبرة والموارد - مع آخرين ممن يحلون المشكلات داخل المؤسسة نفسها. بعبارة أخرى، يحتم الغموض التواصل بين الأفراد الذين يوجد اعتماد متبادل بين المهام المنوطة بهم؛ بمعنى أن يمتلك كل فرد معلومات أو موارد ذات صلة بالآخرين، فعندما تتغير البيئة سريعا، تشهد المشكلات تغيرا سريعا أيضا، ومن ثم تصبح الاتصالات المكثفة ضرورة دائمة.
وبناء عليه، تتساوى مشكلة التكيف مع الغموض البيئي المزمن مع مشكلة تشوش الاتصالات؛ فالشركات التي لا تجيد تيسير الاتصالات المشوشة لا تجيد أيضا حل المشكلات، ومن ثم لا تجيد التعامل مع الشك والتغيير؛ لذا تمثلت استراتيجيتنا في التفكير في المؤسسات كشبكات من «معالجي المعلومات»، حيث يتمثل دور الشبكة في التعامل مع كميات كبيرة من المعلومات بفعالية ودون تحميل زائد على المعالجين «الفرديين». ظاهريا، بدت هذه المشكلة مشابهة كثيرا للمشكلات التي سبق لنا مواجهتها في هذه القصة؛ فكثير من مشكلات الشبكات تكمن في الأساس في نقل المعلومات داخل النظم المتصلة بشبكات، سواء كنا ندرس انتشار أحد الأمراض أو أحد الأعراف الثقافية، أو كنا نبحث عن هدف بعيد، أو نحافظ على الاتصال في مواجهة الإخفاقات.
لكن ثمة اختلافا جوهريا بين الشبكات المؤسسية ونماذج الشبكات سبق توضيحه في فصول سابقة من هذا الكتاب؛ أن المؤسسات تتسم في جوهرها بطبيعة هيكلية هرمية، قد تكون النظرة التقليدية للشركة كتسلسل هرمي متكامل رأسيا غير كاملة على نحو بالغ، لكن ذلك لا يجعلها غير مناسبة، ومع أن الهياكل الهرمية - كما سنرى - تتجاوب تجاوبا ضعيفا مع الغموض والفشل، فإنها تعد بنى رائعة لممارسة الضبط. والضبط سمة مركزية للشركات التجارية والنظم البيروقراطية الحكومية على حد سواء. قد يعمل الأفراد تحت قيادة العديد من الرؤساء، أو يتبعون رؤساء مختلفين في أوقات متباينة، لكن حتى في أكثر الشركات الاقتصادية الحديثة حرية في الهيكل الوظيفي، لا يزال كل شخص تابعا لرئيس ما.
هذا فضلا عن أن الهياكل الهرمية لا تقتصر على تنظيم الأفراد داخل الشركة؛ فكثير من المؤسسات الصناعية كبيرة الحجم - بدءا من المجموعات الصناعية كتويوتا وصولا إلى بنية النظم الاقتصادية الكاملة - تقوم على مفهوم الهيكل الهرمي، بل إن الكثير من الشبكات المادية تكون مصممة على مبادئ هيكلية هرمية (مع أنها ليست هياكل هرمية صرفة تماما، كما سنرى). يشكل الإنترنت - على سبيل المثال - شبكة تجميع لمراكز ضخمة، تهبط نزولا عبر طبقات من المزودين الأصغر حجما على نحو متعاقب وصولا إلى المستوى النهائي للمستخدمين الأفراد، وشبكة الخطوط الجوية شبيهة كثيرا بذلك؛ لذا بقدر ما نحتاج للابتعاد عن وجهة نظرة مقتصرة على الهيكل الهرمي للشركات، لا يعد هذا الهيكل سمة راسخة في الأعمال التجارية الحديثة فحسب، بل سمة مهمة أيضا. وفكرة أن الأغلبية العظمى من نماذج الشبكات إما تجاهلت الهياكل الهرمية تماما أو تجاهلت أي شيء آخر دونها يتركنا مرة أخرى في منطقة مجهولة تماما.
من السمات الأخرى للشبكات المؤسسية - التي تميزها عن الأنواع الأخرى من الشبكات التي تناولناها من قبل - القيود المفروضة على الأفراد فيما يتعلق بكم العمل الذي يمكنهم تنفيذه، ولهذه القيود تبعات خطيرة فيما يتعلق بكل من مهام الإنتاج ومعالجة المعلومات التي يلزم على المؤسسات الحديثة أداؤها. من ناحية الإنتاج تتطلب الكفاءة أن تضع المؤسسة قيودا على الأنشطة غير المثمرة للعاملين فيها. فكر في الأمر وكأن روابط الشبكات مكلفة من ناحية الوقت والطاقة، ونظرا لأن الأفراد يتمتعون بمقدار محدود من كليهما، كلما زاد عدد العلاقات التي يحافظ عليها المرء بفعالية في العمل، تراجع حجم العمل الفعلي المرتبط بالإنتاج الذي يمكن للمرء أداؤه. إن الكفاءة الإنتاجية، في الواقع، هي السبب وراء هيمنة الهياكل الهرمية على المؤلفات الاقتصادية التي تتناول موضوع الشركات، ومن خلال إضافة المزيد من المستويات عن طريق التكامل الرأسي، يمكن لشبكة ذات هيكل هرمي صرف أن تنمو لتصبح ضخمة دون أن يضطر فرد واحد فيها إلى الإشراف على أكثر من عدد ثابت من المرءوسين المباشرين، وهو القيد الذي يعرف في علم الاقتصاد باسم «نطاق التحكم».
لكن الأفراد في المؤسسات القائمة على حل المشكلات لا بد ألا يشرفوا فحسب على مرءوسيهم، بل عليهم أيضا التنسيق بين أنشطتهم، ومن هذا المنظور (بالغ التبسيط دون شك)، لا «يفعل» المدير الحقيقي في الواقع أي شيء من وجهة النظر الصناعية التقليدية الموجهة نحو الإنتاج. اعتدت التفكير في هذا الأمر بينما كنت أجلس في الحافلة بين بوسطن ونيويورك مستمعا إلى كل المديرين التنفيذيين والمستشارين وهم يتحدثون بهواتفهم المحمولة باهتياج ليرتبوا لاجتماعات بالغة الأهمية، وتساءلت: «ما الذي ينتجه هؤلاء الأشخاص فعلا؟» إذا كان كل ما يفعله المرء هو أن يهرع من اجتماع لآخر، فما الذي يساهم به فعليا في إنتاجية المؤسسة؟ تتمثل الإجابة - من وجهة نظر معالجة المعلومات - في أن مهمة المدير الرئيسية ليست الإنتاج على الإطلاق، وإنما «التنسيق»؛ بحيث يعمل كمضخة للمعلومات بين الأفراد الذين يؤدون مهمة الإنتاج، ومن هذا المنظور، لا تتعدى الاجتماعات كونها وسيلة مؤسسية لتبادل المعلومات بين أجزاء المؤسسة المختلفة، كما هو الحال مع المؤتمرات السنوية، وفرق تنفيذ المهام، واللجان التي قد تبدو مضيعة للوقت في نظر أي مراقب خارجي (وأحيانا في نظر المشاركين أنفسهم)، لكن جميع المضخات، بما في ذلك مضخات المعلومات، لها قدرة محدودة، فحتى أكثر المديرين كفاءة ونشاطا لا يمكنه سوى حضور عدد معين من الاجتماعات ، وقطع عدد معين من الأميال جوا، والاستجابة لعدد معين من طلبات الحصول على المعلومات، وإذا زادت هذه الأمور عن حد قدرته، يعجز في النهاية عن أداء هذه المهام.
لذا فإن شبكة معالجة المعلومات «القوية» هي التي لا توزع عبء الإنتاج فحسب، بل أيضا عبء إعادة توزيع المعلومات بأكبر قدر ممكن من المساواة، ومن ثم يزيد حجم المعلومات التي يمكن معالجتها دون التعرض لأعطال. وتتسم الهياكل الهرمية بضعفها الشديد في إعادة التوزيع، مع أنها تمثل شبكات توزيع عالية الكفاءة. تخيل - على سبيل المثال - مؤسسة ينبغي فيها مراقبة كل نشاط وتنسيقه والموافقة عليه عن طريق سلسلة رسمية من الأوامر. نظريا، مثل هذه المؤسسات ذات الهياكل الهرمية موجودة بالفعل، وربما يكون الجيش أبرز الأمثلة على ذلك، لكن عمليا، ما إن يظهر أي غموض في الصورة حتى تتخم سلسلة الأوامر على الفور بطلبات معالجة لا حصر لها للمعلومات والإرشادات. للاطلاع على ذلك، اختر إحدى نقاط تلاقي المصدر (ص) عشوائيا من الهيكل الهرمي الموضح في الشكل
9-1 ، وتخيل أنها ترسل رسالة لإحدى نقاط تلاقي الهدف (ه) الأخرى، وتتمثل الرسالة على الأرجح في طلب معلومات أو مساعدة. في الهياكل الهرمية الخالصة ينبغي تمرير الطلب إلى أعلى سلسلة الأوامر حتى يصل إلى أدنى نقطة تلاق سابقة مشتركة (أ)، وهناك يمكنها أن تنتقل لأسفل وصولا إلى الهدف. ويعتمد النجاح في نقل الطلب على أن تؤدي كل نقطة تلاق في السلسلة واجبها في معالجة المعلومات، ولكن لا تتساوى كل نقاط التلاقي في قدر العبء الذي تتحمله. مثلما يوضح الشكل
9-1 ، كلما كانت نقطة التلاقي بموضع أعلى في سلسلة الأوامر، زاد عدد أزواج نقاط تلاقي المصدر والهدف التي ستمر الرسائل عبرها، ومن ثم عظم عبء معالجة المعلومات الملقى عليها. في الهياكل الهرمية الصرفة التي تعمل في بيئة غامضة، يكون عبء معالجة المعلومات موزعا على نحو غير متساو تماما، الأمر الذي يسفر عن فشل هذه الهياكل، إلا إذا اتخذ إجراء ما للتوفيق بينها.
شكل 9-1: في الهياكل الهرمية الصرفة لا بد أن تعالج سلسلة الأوامر جميع الرسائل بين نقاط التلاقي، الأمر الذي يضطر نقاط التلاقي الموجودة بالقمة إلى معالجة المعلومات التي تمر بين الكثير من أزواج نقاط التلاقي الموجودة بمستويات أدنى. وهنا، تمثل (أ) أدنى نقطة تلاق مشتركة بين ص (مصدر الطلب) وه (الهدف).
صفحة غير معروفة