والتماسا للتوازن، يمكن القول بأن تصميم غلاف هارتفيلد ينتقد الثقافة الشعبية - وتحديدا في هذه الحالة الدعاية السياسية - بدلا من أن يؤكدها. ومرة أخرى، يرسخ ذلك التباين بين الدادائية والسريالية؛ لأن السرياليين عادة ما يغرسون توجها احتفاليا أكثر صراحة تجاه الثقافة الشعبية؛ يتجسد ذلك في موقفهم من شخصية «فانتوماس»، وهي الشخصية الفرنسية المشهورة جدا في سلسلة «مذكرات البنس المرعب» التي نشرها فويارد، بداية من عام 1911 وما بعده. كان السرياليون يجلون شخصية فانتوماس الخيالية، وهو مجرم عتيد الإجرام شديد المراوغة، ارتكب جرائم قتل مروعة منتحلا العديد من الشخصيات، وأجله السرياليون نظرا لشخصيته الغامضة الخارجة على القانون . وفي الثالث من نوفمبر عام 1933، قرأ الشاعر السريالي روبرت ديسنوس على الملأ قصيدته الملحمية «رثاء فانتوماس» في الإذاعة الفرنسية والبلجيكية، التي كدس فيها صورا رهيبة أغلبها مستوحى من أغلفة كتب فانتوماس: فانتوماس يرتدي قبعة عالية سوداء، وتتدلى منه ذيول، ويحوم بشكل منذر بالسوء والعاقبة الوخيمة فوق أسطح بيوت باريس، بندولات صافقة بشرية من أولها إلى آخرها داخل جرس عملاق، والدم يتدفق لأسفل منها وكذلك المجوهرات ... وما إلى ذلك. وبالمثل، قدم الرسام البلجيكي رينيه ماجريت - الذي تدين واقعيته التصويرية المتكلفة عمدا بالكثير للصور المشهورة (مثل أغلفة مجلات نيك كارتر البوليسية) - فروض الطاعة والولاء صراحة إلى نسخ فيلم فانتوماس التي ظهرت بين عامي 1913 و1914، وأخرجها لويس فيولاد. واستخلصت واحدة من أشهر صور ماجريت، وتعرف باسم «السفاح المقتول» (1927)، من الناحية التكوينية، من لقطة لإحدى تلك النسخ.
إن ما أبهر السرياليين هو الطريقة التي استحضرت بها مآثر فانتوماس أسطورة مدنية حديثة تتفق مع الاحتياجات التخيلية لآلاف الباريسيين. وإذ افتتن السرياليون بالحياة اللاواعية للثقافة الشعبية، فقد تبنوا التمثيلات الشعبية بدرجة أقل من الانتقاد مقارنة بالدادائيين؛ ولكن المدينة بحد ذاتها كانت، أكثر من أي شيء، هي التي صنعوا منها أسطورة، وتستدعي هذه الفكرة المهمة الآن مناقشة جديدة.
المدينة
إذا كنا بصدد البحث عن صور قوية للمدينة الحديثة، فسنجد أن لوحات وصور جورج جروتس المنتسبة إلى حقبة دادائية برلين تمثل خيارا واضحا؛ فقد صور جروتس - الذي نمت لديه رؤية تشاؤمية بشكل حاد للطبيعة البشرية بينما كان يخدم في الجيش الألماني خلال عامي 1914 و1915 - المدينة كدوامة جهنمية من القوى الجامحة. وفي خطاب كتبه عن لوحته «مهداة إلى أوسكار بانيتسا» (1917-1918)، وصف «أعدادا غفيرة من الوحوش البشرية الممسوسة»، مضيفا: «إنني مقتنع تماما بأن هذا العصر يبحر بنا إلى دماره؛ فردوسنا الملوثة ... فكروا فحسب: أينما تخطوا تفوح رائحة العفن.» وفي لوحاته اللاذعة بشكل حاد، التي ظهرت في منشورات دادائية برلين مثل «مفلس!»، أو ظهرت على هيئة صور بطريقة الطباعة الحجرية في ملفات نشرتها دار نشر ماليك فيرلاج المملوكة لفيلاند هيرتسفيلده، صور برلين خاضعة لهيمنة الذين انتفعوا من الحرب والذين عانوا ويلاتها؛ منتفعين منتفخين كبرياء، وكسيحين من جراء الحرب يستحقون الشفقة. وحتى الأعمال الأخف وطأة لجروتس، مثل لوحته «داوم تتزوج» (شكل
2-9 ) المرسومة بألوان الماء ممزوجة بتجميعات صورية، والتي أشارت نوعا ما إلى زواجه عام 1920؛ تستدعي صورة برلين وهي تعج ببائعات الهوى والآليين، وثمة لمحة لشارع عديم الملامح في الخلفية.
إن رؤية جروتس الدادائية لبرلين تبعد كثيرا عن التمثيلات السريالية في باريس، وهي ليست بالحقيقة المفاجئة إذا نظرنا إلى الموقف فيما بعد الحرب العالمية في المدينتين. بالنسبة إلى السرياليين، كانت باريس مدينة وحي، واكتسبت أماكن بعينها صفة المزارات الطليعية. في عام 1921، انطلق دادائيو باريس في رحلات قصيرة عجيبة لمناطق غير مبشرة مثل كنيسة سان جوليان لو بوفر. وباعتبارهم سرياليين، فقد بحثوا عن مواقع غريبة أو مثيرة للمشاعر تحديدا، وربما كان أكثر تلك المواقع إجلالا «القصر المثالي» لساعي البريد شيفال الذي يبعد في واقع الأمر مسافة عن باريس، ويقع في قرية أوتيريف بالقرب من ليون، وبناء عليه فقد استدعى الوصول إليه شكلا من أشكال الحج. أقام شيفال «قصره»، بهيكله المغطى بقشرة صلدة، والمتضخم بشكل لافت - والشبيه بقصر برايتون بافيليون إذا نظر إليه شخص منتش بالأفيون - بأحجار غير عادية جمعها على مدار 33 سنة خلال جولاته كساعي بريد.
شكل 2-9: جورج جروتس، «داوم تتزوج إنسانها الآلي المتحذلق «جورج» في مايو 1920. جون هارتفيلد راض جدا عنها.» قلم رصاص، وقلم حبر، وألوان مائية، وكولاج، 1920.
شكل 2-10: «القصر المثالي» لساعي البريد شيفال.
إن المنطق الهوسي الذي يضفي على «القصر» هيئته - وحقيقة أن الذي بناه لم يكن يتمتع إلا بالقليل من الادعاءات الفنية التقليدية - راق بشكل لا يمكن مقاومته للحس السريالي. كفلت لهم باريس نفسها العديد من المواقع الإضافية؛ كالمتحف المهجور من قبل الذي يحوي اللوحات الرمزية العجيبة لجوستاف مورو، ومتنزه بوت شومون المبتذل بشكل يبعث على الحزن، وبرج سان جاك المرتبط بالخيميائي الباريسي نيكولا فلاميل الذي يرجع للعصور الوسطى .
بدت هذه الأماكن وأمثالها جزءا من مدينة بديلة؛ مدينة مستترة عن السياح، أنقذها بمعجزة مخططو المدينة، ويحكمها منطق الرغبة اللاشعورية لا المنفعة اليومية. يجول المؤلفان في أعظم روايتين في بدايات السريالية - وهما: رواية «ناديا» لبريتون، ورواية «فلاح باريس» للويس أراجون (تحولت إلى سلسلة لأول مرة في الفترة خلال عامي 1924-1925) - في أرجاء باريس المسلم بأنها «غابة من المؤشرات» على حد تعبير بريتون، وشبكة من العلامات والمنذرات بالوحي والكشف. يمكن اعتبار السرياليين هنا ورثة طبيعيين لمفهوم الشاعر الفرنسي شارل بودلير عن الفنان العصري باعتباره «جوالا» مدنيا ملتزما بتجميل التدفق المدني. في رواية أراجون «فلاح باريس» التي وضعها تحديدا لتأكيد «الأسطورة العصرية»، يقدم المؤلف خط سير مفصلا لأماكن باريسية لها وقع شاعري عليه، وأشهر ما يجد فيه متعة بالغة المظهر المهجور لممر الأوبرا، وهو عبارة عن سوق على هيئة رواق مقنطر من المقرر هدمه قريبا كجزء من عملية التحديث الجارية تحت لواء الإمبراطورية الثانية برعاية البارون هاوسمن. وإذ يصف الجو العام باعتباره «متحفا مائيا بشريا»، يتمهل أراجون برفق عند العديد من منافذ المحلات؛ محل لطوابع البريد، وآخر للعصي، وثالث لتصفيف شعر السيدات، ويستدعي الأخير تيارا من الخيالات السريالية؛ حيث يتخيل أراجون المتع التي يحظى بها مصفف الشعر المبتدئ، الذي سيكون قوام عمله طوال الحياة «فك شفرات تلك التشابكات التي ألمحت منذ فترة وجيزة إلى التقلب أثناء النوم.»
صفحة غير معروفة