مثل ساستكم: لا شيء ...
مثل فنانيكم: لا شيء ...
أساسا، شنت الدادائية الباريسية، شأنها شأن تجليات الدادائية في أي مكان آخر، حربا على الخطاب الفني المهترئ. وفي الحدث نفسه، قدم بيكابيا لوحة من القماش تحوي دمية على شكل قرد وتحيط به الكلمات التالية: «صورة لسيزان، صورة لرامبرانت، صورة لرينوار ...»
السريالية: البدايات
بحلول منتصف عام 1922، أمست الدادائية الباريسية، في شكلها النهائي المتجسد بالكامل، موصومة بسلبيتها الشخصية، ومن مؤشرات زوالها تنظيم بريتون ل «مؤتمر باريس» الذي أكد ضمنا، في مسعاه إلى تحديد الاتجاه الكلي للنشاط الطليعي، على أن ما كانت الدادائية تسعى لتفاديه بالضبط هو: مجرد حركة فنية في تاريخ الفن. يتجلى هنا ولع بريتون بالسياسة الثقافية؛ فإذ اتهم الدادائية ب «النفي المتغطرس» والميل إلى «الفضيحة من أجل الفضيحة»، فقد استغل الفرصة وأعاد ترتيب أولويات الطليعية؛ وكان الطريق ممهدا أمام السريالية.
وصل ماكس إرنست من كولونيا في نهاية عام 1922؛ حيث كان حلقة الوصل مع أنشطة الدادائية الألمانية، على الرغم من أنه لم يكن حلقة الوصل مع أكثر تلك الأنشطة تسيسا. لعامين كاملين، وتحديدا في الفترة بين عامي 1922 و1924، كانت هناك فجوة نوعا ما بين الدادائية والسريالية، وهي المرحلة التي أطلق عليها أعضاء تلك الحركة «الحركة الغامضة». وخلال تلك الفترة، انخرط بريتون وأراجون وإيلوار، إضافة إلى مستجدين أحدث عهدا بحركة الأدب مثل روبرت ديسنوس ورينيه سريفيل، في مجموعة متنوعة من الأنشطة التجريبية. من أكثر تلك الأنشطة إثارة «جلسات تحضير الأرواح» التي أجابت فيها مجموعة من أعضاء الحركة، وأبرزهم ديسنوس، بشكل غريب الأطوار عن أسئلة طرحت عليهم أثناء انغماسهم في حالات غيبوبة ذاتية التحريض؛ جرى آنذاك بشكل منظم استكشاف الاهتمام بكل ما هو غير عقلاني، الذي تجلى في حد ذاته في الدادائية باعتبارها حركة حرة روحية مناوئة للبرجوازية. بينما كان بريتون يخدم كممرض في صفوف الجيش الفرنسي خلال فترة الحرب ، تعرف على نظريات سيجموند فرويد الخاصة باللاوعي. ترجمت أعمال ذلك المحلل النفسي لأول مرة للفرنسية خلال أوائل عشرينيات القرن العشرين، وسرعان ما استوعب بريتون وأصدقاؤه الفكرة العلمية للاوعي ودمجوها بما يخدم مصالحهم الشعرية؛ حيث قاموا بتطوير تقنيات «الكتابة التلقائية» التي بموجبها - نوعا ما على غرار نموذج فرويد ل «التداعي الحر للمعاني» - أسهبوا في الكتابة السريعة دون وجود أي فكرة سابقة التصور. ولكن، أثبت اجتماع تم بين بريتون وفرويد في فيينا عام 1921 بما لا يدع مجالا للشك، أن فرويد لم يتعاطف كثيرا مع مثل هذه المواءمات الفنية لتقنياته العلاجية.
بحلول عام 1924، رأى بريتون أنه من الملائم أن يوحد تلك النزعات تحت اسم واحد، وبعد فترة ولادة طويلة خرجت السريالية إلى النور بنشر بريتون أول بيان عام للسريالية.
كان أبولينير، المثل الأعلى لبريتون، هو أول من سك كلمة السريالية عام 1917، لكن محاولة أبولينير الغامضة نوعا ما لتمييز روح جديدة متجاوزة للمنطق في الفنون، اتسمت بدقة أكبر في «البيان العام» لبريتون عام 1924؛ حيث وصفت السريالية بأنها «قائمة على الإيمان بالحقيقة الأسمى لارتباطات مهملة مسبقا بعينها، وبالقدرة الكلية للأحلام، وبالتلاعب العقلي بالأشياء بلا مبالاة.» كان البيان العام بالأساس ميثاقا لشاعر؛ فلم تكن فيه عناية بالفنون البصرية في هذه المرحلة، ومنحت الأولوية ل «التلقائية النفسية ... بواسطة الكلمة المكتوبة، أو بأي طريقة أخرى.» وحقيقة أن ممارسة هذا البيان «في غياب أي نوع من رقابة العقل، وبعيدا عن أي هموم جمالية»، أوضحت أن السريالية ورثت واحدا من المبادئ المحورية للدادائية، الأمر الذي يرجع بنا إلى قلب النقاش السابق؛ نقد الفن المستقل الذاتي الإحالة. كانت السريالية شأنها شأن الدادائية مكرسة لمحو الفروق بين مزاعم «الفن» ومزاعم «الحياة»، وإذ وصف بريتون فرويد بالنور الهادي للمشروع السريالي، لم يتكلم بريتون كثيرا عن المنتج الجمالي بقدر ما تحدث عن «الإنسان المستكشف» الذي يجري «تمحيصاته». رأى الناس فيها ثورة جديدة، لا أقل، وأكد أحدهم أنه: «لعل الخيال على وشك أن ... يسترجع حقوقه.»
بدأت السريالية كحركة أدبية، وكان أوائل طلائعها شعراء وكتابا فرنسيين ، أمثال: آرثر رامبو، وإيزيدور دوكاس (الكونت لوتريامون)، وريمون روسيل، وألفريد جاري. وبمرور عشرينيات القرن العشرين، دار تدريجيا الفنانون البصريون، لا سيما الرسامون، في مدار السريالية منجذبين بنموذج «رسم الشعر»، وكان ماكس إرنست رائدا - بأسلوبه الفني الذي تأثر بلا شك بمصادفته نسخا لأعمال الرسام الإيطالي جورجيو دي شيريكو - لما يمكن أن نصفه جوازا ب «الرسم الحالم».
على الرغم من كون الأحلام محورية كموضوع أساسي للفنانين السرياليين، فإن عملية تدوينها بصريا قد كانت تستوجب تمهلا واعيا جدا. وكما أوضح كثير من المعلقين، كانت تلك الفكرة مناقضة لنموذج تجاوز رقابة العقل. إن تدخلات نقدية كهذه، التي تتطلب إعادة تقييم مستمرة للمبادئ، أمست القاعدة المعمول بها إلى حد كبير في السريالية. وحقيقة الأمر أن الهجوم على «الرسم الحالم» حمل الفنانين آندريه ماسون وخوان ميرو على إنتاج معادلات بصرية للعفوية التي لطالما مارسها شعراء الحركة. ومن بين جوانب النقص الأخرى ل «الرسم الحالم» أنه كان بالإمكان استيعابه مرة واحدة، في الوقت الذي تتكشف فيه الأحلام بطبيعة الحال في الوقت المناسب؛ ولذا، كان الطريق ممهدا للأفلام للاستجابة إلى المتطلبات السريالية، وفي أواخر عشرينيات القرن العشرين، تم إنتاج فيلمين غاية في الأهمية: «كلب أندلسي» و«العصر الذهبي»، وكان الفيلمان ثمرة تعاون بين الإسبانيين اللذين استقطبتهما باريس؛ لويس بونويل وسلفادور دالي.
صفحة غير معروفة