ولا شك أن حروب نابليون بونابرت كانت لها يد قوية في تمكن هذه النزعة بين الأمم الجرمانية خاصة؛ لأنها كانت سلاحها الذي تدرأ العار به عن فخارها القومي في مجال الصراع بينها وبين اللاتين أو بين أمم الشمال وأمم الجنوب، وقد كان نابليون - قائد فرنسا اللاتينية في صراعها مع الجرمان - منحدرا من جنوب الجنوب بالقياس إلى القارة الأوروبية، فكانت صيحة الفخار القومي التي تستثار بها الأمم الجرمانية إلى الوحدة هي تعظيم مزايا الجنس الشمالي الذي ينتمون إليه، واتفق ذلك في عصر البحث عن الأجناس وعصر النشوء والتطور وعصر السباق إلى الاستعمار وعصر الديمقراطية التي تخلف فيها الجرمان عن جيرانهم، فكانت صيحة التفوق العنصري على أشدها بين الألمان، وكادت عقيدة الجنس الآري أن تنحصر فيهم بعد مولدها في بلاد الإنجليز على لسان واحد منهم وهو العلامة ماكس موللر الذي سبقت الإشارة إليه، ومن ثم بدرت دعوة إلى التفوق العنصري لم تكن لها صلة بالثقافة الألمانية الحديثة من قريب أو بعيد. •••
وقد تعددت الأسباب التي ألهجت ساسة الألمان بعد الحرب العالمية الماضية (1914-1918) بمسألة العنصر ودعوى الآرية أو الأقوام الشمالية وما لها من الرجحان على خلائق الله كافة من أوروبيين وغير أوروبيين، سواء في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
فقد احتاج الساسة الألمان إلى محاربة المذهب الشيوعي فوضعوا بإزائه مذهب الاشتراكية «الوطنية» وهي تعتصم بالخصائص القومية في وجه الدولية التي يبثها الشيوعيون؛ وفاقا لعقيدتهم المعروفة، وهي عقيدة الثورة على الأوطان والأديان.
ووافقتهم الخصائص القومية في حربهم للشيوعيين من وجه آخر غير المقابلة بين المذهبين، وذاك هو المقابلة بين عنصر السلافيين وعنصر التيوتون الذي ينتمي إليه الألمان. فكانوا يقولون: إنهم هم حماة الحضارة الأوروبية من زحوف البرابرة التي تهددها من قبل آسيا في الزمن الحديث.
واستغلوا دعوة العنصر الآري استغلالا غير هذا وذاك في محاربة اليهود باسم الساميين.
واستغلوها مع هذا وذاك لاستنهاض نخوة الأمم الجرمانية بعد هزيمتها المنكرة في ميادين القتال، فنفخوا في أوداجها أنها أهل للظفر - وليست بأهل للهزيمة - لأنها خلقت للسيادة وتنزهت في سلالتها الآرية عن شوائب الأجناس، وأدخلوا في روعها أنها كانت وشيكة أن تظفر بأعدائها لولا خيانة العمال من قبل الشيوعية، وخيانة اليهود من قبل الشيوعية تارة ومن قبل أصحاب الأموال تارة أخرى.
فأصبحت دعوة العنصر هوسا جامحا كهوس التعصب في كل عقيدة من العقائد الشعورية، وبلغ من التهوس بالدم الآري المزعوم أنهم جعلوه فلسفة في الحكم وفلسفة في الأخلاق والفنون والآداب، فكانوا يقولون: إن الحكومة بنية حية تنبت من الدم القومي كما تنبت الجوارح في الأجسام، وإن الزعيم تركيب داخل في تلك البنية بتقدير من طبيعة الكون أو طبيعة الخلاق العظيم، وكان هتلر ينادي في كتابه:
إننا معشر الآريين لا نعرف الحكومة إلا كبنية ذات حياة يتلبس بها الشعب من الشعوب ...
فهي شيء لا يدخل في الإرادة ولا في التربية السياسية ولا في نظم التشريع والانتخاب.
وتطوح الغلو بدعاة هذه العنصرية حتى بلغوا بها - مع تلك البواعث النفسية والسياسية - مبلغا لم يسبقهم إليه سابق في عالم البحث ولا في عالم الخيال، فجعلوا أجناس البشر فصائل تتعاقب طبقة تحت طبقة حتى تلتقي بالقردة ولا يبعد أن تناسلها، وجعلوا أنفسهم نخبة مختارة بين فصائل الآرية جمعاء ترتقي إلى الذروة العليا في ذلك الترتيب، وعادوا إلى كل رجل من أصحاب القرائح الخلاقة بين عظماء الأمم فألحقوه بالآريين على وجه من الوجوه، وعادوا إلى كل اختراع من مبتكرات الصناعة وأدوات الحضارة فنسبوه إلى شعبة آرية مقيمة في موطنها أو مهاجرة إلى وطن من الأوطان، فحصروا الخلق والقيادة في الآرية المزعومة دون غيرها، وجعلوا العناصر الأخرى جميعا عالة على الآريين ينتفعون بما يخلقون، ويدينون لسيادتهم طائعين أو كارهين.
صفحة غير معروفة