لقد نبعت الفضيحة الأولى للدادائية من أحداث حضرها قليل من الناس، ومن ثم استندت الدادائية من البداية إلى عملية صنع أساطير ذاتية. هناك طريقة أخرى روجت بها الجماعة لنفسها من البداية، وكان ذلك عبر منشورات الجماعة إبان صدور منشورات طليعية سابقة مثل المجلة المستقبلية الإيطالية «لاسيربا»، أو الدورية البريطانية الدوامية «بلاست». كان «كباريه فولتير»، المنشور الأول لجماعة زيوريخ، الذي صدر عام 1916، منشورا جادا نسبيا؛ حيث أورد نسخا لأعمال لشخصيات طليعية مرموقة أمثال بيكاسو، إضافة إلى أعمال الدادائيين، بل إن هذا المنشور صدر في طبعة فاخرة في قوالب خشبية أصلية. صدرت مجلة دادائية زيوريخ التالية، وسميت «الدادائية»، في الفترة بين عامي 1917 و1919، وكانت جريئة في تصميمها؛ حيث استغلت الخطوط الطباعية المتنافرة، خاصة في طبعتها الثالثة. وكانت تلك المجلة أيضا «دولية» الطابع بشكل توكيدي؛ حيث احتوت على أشعار لأتباع الدادائية من أماكن أخرى، مثل فرانسيس بيكابيا ولويس أراجون.
بعروضها الأسطورية بالكباريه، ومجلاتها المطبوعة يدويا في أجزاء منها، كانت دادائية زيوريخ، ولو إلى حد ما، «محلية الصنع»؛ وهي لم تبذل جهدا كبيرا في واقع الأمر من أجل تسخير تقنيات الدعاية الحديثة. يمكننا أن ننظر إلى معرض الدادائية التالي الذي أقيم في برلين، وسنرى العملية المعاكسة تماما تحدث.
هذا الحدث الذي تم تصميمه تأسيا، دون انضباط - وعلى نحو ينطوي على مفارقة شديدة - بمعرض تجاري، كانت له سابقة مشهورة في معرض الدادائية بكولونيا الذي أقيم في العشرين من أبريل عام 1920، وصمم بحيث يتسبب في أكبر قدر من الإزعاج لجمهوره؛ إذ دلف الناس إلى معرض كولونيا عبر مبولة عامة لقاعة الخمر، وفي افتتاح المعرض ألقت عليهم فتاة صغيرة ترتدي فستانا لأحد الكوميونات أشعارا فاضحة، وتضمنت الأعمال المعروضة منحوتة لماكس إرنست، وألحق بها فأس لتكسير المنحوتة. كان حدث برلين - الذي أقيم في معرض تجاري خلال الفترة من 30 يونيو إلى 25 أغسطس عام 1920، وعرف باسم «المعرض الدولي الأول للدادائية»، وحوى حوالي 200 عمل فني اتخذت شكل العديد من الوسائط - صداميا بالقدر نفسه، لكنه كان مبنيا من البداية تلبية لغاية الحصول على أكبر قدر من الدعاية. واستنسخت على نطاق واسع الصورة الفوتوغرافية الشهيرة الموجودة بالقاعة الرئيسية للمعرض (شكل
2-1 )، التي تضمنت زيا رسميا محشوا لضابط بروسي مثبتا عليه رأس خنزير ومعلقا في السقف؛ وتمثالا لعرض الأزياء من تصميم جورج جروتس وجون هارتفيلد، رأسه على هيئة مصباح مضيء. ونشرت الصحف على مستوى العالم - من باريس وحتى بينويس أيريس - مقالات تتناول الحدث.
شكل 2-1: عرض لمكونات معرض الدادائية الدولي الأول، برلين، يونيو 1920.
كان المعرض الدولي للدادائية، شأنه شأن كباريه فولتير، تجربة مثيرة للاضطراب بشدة. وكما يتضح من الصورة، تضمنت جدران المعرض تجميعات صورية لهاوسمن وأمثاله، ولوحات لجروتس وأوتو ديكس، لكنها تنافست على اهتمام الجمهور مع ملصقات تحمل شعارات مثل «الدادائية تميل إلى البروليتاريا الثورية»، و«كل إنسان يستطيع أن يتبنى الدادائية»، و«مات الفن: فليحي عصر فن الآلة الجديد لتاتلين». كان من الصعب على المشاهد الفصل بين الفن (المناقض) المعروض والحاجز الجدلي؛ وبالطبع هذا هو تحديدا الأثر المنشود. إن الشعار الداعم لتاتلين كاشف تحديدا عن الاستراتيجية الكلية لجماعة برلين؛ فقد كان تاتلين - الشخصية الرائدة البارزة في البنائية الروسية الذي لم يعرفوا أعماله كلها - يعتبر تجسيدا لاتجاه مادي جديد للفن، ومن ثم جاء تناقض الروحانية الزائفة الممثلة بالنسبة إليهم في جيل التعبيرية. لكن النقطة المحورية المتعلقة بهذا الحدث هو أن الشعارات التي رفعها كشفت عن وعي دادائيي برلين بالقوة المتزايدة للإعلان في الحياة اليومية؛ فبدلا من النأي عن عمليات العالم التجاري، سلبوه استراتيجياته لنشر رسالتهم.
المحاكمة الصورية وشارع تماثيل عرض الأزياء
حمل نوعا تجليات الدادائية اللذان تعرضنا لهما - الدادائية «المحلية الصنع» ولكن السريعة التحول إلى أسطورة، والدادائية الأخرى الميالة بشكل واضح نحو الدعاية الجماهيرية - معالم رغبة الحركة في الإطاحة بالقيم الحالية أو إحداث ثورة فيها. وبالالتفات إلى حدثين آخرين مناظرين - أحدهما سريالي بدائي، والآخر سريالي متكامل الأركان - سيسهل علينا تحديد بعض الفروق المحورية بين الدادائية والسريالية. يكشف الحدث الأول عن التحول من الدادائية إلى السريالية، الذي وقع في باريس كجزء من «الحركة الغامضة» خلال الفترة بين عامي 1921 و1924.
في الثالث عشر من مايو عام 1921، شارك أندريه بريتون ومجموعة من حلفاء الدادائية، إضافة إلى عدد من الشخصيات الأدبية والسياسية، في «محاكمة صورية» عجيبة، أقيمت لاختبار مدى إيمان بريتون بأن موريس بارس، المؤلف اليميني المشهور، مدان ب «جرائم ضد أمن العقل». بالنظر إلى صورة فوتوغرافية للحدث، يمكننا أن نرى أنه كان ينطوي على درجة من العبثية اللحظية. ارتدى الدادائيون أنفسهم لباس المحكمة العليا بشكل متقن، بينما مثل بارس - الذي لم يتنازل ويدافع عن نفسه - على هيئة دمية. وعلى الرغم من ذلك، كان الحدث مصمما بعناية وهادئا في نبرته؛ حيث تخلى عن عفوية التجليات الدادائية السابقة مثل كباريه فولتير السابقة مناقشته.
من عدة أوجه، صورت المحاكمة من البداية على اعتبار أنها «بيان موقف» من جانب بريتون، علاوة على كونها فرصة للتصوير (وهي الاستراتيجية التي سنناقشها لاحقا). دفع قليل من الناس رسما لقاء حضور المحاكمة، لكن التركيز كان موزعا بالتساوي على المشاركين ووجهات نظرهم الأيديولوجية. جدير بالذكر أن المشاركين لم يكونوا أتباع الدادائية فحسب، بل إنهم دعوا «شهودا» لحضور الحدث، وتراوح الشهود ما بين الروائية القومية راشيلد وجورج بيوش، وهو الشيوعي الذي دافع عن المجرمين السياسيين في المحاكم. عقد الاجتماع في بنايات سبق أن استخدمها نادي فوبورج، وهو عبارة عن جمعية لتطوير الخطابة الارتجالية تأسست خلال الثورة الفرنسية، ودعي للاجتماع لفيف من الشخصيات العامة البارزة لمناقشة الأمور السياسية قبل إقامة تلك المحاكمة البوهيمية. (في مرة من المرات، حرض اجتماع للنادي على الهجوم على سجن الباستيل.)
صفحة غير معروفة