*
(بسم الله الرحمن الرحيم) * وبه نستعين في جميع الأمور
الحمد لله استفتاحا بحمده، وصلى الله على محمد رسوله وعبده (1)، وعلى الأئمة الطاهرين من أهل بيته أجمعين. أما بعد، فإنه لما كثرت الدعاوي والآراء، واختلفت المذاهب والأهواء، واخترعت الأقاويل اختراعا، وصارت الأمة (2) فرقا وأشياعا، ودثر أكثر السنن فانقطع، ونجم حادث البدع وارتفع، واتخذت كل فرقة من فرق الضلال، رئيسا (3) لها من الجهال، فاستحلت بقوله الحرام وحرمت به الحلال، تقليدا له واتباعا لامره بغير برهان من كتاب ولا سنة، ولا بإجماع جاء عن الأئمة والأمة، تذكرنا (4) عند ذلك قول رسول الله (صلع): " لتسلكن سبل الأمم ممن (5) كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة (6) بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". وفي حديث آخر: " لتركبن سنن (7) من كان قبلكم ذراعا بذراع وباعا بباع حتى لو سلكوا خشرم (8) دبر لسلكتموه (9) فكانت الأمة إلا من عصم الله منها بطاعته وطاعة رسوله وأوليائه الذين افترض طاعتهم في ذلك كمن حكى الله عز وجل نبأه (10) من الأمم السالفة
صفحة ١
بقوله سبحانه: (1) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
وروينا عن جعفر بن محمد أنه تلا هذه الآية فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلوا إليهم ولكنهم أحلوا لهم حراما فاستحلوه وحرموا عليهم حلالا فحرموه.
وروينا عن رسول الله (صلع) أنه قال: إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله.
فقد رأينا وبالله التوفيق عند ظهور ما ذكرناه أن نبسط كتابا جامعا مختصرا يسهل حفظه ويقرب مأخذه، ويغنى ما فيه من جمل الأقاويل عن الاسهاب (2) والتطويل، نقتصر فيه على الثابت الصحيح مما رويناه (3) عن الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلع) من جملة ما اختلفت فيه الرواة عنهم في دعائم الاسلام، وذكر الحلال والحرام، والقضايا والأحكام فقد روينا عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: بنى الاسلام على سبع دعائم:
(1) الولاية (4) وهي أفضلها وبها وبالولي يوصل إلى معرفتها.
(2) والطهارة (3) والصلاة (4) والزكاة (5) والصوم (5) (6) والحج (7) والجهاد فهذه دعائم الاسلام نذكرها إن شاء الله بعد ذكر الايمان الذي لا يقبل الله تعالى عملا إلا به، ولا يزكو عنده إلا من كان من أهله، ونشفعها بذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام لما في ذلك من التعبد والمفروضات في الأشرية والبياعات والمأكولات والمشروبات والطلاق والمناكحات والمواريث والشهادات وسائر أبواب الفقه المثبتات الواجبات. وبالله نستعين وإياه نستوهب التوفيق لما يزكو لديه ويزدلف به إليه وهو حسبنا ونعم الوكيل (6).
صفحة ٢
ذكر الايمان(1)
روينا عن جعفر بن محمد أنه قال: الايمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان وهذا الذي لا يصح غيره، لا كما زعمت المرجئة أن الايمان قول بلا عمل (2)، ولا كالذي قالت الجماعة من العامة إن الايمان قول وعمل فقط، وكيف يكون ما قالت المرجئة إنه قول بلا عمل وهم والأمة مجمعون على أن من ترك العمل بفريضة من فرائض الله عز وجل التي افترضها على عباده منكرا لها أنه كافر حلال الدم ما كان مصرا على ذلك، وإن أقر بالله ووحده وصدق رسوله بلسانه إلا أنه يقول هذه الفريضة ليست مما جاء به (3) وقد قال الله عز وجل: (4) وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة، فأخرجهم من الايمان بمنعهم الزكاة وبذلك استحل القوم أجمعون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله دماء بنى حنيفة وسبى (5) ذراريهم وسموهم أهل الردة إذ (6) منعوهم الزكاة.
وقد روينا عن جعفر بن محمد صلى الله عليه وآله أنه قال: قال أبى رضوان الله عليه يوما لجابر (7) بن عبد الله الأنصاري: يا جابر، هل فرض الله الزكاة على مشرك، قال: لا إنما فرضها على المسلمين، قلت أنا له: فأين أنت من قول الله عز وجل: (8) وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة، قال جابر: كأني والله ما قرأتها، وإنها لفي كتاب الله عز وجل، قال أبو عبد الله: فنزلت فيمن أشرك بولاية أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وأعطى زكاته من نصب نفسه دونه. والكلام في مثل هذا يطول.
وقول الجماعة إن الايمان قول وعمل بغير اعتقاد نية محال، لأنهم قد أجمعوا على أن رجلا لو أمسك عن الطعام والشراب يومه إلى الليل وهو لا ينوى الصوم لم 7 - 6, 41 (8)
صفحة ٣
يكن صائما، ولو قام وركع وسجد وهو لا ينوى الصلاة لم يكن مصليا، ولو وقف بعرفة وهو لا ينوى الحج لم يكن حاجا، ولو تصدق بماله كله وهو لا ينوى به الزكاة لم يجزه من الزكاة، وكذلك قالوا في عامة الفرائض، فثبت أن ما قال الإمام عليه السلام من أن الايمان قول وعمل ونية وهو الثابت (1) الذي لا يجزى غيره.
وقد روينا عن رسول الله (صلع) أنه قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما (2) لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لامرأة يتزوجها أو لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
والايمان شهادة أن الا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها (3)، والتصديق بأنبياء الله ورسله والأئمة ومعرفة إمام الزمان والتصديق به والتسليم لامره والعمل بما افترض الله تعالى على عباده العمل به، والانتهاء عما نهى عنه، وطاعة الامام والقبول منه.
وقد روينا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلى الله عليه وآله أن سائلا سأله عن أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل، فقال: ما لا يقبل الله عز وجل عملا إلا به، قال (4) وما هو؟ قال: الايمان بالله أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا، قال السائل: قلت له: أخبرني عن الايمان، أقول وعمل، أم قول بلا عمل، قال: الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته (5) يشهد له الكتاب ويدعو إليه. قال: قلت:
بين لي ذلك، جعلت فداك، حتى أفهمه، قال: إن الايمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهى تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه، ومنه الراجح (6) رجحانه، قال: قلت: وإن الايمان ليتم وينقص ويزيد.
قال: نعم. قلت: وكيف ذلك، قال: (7) لان الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد
صفحة ٤
وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه، الذي لا تورد الجوارح ولا تصدر الا عن رأيه وأمره، ومنها عيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشى بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به ورأسه الذي فيه وجهه. فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله يشهد به الكتاب، ففرض على القلب غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.
فأما ما فرض على القلب من الايمان فالاقرار والمعرفة والعقد والرضا (1) والتسليم بأن الله تبارك وتعالى هو الواحد، لا إله إلا هو وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، والاقرار بما كان من عند الله من نبي أو كتاب، وذلك ما فرض على القلب من الاقرار والمعرفة، قال الله عز وجل: (2) إلا من أكره وقبله مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا. وقال عز وجل: (3) ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وقال: (4) الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وقال عز وجل: (5) إن تبدوا خيرا أو تخفوه، وقال عز وجل: (6) وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فذلك ما فرض الله عز وجل على القلب من الاقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الايمان، وفرض على اللسان العقل والتعبير (7) عن القلب ما عقد عليه فأقر به، فقال تبارك وتعالى: (8) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم
صفحة ٥
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، وقال: (1) قولوا للناس حسنا. وقال: (2) وقولوا قولا سديدا، وقال (3) وقل الحق من ربكم (4)، وأشباه ذلك مما أمر الله عز وجل بالقول به، فهذا ما فرض الله عز وجل على اللسان وهو عمله (5).
وفرض على السمع الاصغاء إلى ما أمر الله به وأن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله وما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه، وعن الاصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل، وقال في ذلك: (6) وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم، ثم استثنى في موضع آخر، وقال: (7) وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، وقال: (8) فبشر عباد (9) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، ثم قال: (10) قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكوة فاعلون. وقال: (11) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقال: (12) وإذا مروا باللغو مروا كراما، فهذا ما فرض الله على السمع من التنزه عما لا يحل له (13) وهو عمله.
وفرض الله على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله، وأن يغض عما نهى الله عنه مما لا يحل له وهو عمله وذلك من الايمان، وقال تبارك وتعالى: (14) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، يعنى (15) من أن
صفحة ٦
ينظر أحدهم إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه أحد، ثم قال أبو عبد الله (ع م): كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى إلا هذه الآية، فإنها من النظر. ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية واحدة، فقال: (1) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا، وقال عز وجل: (2) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، يعنى بالجلود الفروج والأفخاذ، فهذا ما فرض على العينين من غض البصر عما حرم الله وهو عملهما وذلك من الايمان.
وفرض على اليدين أن لا يبطش (3) بهما إلى ما حرم الله عز وجل وأن تبطشا (4) إلى ما أمر الله به وفرضه (5) عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهر للصلاة، قال الله عز وجل: (6) يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا (7) وقال في آية أخرى: (8) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار، وقال: (9) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء. فهذا أيضا مما فرض الله عز وجل على اليدين لان الضرب من علاجهما، وهو من الايمان.
وفرض على الرجلين المشي إلى طاعة الله وأن لا يمشى بهما إلى شئ من معاصي الله وأن تنطلقا إلى ما أمر الله به وفرض عليهما من المشي فيما يرضى الله عز وجل، فقال عز وجل في ذلك: (10) ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، وقال: (11) واقصد في مشيك
صفحة ٧
واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير، وقال: (1) يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله. وقال: (2) وليطوفوا بالبيت العتيق، فقال عز وجل فيما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسها وعلى أربابها من نطقها بما أمر الله به وفرض عليها: (3) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فهذا أيضا مما فرض الله على اليدين والرجلين وهو عملهما وهو من الايمان.
وفرض على الوجه السجود بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال: (4) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين، وقال في موضع آخر: (5) وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا . فهذا ما فرض الله على الجوارح من الطهور والصلاة، وسمى الصلاة إيمانا في كتابه وذلك أن الله عز وجل لما صرف وجه نبيه عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمره أن يصلى إلى الكعبة، قال المسلمون للنبي صلى الله وعليه وعلى آله: أرأيت (6) صلاتنا هذه التي كنا نصليها إلى بيت المقدس ما حالها وحالنا فيها؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك: (7) وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم، فسمى الصلاة إيمانا. فمن لقى الله عز وجل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليها لقى الله كامل الايمان وكان من أهل الجنة، ومن خان الله شيئا منها وتعدى ما أمره الله عز وجل به لقى الله ناقص الايمان، (8) قال السائل: قلت يا بن رسول الله (صلع) قد فهمت نقصان الايمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته وما الحجة في زيادته، قال جعفر بن محمد (ع م) قد أنزل الله عز وجل بيان
صفحة ٨
ذلك في كتابه فقال: (1) وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون، وقال عز وجل: (2) نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى.
ولو كان الايمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة لم يكن لاحد فيه فضل على أحد، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنة، وبرجحانه وبالزيادة فيه تفاضل المؤمنون في الدرجات عند الله، وبالنقصان منه دخل المقصرون النار. قال السائل قلت: وإن الايمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله؟ قال: نعم، قال السائل: قلت صف لي كيف ذلك حتى أفهمه، قال: إن الله عز وجل سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان ثم قبلهم على درجاتهم في السبق إليه، ثم جعل كل امرئ منهم على درجة سبقه لا ينقصه فيها من حقه، لا يتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا، فبذلك فضل أول هذه الأمة آخرها، وبذلك كان علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أفضل المؤمنين لأنه أول من آمن بالله منهم. فلو لم يكن لمن سبق إلى الايمان فضل على من تأخر للحق آخر هذه الأمة أولها، نعم، ولتقدمهم (3) كثير منهم لأنا قد نجد كثيرا من المؤمنين الآخرين من هو أكثر عملا من الأولين، أكثر منهم صلاة وأكثر منهم صوما وحجا وجهادا وإنفاقا، ولو لم تكن سوابق (4) يفضل بها المؤمنون بعضهم بعضا لكان الآخرون بكثرة العمل يقدمون (5) على الأولين ولكن أبى (6) الله جل ثناؤه أن يدرك آخر درجات الايمان أولها أو يقدم (7) فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله، قال:
قلت أخبرني عما ندب الله إليه المؤمنين من الاستباق إلى الايمان، قال: قال الله عز وجل: (8) سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض
صفحة ٩
السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، قال: (1)، والسابقون السابقون * أولئك المقربون، وقال: (2) والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وقال: (3) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، وقال: (4) والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم، ثم ثنى (5) بالأنصار، ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كل قوم على درجاتهم ومنازلهم عنده، وذكر استغفار (6) المؤمنين لمن تقدمهم من إخوانهم ليدل على فضل منازلهم، ثم ذكر ما فضل به أولياءه بعضهم على بعض فقال عز وجل: (7) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، وقال: (8) ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض، وقال (9): هم درجات عند الله، وقال: (10) ويؤت كل ذي فضل فضله، وقال: (11) الذين آمنوا
صفحة ١٠
وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، وقال: (1) وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة، وقال: (2) لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى، وقال: (3) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، فهذه درجات الايمان ومنازله ووجوهه وحالات المؤمنين وتفاضلهم في السبق، ولا ينفع السبق بلا إيمان ومن نقص إيمانه أو هدمه لم ينفعه تقدمه ولا سابقته، قال الله عز وجل: (4) ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
قال (5) جعفر بن محمد صلوات الله عليه (6) في قول الله عز وجل: ومن يكفر بالايمان فقط حبط عمله، قال: (7) كفره به تركه العمل بالذي أمر به، وهذا أيضا مما يؤيد القول الذي قدمناه من أن الايمان (8) قول وعمل واعتقاد. ولن يكون القول والعمل والاعتقاد إلا مع الايمان والتصديق فحينئذ يكمل الايمان، ومن قال وعمل واعتقد خلاف الايمان والحق لم يكن مؤمنا ولم ينفعه عمله ولو أدأب (9) نفسه، قال الله عز وجل: (10) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا، وقال عز وجل: (11) وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية، والدلائل على ذلك كثيرة.
صفحة ١١
ذكر فرق ما بين الايمان والاسلام (1)
قال الله عز وجل: (2) قالت الاعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم، وقال: (3) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين، قال: (4) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، فدل ظاهر كتاب الله جل ذكره على أن الايمان شئ والاسلام شئ، لا على أنهما شئ واحد كما زعم بعض العامة، وقد روينا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلوات الله عليه (5) أنه قال: الايمان يشرك الاسلام والاسلام لا يشرك الايمان، والاسلام هو الظاهر (6)، والايمان هو الباطن الخالص في القلب، وعنه صلوات الله عليه: أنه سئل عن الايمان والاسلام، فقال: الايمان ما كان في القلوب والاسلام ما تنوكح عليه، وورث وحقنت به الدماء، والايمان يشرك الاسلام والاسلام لا يشرك الايمان، وعن أبي جعفر (7) محمد بن علي صلوات الله عليه أنه قال: الايمان يشرك الاسلام والاسلام لا يشرك الايمان، ثم أدار وسط راحته دائرة (8) وقال: هذه دائرة الايمان. ثم أدار حولها دائرة أخرى وقال: هذه دائرة الاسلام أدارهما على مثل هذه الصورة فمثل الاسلام بالدائرة الخارجة والايمان بالدائرة الداخلة، لأنه معرفة القلب كما تقدم القول فيه، وبأنه (9) إيمان يشرك
صفحة ١٢
الاسلام ولا يشركه الاسلام، يكون الرجل مسلما غير مؤمن ولا يكون مؤمنا إلا وهو مسلم، وهذا يؤيد ما قدمناه (1) في الباب الذي قبل هذا الباب أن الايمان لا يكمل إلا بعقد النية، وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه، أنه سئل ما الايمان وما الاسلام؟ فقال الاسلام الاقرار، والايمان الاقرار والمعرفة، فمن عرفه الله نفسه ونبيه وإمامه، ثم أقر بذلك فهو مؤمن، قيل له: فالمعرفة من الله والاقرار من العبد؟ قال: المعرفة من الله حجة ومنة ونعمة والاقرار من يمن الله به على من يشاء، والمعرفة صنع الله في القلب والاقرار فعل القلب بمن من الله وعصمة ورحمة، فمن لم يجعله الله عارفا فلا حجة عليه، وعليه أن يقف ويكف عما لا يعلم ولا يعذبه الله على جهله ويثبه على عمله بالطاعة ويعذبه على عمله بالمعصية، ولا يكون شئ من ذلك إلا بقضاء الله وقدره وبعلمه وبكتابه بغير جبر لأنهم لو كانوا مجبورين لكانوا معذورين وغير محمودين، ومن جهل فعليه أن يرد إلينا ما أشكل عليه، قال الله عز وجل: (2) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وعنه صلوات الله عليه أنه قيل له: يا أمير المؤمنين، ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا وما أدنى ما يكون به كافرا وما أدنى ما يكون به ضالا، قال: أدنى ما يكون به مؤمنا أن يعرفه الله (3) نفسه فيقر له بالطاعة وأن يعرفه الله نبيه (صلع) فيقر له بالطاعة، وأن يعرفه الله حجته في أرضه وشاهده على خلقه فيعتقد إمامته فيقر له بالطاعة، قيل: وإن جهل غير ذلك؟ قال: نعم ولكن إذا أمر أطاع، وإذا نهى انتهى، وأدنى ما يصير به مشركا أو يتدين بشئ مما نهى الله عنه، فيزعم أن الله أمر به ثم ينصبه (4) دينا ويزعم أنه يعبد الذي أمر به وهو غير الله عز وجل، وأدنى ما يكون به ضالا أن لا يعرف حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه فيأتم به
صفحة ١٣
ذكر ولاية (1) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى الأئمة من ولده (2) الطاهرين
قال الله عز وجل: (3) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه أن رجلا قال له يا بن رسول الله، إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري وخشيت أن يكذبني الناس، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني، قال له أبو جعفر: فهل حدثكم بالرسالة، قال: لا، قال: أما والله إنه ليعلم ما هي ولكنه كتمها متعمدا، قال الرجل: يا بن رسول الله، جعلني الله فداك، وما هي، فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون، فأمر الله عز وجل محمدا نبيه (صلع) أن يبين لهم كيف يصلون فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسرا وفرض الصلاة في القرآن جملة ففسرها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله في سنته، وأعلمهم بالذي أمرهم به من الصلاة التي فرض (4) الله عليهم، وأمر بالزكاة فلم يدروا ما هي ففسرها رسول الله (صلع) وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ولم يدع شيئا مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لامته وبينه لهم، وفرض عليهم الصوم فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ففسره لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين لهم ما يتقون في الصوم وكيف يصومون، وأمر بالحج (5) فأمر الله نبيه (صلع) أن يفسر لهم كيف يحجون حتى أوضح
صفحة ١٤
لهم ذلك في سنته وأمر الله عز وجل بالولاية فقال: (1) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ففرض الله ولاية ولاة الامر فلم يدروا ما هي فأمر الله نبيه عليه السلام أن يفسر لهم ما الولاية مثل ما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله (صلع) ذرعا وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه: (2) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين على ابن أبي طالب صلوات الله عليه يوم غدير خم ونادى لذلك: الصلاة جامعة (3) وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب وكانت الفرائض ينزل منها شئ بعد شئ، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل (4): اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا، قال أبو جعفر: يقول الله عز وجل:
لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة قد أكملت لكم هذه الفرائض، وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أوصى من آمن بالله وبي وصدقني بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فإن ولاءه ولائي، أمر أمرني به ربى وعهد عهده إلى وأمرني أن أبلغكموه عنه، وروينا أيضا (5) عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أنه قال: لما أنزل الله عز وجل: (6) وأنذر عشيرتك الأقربين، جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى عبد المطلب على فخذ شاة وقدح من لبن، وإن فيهم يومئذ عشرة، ليس منهم رجل إلا أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق (7) وهم بضع وأربعون رجلا، فأكلوا حتى صدروا، وشربوا حتى ارتووا وفيهم يومئذ أبو لهب، فقال لهم رسول الله (صلع): يا بنى عبد المطلب، أطيعوني
صفحة ١٥
تكونوا ملوك الأرض وحكامها، إن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له وصيا ووزيرا ووارثا وأخا ووليا، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري؟ فسكتوا، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلا رجلا ليس منهم أحد يقبله حتى لم يبق منهم أحد غيري وأنا يومئذ من أحدثهم سنا، فعرض على فقلت: (1) أنا يا رسول الله، فقال: نعم أنت يا علي، فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب: لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم (2) أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم.
وجعلوا يهزءون (3) ويقولون لأبي طالب قد قدم ابنك اليوم عليك. وقد روى كثير من العامة عن أسلافهم في تأويل قول الله عز وجل: (4) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، أنها أنزلت (5) في علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وذلك أن سائلا وقف به (6) وهو راكع فرمى إليه بخاتمه، والآية فيه، وفى الأئمة من ولده صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وأمر غدير خم ومقام رسول الله (صلع) فيه بولاية علي بن أبي طالب صلوات الله عليه معروف ومشهور، لا يدفعه ولى ولا عدو وأنه صلى الله عليه وعلى آله لما صدر عن حجة الوداع وصار بغدير خم أمر بدوحات فقممن له (7) ونادى ب (الصلاة جامعة) فاجتمع الناس وأخذ بيد على فأقامه إلى جانبه وقال: أيها الناس، اعلموا أن عليا منى بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، وهو وليكم بعدي، فمن كنت مولاه فعلى مولاه (8) ثم رفع يديه حتى رؤي (9) بياض إبطيه، فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار. فأي بيعة تكون آكد (10) من هذه البيعة والولاية؟
وقد روينا عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أن قوما سألوه فقالوا: يا أمير المؤمنين،
صفحة ١٦
أخبرنا بأفضل مناقبك، فقال: أفضل مناقبي ما لم يكن لي فيه صنع، قالوا (1): وما ذلك يا أمير المؤمنين، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لما قدم المدينة أمر ببناء المسجد، فما بقي رجل (2) من أصحابه إلا نقب بابا إلى المسجد، فجاءه جبريل عليه السلام فأمره أن يأمرهم أن يسدوا أبوابهم ويدع بابي، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل (3) فأتى أبا بكر (4) فأمره أن يسد بابه، فقال: سمعا وطاعة، فسد بابه ثم بعث إلى عمر (5) فأمره أن يسد بابه فأتى رسول الله (صلع) فقال: يا رسول الله، دع لي بقدر ما أنظر إليك بعيني، فأبى عليه رسول الله (صلع) فسد بابه، ثم بعثه إلى طلحة والزبير وعثمان وعبد الرحمن وسعد وحمزة والعباس فأمرهم بسد أبوابهم فسمعوا وأطاعوا، فقال حمزة والعباس: يأمرنا بسد أبوابنا ويدع باب على. فبلغ ذلك رسول الله (صلع) فقال: قد بلغني ما قلتم في سد الأبواب، والله ما أنا فعلت ذلك ولكن الله فعله وإن الله أوحى إلى موسى أن يتخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلا هو وهارون وابناه، يعنى لا يجامع فيه غيرهم وإن الله أوحى إلى أن أتخذ هذا البيت طهرا، لا ينكح فيه إلا أنا وعلى والحسن والحسين، والله ما أنا أمرت بسد أبوابكم ولا فتحت باب على بل الله أمرني به، قالوا: يا أمير المؤمنين زدنا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أتاه حبران من أحبار النصارى فتكلما عنده في أمر عيسى، فأنزل الله عز وجل عليه هذه الآية: (6) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، إلى آخر الآية، فدخل رسول الله (صلع) فأخذ بيدي وبيد
صفحة ١٧
الحسن والحسين وفاطمة ثم خرج للمباهلة (1) ورفع كفه إلى السماء وفرج (2) بين أصابعه ودعاهم إلى المباهلة (3) فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: والله إن كان نبيا لنهلكن وإن كان غير نبي كفاناه قومه. فكفا وانصرفا. قالوا:
يا أمير المؤمنين، زدنا، قال: إن رسول الله (صلع) بعث أبا بكر ومعه براءة (4) إلى أهل الموسم ليقرأها على الناس، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد: لا يبلغ عنك إلا على، فدعاني رسول الله (صلع) وأمرني أن أركب ناقته العضباء وأن ألحق أبا بكر فآخذ منه البراءة، فأقرأها على الناس بمكة، فقال أبو بكر أسخطة هي، فقلت: لا إلا أنه نزل عليه أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه، فلما قدمنا مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الأكبر قمت قائما ثم قلت وقد اجتمع الناس (5): ألا إني رسول رسول الله (صلع) إليكم، وقرأت عليهم: (6) براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر: عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من شهر ربيع الاخر، وقلت: لا يطوفن بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك ولا مشركة، ألا ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم فمدته هذه الأربعة الأشهر (7) قال: والاذن (8) هو اسمى في كتاب الله عز وجل لا يعلم ذلك أحد غيري، قالوا: يا أمير المؤمنين زدنا،
صفحة ١٨
قال: كنت أنا والعباس وعثمان بن شيبة في المسجد الحرام، ففخرا على فقال عثمان بن شيبة: أعطاني رسول الله (صلع) السدانة (1) يعنى مفاتيح الكعبة، وقال العباس بن عبد المطلب: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته السقاية (2) وهي زمزم. قالا: ولم يعطك شيئا يا علي، فأنزل الله عز وجل: (3) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم، قالوا: زدنا، يا أمير المؤمنين، قال: إن رسول الله (صلع) لما قفل من حجة الوداع متوجها إلى المدينة نزل بغدير خم فأمر بشجرات فكسح (4) له عنهن وجمع الناس، ثم أخذ بيدي فرفعها إلى السماء وقال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى (5)، قال:
فمن كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (6).
وروينا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال في قول الله عز وجل (7):
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه، قال: الذي هو على بينة من ربه ها هنا رسول الله (صلع)، والشاهد الذي يتلوه منه على صلوات الله عليه يتلوه إماما من بعده وحجة على من خلفه من أمته (8).
وروينا عن رسول الله (صلع) أنه قال: على منى وأنا منه وهو ولى كل
صفحة ١٩
مؤمن ومؤمنة بعدي، وهذا أيضا من مشهور الاخبار وهو من قول الله عز وجل: (1) أفمن كان على بينة من ربه، يعنى رسول الله (صلع) ويتلوه شاهد منه، فقال رسول الله (صلع): على منى وأنا منه، فدل ذلك على أنه الشاهد الذي يتلوه، شاهد على أمته وحجة عليهم من بعده، وإمام مفترض الطاعة ووصيه من بعده كوصي موسى في قومه، ولا يقتضى قول رسول الله (صلع) لعلى (ع م) أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه خليفته في أمته كما قال موسى لهارون: (2) أخلفني في قومي، والاخبار والحجة في هذا الباب تخرج عن حد هذا الكتاب، ولو أنا استقصينا ما يدخل في كل باب لاحتجنا له إلى إفراد كتاب، إنما شرطنا أن نذكر جملا من القول يكتفى بها ذوو الألباب، والله الموفق للصواب.
ذكر ولاية (3) الأئمة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعليهم أجمعين
قال الله عز وجل: (4) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه (5) أن سائلا سأله عن قول الله عز وجل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (6) فكان جوابه أن قال: (7) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فقال: يقولون لائمة الضلال والدعاة إلى النار هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا، (8) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد
صفحة ٢٠