ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين. فيقول له هرتز: إن أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون ويحكم على أمم الشمال بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين - كرشمر وكيسلنج وفك - أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسا واحدا من الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة؛ لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب فيما يقول هيرودوت. والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سامي وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه اسم سامي آسيوي محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة الآخرين.
ولا يريد هرتز أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب ولا جنس من الأجناس؛ لأنه يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام. فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس وأحد كبار الشعراء في الدنيا، وسليمان وهو زنجي آخر كان في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت بأدبها ورجاحة لبها مكانة تغبط عليها في البلاط الألماني وأصبحت صديقة حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو معروف.
يقول هرتز: «لا ترى أحدا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر. أما في بني الإنسان فالفرق اليسير - بالغا ما بلغ من التفاهة - كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة. وما الفرق هنا مع هذا إلا اختلاف في الدرجة لا في الجوهر. فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في الجميع.»
كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندا وأثبت بينة من كلام المغرقين في تمجيد الأوروبيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين.
فلا وقائع التاريخ ولا مباحث العلم ولا مشاهدات العيان تؤيد دعوى العنصريين الذين يستخلصون من النوع البشري كله نخبة واحدة ويفردونها بأفضل المزايا وأشرف الأخلاق بين السلالات الإنسانية.
ولكننا نتجاوز الحد المأمون إذا تجاوزنا هذه الحقيقة إلى ما وراءها، فكل ما هو محقق في صدد المفاخر العنصرية، أن العلم لا يؤيد الامتياز المطلق الذي يدعيه العنصريون لبعض السلالات، ولكنه لا ينفي وجود الاختلاف بين العناصر ولا توارث الخصائص الجسدية وما يتعلق بها من الخصال النفسية. فهذه فروق موجودة يزداد ظهورها في بعض الأفراد وينقص في آخرين ولكنها لا تبطل ولا يتأتى لنا أن نتجاهلها ونتجاوز عنها إلا إذا تجاوزنا العيان وأغضينا عن المحسوس الماثل لجميع الأذهان.
وقد يوجد من العنصرين المختلفين شخصان يتشابهان وتصعب التفرقة بينهما على الباحث المحقق فضلا عن الناظر في عرض الطريق. ولكن التشابه حينا لا يمنع الاختلاف في جميع الأحيان، ولو ذهبنا نبطل المخالفة بين الأنواع كلما وجدت المشابهة بينها لأمكن إنكار الفارق بين الإنسان والحيوان على هذا القياس، فإذا قيل: إن الحيوان يمشي على أربع أمكن أن يقال كذلك: إن بعض الإنسان يمشي على أربع، وإذا قيل: إن الحيوان أعجم أمكن أن يقال كذلك: إن بعض الإنسان أبكم وإن بعض الطير ينطق كما ينطق الإنسان، وإذا قيل: إن الحيوان مسلوب العقل والتفكير أمكن أن يشار إلى أفراد من الناس لا يعقلون ولا يفكرون. وإذا قيل: إن الإنسان والحيوان لا يتناسلان أمكن أن يقال: إن الكلب حيوان والهر حيوان وهما لا يتناسلان.
فوجود المشابهة في بعض الأفراد لا ينفي المخالفة في عامة الأفراد. وقد يتعذر الفارق الحاسم بلغة العلم المقرر ولكنه مع ذلك يبقى فارقا حاسما إلى أن يوجد التعريف.
والحد المأمون الذي لا نريد أن نتجاوزه في هذا الصدد هو ما أسلفناه من أن الدعوى التي تفرد بعض العناصر بأفضل المزايا وأشرف الأخلاق هي دعوى يعوزها الدليل القاطع من وقائع التاريخ ومباحث العلم ومشاهدات العيان. أما الاختلاف بين خصائص الأجناس فهو موجود لا شك فيه وإن تفاوتت درجات ظهوره في بعض الأفراد.
فمن المشاهدات - ومن البديهات معا - أن العزلة في النسب وفي التعرض للمناخ والبيئة وأحوال المعيشة وعادات الاجتماع تعقب العزلة في الصفات الجسدية والخلائق النفسية على السواء.
صفحة غير معروفة