وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَحْرٌ حُلْوٌ وَاقِفٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ، وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ هُوَ السَّاكِنُ، فَسَمَّى الْقُرَى الَّتِي عَلَيْهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ بِاسْمِ تِلْكَ الْمِيَاهِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قَالَ: الذُّنُوبُ.
قُلْتُ: أَرَادَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ الْفَسَادِ الَّذِي ظَهَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي ظَهَرَ هُوَ الذُّنُوبُ نَفْسُهَا فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالتَّعْلِيلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: النَّقْصُ وَالشَّرُّ وَالْآلَامُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ مَعَاصِي الْعِبَادِ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُقُوبَةً، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً.
وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْفَسَادَ الْمُرَادَ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ فَهَذَا حَالُنَا، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
الْمَعَاصِي سَبَبُ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ
وَمِنْ تَأْثِيرِ مَعَاصِي اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَا يَحِلُّ بِهَا مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهَا، وَقَدْ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا وَهُمْ بَاكُونَ، وَمِنْ شُرْبِ مِيَاهِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِهِمْ، حَتَّى أَمَرَ أَنْ لَا يُعْلَفَ الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ بِمِيَاهِهِمْ لِلنَّوَاضِحِ، لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَاءِ،» وَكَذَلِكَ شُؤْمِ تَأْثِيرِ الذُّنُوبِ فِي نَقْصِ الثِّمَارِ وَمَا تَرَى بِهِ مِنَ الْآفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ قَالَ: وُجِدَتْ فِي خَزَائِنَ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ، حِنْطَةٌ، الْحَبَّةُ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَهِيَ فِي صُرَّةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: كَانَ هَذَا يَنْبُتُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ أَحْدَثَهَا اللَّهُ ﷾ بِمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الصَّحْرَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْهَدُونَ الثِّمَارَ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْآنَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ قُرْبٍ.
تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ
وَأَمَّا تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ وَالْخَلْقِ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ» .
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْخَوَنَةِ وَالْفَجَرَةِ، يُخْرِجُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ ﷺ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَقْتُلُ الْمَسِيحُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى،
1 / 65