السادس . في بعض الأحيان، قد تتعرض النظم التي تتسم بكثرة أجزائها المعتمدة بعضها على بعض والتي تتفاعل بطرق معقدة، كشبكات الطاقة الكهربائية والمؤسسات الكبيرة، لأعطال كبيرة مفاجئة مع كل الاحتياطات المتخذة للحيلولة دون ذلك. يطلق عالم الاجتماع تشارلز بيرو، الذي تناول بالدراسة سلسلة من الكوارث التنظيمية، بدءا من الانصهار الجزئي لقلب المفاعل النووي بجزيرة ثري مايل وصولا إلى انفجار المكوك الفضائي تشالنجر، على هذه الأحداث «حوادث عادية»؛ فهو يرى أن الحوادث لا تقع بسبب أخطاء استثنائية أو إهمال يتعذر الصفح عنه، بل تقع لأن عددا من الأخطاء المعتادة تماما تراكمت، وربما تجمعت على نحو غير متوقع نتيجة للأعمال الروتينية والإجراءات المكتبية والاستجابات التي تحافظ في الوضع الطبيعي على سير الأمور بسلاسة. ومع أن هذه الحوادث قد تبدو استثنائية، فإن أفضل سبيل لفهمها هو اعتبارها عواقب غير متوقعة لسلوك معتاد، ومن ثم فهي ليست عادية فحسب، بل حتمية أيضا.
قد يبدو موقف بيرو، الموضح في كتابه «حوادث طبيعية»، متشائما بعض الشيء، لكنه يتشابه إلى حد بعيد مع الصورة المزمنة لعدم القدرة على التنبؤ الراسخة في نموذج السلاسل، وهذا التشابه ليس مجازيا فقط؛ فمع أننا استقينا قاعدة الحدود من سمات عملية صناعة القرار الاجتماعي، فيمكن أن تظهر الحدود في سياقات أخرى أيضا. فمتى كان من الممكن التعبير عن «حالة» نقطة تلاق في شبكة ما على صورة خيار بين بديلين - مصاب بالعدوى أو معرض للإصابة بها، نشط أو غير نشط، عامل أو متعطل - يعتمد على حالة نقاط التلاقي المجاورة، فإن المسألة تتعلق في جوهرها بالعدوى، ومتى عكست العدوى اعتمادا متبادلا بين حالات النقاط المتجاورة، بمعنى أن نتيجة أحد التأثيرات (مثل التعطل) يزيدها أو يقللها تأثير آخر ، ستنشأ قاعدة للحدود، ومن ثم فإن نموذج السلاسل يمكن تطبيقه ليس فقط على سلاسل القرارات الاجتماعية، بل أيضا على سلاسل الأعطال في الشبكات المؤسسية، بل شبكات الطاقة أيضا، ومن ثم فإن السمة الرئيسية لنموذج السلاسل - المتمثلة في أن النظم المستقرة ظاهريا يمكن أن تعكس فجأة سلسلة ضخمة - يمكن تفسيرها أيضا على أنها تعبير عن هشاشة النظم المعقدة، بما في ذلك تلك التي تبدو قوية.
منذ بضعة أعوام طرح كل من جون دويل، وهو عالم رياضيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وجين كارلسون، وهي عالمة فيزياء في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا - نظرية لما أطلقا عليه «التحمل الأمثل» لتفسير توزيعات الحجم المرصودة لمجموعة كبيرة من الظواهر؛ بدءا من حرائق الغابات وصولا إلى انقطاع الكهرباء، وكانت أبرز النتائج التي توصلا إليها هي أن النظم المعقدة في العالم الواقعي تتسم بالقوة والضعف في الوقت ذاته، فنظرا لحاجة هذه النظم إلى البقاء في العالم الواقعي، فهي قادرة على تحمل الصدمات بكافة أشكالها، إما لأنها صممت لهذا الغرض أو لأنها تطورت لتفعل ذلك. وإن لم تتمكن من فعل ذلك، فسيجب تعديلها أو ستنتهي من الوجود، لكن كما هو الحال مع نموذج السلاسل الذي أوضحناه من قبل، يكون لدى أي نظام معقد نقطة ضعف، إذا أصيبت على النحو الملائم، فستتسبب في انهيار الكيانات المصممة بعناية ودقة هائلة، وما إن تظهر إحدى نقاط الضعف هذه حتى نهرع عادة لإصلاحها، وهو ما يعزز قوة النظام على نحو محدد (يتولى الانتخاب الطبيعي التعامل مع نقاط الضعف بطريقته الخاصة). لكن أوضح دويل وكارلسون أن هذا لا يقضي على الضعف المتأصل في النظام، بل يستبعده فقط حتى يأتي يوم آخر، وربما حادث من نوع مختلف تماما.
تعد الطائرات مثالا جيدا لهذه الظاهرة المتمثلة في الجمع بين القوة والضعف في الوقت عينه. عندما يظهر عيب ما في تصميم إحدى الطائرات الهامة، ويتسبب أحيانا في سقوطها، يعين المحققون أصل هذه المشكلة بالتحديد، وتخضع كل طائرة من هذا النوع في العالم للفحص والتعديل، إن لزم الأمر، للحيلولة دون تكرار هذه المشكلة. في العموم، يكون ذلك الإجراء فعالا، وهو ما يتبدى في الندرة النسبية للعيوب المتكررة المؤدية لتحطم الطائرات، لكنه لا يمنع حوادث الطائرات كلية؛ يرجع ذلك إلى سبب بسيط، وهو أن أفضل إجراءات الصيانة نفسها في العالم لا يمكن أن تضمن وقوع أخطاء لم يعلم أحد بوجودها بعد.
الطائرات أمر هين للغاية مقارنة بالكيانات المؤسسية الضخمة، مثل إنرون وكيه مارت، اللتين أعلنتا فجأة وعلى نحو غير متوقع إفلاسهما في غضون شهر واحد بين ديسمبر 2001 ويناير 2002، وهو الوقت الذي أنهيت فيه كتابة هذا الفصل، ومن ثم، في العالم الواقعي، لا يمكن لأي قدر من التخطيط الحذر، بل العلم المتطور، أن يحول دون وقوع الكوارث بين الحين والآخر. هل يعني ذلك أن علينا الاستسلام؟ بالطبع لا، ولم يشر أي من بيرو أو دويل أو كارسلون إلى انعدام الأمل، لكن المهم هو إثراء مفهومنا عن القوة، فلا يجب علينا تصميم نظم تتجنب الأعطال قدر الإمكان فحسب، بل علينا أن نتقبل أيضا فكرة أن الأعطال تحدث مع ما نبذله من جهود قصوى، وأن النظام القوي فعلا هو الذي يمكنه النجاة عند وقوع الكارثة، وسنتناول مفهوم القوة باعتبارها سمة مزدوجة للمؤسسات المعقدة - تمنع الأعطال من ناحية وتعد المؤسسة لها من ناحية أخرى - في الفصل التالي.
الفصل التاسع
الابتكار والتكيف والتعافي
في يناير من عام 1999، أثناء عملي باحثا ما بعد الدكتوراه بمعهد سانتا في، كنت ألقي خطابا على ممثلين من شبكة الشركات التي يتصل بها معهد سانتا في، وهي مجموعة من الشركات التي تقدم الدعم المالي للمعهد. كان تشاك سابيل من بين الحضور، وهو أستاذ قانون بجامعة كولومبيا التقيت به مرة أو اثنتين، لكن السبب الرئيسي لمعرفتي به هو اشتهاره بشخصيته المشاكسة. سبق لي آنذاك إلقاء الكثير من الخطب عن مسألة العالم الصغير، وأثناء إلقائي خطابي المعهود كان جل ما أتمناه ألا أتسبب في ضجر الحضور؛ لذا أدهشني كثيرا أن رأيت تشاك يهرول نحوي، بينما كنت أهم بالرحيل بعد انتهائي من الخطاب، ملوحا بيديه إلي ومصرا على ضرورة أن نتحدث معا. حسب ما كنت أدركه آنذاك بشأن عمل تشاك، فقد كان معنيا بتطور العمليات التجارية والصناعية الحديثة، ومن ثم لم يكن لعمله علاقة بي، هذا فضلا عن أنني لم أتمكن من فهم كلمة واحدة مما كان يقوله؛ فمع أن تشاك - كما اكتشفت لاحقا - كان صاحب فكر مثير للاهتمام للغاية، فقد كان أسلوبه أسلوب شخص مثقف انفعالي تدرب بجامعة هارفارد؛ يزخر حديثه بمفردات مهيبة ومنطق معقد واستنتاجات مجردة. إن الاستماع إلى تشاك وهو يفكر يشبه شرب الخمر من خرطوم إطفاء الحرائق؛ فالمذاق طيب، لكنك قد تختنق إن عببت منه عبا.
بعد دقائق قليلة من التحدث معه، وعيناي توشكان أن تدمعا، تمكنت من الفرار بأن ناولته مخطوطة كتاب كنت أعمل على تأليفه آنذاك، متوقعا أن تكون تلك المرة الأخيرة التي أسمع فيها منه، لكن كان ذلك قبل معرفتي به، فبعدها بأيام قلائل دق جرس الهاتف، وكان المتصل هو تشاك، وكان متحمسا أيما حماسة. إنه لم يقرأ المخطوطة المعقدة فحسب (وهو على الطائرة)، بل صار مقتنعا آنذاك بأن ما أملاه عليه حدسه المبكر كان صحيحا، وأنه علينا أن نلتقي في وقت لاحق من ذلك العام للتعاون في العمل على مشروع ما. لم تكن لدي أي فكرة عما كان يتحدث عنه، لكن غمرني حماسه لدرجة جعلتني أوافق. وبحلول شهر أغسطس، قدم تشاك إلى سانتا في، وتسلل الفزع إلى صدري. كيف سيتسنى لي قضاء شهر كامل في العمل مع شخص لا أعرفه تقريبا، على مشروع لا أفهمه تقريبا أيضا؟ بدأت أنظر إلى الموقف برمته كخطأ مؤسف، لكن عندئذ أخبرني تشاك بقصة ظلت تستهويني منذ ذلك الحين. (1) أزمة تويوتا-آيسين
في ثمانينيات القرن العشرين، كانت صناعة السيارات اليابانية مثار حسد العالم؛ لقد مثلت الشركات اليابانية، كتويوتا وهوندا، صورة مصغرة لمفهوم الشركات الحديثة التي تحقق أقصى استفادة ممكنة مما لديها من موارد، وذلك من خلال إتقانها لمجموعة من عمليات الإنتاج، مثل أنظمة التخزين الآني، والهندسة المتزامنة (التي تعين فيها الخصائص التصميمية للمكونات المرتبطة بعضها ببعض على نحو متزامن وليس متعاقب)، والرقابة المتبادلة. وعمد الخبراء الإداريون إلى الاستشهاد بشركة تويوتا، على وجه التحديد، أمام العالم أجمع باعتبارها نموذجا ملهما للامتزاج المتناغم بين الكفاءة الشديدة والمرونة الإبداعية. وعاما بعد عام، أفقدت تويوتا ديترويت هيبتها، وذلك بإنتاجها عددا كبيرا من أفضل السيارات في العالم من الناحية الهندسية، التي أذهلت الجميع بما في ذلك منافسوها الأوروبيون.
صفحة غير معروفة