يضيف إليه روحا، بل ربما يطلق سراحه؛ فالمجتمع يلزمه خلاص.
مع نهايات القرن التاسع عشر بدت الحياة كأنها تفقد نكهتها، وبدا العالم رماديا مفتقر الدم، يعوزه الوهج، الرصانة أصبحت زيا سائدا، ليس غير الأغبياء من يهمهم أن يبدوا روحيين. إن أواخر القرن التاسع عشر في أفضل جوانبها تذكر المرء بهزلية (فارس) مسفة عاطفيا، وفي أسوأ جوانبها تذكر بنكتة متحجرة القلب. ولكن، كما رأينا، فقبل منعطف القرن بدأت حركة انفعالية جديدة تعبر عن نفسها، في فرنسا أولا ثم في أوروبا، تطلبت هذه الحركة، كي لا تذهب سدى، قناة أو مجرى عساها تتدفق فيه إلى غاية ما، كانت مثل هذه القناة في العصر الوسيط دانية قريبة المأخذ؛ إذ اعتادت الخميرة الروحية أن تعبر عن نفسها من خلال الكنيسة المسيحية، رغم أنف المعارضة الرسمية في عامة الأحوال، أما في العصر الراهن فمن غير الممكن لأي حركة حديثة على أي قدر من العمق أن تعبر عن نفسها بهذه الطريقة، وأيا ما كانت الأسباب فتلك حقيقة مؤكدة، وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي هو أن عقول أهل العصر الحديث لا يمكن أن تجد غناء في الدين الدوجماوي، ومن المؤسف أن المسيحية لم تشأ أن تقلع عن ألوان من الدوجما بعيدة عن جوهرها كل البعد. إن تورط الدين في الدوجما هو الذي أبقى العالم لا دينيا في ظاهره، ولكن، رغم أن مآل كل دين أن تعترشه الدوجما، فهناك واحد يمكنه أكثر من غيره أن ينفضها عنه دون عناء أو اكتراث، ذلك الدين هو الفن؛ فالفن دين، إنه تعبير عن، ووسيلة إلى، حالات ذهنية لا تقل قداسة عن أية حالة ذهنية يمكن للبشر أن يخبروها، وإنما إلى الفن يتجه الذهن الحديث، لا من أجل التعبير الكامل عن انفعال متعال فحسب، بل أيضا من أجل إلهام يعيش به.
وجد الفن منذ البدء بوصفه دينا متزامنا مع كل الأديان الأخرى، ومن البين أنه لا يمكن أن يكون هناك تضاد جوهري بينه وبينها، فالفن الأصيل والدين الأصيل مظهران لروح واحدة، كذلك شأن الفن الزائف والدين الزائف، ومنذ آلاف السنين والبشر يعبرون بالفن عن انفعالاتهم الفائقة الإنسانية، ويجدون فيه الغذاء الذي تعيش عليه الروح. الفن هو أعم وأبقى صور التعبير الديني جميعا؛ لأن دلالة التضافرات الشكلية يمكن أن يدركها أحد الأجناس وأحد العصور بنفس الكفاءة التي يدركها به جنس آخر وعصر آخر؛ ولأن تلك الدلالة هي شيء مستقل عن التقلبات البشرية، شأنها في ذلك شأن الحقيقة الرياضية. وعلى الإجمال، ليست هناك أداة أخرى لنقل الانفعالات، ولا وسيلة أخرى إلى النشوة قد أسعفت الإنسان مثلما أسعفه الفن، وما من فيض من طرب الروح إلا هو واجد في الفن قناة تتولاه وتحدوه، وحين يفشل الفن فإنما يفشل لافتقاد الانفعال وليس لافتقاد التكيف الشكلي. واليوم إذ تشرع الحركة الناشئة في البحث عن موئل تلجأ إليه وتعيش، فمن الطبيعي أن تتجه إلى الديانة الوحيدة ذات الأشكال اللانهائية والثورات الدائمة.
ذلك أن الفن هو الديانة الوحيدة التي تشكل نفسها بما يوافق الروح، والديانة الوحيدة التي لن يطول تقيدها بالدوجما على الإطلاق؛ إنه ديانة بلا كهنوت، ومن الخير ألا تودع الروح الجديدة في أيدي الكهنة، فالروح الجديدة في أيدي الفنانين، ذلك خير؛ فالفنانون، كقاعدة عامة، هم آخر من ينظمون أنفسهم في طوائف رسمية، وإذا نظمت هذه الطوائف فهي قلما تنطلي على أرواح الصفوة ؛ فالمتمردون من الرسامين أكثر شيوعا بكثير من المتمردين من رجال الدين، وفي حالة «التوفيق» (الذي هو تلف كل ديانة؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخدم سيدين) تصاب كل طوائف أوروبا تقريبا بالبدانة. عن طريق التوفيق نجح الكهنة بأعجوبة في الاحتفاظ بوعائهم سليما، أما الفنانون الأصلاء في كل حركة جديدة فإنهم يزدرون الوعاء ويقدسون الروح، وإن ازدراءهم الرقيق للوعاء لا يقل فائدة عن اعتقادهم الجليل في الروح. ونحن حين ننظر إلى تاريخ الفن فقد تبدو لنا فترات القنوط والتوفيق طويلة، إلا أنها بالمقارنة بالأديان الأخرى تدهشنا بقصرها؛ إذ لا يلبث فنان حقيقي أن يظهر عاجلا أو آجلا، وكثيرا ما ينجح بمقدرته وحدها في أن يعيد تشكيل الوعاء بحيث يحتوي الروح احتواء كاملا. •••
تعلم المشي أولا قبل أن تحاول العدو، فإذا كان بوسع صانع ذي حساسية فائقة أن يفيد فائدة ما من روائع الجاليري القومي (شريطة ألا يقترب منه مثقف يريد أن يخبره بما يجب أن يحسه، أو يمنعه أن يحس على الإطلاق بأن يدعوه إلى التفكير)، فإن من الأفضل كثيرا للصانع ذي الحساسية العادية ألا يرتاد المعرض حتى يكتسب، بمحاولة التعبير عن نفسه في الشكل، بصيصا من الرأي الصائب عما يصبو إليه الفنانون، ومن المؤكد أن بمقدور كل إنسان تقريبا، رجلا كان أو امرأة، أن يكون فنانا صغيرا ما دام كل طفل تقريبا هو فنان. ثمة حس بالشكل يمكن أن نلمسه في معظم الأطفال، فماذا يحل به؟ إنها الحكاية القديمة: الطفل أبو الرجل، وإذا شئت أن تحتفظ للرجل بالهبة التي ولد بها، فلا بد أن تتعهده صغيرا، أو بالأحرى تحميه أن يتعهد! فهل نستطيع أن نرفع عنه أيدي الآباء والمعلمين وأنظمة التعليم التي تحول الأطفال إلى رجال ونساء عصريين؟ هل نستطيع أن ننقذ الفنان الكامن في كل طفل تقريبا؟ إننا نستطيع على الأقل أن نقدم بعض النصائح العملية: لا تعبثوا برد الفعل الانفعالي المباشر تجاه الأشياء الذي هو عبقرية الأطفال، لا تتصوروا أن البالغين هم بالضرورة أفضل من يقضي بما هو خير وما هو هام، لا تبلغ بكم الغفلة أن تفترضوا أن ما يثير انفعال العم هو أطرف مما يثير تومي، لا تظنوا أن طنا من الخبرة تعدل ومضة من البصيرة، ولا تنسوا أن معرفة الحياة لا تسعف أحدا في فهم الفن؛ ولذا لا تعلموا الأطفال أن يكونوا أي شيء أو يحسوا أي شيء، فقط ضعوهم على الطريق؛ طريق اكتشاف ماذا يريدون وماذا يكونون.
صفحة غير معروفة