2-2
مخططا لجزء من الشبكة، أو رسما بيانيا عشوائيا يشغله أكبر مكون متصل في مقابل عدد الروابط الموجودة. كما هو متوقع، عندما يكون عدد الروابط قليلا للغاية، لا يرتبط أي شيء بأي شيء آخر، ونظرا لأننا أضفنا الخيوط على نحو عشوائي تماما، فدائما ما سنربط كل زر منفصل بآخر، وإن كان أحد هذه الأزرار متصلا بخيط بالفعل، فمن المرجح ألا يؤدي هذا الخيط إلا إلى مجموعة صغيرة من الأزرار الأخرى.
شكل 2-2: اتصالية الرسم البياني العشوائي. يتغير عدد نقاط التلاقي المتصلة في مكون واحد فجأة عندما يتجاوز متوسط عدد الروابط لكل نقطة تلاقيا واحدا.
لكن شيئا غريبا يحدث بعد ذلك، عندما نضيف عددا كافيا من الخيوط بحيث يتصل بكل زر خيط واحد في المتوسط، تصعد نسبة الرسم البياني التي يشغلها المكون الأكبر مما يقترب من الصفر إلى حوالي واحد على نحو مفاجئ وسريع. وبلغة الفيزياء، يعرف هذا التغير السريع باسم «التحول الطوري»؛ نظرا لحدوث تحول من مرحلة مفككة إلى مرحلة متصلة، والنقطة التي يبدأ فيها حدوث ذلك (حيث يصعد الخط لأول مرة في الشكل
2-2 ) تسمى «النقطة الحرجة». وتحدث التحولات الطورية، مثلما سنرى بعد ذلك، في الكثير من الأنظمة المعقدة، وقد استخدمت لتفسير شتى الظواهر؛ مثل المغنطة، وتفشي الأوبئة، وانتشار الصيحات الثقافية الحديثة. في هذه الحالة بالتحديد، يحدث التحول الطوري عن طريق إضافة عدد صغير من الروابط بالقرب من النقطة الحرجة بما يعمل على الربط بين الكثير من التكتلات شديدة الصغر في مكون واحد ضخم يمتد بعد ذلك ليشمل جميع نقاط التلاقي الأخرى حتى يصير كل شيء متصلا. فسر إيردوس وريني وجود هذا التحول الطوري وطبيعته في عام 1959.
لم نهتم بذلك؟ ببساطة لأنه إذا لم تشكل نقطتا تلاق جزءا من المكون نفسه، فلن يمكنهما الاتصال أو التفاعل أو التأثير إحداهما على الأخرى، يمكن أيضا أن تكونا في نظامين مختلفين، بحيث لا يمكن لسلوك إحداهما التأثير بأي شكل على سلوك الأخرى، من ثم، فإن وجود مكون ضخم يعني أن أي شيء يحدث في موقع واحد من الشبكة لديه القدرة على التأثير على أي موقع آخر، وعلى النقيض، فإن غيابه يقتضي ضمنا أن الأحداث المحلية لا يمكن الشعور بها سوى محليا. استهل إيردوس وريني عملهما المبدئي عن طريق التفكير في شبكات الاتصالات، وتساءلا عن عدد الروابط التي يجب أن توجد بين مجموعة من الأجهزة قبل أن يتمكن واحد منها، اختير عشوائيا، من الاتصال بالجزء الأكبر من النظام، ومن ثم يعد الخط الفاصل بين الانعزال والاتصال حدا مهما لتدفق المعلومات والأمراض والأموال والابتكارات والصيحات الثقافية والأعراف الاجتماعية وكل شيء آخر نهتم به في المجتمع المعاصر. إن حدوث الاتصال العالمي، لا على نحو متزايد تدريجيا، بل بقفزة فجائية مثيرة، يعني وجود شيء عميق وغامض بشأن هذا العالم، على الأقل إذا صدقنا أن الرسوم البيانية العشوائية تمثل العالم تمثيلا جيدا.
هذه، بالطبع، هي المشكلة؛ فمع ما تتسم به نظرية الرسوم البيانية العشوائية من تعقيد (وهي معقدة على نحو محير)، فإن كل شيء نعرفه تقريبا عن الشبكات الحقيقية، بدءا من الشبكات الاجتماعية وصولا إلى شبكات الخلايا العصبية، يشير إلى أنها ليست عشوائية ، أو على الأقل ليست كالرسوم البيانية العشوائية التي وضعها إيردوس وريني. لماذا؟ حسنا، تخيل أنك اخترت أصدقاءك عشوائيا بالفعل من بين سكان العالم الذين يزيد عددهم عن الستة مليارات، إن احتمالية مصادقتك شخصا بقارة أخرى أكبر من احتمالية مصادقتك شخصا بمدينتك أو مكان عملك أو مدرستك. تبدو هذه فكرة سخيفة، حتى في عالم تطغى عليه الاتصالات الإلكترونية والرحلات الدولية، لكن بالتمادي في هذه الفكرة، فإنه إن كان لديك نحو ألف صديق، وكل منهم لديه ألف صديق بدوره، ففرصة معرفة أي من أصدقائك بالآخر لن تتجاوز نسبتها واحدا في الستة ملايين! ومع ذلك، فإننا نعرف من واقع خبرتنا اليومية أن أصدقاءنا يمكن أن يكونوا على معرفة ببعضهم البعض بالفعل، ومن ثم لا يمكن أن تكون الرسوم البيانية العشوائية تمثيلا جيدا للعالم الاجتماعي الحقيقي. ومع الأسف، كما سنرى لاحقا، ما إن نبتعد عن الافتراضات شديدة المثالية عن العشوائية التامة التي يعتمد عليها واضعو نظريات الرسوم البيانية، حتى يصير من الصعب للغاية إثبات أي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، إذا أردنا فهم سمات شبكات العالم الواقعي وسلوكها، فسوف نواجه في النهاية قضية البنية غير العشوائية. (2) الشبكات الاجتماعية
من الظلم إلى حد ما وصف علم الاجتماع بأنه فرع المعرفة الذي يحاول تفسير السلوك البشري، وليس البشر؛ ففي حين يهتم علم النفس للغاية بفهم ما يفعله الناس وفقا لسماتهم وخبراتهم الشخصية، بل وفقا لفسيولوجيا أجسامهم أيضا، ينظر علم الاجتماع إلى السلوك - أو الفعل - البشري على أنه مدفوع، بل محدد، بالأدوار التي يلعبها الناس داخل المؤسسات الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تحدد بيئتهم الاجتماعية، أو كما قال ماركس: «يصنع البشر تاريخهم، لكنهم ... لا يصنعونه في ظل ظروف من اختيارهم.» ومن ثم فإن الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع هو البنية، وعليه، فقد لا يكون من المدهش أن نظرية تحليل الشبكات، التي انبثقت من علم الاجتماع (وفرع المعرفة المرتبط به، ألا وهو علم الإنسان)، كان لها دائما طابع بنيوي قوي.
إذا ما اختصرنا خمسة عقود من الفكر في بضع صفحات ، فسنجد أن محللي الشبكات الاجتماعية طوروا أسلوبين شاملين للتفكير في الشبكات؛ يتناول الأسلوب الأول العلاقة بين «بنية الشبكة» - مجموعة الروابط الواضحة التي تربط أعضاء مجموعة بشرية معينة، مثل شركة أو مدرسة أو منظمة سياسية - و«البنية الاجتماعية» المناظرة التي يمكن على أساسها التفريق بين الأفراد وفقا لانتمائهم إلى أدوار أو مجموعات مختلفة اجتماعيا. ظهرت مجموعة كبيرة من التعريفات والأساليب على مدار الأعوام تحمل أسماء من قبيل: نماذج الكتل، والتكتل الهرمي، والتدرج متعدد الأبعاد، لكن جميعها وضع أساسا لاستخلاص المعلومات عن المجموعات المختلفة اجتماعيا من بيانات شبكية ارتباطية تماما، سواء عن طريق قياس مباشر «للمسافة الاجتماعية» بين الفاعلين، أو تجميع الفاعلين في مجموعات حسب مدى تشابه علاقاتهم مع الفاعلين الآخرين في الشبكة، ووفقا لهذه الرؤية، تعد الشبكات العلامة المميزة للهوية الاجتماعية، فيمثل نموذج العلاقات بين الأفراد مخططا لسمات الأفراد أنفسهم وتفضيلاتهم.
أما الأسلوب الثاني، فيحمل طابعا أكثر آلية؛ إذ ينظر هنا إلى الشبكة كوسيلة لنشر المعلومات أو إحداث تأثير، وموقع الفرد في النموذج الكلي للعلاقات يحدد المعلومات التي يمكن لهذا الفرد الوصول إليها، أو الأشخاص الذين يمكنه التأثير عليهم. لا يعتمد، إذن، دور الشخص الاجتماعي على المجموعات التي ينتمي إليها فحسب، بل يتوقف أيضا على موقعه داخل هذه المجموعات، وكما هو الحال مع الأسلوب الأول، وضع عدد من المقاييس لتحديد المواقع التي يحتلها الأفراد داخل الشبكة، والربط بين قيمها الرقمية والاختلافات المرصودة في الأداء الفردي.
صفحة غير معروفة