وقال زين العابدين: وهل البيت بعيد؟ - لا، إنه هنا على بعد خطوتين.
ونزل زين العابدين، ولحق به حسين، وتقدمهما السائق بعد أن أوصى زميله الآخر أن يولي العربة عينا يقظة.
ومشى الركب. لم يكن البيت على بعد خطوتين، لا ولا ثلاث، ولا عشر، لا ولا تصلح الخطوات وحدات لقياس المسافة التي يبعدها البيت عن المكان الذي تركوا فيه العربات، لقد مشوا ما يقرب من كيلو ونصف كيلو، ثم توقفوا. وطلب إليهم السائق أن ينتظروا لحظات ريثما يلقى صاحب المنزل. وصعد ثم نزل؛ إن صاحب المنزل في دكانه. وأين الدكان؟ على بعد خطوتين أيضا. وقال زين العابدين: ألا نرى الحجرة أولا؛ حتى إذا أعجبتنا نتفق.
وصعد السائق ثم ما لبث أن قال: تفضلوا. كان المنزل مكونا من ثلاثة طوابق، ولكنها طوابق مرتفعة، فدرجات السلم كثيرة، ترتفع كل درجة عن زميلتها ارتفاعا مضنيا. وهكذا راح زين العابدين بك ينتزع نفسه انتزاعا ليبلغ حجرة السطح. حتى إذا بلغ الركب الطابق الأخير الذي لا يعلوه إلا السطح لاحظ زين العابدين، كما لاحظ حسين، أن الباب منفرج انفراجة هينة تسمح للعين أن تتلصص من الداخل إلى الخارج، ولا تسمح للعيون الأخرى أن تتسلل من الخارج إلى الداخل. والتفت زين العابدين إلى حسين، والتفت حسين إلى زين العابدين ! ولكن زين العابدين كان يلهث لا يستطيع أن يقول شيئا إذا أراد أن يقول، وكان حسين يفكر أفكارا غير محددة ولا واضحة حول هذه الانفراجة التي طالعتهم من الباب الذي لا يعلوه إلا السطح. وقال السائق: لقد ألقت لي زوجة المعلم بالمفتاح من تحت الباب، فأنا لا أعرف أين الغرفة وأين الحمام، ولكني سأجربها على كل حال.
وتقدم بمفتاحه يعالج الأبواب الثلاثة على السطح، حتى إذا انصاع له أحدها فتحه على مصراعيه وهو يقول: بسم الله ما شاء الله! غرفة تشرح الصدر. وها هو ذا الحمام أمامها مباشرة ...
وقال زين العابدين مشيرا إلى الباب الثالث: وما هذه؟ - هذه - والله أعلم - غرفة أصحاب البيت التي يغسلون بها غسيلهم بطبيعة الحال. سيكون الغسيل في الصباح، ومولانا سيكون في الأزهر، فلا شأن له بهم.
كان التعب قد بلغ من زين العابدين مبلغا لا يسمح له بالمناقشة، فهو يسأل حسين في سرعة: أتعجبك الغرفة يا حسين؟
ولم يجد حسين سببا ألا تعجبه الغرفة، فهو يقول: نعم.
وبعد ساعة أخرى كان حسين مستلقيا على السرير في غرفته وحيدا في القاهرة على سطح أول بيت دخله غير بيوت قريته، ودمعة عينه منسكبة، لم يزد عليها إلا دمعة أرسلتها عينه الأخرى أحس أنها تريحه وهي تأخذ سبيلها على خده، وإن كانت أسباب بكائه متخفية في أعماق نفسه لا يدري حقائقها ولا أسبابها. وفي هدوء مد يده إلى صدره وتحسس الخطاب الكامن هناك، حتى إذا تأكد من وجوده رفع يده إلى عينيه يمسح عنها الدموع. إن قريته لم تتركه وحيدا؛ فها هو ذا خطاب الحاج سالم فخر الدين الذي يوصي فيه رفيق دراسته الشيخ صالح الأشموني بحسين خيرا، في جيبه يؤنس وحشته، ويجعله يؤمل أنه واجد في القاهرة إنسانا قد يوليه بعض عطف، أو بعض اهتمام، وحسب الغريب في غربته بعض عطف، أو بعض اهتمام.
الفصل الثاني عشر
صفحة غير معروفة