الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

فيكتور هوجو ت. 1450 هجري
76

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

تصانيف

الرابع

من هذا الكتاب في سياق الحديث عن نماذج النمو التفضيلية، إلى أنه على الرغم من أن الوصول إلى الحد الأقصى العقلاني للمنفعة هو في النهاية نظرية مختلقة، ولا يمكن اعتبارها وصفا جيدا للسلوك البشري إلا في الحالات المحدودة التي تتحقق فيها النظرية على أرض الواقع، وإذا كانت الأدلة التجريبية، ناهيك عن الفطرة السليمة، تشير إلى أن الناس لا يتصرفون بعقلانية، فلماذا لا توضع إذن نظرية أكثر قابلية للتصديق؟ بعد أن استبدل سايمون الحدس بالملاءمة الحسابية، اقترح أن الناس «يحاولون» التصرف بعقلانية، لكن قدرتهم على فعل ذلك مقيدة بقيود فكرية ووصول محدود للمعلومات. باختصار، يظهر الناس ما يعرف ب «العقلانية المحدودة».

ومن ثم فإن أفضل طريقة لفهم ملاحظات آش عن صناعة القرار البشري هو اعتبارها انعكاسا دقيقا للعقلانية المحدودة، فنظرا لأنه كثيرا ما تنتابنا الشكوك بشأن السلوك الأمثل الذي علينا اتباعه، ولافتقارنا غالبا للقدرة على التوصل إلى هذا السلوك بأنفسنا، صرنا معتادين على الانتباه بعضنا لبعض بافتراض أن الآخرين يعرفون أمورا لا نعرفها، ونحن نفعل ذلك بانتظام، والأمر ينجح على نحو معقول غالبا، وهو ما يجعلنا نعكس نزعة لاإرادية للاهتمام كثيرا بتصرفات الآخرين، حتى لو كانت الإجابة واضحة بالفعل.

متى تأثر سلوك الفرد الاقتصادي بأي شيء يقع خارج نطاق المعاملة التجارية نفسها، يطلق علماء الاقتصاد على ذلك «الأثر الخارجي». وبوجه عام، ينظر علم الاقتصاد للمؤثرات الخارجية كما لو كانت استثناء مزعجا لقاعدة تفاعلات السوق الخالصة، لكن إذا أخذنا النتائج التي توصل إليها آش على محمل الجد، وإذا آمنا بالخبرات اليومية، بدءا من اتباع جموع الناس في إحدى محطات القطار وصولا إلى اختيار إحدى خدمات الهاتف المحمول ، فسيبدو أن ما يمكن أن نطلق عليه «المؤثرات الخارجية على القرار» منتشرة في كل مكان. وفي حالات مثل تجارب آش، حيث تنبع المؤثرات الخارجية من الحدود المفروضة على ما يمكن أن نعرفه عن العالم وكيف يمكننا معالجة ما نعرفه بالفعل، يمكننا أن نطلق على هذه المؤثرات - إلى حين التوصل إلى مصطلح أفضل - «مؤثرات المعلومات الخارجية». (6) المؤثرات الخارجية القسرية

مع أن الآراء الحقيقية للخاضعين لتجربة آش تأثرت تأثرا واضحا بالآراء (الزائفة) لنظرائهم، فإن بعضهم شعر بضغط دفعهم لإبداء موافقتهم، على الرغم من أنهم «في قرارة أنفسهم» لم يتغير رأيهم، وقد أوضح آش لاحقا أن إدراك هذا الضغط للامتثال لما يراه الآخرون لم يكن وهميا؛ في صورة مختلفة من التجربة أعطيت التعليمات لشخص واحد فقط بأن يجيب إجابة خاطئة، فما كان من الأغلبية - التي لا علم لها بما يحدث - إلا أن سخرت منه فعليا؛ لذا فإن المؤثرات الخارجية القسرية قد تظهر في الكثير من مواقف صناعة القرار، شأنها شأن مؤثرات المعلومات الخارجية، وقد يكون من الصعب التمييز بينهما في بعض الأحيان. تفسر، على سبيل المثال، نماذج الجرائم التي تقوم بها العصابات بأن من يرتكبها مراهقون سريعو التأثر بما حولهم، يتعرضون لضغوط من أقرانهم وممن يعدونه مثلهم الأعلى لارتكاب أفعال عنيفة أو مخربة؛ ليثبتوا جدارتهم لأن يصبحوا أعضاء بهذه العصابات، لكن في هذا المثال أيضا، تلعب المعلومات دورا ما. إذا كانت النماذج الشهيرة للنجاح الاقتصادي والاجتماعي لدى الشاب هي تلك المرتبطة بقيادة العصابات، فعلى الأقل سيكون من المعقول أن يبدو قراره بالسير على نهجهم - وإن كان ثمنه ارتكاب جرائم يدرك أنها غير أخلاقية - طبيعيا تماما وغير قسري على الإطلاق.

إن تغيير المرء لمعتقداته استجابة لمعتقدات الآخرين الواضحة لا يقتصر على سريعي التأثر أو ذوي المعلومات المغلوطة من الأفراد فحسب. في دراسة مبتكرة أجريت في ألمانيا الغربية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أثبتت العالمة السياسية إليزابيث نويل-نيومان، أنه قبل دورتين من الانتخابات الوطنية، عكست الحوارات المتعلقة بالسياسة نموذجا ثابتا ؛ إذ زاد مناصرو حزب الأغلبية من تعبيرهم اللفظي الملح عن آرائهم على حساب الأقلية المتصورة، لكن كلمة السر هنا هي «المتصورة»؛ فقد أوضحت نويل-نيومان أن مستويات دعم الحزبين السياسيين، التي يعبر عنها المواطنون الأفراد سرا، ظلت ثابتة تقريبا، لكن ما تغير هو إدراك الأفراد لرأي الأغلبية، ومن ثم توقعاتهم بشأن الحزب الذي سيفوز. ومن خلال ما أطلقت عليه نويل-نيومان «الارتفاع الحاد لمستوى الصمت»، صارت «الأقلية» أقل رغبة في التعبير عن آرائها علنا، ومن ثم عززت من وضعها كأقلية، وأضعفت من رغبتها في التعبير عما تراه بشكل أكبر.

لكن التصويت نشاط سري، ومن ثم قد يكون التوازن في الخطاب السابق للانتخابات غير مهم، لكن نويل-نيومان اكتشفت أن الأمر ليس كذلك؛ فقد كانت أكثر النتائج التي توصلت إليها إثارة للدهشة أنه في يوم الانتخابات، لم يكن أقوى العوامل التي تتنبأ بالنجاح في الانتخابات هو أي الحزبين يدعمه المرء سرا، ولكن أيهما يتوقع أن يحقق الفوز، وبناء عليه، فإن المعتقدات المتعلقة بمعتقدات الآخرين تبدو قادرة على التأثير على صناعة القرارات الفردية، حتى لو كان ذلك في خصوصية حجيرة الاقتراع (أو ربما التأثير على قرار التصويت في الانتخابات من عدمه في الأساس). وكما هو الحال في تجارب آش، وكذلك التوقعات بشأن انتشار الجريمة، تبدو القوى التي تدفع إلى الارتفاع الحاد لمستوى الصمت أو تؤثر على قرار المرء النهائي للتصويت مبهمة قليلا، مع ذلك، ربما تلعب كل من المؤثرات الخارجية القسرية ومؤثرات المعلومات الخارجية دورا في هذا الأمر، ويمكن أن تظهر المؤثرات الخارجية على القرار بطرق أخرى أيضا. (7) مؤثرات السوق الخارجية

أثار علماء الاقتصاد الازدهار الذي شهدته التكنولوجيا المتقدمة بدءا من سبعينيات القرن العشرين، فانصب اهتمامهم على المنتجات التي تزيد قيمتها بتزايد عدد من يستخدمونها. على سبيل المثال، يعد جهاز الفاكس ماكينة مستقلة بذاتها، كالسيارة أو ماكينة تصوير المستندات؛ فله مجموعة من الخصائص المحددة جيدا، لكن على عكس السيارات وماكينات تصوير المستندات، يعتمد تحقيق النفع من جهاز الفاكس بشكل محوري على امتلاك الآخرين لأجهزة فاكس بدورهم ، فما من جدوى لشراء جهاز فاكس قبل الآخرين، إلا إذا كانت هناك جائزة لأول شخص يقتني أحدث أجهزة الفاكس، لكن مع تزايد عدد من يشترون هذه الأجهزة، أصبحت أكثر قيمة، لتتحول في النهاية من طرفة تكنولوجية إلى ضرورة فعلية.

نظرا لأن منتجات مثل أجهزة الفاكس تستمد بعضا من نفعها الذاتي على الأقل من وجود أجهزة أخرى خارجية، فإن قرار شراء أحدها يتأثر بمؤثرات خارجية، لكن المؤثرات الخارجية على اتخاذ القرار المرتبط بشراء جهاز فاكس ليست هي نفسها المؤثرات المعرفية أو القسرية في تجارب آش. مع أنه عند اختيار جهاز معين لشرائه بالفعل، قد نعتمد على النصائح التي يقدمها لنا أصدقاؤنا ذوو الاهتمامات التكنولوجية (ومن ثم نستفيد من مؤثرات المعلومات الخارجية)، فإن القرار المتعلق بشراء جهاز الفاكس أو عدم شرائه هو عملية حسابية اقتصادية تماما لا تعتمد إلا على التكلفة والمنفعة. يمكننا إذن التحدث، في حالة منتجات مثل جهاز الفاكس، عن «مؤثرات السوق الخارجية» لنوضح أن المنفعة العائدة من المنتج ذاته - وتكلفته في كثير من الأحيان، التي تنخفض غالبا عندما تصبح التكنولوجيا أكثر انتشارا - تعتمد على عدد الوحدات المباعة، ومن ثم حجم السوق. (يفضل علماء الاقتصاد، بالمناسبة، مصطلح «مؤثرات الشبكات الخارجية»، لكن نظرا لأن جميع المؤثرات الخارجية على قراراتنا تعتمد على شبكات من التأثيرات، يعد مصطلح «مؤثرات السوق الخارجية» أقل التباسا.)

تحظى في كثير من الأحيان مؤثرات السوق الخارجية بدعم غير مباشر مما يطلق عليه علماء الاقتصاد «حالات التكامل»، ويتحقق التكامل بين اثنين من المنتجات (أو الخدمات) عندما يزيد كل منهما من القيمة المستقلة للآخر. على سبيل المثال، تعد تطبيقات البرامج وأنظمة التشغيل منتجات مكملة بعضها لبعض، وتتسم مؤثرات السوق الخارجية - خاصة عندما تعززها حالات التكامل - بقدرتها على إحداث أثر تعقيبي إيجابي يعرف باسم «العوائد المتزايدة» التي تشبه تأثير متى الذي سبق لنا تناوله في الفصل

صفحة غير معروفة