يدخل في صميم ماهيته؛ فالفن اقتراب لا اغتراب، ولقاء معقود وموعد مضروب. إن المبدع والمتلقي «متضايفان»
correlatives (كالأستاذ والتلميذ، والزوج والزوجة، والأب والابن ... إلخ) يأخذ كل منهما من الآخر حقيقته ومعناه، بل إن البشر جميعا في اللحظة الإستطيقية يغدون ذوبا من تضايف عام وامتزاج كلي.
إن الفن يطلعنا على دينامياتنا النفسية وديناميات الآخرين، ويعتقنا من «مركزية الذات»
egocentrism
ويؤهلنا للاندماج العاطفي أو «المواجدة»
empathy
أي القدرة على اتخاذ الإطار المرجعي للآخرين بسهولة ويسر، ومشاركتهم وجداناتهم مشاركة حقيقية مبرأة من إسقاطاتنا الخاصة. الفن هو أقدر ضروب النشاط البشري تعبيرا عن التواصل بين الأفراد وبين الأجيال وبين الأمم؛ لأن الوجد الإستطيقي لا يحده الزمان ولا ترده الحدود الجغرافية، إنه انعتاق من كل صنوف المركزية وانطلاق من كل كهوف التعصب والتحزب والتحيز، وأذان للأرواح بأن تنعطف وتأتلف، وتتقاسم رحابة الوجود.
والفن بوظيفته المعرفية التي أشرنا إليها في فصل سابق، يفتح لنا مغاليق العالم الوجداني، فإلى جانب العلم الذي يزيد من تمكننا الفكري والتصوري من العالم، فإن الفن يزيد من تمكننا الإدراكي والانفعالي، فبفضل كتاب من طراز شكسبير وبروست أمكننا أن نفطن إلى دقائق سيكولوجية ما كان لنا أن نراها، وبالتالي نحسها، لولا قدرتهم على اقتناصها والتعبير عنها، وبفضل مصورين من طراز سيزان ومانيه تعلمنا كيف ننظر إلى الأشياء ونلاحظ العالم، وكيف ننتشي بالتحامنا بالوجود والتقائنا بماهية الأشياء، ومهما أمدنا العلم من معرفة عن حقائق العالم الخارجي، سنبقى بحاجة إلى الفن لكي يزودنا بمعرفة عن عالمنا الداخلي وفضاءات أعماقنا السحيقة.
أقترح، بناء على ذلك، أن يكون الفن (والأدب) علاجا لبعض المصابين بالألكسيثيميا
alexithymia ؛ أي عدم قدرة المرء على فهم مشاعره ووصفها ومعالجتها
صفحة غير معروفة