بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قال سيدنا وشيخنا الشيخ الإمام داود الباخلي رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد [كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد]، كما باركت عل إبراهيم
وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم )
(اللهم اني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي وهواني على المخلوقين ، أنت
رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن
عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك
العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»
25
رب إني أشكو اليك تلون أحوالي، وتوقف سؤالي، يا من تعلقت بلطيف كرمه
وجميل عوائده آمالي، يا من لا يخفى عليه خفي حالي، يا من يعلم عاقبة أمري ومآلي.
رب إن ناصيتي بيديك، وأموري كلها ترجع إليك، وأحوالي لا تخفى عليك،
وآلامي وأحزاني وهمومي معلومة لديك، قد جل مصابي، وعظم اكتئابي، وانصرم
شبابي، وتكدر علي صفو شبابي، واجتمعت علي همومي وأوصابي، وتأخر عني
تعجيل مطلبي، وتنجيز أعتابي
يا من إليه مرجعي ومآبي، يا من يسمع هواجس سر سري، وعلانية خطابي،
وتعلم ما علة ألمي، وحقيقة ما بي، قد عجزت قدرتي وقلت حيلتي، وضعفت قوتي
وتاهت فكرتي، وأشكلت قضيتي، واتسعت قصتي، وساءت حيلتي، وبعدت
أمنيتي، وعظمت حسرتي، وتصاعدت زفراتي، وأفصح مكنون سري إسبال دمعتي،
وأنت ملجأي ووسيلتي، وإليك ادفع بثي وحزني وشكايتي، وأرجوك لدفع ملمتي، يا
من نعلم سري وعلانيتي.
إلهي بابك مفتوح للسائل، وفضلك مبذول للنائل، وأليك منتهى الشكوى
وغاية الوسائل
إلهي ارحم دمعي السائل وجسمي الناحل ، وحالي الحائل ، وسنادي المائل ، يا
من إليه ترفع الشكوى، يا عالم السر والنجوى، يا من يسمع ويرى، يا من هو بالمنظر
الأعلى، يا رب الأرض ، والسماء ، يا من له الأسماء الحسنى، يا صاحب الدوام والبقاء.
26
رب عبدك قد ضاقت به الأسباب، وغلقت دونه الأبواب، وتعذر عليه سلوك
طريق الصواب، وزاد به الهم والغم والاكتئاب، وتقضى عمره ولم يفتح له إلى فسيح
تلك الحضرات ومناهل الصفو والراحات باب، وتصرمت أيامه والنفس زائغة في
ميادين الغفلة، ودني الاكتساب، وأنت المرجو لكشف هذا المصاب ، يا من إذا دعي
أجاب ، يا سريع الحساب ، يا رب الأرباب ، يا عظيم الجناب
رب، لا تحجب دعوتي، ولا ترد مسألتي، ولا تدعني بحسرتي، ولا تكلني إلى
حولي وقوتي، وارحم عجزي وفاقتي، فقد ضاق صدري، وتاه فكري، وتحيرت في
أمري ، وأنت العالم بسري وجهري ، المالك لنفعي وضري ، القادر على تفريج كربي،
وتيسير عسير عسري.
رب، ارحم من عظم مرضه، وعم شقاؤه، وكثر داؤه وقل دواؤه، وضعفت
حيلته، وقوي بلاؤه، وأنت ملجؤه ورجاؤه، وغوثه وشفاؤه، يا من غمر العباد فضله
وعطاؤه، ووسع البرية جوده ونعماؤه.
ها أنا ذا عبدك محتاج إلى ما عندك، فقير انتظر جودك ورفدك، مذنب أسأل منك
الغفران، جان، خائف، أطلب منك الصفح والأمان، مسيء عاص فى توبة تجلو
بأنوارها ظلمات الإساءة والعصيان.
سائل، باسط يد الفاقة الكلية يسأل منك الجود والإحسان، مسجون ، مقيد
فعسى يفك قيده، ويطلق من سجن حجابه إلى فسيح حضرات الشهود والعيان، جائع،
عار، فعسى يطعم من ثمرات التقريب، ويكسى من حلل الإيمان.
ظمآن ظمآن، وأي ظمآن! ظمآن يتأجج في أحشائه لهيب النيران، فعسى تبرد
عنه نيران الكرب، ويسقى من شراب الحب، ويكرع من كاسات القرب، ويذهب عنه
البؤس، وآلام الأحزان، وينعم من بعد بؤسه وألمه، ويشفى من بعد مرضه وسقمه
حتى كأن ما كان ما كان
27
ناء، غريب، مصاب قد بعد عن الأهل والأوطان، فعسى أن يزول عنه هذا
التعب والشقاء، ويعود له القرب واللقاء، وتتراءى له سلع والنقا ويلوح له
الأثل والبان، ويناله اللعلف، وتحل عليه الرحمة والرضوان.
يا عظيم يا منان، يا رحيم يا رحمن، يا صاحب الجود والامتنان، والرحمة
والغفران.
يا رب يا رب يا رب، ارحم من ضاقت عليه الأكوان ولم يؤنسه الثقلان، وقد
أصبح مدلها حيرانا، وأضحى غريبا ولو كان في الأهل والأوطان، مزعجا لا يؤويه
مكان، قلقا لا يلهيه عن بثآه وحزنه تغير الأزمان، مستوحشا لا يأنس قلبه بإنس ولا
جان
يا من لا يسكن قلب إلا بقربه وأنواره، ولا يحيا عبد إلا بلطفه وإبراره، ولا يبقى
وجود إلا بإمداده وإظهاره، يا من أنس عباده الأبرار، وأولياءه المقربين الأخيار
بمناجاته وأسراره، يا من أمات وأحيا، وأقصى وأدنى، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى،
وأفقر وأغنى، وأبلى وعاف، وقدر وقضى، كل بعظيم تدبيره وسابق أقداره.
رب، أي باب يقصد غير بابك؟! وأي جناب يتوجه إليه غير جنابك؟! أنت
العلي العظيم الذي لا حول ولا قوة إلا بك
رب، إلى من أقصد وأنت المقصود ! وإلى من اتوجه وأنت الحق الموجود ? ! ومن
ذا الذي يعطيني وأنت صاحب الوجود ? ! ومن ذا الذي أسأله وأنت الرب المعبود ?
هل في الوجود رب سواك فيدعي ؟! أم في المملكة إله غيرك فيرجى ?! أم هل
كريم غيرك فيطلب منه العطا؟! أم هل ثم جواد سواك فيطلب منه الفضل والنعما؟! أم
هل حاكم غيرك فترفع إليه الشكوى ?! أثم من يحال العبد الفقير إليه؟ أم هل من تبسط
لأكف وترفع الحاجات إليه؟
فليس إلا كرمك، وجودك، يا من لا ملجأ منه إلا إليه، يا من يجير ولا يجار عليه
والا فعرفنا، أغيرك ها هنا كريم فيرجى، أو جواد فيسأل؟
رب، قد جفاني القريب، وملني الطبيب، وشمت بي العدو والرقيب، واشتد بي
الكرب والنحيب ، وأنت الودود القريب الرؤوف المجيب .
رب، إلى من اشتكي وأنت العليم القادر ?! أم بمن أستنصر وأنت الولي
الناصر ? ! أم بمن استغيث وأنت القوي القاهر ! إلى من ألتجئ وأنت الكريم الساتر ? !
أم من ذا الذي يغفر عظيم ذنبي وأنت الرحيم الغافر ؟
با عالما بما في السرائر ، يا من هو المطلع على مكنون الضمائر ، يا من هو فوق عباد
قاهر، يا من هو الأول، والآخر، والباطن، والظاهر
رب أزل حيرة هذا العبد الحائر ، وجد باللطف والهداية ، والتوفيق والعناية ، على
عبد ليس له منك بد، وهو إليك صائر
يا إله العباد يا صاحب الجود، يا ممرضي وأنت طبيبي ، فلمن أشتكي وأنت عليم
يا إلهي بحاجتي والذي بي?! رب، حقيق علي ألا أشتكي إلا إليك، ولازم لي ألا أتوكل
إلا عليك . يا من عليه يتوكل المتوكلون ، يا من إليه يلجأ الخائفون ، يا من بكرمه وجميل
عوائده يتعلق الراجون، يا من بسلطان عزه، وقهره، وعظيم رحمته وبره يستغيث
المضطرون، يا من لوسع عطائه وجميل فضله ونعمائه تبسط الأيدي ويسأل السائلون.
رب، واجعلني ممن توكل عليك، وآمن خوفي إذا وصلت إليك، ولا تخيب
رجائي إذا صرت بين يديك، واجعلني ممن تسوقه الضرورات إليك، وأعطني من
فضلك العظيم، وجد علي بلطفك العميم، واجعلني بك ومنك وإليك:
29
وارحم بجودك عبدا ما له سبب
يرجو سواك، ولا علم ولا عمل
يا من به ثقتي، يا من به فرحي
يا من عليه ذوو الفاقات تتكل
أدرك بقية من ذابت حشاشتة
قبل الفوات فقد ضاقت به الحيل
يا مفرج الكربات، يا مجلي العظيمات، يا مجيب الدعوات ، يا غافر الزلات، يا ساتر
العورات ، يا رفيع الدرجات، يا رب الأراضين والسماوات.
رب ارحم من ضاقت به الحيل، وتشابهت لديه السبل، ولم يجد لقلبه قرارا، من
علم ولا عمل، يا من عليه المتكل، يا من إذا شاء فعل، يا من لا يبرمة سؤال من سأل.
رب فأجب دعائي، واسمع ندائي، ولا تخيب رجائي، وعجل لي شفاء دائي،
وعافني بجودك ورحمتك من عظيم بلائي، يا رب يا مولاي.
رب إني قل اصطباري، وطال انتظاري، واشتدت بي فاقات واضطراري،
وعظمت علي همومي وأحزاني وأكداري، وتطاول علي سواد ليلي، وبعد عني طلوع
بياض نهاري، وأنت القادر على دفع إعساري، وذهاب أوصابي وأغياري، وتفريج
كربي، وإصلاح قلبي، وتخفيف أوزاري.
رب إني فد لاح لي برف من سحائب رحمتك، فوقفت على باب حضرتك، أنتظر
عواطف جودك ولطائف رأفتك، وتعلقت أطماعي بعوائد إحسانك وصنائع إلهيتك،
وانبسطت آمالي في واسع كرمك وجود ربوبيتك ، فلا تردني بكسرة الخائب الخاسر ، ولا
ترجعني بحسرة النادم الخاسر، ولا تجعلني ممن حجب عن الوصول، وبقي بين الرد
والقبول مترددا حائرا، يا من هو على من يشاء قادر، يا قوي يا عزيز يا ناصر.
رب خذ بيدي، وارحم قلة صبري وضعف جلدي
30
رب إني أشكو إليك بثي وحزني وكمدي، يا من هو غوثي وملجأي، ومولاي
وسندي.
رب فأطلقني من سجن الحجاب، ومن علي بما مننت به على الأولياء الأحباب،
وطهر قلبي من الشك والشرك والارتياب، وثبتني دائما أبدا في الحياة وعند الممات على
السنة والكتاب، وفهمني، وعلمني، وذكرني، ووفقني، واجعلني من أولي الفهم في
الخطاب، وكن لي بلطفك ورحمتك وحنانك ورأفتك فيما بقي من عمري ، وعند حضور
أجلي، ويوم يقوم الحساب، وآمن خوفي، واجعلني من الطيبين، وممن يتلقى بسلام إذ
فتحت الأبواب.
رب أنت الذي بقدرتك خلقتني، وبرحمتك هديتني، وبنعمتك ربيتني، وبلطفك
غذيتني، وبجميل سترك سترني، وفي أحسن صورة ركبتني، وفي عوالم أبدائك
مكنتني، ومن خير أمة أخرجتني، وسبيل النجدين ألهمتني، فأتم علي نعمتك التي لا
يحصى، وكمل لدي أياديك التي لا تنسى، واجعلني ممن هدي واهتدى، وسمع ووعى،
وقرب ودنا، وممن سبقت له منك الحسنى، وممن نال أفضل ما يتمنى
واجعلني من أهل القرب واللقاء، والرتبة العليا في دار البقاء ، ولا تجعلني ممن
ضل وغوى، ولا ممن قسم له نصيب الشقاء، ولا ممن ينشغل بما يفنى، ولا ممن ضل
سعيه في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
31
( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما)، وقد علمت ما كان ويكون منا، وتقدس
علمك الأعلى، وجرى القلم بما شئت من القضاء، فليس لنا إلا ما إليه وفقتنا، ولا مفر
لنا عما به أردتنا، وتداركتنا بفضلك ورحمتك، وجزيتنا بعفوك ومغفرتك.
رب فكما وسع كل ما كان مني علمك الأعلى، وأحطت بما كان ويكون مني ومن
كل شيء حكما وعلما، فجد علي في كل ذلك برحمتك الواسعة العظمى، واغمسني في
بحار كرمك وعفوك و حلمك أبدا، يا من إذا وعد وفى، يا من وسع كل شيء رحمة
وعلما
إلهي طلبتك، وطلبت الخلق إليك، فأعني على الوصول والتوصيل إليك
واجمعني واجمع بي من تشاء عليك ، اللهم إنا نسألك حسن الأدب عند إرخاء الحجاب
***
قال رضي الله عنه : جاء في الحديث : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
فعلى حسب ارتقاء همتك في نيتك، [يكون]، ارتقاء درجتك عند عالم سريرتك.
والنية أقسام: نية بالله، ونية لله، ونية لأمر الله، ونية رجاء لوعد الله، ونية خوف
من وعيد الله، وأعلاها النية لله وبالله، وأعلاهما أولاهما، لأن الأصل أن يكون العبد بين
يدي سيده، وإنما كانت [العلل] والأسباب، لوجود البعد وإرخاء الحجاب، فإذا لاح
لعقلك بالفكر والتذكار، أو فتح لقلبك بالكشف والأنوار شيئا مما كان قبل البعد
والاستتار ، أو تراءى لسرك شيئا مما كان من النور والصفاء قبل حدوث الظلم
والأكدار، علمت أن الخضوع لرب الأرباب حتما لازما من غير العلل والأسباب
32
( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا )
وإني لألقاها أريد عتابها
وأوعدها بالهجر مطلع الفجر
فما هو إلا أن أراها فجأة
وأبهت لا عرف لدي ولا نكر.
إن رقيت إلى فهم هذا المقام - في أي قسم كنت من هذه الأقسام - ناداك منادي
القهر والاقتدار
اشتيقظ من رقدتك، وتنبه من عظيم غفلتك، إنما أنت به لا بحولك وقوتك،
فالعوالم كلها في قهر قبضته، والموجودات كلها قائمة في ظل عز قيوميته، وما سكن
ساكن ولا تحرك متحرك الا بحوله وقوته، فأنت إذن به له، ثم من هاهنا بحار يغرق
فيها سبح الألباب، وحمى تخر دون بلوغ مرماه الرقاب، إذ بينما، أنت لله رقيب، فصرت
بالله لله، ثم لله وحده، ثم الله وحده ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )
قال رضي الله عنه: الولي له نوران: نور يجذب به، ونور يدفع به، نور بسط وعطف ورحمة
تجذب به قلوب أهل العناية، ونور قبض وعزة و قهر يدفع به أهل البعد والغواية، لأنه
يتصفح بين دائرتي فضل وعدل، فإذا أقيم بالفضل ظهر فجذب فنفع ، وإذا أقيم
33
بالعدل والعز حجب فخفي فدفع، فمن أقبل فإنما ذلك لرسائل منهم وردت عليه،
ومن أدبر فإنما ذلك لوجود قضاء غلب عليه
وقال رضي الله عنه : إذا علم العبد زاد افتقاره وطلبه، وعلت همته ومطلبه، وكلما ازداد
علما ازداد طلبا وافتقارا، لأنه في حالة جهله يطلب العلم ، وفي حالة علمه يطلب
انجلاء المعلوم .
والمعلومات درجات لا غاية لمنتهاها ، ولا حد لعلو مرماها ، فهو أبدا يشتاق إلى
إبداء شيء من معناها، وإن كان هو يشاهدها ويراها، فيا عجبا من لوعة كلما ارتوت
من السلسبيل العذب زاد ضرامها، كمن لا بصر له يشتاق إلى بصر، فإذا أبصر اشتاق
إلى جمال المبصرات
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
وقال رضي الله عنه: الأسرار نوعان: أسرار ينزل العلم عليها، وأسرار ترقى هي إليه
وأعلاهما أولاهما
فالأسرار التي ينزل العلم عليها علمها أجل وأعلى، وأصدق وأجلى، وأوثق
وأقوى، لأن العلم إذا ورد هو عليها صارت هي غيبا فيه، فتختفي رسومها، وتتضح
علومها، وتدق شواهدها، وتتضح مشاهدها، وتعزل تصرف عوالم الآثار، وتصير
الدولة الحاكمة لعوالم الأنوار: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة
أهلها أذلة وكذلك يفعلون).
34
والأسرار التي تترقى هي للعلوم يشوب شربها طعم كأسها، وتنزل خلع مواهبها
قريبا من جنس لباسها، فيحصل فيها ضرب من الإخفاء والإشكال، ويضرب لها الجلي
ولخفي من الأمثال، وتداخل شهود بصائرها ضرب الإخفاء والاستتار
وقال رضي الله عنه: عالم العلم الظاهر كلما اتسع علمه ونما انتشر في الوجود وفشاء لأن
[محل] ظهور علمه هذه الحياة الدنيا .
وعالم العلم الباطن كلما اتسع علمه وعلا دق عن الإدراك ومال إلى الخفاء ، لأن
متعلق علمه إنما هو الأعز الأحمى والأستر الأخفى، متردد بين قلوب وغيوب، يحاول
أجل مدرك، وأعز مطلوب، والعلم بالخفي خفي
وعالم العلم الخفي خفي ، وعالم العلم الظاهر ينقضي علمه بانقضاء هذه الدار،
لانه منوط بالتكليف، وبيان لأحكامه، فإذا انقضت دار التكليف انقضى بانقضائها،
وإنما يبقى له إذا صدق وأخلص لله فيه الجزاء والثواب، لأنه عمل من الأعمال، وعالم
العلم الباطن يتسع علمه ويقوى، ويبسط وترقى وظهر بعد الخفاء، لأن ما وجه قلب
إلى معرفته هو سائر إليه، وما لاحظ ببصر بصيرته - النظر في أوصافه - هو قادم عليه.
وقال رضي الله عنه : لن تزال القلوب وجلة، والعيون باكية، والعبد على خوفي وقلق حتى
يلقى ربه عز وجل، فيرضى له عقوده وأحواله واعماله، وبلقى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو عنه
راض، مثبت له ما هو عليه، وذلك في كل رتبة من صديقية وولاية وشهادة وصلاح
وإيمان وإسلام، لأن العبد محجوب ولو رقى، ولابد له في هذه الرتب من حجاب ما
وإن دق وخفى، والغيب في سماء عزته وإن ظهر للقلوب ودنا، وما دام العبد في ظلمات
الأشباح الفانية ودون سحابة الحياة الدنيا ، فهو متردد بين الخوف والرجا، والقلق
والبكا، ينظر ماذا يكون غدا.
35
وقال رضي الله عنه: من أعظم مواهب الله تعالى لعباده بعد الإيمان بالله تعالى وملائكته
وكتبه ورسله : الإيمان بنور الولاية في خلقه، سواء ظهرت في ذات العبد أو في غيره
فإنها من جملة الغيوب المعززة والعلوم المصونة، وكما هو مطلوب أن يؤمن بها [في غيره،
كذلك هو مطلوب أن يؤمن بها]، في نفسه إذا ظهر له دليلها، واتضح له سبيله
وكما أن البشرية في غيره عن نور الولاية حجاب ، كذلك مي في نفسه بينها
[وبينه] حجاب، وذلك عند ظعور ليل بشريته وانطواء نهار خصوصيته، فيشهدها
عند ظهور شمسها من سحابها، ويؤمن بها عند استتارها بالبشرية من احتجابها
وقال رضي الله عنه : عموم الناس: صنفان
صنف: دانوا بدين الإسلام، وتحصنوا بحصنه، لكن اشتغلت ظواهرهم
وبواطنهم بأمور الدنيا وإقامة دولتها ، فهؤلاء في كفالة علماء الدين وأئمة المسلمين
الذين من الله عليهم بتوفيقه وهدايته، وفرغ أبدانهم وهيأ أذهانهم للنظر في تحقيق قواعد
الدين وإقامة أدلته، فهم لهم تبع في عقودهم وأحكامهم.
وصنف آخرون - بعد تحصيل ما حصل عليه الأولون - : سمت همتهم إلى فهم
الأسرار، وتنبهت قلوبهم لطلب منازل الأخيار، واشتاقت أرواحهم لشهود عوالم
الأنوار، وتوجهوا لسلوك هذه [الطريق] وطلبوا الأدلاء لتسير بهم في منازل
التحقيق ، فهؤلاء هم الأولياء العارفون، والأئمة المحققون ، والعلماء الربانيون الذين
36
طلبوا وطلبوا فوجدوا، وكشف لهم فشهدوا ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على
بصيرة أناا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )
ثم : حدث بعد انقضاء القرون المشهود لها في جنس أولئك جهل واختلاف
وضلال، وفي جنس هؤلاء تلبيس وغلط واتباع خيال، ذلك ليفعل الله ما يشاء وهو
يتولى الصالحين، ويتولى هداية من يشاء من عباده ، وهو أعلم بالمهتدين
فإياكم والعلماء الضالين ، فإن اتباعهم هلاك في الدين ، وإياكم والصوفية
الغالطين، فإن إتباعهم فساد للقلوب، وأشد فتنة من الأولين.
وعليكم - والله الموفق الهادي - بالمتبع الصادق منهم أجمعين ، الذين ثبتت
عقائدهم، وظهرت شواهدهم، وإن خفيت فالدليل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسيرة السلف الماضين، و[قل]: ( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )
وقال رضي الله عنه: إذا عملت عملا لله فلا يكن همك في ذلك طلب الأجر منه، والدخول
إلى جنته، وليكن أكثر همك في ذلك طلب القرب منه والوصول إلى حضرته، فإذا من
37
عليك بذلك فهناك الأجور وأجل منها، والثواب وأعلى منه.
وقال رضي الله عنه : إذا وجهت إلى الملوك الكرام قصة طلب، فلا يكن مهم أمرك طلب
العطاء منهم ولكن طلب الوصول ، لأن العطاء على الغيبة عند الصادقين كالحرمان ،
والوصول إلى حضرات الأحباب أجل من العطاء عند أولي الألباب، فإذا أنت وصلت
إليهم أعطوك حتى تكون أنت معطيا، وأغنوك حتى تكون أنت لغيرك مغنيا، فإذا أنت
قد حصلت على الأمرين، وأنجح قصدك في المطلبين
وقال رضي الله عنه : علم الكل لا يطيق حمله الجزء
38
وقال رضي الله عنه : إذا لاح نور المعرفة لا تقصد إلا [كلا]، لما علا مورده علا مصدره.
وقال رضي الله عنه: من صحت نسبته من رجل كبير، أحاط نوره بسره سرا وجهرا.
وقال رضي الله عنه: إذا نطق سر من طين مخلوق من ماء مهين، مستور بحجب
الضرورات ، محجوب سره عن مشاهدة المخلوقات، تسويه الأبصار بأمثاله، ولا يميزه
الإدراك العام بمعنى عن أشكاله، لكنه قد انتظم في سلك الواصلين، وزاحم يمنكب
سره مناكب أسرار العارفين.
فإذا نطق بغرائب العلوم، وعجائب الفهوم، فلا تستغربن عليه ذلك، فإن قلم مدده
بحر الغيث الفياض الغزير، والكاتب به ملك قوي قدير، فرب قلم من قضيب بفلس
أقطعت به أقاليم عديدة، وحصل بيسير [مده] عز وغنى تتسع تفاصيله.
وقال رضي الله عنه: حاشا قلوب العارفين أن تخبر عن غير يقين.
وقال رضي الله عنه: لسان العارف قلم يكتب به في ألواح قلوب المريدين، فربما كتب في لوح
قلبك ما لم تعلم معناه، وبيانه عند ظهور إبانه.
وقال رضي الله عنه: القلب ظل نور الروح، والروح ظل نور السر، والسر مظهر تجلي اشعة
الحقيقة الأولى في أوائل علائم التكوين، والنفس : عبارة عن توجه القلب إلى سياسة
العالم الشهادي، والتفاته إلى تدبير عالم شهادته
والعقل نوعان: نوع وكل بالنفس، ليسكن هيجان شرهها في تناول مطالبه
الدنيوية، ويحصل بوجوده اعتدالها في تصرفات مآربها الشهوانية، وهو العقل الطبيعي
39
الذي بوجوده تسمى الإنسان عاقلا، واستكمال أوائله عند بلوغ سن الاحتلام، وهو
مناط التكليف ، وهو قيد الإسلام في سلوك سبيل دنياه ، ويتبع المزاج الإنسان اعتدالا
وانحرافا.
ونوع آخر يتحسس به القلب عند حجابه، وشغله بعالم شهادة، وغلبة أوصاف
النفس عليه، فيتوصل به إلى تعرف الحقائق الغيبية، وينشق بواسطته أرايج نسيم
العوالم القدسية، ويرسله بريدا إليها لينقل إليه من أخبارها، ويستصحب له منها شيئا
من ثمارها وأزهارها، لأنه - عند حجاب القلب عن شهود غيبه - قاصد يتوصل،
وناقل معدل، ولكنه - عند إدراك الحقائق - متقاعد، وليس له إلا ياس غائب بشاهد
فإذا تنبه القلب من رقدته، وتخلص من قيود عالم شهادته، هاجم وعاود، ولاحظ
صريحا وشاهد، لكن على حسب علو مقامه وحاله، وبمقتضى كمال تخلصه من أوحاله،
وهذا العقل هو المحمود من النوعين، والمزكى من الشاهدين، وقوته على حسب حال
الموصوف به : من زهده في الفانيات، وإقبال همته على العوالم الباقيات .
قال رضي الله عنه : الدعاة إلى الله تعالى ثلاثة أنواع
فداع : يدعو إلى علي الجناب، وصدق المعاملات، والترغيب في الخيرات ،
والتخلص من ورطة الهلكات، وسلوك سبيل النجاة، والتأهب ليوم الحساب،
والتأدب ما بين موردي الثواب والعقاب، ومدده: الأمر والنهي، وطريقه: سلوك سنن
التوبة الأولى، وتحقيق أوائل مقامي الخوف والرجا، والصبر والشكوى ، ونوره : من
ظاهر الاسم، وغايته : حصول النجاة والوصول إلى نعيم الجنات، فيمنح ويعطى.
وداع : يدعو إلى تحقيق المقامات، والتخلص من ورطة الجهالات ، والترقي إلى
التنقي من أدران البشرية، والنفوذ إلى محل صفاء الخصوصية، والنهوض إلى عوالم
40
الأنوار، وغض الطرف عن شهود عالم الظلم والأكدار، وطريقه: سلوك التوبة
الوسطى، وتحقيق مقامات القلب، من نحو زهد وشكر وتوكل ورضا، ونوره: من مدد
آثار الأسماء، وغايته : التخلص من عالم الفناء، والتحقق بعالم البقاء، والوقوف على
أبواب حضرة المحل الأسنى، فيسمع ويرى، ويكرم ويرقى.
وداع : يدعو إلى الحضرة الأحدية، والصفة الفردية، والعزة السرمدية، وانطماس
أثر الخلال البشرية، وتحقيق انطباق علم الأزلية على الأبدية ، وبدو شمس حقائق
العرفان، واختفاء أقمار العالم الكوني الباقي ونجومه، وانطفاء مصابيح ما هو فان، ونقل
الأسرار من مقام الإسلام بعد وضعها فيه عقولها وأشباحها، ثم من مقام الإيمان بعد
وضعها فيه قلوبها وأرواحها إلى تحقيق مقام الإحسان، وما لا تتهي إليه العبارات، ولا
يرتقي إلى شيء منه خفي الإشارات، بل كما قيل
وكان ما كان بما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
ونوره: من مدد الوصف الأعلى، ولا غاية لأمد سفرته، ولا موقف لسائر همته
ولا حد لعلو حالته، بل كلما ذاق اشتاق، وكلما اشتاق اتسع له سبيل المذاق، كلما روي
ازداد عطشا، وكلمما عطش ازداد سقيا، وعطشه سبب سقياه، وسقياه موجب عطشه،
قال ذلك العارف في جواب من قال له : ها هنا رجل شرب شربة لم يظمأ بعدها أبدا :
عجبت من ضعف حالك، ها هنا رجل تحسي بحار الأكوان وهو فاغر يقول هل من
مزيد
41
وقال رضي الله عنه : إقبال القلب مع لا إله إلا الله خير من ملء الأرض عملا مع
الإعراض عن الله تعالى.
وقال رضي الله عنه : العمل الصالح يوصلك - برحمة الله - إلى جنة الله، والتوبة الصادقة
توصلك - بفاقتك إلى الله - إلى حضرة الله، قال الله تعالى : (تلك الجنة التي
أورثتموها بما كنتم تعملون) وقال تعالى : ( وتوبوا إلى الله).
وقال رضي الله عنه : من سار إلى الله تعالى، فهو على سنن السير الحقيقي ومنهاج سير
لاكوان، فهو متلقى بالشرف والكرامة، ومحمول ومعان ومآله الفوز والفلاح
والوصول إلى حضرة الرحمن.
ومن سار عن الله تعالى، فهو على معارضة الأمر ومضادة سير العوالم، فلهذا كان
واقفا في النقص والخذلان ، وكان مآله - إن لم يتدارك - البوار والخسران ودخول
النيران.
وقال رضي الله عنه: العارف أثره في الآخذين عنه بأمداده وأنواره أكثر من آثارهم فيهم
بأذكارهم وأعمالهم.
وقال رضي الله عنه : العارف يتكلم على الفطرة الأصلية ، فلذلك لا يستجيب له إلا من
كان قريبا منها، ويعز قبول من كان - بالظلمات العارضة - بعيدا عنها.
وقال رضي الله عنه : قلب العارف كالنار (لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر).
وقال رضي الله عنه : إقبال القلب على الله تعالى حسنة يرجى ألا يضر معها ذنب، وإعراض
القلب عن الله تعالى سيئة لا تكاد تنفع معها حسنة ، في الحديث الصحيح قالت ملائكة
42
الرحمة - فيمن قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا قط - : جاء بقلبه إلى الله.
وقال رضي الله عنه : الذنب الأعظم شهود ما سوى الله مع الله، وحقيقة الاستغفار
[منه]: بدو نور من أنوار المعرفة يجلو ظلمات الأكوان .
وقال رضي الله عنه : إذا تحقق العبد أنوار شهود الحضرة العليا غاب عن شهود عبوديته،
وإذا شهد عبوديته غاب عن شهود النور الأعلى بشهود ما هو أدنى.
وقال رضي الله عنه : رؤية الغافل سم قاتل.
وقال رضي الله عنه : العقل مدركة الانتقال مما يعلم لما لا يعلم لرابطة بينهما، وإدراكه
الحقيقي ما يعلم ، وتلك المناسبة التي بين ما يعلم وما لا يعلم من اندراجه قيدا أو تنبيهه
به، فهو لا يزيد النفس علما إلا لكونها [ظفرت] بحصول ذلك المعلوم دون شهوده
43
والعلم مدركة كشف الحقائق واطلاعها عليها حتى تصير النفس ممتزجة
بمعلوماتها ، ولهذا كان العلم هو الطريق الشرعي والمنهج المستقيم ، والإسلام والإيمان
مقدمتان له، وهو غاية لهما.
وقال رضي الله عنه : كل ما أدركته النفس من النعيم أو تدركه، راجع إلى تحقيق العلم
وغايات اليقين ومباشرة أرواح الحقائق .
وقال رضي الله عنه : ما طرق قط نور حق على لسان صدق قلب عبد - فيه شيء من إيمان
إلا وحصل له نفع ولو كان على أي حال كان.
وقال رضي الله عنه : إذا أكرم الله عبدا طوى عنه شهود خصوصيته، وأقامه في تحقيق
عبوديته، فهو أبدا يسير في ذل وانكسار، لابسا ثوب سكينة ووقار، سالما من الغلط عند
تجلي شمس الخصوصية وغيبة ليل البشرية ، محفوظا من الفتن عند سطوات الأنوار.
وإذا كان العبد بشهود خصوصيته غائيا عن مراعاة حق عبوديته، خيف عليه من
الشطح والانبساط وتعدي حدود الأدب، والعدول عن سواء الصراط ، كما قيل
اقطع السير إليه ذميلا
وإذا ما نلت وصولا
فاطرق الباب قليلا قليلا
واحذر البسط وناد بالمجيب
من على بعد تناد من قريب
وقال رضي الله عنه : جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما
المفردون يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : المستهترون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم
44
فيأتون يوم القيامة خفافا)
ففي الحديث : في الإشارة إلى الجبل إشارة لأولي البصائر ، وتنبيه لمن هو إلى الله
تعالى سائر، وفي ضمن ذلك لطيفة خفية، وهي عند أرباب القلوب مستورة مخفية، تتنبه
لها القلوب، ويهب نسيمها من آفاق الغيوب، يفهمها أرباب الأنور، ويسترونها عن
الأغيار.
فانظر إلى الإشارة النبوية، والآية الموسوية : (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل)
فهناك تحار القلوب والأفكار ، وهداية القلوب والأسرار.
وقال رضي الله عنه: اسمان إذا ذكر المريد بهما، أو بأحدهما دفعا عنه ضرر الذنوب، ونفسا
عنه كثيرا من الكروب: اسم من أسماء الله تعالى وهو قولك : يا رب واسم من
أسمائك وهو قولك: أنا عبدك، وإذا ناديته بعظيم ربوبيته كفاك، وإذا ذكرت
عبوديتك له جبرك وآواك، قال الله تعالى: (أليس الله بكاف عبده ).
وقال رضي الله عنه : النبي يؤمر، والولي يلهم.
وقال رضي الله عنه : كل علم هو مما يعنيك أعانك الله تعالى على فهمه ووصل معناه إليك
وهون عليك سلوك طريقته، ويسر وصول معرفته عليك، ولهذا ترى كثيرا من العلوم
ما لا يعني متعسرا على طالبه مسالكه، وتشق - مع سهولته على مبتغيه مداركه.
ولأجل هذا ترى كثيرا من العوام وأرباب الفطر السليمة - وإن كانوا في
الأسباب منهمكين، وبأذهانهم عن فهم كثير من العلوم قاصرين - فتراهم يفهمون
45
علوم التحقيق، وأسرارا من الدين، ودقائق من علوم الطريق، ويظهر عليهم من
بركاتها وفوائدها، ويفتح عليهم من أبواب نتائجها وسني مقاصدها، إذ لما كانوا
مفتقرين إليها أعانهم الله تعالى عليها
فاجعل ذلك إلى فهم ما يعني وما لا يعني من العلوم مسبار، وأقمه عليها
قانونا ومعيارا: ف ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسريسرا).
وقال رضي الله عنه : اطلع العبد المؤمن على أمر خفي عن غيره لوجود إبمانه، ولم يجعل
الحس على ذلك شاهدا، ولذلك لم يعلم بذلك غيره، فالقلب: شهيد، والحس: بعيد،
والعقل إن وفق: كان دليلا، وإن خذل لم يعلم لذلك طريقا، ولم يجد لهذا الأمر سبيلا.
وفال رضي الله عنه : قلوب المؤمنين تحت ظل قلوب الأولياء، وقلوب الأولياء تحت ظل
قلوب الأنبياء عليهم السلام، وقلوب الأنبياء - عليهم السلام - تحت ظل أنوار
العناية، والأمداد تنزل فيما بين ذلك، ويتلو الشاهد منه.
وقال رضي الله عنه: العالم الأعلى تمد، والعالم الأدنى تمد فليس شيء من العالم الأدني
واصلا إلى العالم الأعلى إلا بوسائل آثاره ووسائط أنواره ، يتلقى ما يلقى إليه
ويتلقى منه، هو أصل فروعه وماء ينبوعه، وهو مجلى ظهور نوره، ومظهر ابتسام
46
ثغوره، يتلقي ما يلقى إليه، ويفيض ما يفيضه من الأمداد عليه، كتب إليه على ظهر
كتابه، وحامل رسالته إليه هو حامل جوابه: ( والسماء ذات الرجع لي والأرض ذات
الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل ).
وقال رضي الله عنه: العبد في الدنيا غير مقتضى لما له ولا قاض ما عليه ، وغير واصل إلى
نعيم روحه وجسده، ولا قائم بحقوق خالقه وسيده، لقصوره عن الوصول إلى غايته
والتردد في أطوار بدايته .
وإذا كان في الدار الآخرة وفتح له بابه، وأزال عن قلبه حجابه، ووصل إلى
الغايات، وزالت عنه أمراض البدايات، ومن عليه مولاه بالقرب واللقاء، وكساه من
حلل الفوز والنقاء، وأزال عنه التعب والشقاء، فهناك ينال غاية نعيمه، وهناك يسقى
من شراب مزاج تسنيمه ، وهناك تشتعل بعد الخمود أنواره ، ويشتغل بالنعيم جسده ،
وبالذكر لسانه، وبالمناجاة قلبه، وبالمشاهدة روحه، وبالقلب أسراره ( إن أصحاب
الجنة السوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ).
وقال رضي الله عنه : ليس الشأن الخفاء في الخفاء ، إنما الشأن الخفاء في الظهور.
وقال رضي الله عنه: اغتنم شيئين في هذه الدار : طاعة بظاهرك، أو يقظة وتذكرا بباطنك
فكلاهما نافع، وإحداهما أنفع من الأخرى، فبهذه تصل - برحمة االله - إلى جنة الله
وبهذه ينهض القلب - بتوفيق الله - إلى تنسم نسيم القرب إلى الله.
وقال رضي الله عنه : لأن تعاهد الله تعالى عهدا صادقا في ليلة خير لك من قيامها.
وقال رضي الله عنه: إذا توجهت النية إلى الله تعالى، أو تقدمت الهمة طالبة لحضرة الله
انحسر الزمان أمام ذلك ، فنال العبد من فضل الله إذ ذاك ما لا يسعه الزمان ، لأن
القلب بذاته فوق الزمان، فإذا سار القلب إلى حضرته وخصه بعظيم منته، أعطاه ما لا
تحصره الأعداد ولا تحيط به الآماد
47
رفال رضي الله عنه : إذا توجه الظاهر إلى قبلة توجه عبادته ، والنفس إلى طلب النعيم
بجنته، أعطيا من الأجر على حسب ما قسم لهما، وحكم فيما بينهما وبين وجهتيهما، أما
إذا توجه القلب إلى حضرته، والروح إلى مشاهدته، والسر إلى قرب ربوبيته، فهناك من
الفضل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقال رضي الله عنه : بسط للعباد بسط التعرفات على سبيل التدريج لترتيب الحكمة الربانية
ليرقوا في مراقيها، ويصعدوا بهمم قلوبهم، أو أبصار بصائرهم، أو حركات ظواهرهم
من أدانيها إلى أعاليها، فأبدى لهم ظواهر المفعولات، ثم دعوا من فانيها إلى باقيها ، ثم
من جملتها إلى شهود فعل فاعلها ، ثم إلى علم اسم ذلك الفعل صادرا عنه ، ثم إلى نول
صفة الاسم دليلا عليها ، ثم إلى الفناء الكلي تحت قهر سطوات أنوار ذات بهاء الأسماء
والصفات.
والمنزلة الأولى لا قرار لساكنها، ولا نجاة لقاطنها، وهم بعد درجات بعضه
فوق بعض ( قد علم كل أناس مشربهم ).
وقال رضي الله عنه: أرباب الأنوار: نوعان:
قوم: اصطلمتهم سطوات الأنوار فغرقوا في تيار تلك البحار، فهم غرقى في
لجة عبابها، سكاري من كاسات شرابها، لا يدركهم طرف سالك راغب، ولا يلحقهم
48
جواد مريد طالب، كل منهم قد حجب عن العيان، وكان هنا بيان، لا يسمع منهم
المشتاق خبرا، ولا يدرك لهم التابع أثرا
وثانيها: وهو ناتج عن بركاته، وثمرة عن بذر بعض حباته، وهو معنى في الأدمي
لا يخرج نباته إلا عن مياه سحابه، ولا يفهم معنى حقيقته إلا من سطور كتابه، ولا
يستخرج إلا منه، ولا يظهر إلا عنه.
وثالثها : الإدراك بمعاني غيبته وأمور ملكوتيته . انحصر علم الحقائق - إلا من
هذا الباب - عنها، وعجز إدراك عموم بني آدم وكل، بل منع وحجب عن التوسل
والوصول إليها، والاطلاع بجملة عقولهم وأفكارهم ومتسع نظرهم إليها، لا يجدوت
إلى معرفتها سبيلا، ولا يستطيعون بقوى عقولهم أن يلتمسوا عليها دليلا.
فهذه الأمور الثلاثة عقل عموم الخلائق عن إدراكها معقول وسلطان القوى
البشرية عن التسلط على معرفتها معزول ، لا يدرك إلا بضوء أنوارها ، ولا ينقل إلا عن
طريق أخبارها
ولهذا: يرى كثير من الخلائق - مع كبر عقولهم واتساع نظرهم - لحقائقها
منكرين، وعن جمال بهائها محجوبين، وليس لها طريق إلا أن يمن الله تعالى على عبده،
ويهديه بطريق التوفيق إلى التسليم والإذعان، والتصديق والإيمان، أو يجذب قلبه بعظيم
عنايته ، بسلوك طريق التحقيق إلى طريق الكشف والعيان ، وسلوك مسالك أهل
العرفان ، فلا تطلبن معرفة شيء من ذلك إلا من طريق توفيقه وهدايته ، وتعريفه،
وعنايته، واعقل عن طلب شيء من ذلك ولاية العقول والأفكار، واعتمد فيما ينبغي
من ذلك على فضل الواحد القهار ، الملك العزيز الغفار، فإن جميع ذلك في خزائن غيب
مستور ، حتى يمن به ويهدي إليه ( ومن لم يجعل الله له نورا فما لعه من نور)
وقال رضي الله عنه : العالم الرباني في قلبه نور وهدى وعلم حقيقي يموج كأمواج البحر،
مستقر في أصل سره ، لا يخرج إلى بيداء عقله ومحل فكره إلا بمخرج ربه الحكيم الخبير،
وسلك - على سبيل الازدواج - في بواطن الأنوار كما كان في ظواهر الآثار ، ألا ترى
إلى حال الذكر والأنثى! فلذة الذكر وولده مستقران عنده، لا يحتاج في تحصيل أصل
ماهيتهما إلى أنشى، وهو إنما يلتذ باجتماع الأنثى بلذة نفسه، والأنثى سبب لظهورها.
وكذلك: ولده تام الماهية عنده، لكنه يجتاج إلى ظهوره، وتربيته في مقر غير ظهره،
فلذته لا تخرج إلى بيداء حسه وولده لا يخرج إلى الوجود المنفصل إلا بقابل وسر
ازدواج (ذلك تقدير العزيز العليم) فيرى شهوته تتردد عنده ، ويناظر
بحسنها، وولده يطلب الانفصال إلى الوجود الخارجي بواسطتها، وهو لا يلتذ بشهوته
ولا بظهور ولده حتى يجد قابلا، ولا يستطيع إرادة ذلك حتى يتهيأ قابله لذلك.
كذلك : العالم الرباني، العلم والحكمة والنور كل ذلك في قلبه مستور ، لا يلتذ
بوجوده ولا ينعم بشهوده حتى يجد لذلك قابلا، فهو غني عن غيره بما وجد في سر
قلبه، لكنه محتاج إلى ظهوره، ومفتقر إلى من يظهر عليه إشراق نوره، فيدير، ويسقي
يشرب، ويغني، ويطرب، ويطرب
فلهذا : اختار العالم الرباني الجلوس [لعموم] الناس والحضور لسائر الأجناس ،
50
فتراه يفر من الخلوات ويشتاق إلى المحاضرات، ليلتذ بظهور أنواره ، ويمنع - بواسطة
السامعين - مجاذبة أسراره .
فإن صادف محلا قابلا، وسامعا عاقلا، وحمالا لشهوته، ومكملا للذته، وسببا
لوضع ذريته، تكملت له المفرحات، واجتمعت عنده الخيرات، ودك ثديه لرؤية طالبه
وكثر لبن ضرعه لجودة حالبه
فلا يكاد الحكيم الرباني إذا خلا يجد من النور ما يجد في الملأ بل يرجع إلى
أوصاف نفسه ، ويعاد إلى عوام حسه ، فتراه يستدعي الحكمة من قلبه ليعلمها ،
ويشهدها ويفهمها وهي عليه تتعذر ، كما أن الذكر إذا أراد أن يلتذ بالجماع ويكون له
ولد من غير أنثى لا ييصور
فلذلك : انجروا - بالاضطرار - إلى مجالسة المخلوقين ، والرجوع إلى الآثار ، لأن
للحضرة عبيدا ، وللنيابة والخلافة آخرين ، فهم يشتاقون إلى لذات المحاضرات،
ويدفعون إلى سياسة المخلوقات، جعل نعيمهم في بسط الأنوار بين ظواهر الآثار.
هم [يطلبون] العلو إلى جنة حضرته، وسابق قدره ينزلهم إلى أرض خلافته بين
خليقته.
هم يطلبون الحديث منه ، وهو يقيمهم في الحديث عنه ، ولهم في ذلك بعضر
سلوة:
51
وحديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب وهذا إذت حضر
كلاهما حسن عندي أسر به
لكن أحلاهما ما قارب النظر
هم يطلبون القيام بين يديه وهو يقيمهم ببن خلقه للدلالة عليه.
هم يطلبون رفع الأستار وهو يؤانسهم ويشغلهم عن ذلك ببث رسائل الأنوار
هم يشتاقون إلى شهوده وهو يأمرهم بملاطفة عبيده
هم يهيمون شوقا إلى جمال جماله وهو يطالبهم بأن يعرفوا عموم عبيده بنعمه
وأفضاله
هم يذوبون شوقا إلى اللقاء وهو يقول: ما أنتم فيه بغيتي، ولكم عندي الرضا.
وقال رضي الله عنه : ما قامت حقيقة الحق في زمن قط إلا انتصب لها من صور الأغيار من
يريد يضاهيها، وظلال من ظواهر الآثار ليتشبه بها ويحاكيها، والله تبارك تعالى يصونها
لى ذلك ويحفظها ويكفيها.
وقال رضي الله عنه : إذا هب النسيم الغيبي من تحت خفي الإشارات قبلته قلوب الأحرار،
ونفرت عنه نفوس الأخيار.
وقال رضي الله عنه: من أعظم أبواب الفتح يقظة العبد من غفلته
52
وقال رضي الله عنه : العبد لا يزال مضطرا، لأنه فقير إلى الله تعالى أبدا، لا غنى له عن الله في
شيء ولا بشيء ، فهو ملجأ إلى الله تعالى في جميع الحالات ، مسوق اليه بسوق
الضرورات، فقير بكل معنى وعلى كل حال إلى لطفه وبره، أسير بكل وجه تحت
سلطان عظمته وعظيم قهره.
فالعبد فقير إلى الله تعالى أبدا، فهو مضطر إليه أبدا، فلهذا يرجى له استجابة
دعوته وتحقيق إجابته.
وقال رضي الله عنه : احذروا هذه النفوس ، فإن لها في الطاعات غوائل وآفات ، كما لها في
المعاصي شهوات مهلكات.
وقال رضي الله عنه : العباد ثلاثة
عبد: منهمك في غفلته، مشغول بدنياه عن شهود آخرته، لا يستيقظ من رقدته،
ولا يفيق من سكرته، قد زين له سوء حالته، وستر عنه قبيح طريقته، فهذا على أخدود
هلاك، إلا أن يتداركه مالك ناصيته، والعالم بسره وعلانيته.
فاحذره ولا تقربن منه، لئلا تضرك مشاهدته، ويجرك إلى سوء حالته بمخالطته.
وعبد: قد تيقظ من غفلته، وتنبه من رقدته، وتبصر فأدرك قبح عمله، وسوء
سيرته، لكن غلبت الأقدار، وجر إلى ما يكره بالاضطرار، وعجز عن رد نفسه عن
هواها، وضعف عن مغالبتها وسلوكها سبيل تقواها.
فهذا: يرجى له بثواب مجاهدته إقالة عثرته، والأخذ بناصيته، وأن يمده مولاه
بمعونته، وأن يعجل له بتفريج كربته، والتوفيق لطاعته
وعبد: سمع ورأى، وطلب وسعى، وسلك سبيل الهدى، ولبس لباس التقوى
ووقف بباب المولى، و( أعطى وأتقى وصدق بألحسنى ) ، وفتح له باب
التيسير لليسرى.
53
فهذا: عبد تفرح العوالم بحسن حالته، وتسر الأكوان بجميل سيرته، عبد: فتح له
باب القبول وأذن له في الدخول ، استقبل جميع المحاسن والخيرات ، وترك وراء ظهره
ميع أبواب الشرور وأنواع الظلمات، وتوجه لدوائر النعيم المقيم، واستقر قدمه على
متن الصراط المستقيم.
فهذا : أحرى [ان]، يديم الضراعة والسؤال لسيده ومولاه أن يثبته على ما من به
عليه، وأن يديمه على ما إليه هداه، وأن يزيده من فضله، فإن عنده الفضل الواسع
وعظيم المزيد، وألا يقطعه عن بابه، وأن لا يحول بينه وبين عظيم لطفه، فإنه القادر على
ما يشاء الفعال لما يريد.
وقال رضي الله عنه : لما استوت أقدام بني آدم على سنن الفطرة الأصلية، واجتمعت قلوبم
وأسرارهم جملة على قبول العهد الأول في الحضرة التعريفية وانتصبت عوالم الأنوار
عن دوائر أيمانهم، وعوالم الظلم والأكدار عن دوائر شمائلهم، وهاجت رياح الأقدار
بتصريف الملك العزيز القهار ، ألقت قوما - بسابق فضله - في درجات الأنوار ، والقت
بآخرين - بقضاء عدله - في دركات الظلم والاكدار
وثبت قوم - بعظيم عبادته - على متن الصراط المستقيم ، وتمسكوا بحفظ الميثاق
الأول في رعاية العهد القديم ، ولم يزغ بصر بصائرهم لهجوم عوالم الأنوار ، ولم تزلزل
شجرات إيمانهم عواصف رياح الظلم والأكدار ، فنودوا إذ ذاك من محل اللطف
والصفاء، وخوطبوا من حضرة الوداد والوفاء:
يا رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حال قوم عن عهودنا وهم عنها ما حالوا
وزلت أقدام قوم عن صراط محبتنا، وهم عن ذلك ما زالوا، لأجعلن يوم اللقاء التسليم
الأعلى شرابكم، ولأجعلن يوم الدخول إلينا الباب الأيمن بابكم، ولأعظمن مشربكم،
54
ولأغرسن بيدي كرامتكم، ولأحلنكم محل الأحباب، ولأرفعن بيني وبينكم الحجاب،
ولأسترن عن علم كثر من خلقي عظيم مراتبكم، ولأفيضن من عظيم فضلي ما لا
يسمو إلى يسيره منتهى مطالبكم، أنتم خلاصة خليقتي، والمجذوبون إلي بسابق إرادتي
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم).
وقال رضي الله عنه : متى يتطابق فيك الخبر والخبر، علا مقامك في الملأ الأعلى.
وقال رضي الله عنه: من نظر إلى الأكوان بنظر قلب، عوقب بالحجاب، أو بالحساب، أو
بالعذاب.
وقال رضي الله عنه : لا شيء أغرب على البشرية من بدو عوالم الأنوار.
وقال رضي الله عنه : بنور النبوات يصح الإيمان وتقبل الأعمال، وبنور الولايات تزكو
العبادات وتثمر الأحوال ، على سبيل التبع والاقتداء ، واتساع شعاع نور الأعز الأعلى
بطريق واسطة الأقرب الأدنى.
وقال رضي الله عنه : من أحببتة حق الحب فليس عيناك في الدنيا أهلا لرؤيته ، ومن رأيته
فيها بهما ليس أعلا لمحبتك.
وقال رضي الله عنه: الأدمي إن كان بطالا غير عامل
كالجماد، وإن كان مشتغلا بمعصية وشر فهو كالشيطان، وإن كان مشتغلا بأمور الدنيا
لا الآخرة فهو كالحيوان البهيم، وإن كان مشتغلا بفكر بباطنه فيما هو لله، أو يذكر
بظاهره [الله] فهو كالملك.
وانظر - رحمك الله - بدرجة من تريد أن تلحق، وحبل من تريد أن تتعلق
55
وقال رضي الله عنه : الأولياء قسمان: عبد: يتكلم من خزانة قلبه، وعبد: يتكلم من خزانة
غيبه، فالمتكلم من خزانة قلبه محصور، والمتكلم من خزانة غيبه غير محصور، فصاحب
القلب وهب هبة فأخذ ينفق مما هو له موهوب، والعبد الآخر جعل برزخا خفيا بين
القلوب والغيوب.
وقال رضي الله عنه : كلما قويت الظلمة في قلوب الخلائق نطقت ألسنة العارفين بصرالح
الحقائق ، لما أمنت من ملاحظة النظار رفعت كثيرا من الحجب والأستار ، ولهذا : يقل
النطق بها، ويخفى في زمن كثير الأنوار.
وقال رضي الله عنه : إن نلت فسكنت بما نلت، فما نلت، لأن العطاء يحرك الأشواق إلى لقاء
المعطي، وإن نلت فهيجك العطاء، أو أزعج الشوق منك، فتلك بشارة على وجود
العطاء، قال العلماء: ليس لله على كافر نعمة.
قال رضي الله عنه : جلت الحقيقة أن تكون البشرية محلا لتلقيها، ولكن إذا أراد أن يوصلها
إليك انبسط سلطان شعاعها، ومهد في قلبك محلا لتلقيها، فبها وجدتها لا بك:
أعارته طرفا يراها بها
فكان البصير لها لطرفها
وقال رضي الله عنه : جلت الحقيقة أن يكون لها جزاء من المخلوقين، إنما يطلب جزاؤها من
56
رب العالمين:
وقال رضي الله عنه: لن تجزي مريد أستاذه الذي أخذ عنه أبدا، لأن ما استفاده منه لا يقابل
بالأعواض ، جاء في الحديث : لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه
هذا في إفادات ظواهر الآثار، فكيف بإفادات حقائق الأنوار ?!
وقال رضي الله عنه : أهل السعادة - قوم وصل إلى قلوبهم علم الدار الآخرة، ثم دعوا ظاهرا
فأجابوا لما انطوت عليه ضمائرهم ، ولما كانوا أهل فوز فيها اطلعوا بقلوبهم عليها :
( ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها ) [أرادوها]، باطنا فسعوا إليها ظاهرا (فأولئك
كان سعيهم مشكورا) .
57
وأهل الشقاء: قوم حجبت قلوبهم عن علم الدار الآخرة فأنكروها، لأنهم لما
كانوا فيها خاسرين هالكين، كانوا عنها معرضين غافلين (أولئك الذين طبع الله
على قلوبهم وسمعهم وأبصرهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في
الأخرة هم الخاسرون).
وقال رضي الله عنه: لما كانت قلوب العموم غافلة بأسبابها، محجوبة بظلمة اكتسابها، غير
واصلة لإدراك المعاني الغيبية والعلوم الحقيقية ، جعل الحق تبارك وتعالى قلوب طائفة
من عباده واصلة لكنوز الأسرار ، جالبة لذخائر الأنوار، ناقلة لصحاح الأخبار
مناسبة للعالم الشهادي بأشباحها، قريبة من العالم العلوي بقلوبها وأرواحها.
فصارت بذلك برازخا بين الظلم والأنوار، ووسائط هدى بين عالم الصفاء
ومظاهر الأكدار ، وصارت وسيلة لتوصيل العلوم الغيبية والمعاني العلوية إلى القلوب
المحجوبة في القوالب البشرية، فهم برازخ الأنوار، ومعادن الأسرار، ( أولئك الذين
هداهم الله وأولئك هم أولوا ألألباب ).
وقال رضي الله عنه: من حفت بو عناية الله بورك له في أوقاته.
وقال رضي الله عنه : أهل التصوف: قوم ساروا عن الأجساد إلى ما ورائها، فنزلوا حضرة
الوفاء ، وحلوا في محل الصفاء ، فأجسادهم في الأرض قتلى [المحبة]، وارواحهم في
الحجب نحو العلا تسري.
وقال رضي الله عنه: من أعظم أبواب الصدق: منع النفس من إتباع إرادتها، فإن ذلك قرع
باب سعادتها، قال الله تعالي: ( وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوي
فإن الجنة هي المأوى)، فإنها ظلمة بذاتها وصفاتها وأفعالها، ومدرجة
شقاها: اتباع إرادتها، وسلوك سبيل هواها
وسبيل نجاتها أمران: نور علوي يزيد من فضل الله عليها، يجلي ليل ظلمتها،
ويغيبها عن شهود حقيقتها ، فيصير ليلها نهارا ومساؤها إبكارا وميصفو لها كأس
شرابها، ويفتح لها مغلق بابها، وذلك: مسلك السابقين، ومنهل المقربين
أو يصحبها توفيق من مولاها فيردها بلطفه عن إتباع هواها الذي تعظم قوته
وقهره، فتصبح إذ ذاك سالكة مسلك الأبرار، وإن كانت بعد محجوبة عن شهود عوالم
الأنوار.
وقال رضي الله عنه: من أعجب العجيب: محب وقف بباب غير الحبيب.
وقال رضي الله عنه : أنخ على الكرام - وإن لم تكن أهلا للعطاء - فإن لهم أخلاقا جميلة.
وقال رضي الله عنه: ما ذل قلب قط لبارئه إلا أفاده نورا وخيرا.
قال رضي الله عنه : ما وقفت همة مريد في سيرها إلى الله عند كون قط، إلا ناداه منادي
التحقيق: أثبت وجود ما أنت واقف معه.
وقال رضي الله : تفكرت وقتا بمفازة العقل الإنساني، فأنتجت الفكرة دليلا على عظيم
فعل الله، وعجيب تدبيره، فهممت أن أجعل ذلك ركنا من الإيمان، وكان إذ ذاك خاطر
زجرني:
أ تجعل مستند (إيمانك] - نتائج الفكرة البشرية ?! بل فر من ذلك إلى الله تعالى
59
وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، واستعذ بالله تعالى منه، واطلب ذلك من مدد الله تعالى، ونور نبيه
صلى الله عليه وسلم
فخطر إذ ذاك تأديبا للنفس ، ورفعا لهمتها بأداء الهمة العليا ، والمطلب الأسنى ،
والمسلك الأرقى ، ان أراني سلوك المحجة البيضاء ، والوصول إلى ذروة أهل التقى،
والاقتداء بأهل الرتبة الأولى ، فإياك أن تجعل دينك وإيمانك عن نتائج العقول
والأفكار، ولا مستندا إلى أدلة النظار ، بل عرج إلى المحل والمنزل الأعز الأحمى
واجعل ذلك من عين مدد ذكر من الملك الواحد القهار ، المدبر الفاعل المختار
ومن بركات الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الأمداد والأنوار، واسأل الله تعالى أن يمن عليك
بمدد من عنده يغنيك به عن كل شيء سواه، ويهديك بنوره اليه حتي لا تشهد في ذلك
إلا إياه، وقل:
رب أعوذ من أن يكون إيماني بك وبما أنزلت وبما أرسلت مستفادا من فكرة
مشوبة بالأوصاف النفسية، أو مستندا إلى عقل ممزوج بأشباح الطينة البشرية، بل من
نورك المبين، ومددك الأعلى، ومن هدايتك بإشارتك، ومن نور نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم،
وزدني نورا وعلما، فإنك أنت الله الملك القدير الفعال لما يشاء.
60
وقال رضي الله عنه : إن أردت الوصول إلى نور الولي فاطلب الله تعالى، فهناك تجده، لأنهم
ودائع غيبه، وخبايا حضراته.
وقال رضي الله عنه : الدنيا حبة ، الآخرة شجرتها ، ونقطة الآخرة دائرتها ، ما هاهنا هنالك
في أحوالها وأعمالها وحقائقها ، فتأمل العلم الكبير ، وتيقظ لفهم الأمر الخطير (ولدار
الآخرة خيرللذين اتقوا أفلا تعقلون).
وقال رضي الله عنه: ما دون الفناء الأكبر من علم وعمل وحال ومقام، مشروط في تحقق
وجوده وتيقن شهوده ، وجود جزء ما من البشرية ، وبقاء أثر ما من عالم النفس
الإنسانية، إذ بسوادها تتصور أشكال سطوره، وببقاء شيء من ظلامها يتحقق شهود
نوره، لكن بمقدار موزون، يدرك شيئا من ذلك - إذا شاء الله تعالى - أرباب الكشف
المحققون، فإن زاد على قدر الاعتدال من ذلك تكدر صفاء شرابه، وإن نقص عن ذلك
اضطرب السالك فيه وربما تعذر من الغيب فتح بابه
فإذن : لا تطلب من العلوم والأعمال والمقامات والأحوال خلوصها من كل
الشوائب البشرية، لئلا تكلف شططا، وتظن وجود ما لا يمكن وجوده سهوا وغلطا
بل من بين فرث الماء والطين ، ودم ذلك الأمر الخفي عن إدراك المدركين ، يخرج (لبنا
خالصا سائغا للشاربين).
وقال رضي الله عنه: لا يهولنك كثرة عدد الفجار وقلة عدد الأخيار، فإن أولئك - وإن كثر
عددهم - فأمرهم صغير حقير، وهؤلاء - وإن قل عددهم - فأمرهم واسع كبير،
والناس ألف منهم كواحد، وواحد كالألف ، إذ إن عناية أولئك بكثرة ظلال
61
ظواهرهم ، ومعانيهم الزائلة الدنيئة التي هي غير حقيقية ، ككثيرات ، العالم الفاني من
نبات وخشاش وحشرات ونحو ذلك
نبات قوالب خالية من المعانى العلية النورانية ، سكانها بوم النفوس الخسيسة
الأرضية ، ومعالم عمارها : رذائل المعاني الحيوانية وصفات الأشكال الشيطانية ، كثيرهم
قليل، وعزيزهم بالحقيقة ذليل، أولئك ( كالأنعام بل هم أضل سبيلا أولئك هم
الغافلون).
وهؤلاء الأخيار قل عدد ظواهرهم، وكثر مدد سرائرهم، يوزن الرجل منهم
بعدد كثير من جنسه الأبرار ، فما ظنك بأولئك الذين لا وزن لهم بالنسبة إلى سعة
أنوارهم?! وما قدر أولئك الذين لا قدر لهم مع عظيم مقداره؟ !
يضيق الكون الفاني - الذي أولئك جزء حقير من جملة أقطاره - عن سعة
أنوارهم، ويتلاشى العالم الدنيوي - بما فيه - عند ظهور أشعة شعاع أسرارهم.
وإذا كان نور تسبيحة من أحدهم تملأ ما بين السماء والأرض، فما ظنك بقلب
انبسط عنه نورها، وأفق سر كان منه طلوعها وظهوره جاء في الحديث : سبحان
الله والحمد لله تملأ - أو تملآن - ما بين السماء والأرض.
62
وقال رضي الله عنه: كلما جدد العبد المؤمن بالصدق حقيقة الإيمان، اقتضى تجديده ذلك
فناء عوالم الأكوان.
وقال رضي الله عنه: للعارفين ثلاثة أنفاس لا يميلون إلا إليها، ولا يعتمدون في كل حال
إلا عليها:
أمر السابقة : لقوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها
مبعدون) .
وأمر الخاتمة : لقوله : (ألا إلى الله تصير الأمور) ، ( وأن إلى ربك
المنتهى ).
وأمر المراقبة بالمشاهدة : قال تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب )
ولهم أخرى هي أجل وأعلى وأشرف وأسمى، وهي : الانطواء بالفناء الأكبر في
ظل الغنى الأعظم، قال قائلهم:
كن لي كما كنت لي في حين لم أكن
قال تعالى :قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) ، وفي الحديث:
كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. وقد قيل:
63
تسترت عن دهري بظل جناحه
فصرت أرى دهري وليس يراني
فلو يسأل الأيام ما اسمي ما درت
وأين مكاني ما عرفن مكاني
وقال رضي الله عنه : اعلم أن النور النبوي محتجب في سماء عزته وعلو رفعته، فاذا أراد الله
تعالى إغاثة النوع البشري وهدايته من ضلالته ، وبسط آثار رحمته، ونشر ألوية أسبابها
بين المخلوقين ، أنزله في القوالب البشرية والأشباح الإنسانية ، رحمة للعالمين ، ولطفا
بالخلق أجمعين، فيمكث ما شاء الله أن يمكث وهو محتجب بعزته، لابسا ثوب صيانته،
مخلوا عن الأشقياء البعداء ، ومجلوا على الأحباب السعداء ، ثم يرجع إلى محله الأعلى
وموطنه الأسمى عند انتهاء أجل ما قدر من أمد مدته، وتقدير سفرته، مودعا [بينهم]،
ما سار من أنواره، وما أودع من أسراره، ناويا رجعته عند فراغ أقواتهم، واشتداد
ظلماته.
فلما انتهى الأمر إلى ختامه، وأذن بدوه بوجود تمامه، من الكريم الوهاب بإبقاء
بركاته وأنواره وخيراته وآثاره إلى يوم البعث والنشور لطفا منه ورحمة ، وكرامة منه لهذه
الأمة.
وقال رضي الله عنه : ليس الرجل من وصف لك دواء لتستعمله إنما الرجل من داواك في
حضرته.
وقال رضي الله عنه: من الأنوار نور يغوص في القلب والأسرار، فلا تظهر أنواره ولا تبدو
64
آثاره إلا بعد تجلي سحابة هذه الدار، وهو أثبت وأقوى وأرفع وأعلى مما يسرع ظهوره
ويبدو مع صحبة الفانيات نوره ، إذ نبت النبات البطيء ظهوره أثبت وأبقى وأرفع
وأرقى ما ليس كذلك.
وقال رضي الله عنه : لا تبع ذرة من المحبة لله ، أو في الله، بقناطير من الأعمال، فإنها من
أنفس الذخائر وأسناها ، وأشرف المآثر وأعلاها ، وأحق المساعي بنيل قرب مولاها ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن قال : إني أحب الله ورسوله - : المرء مع من أحب .
وقال رضي الله عنه : إن الرجل ليعانق الرجل ، وإن بينه وبينه لأبعد مما بين المشرق
والمغرب.
وقال رضي الله عنه: للسر لسان، وللروح لسان، وللقلب لسان، وللعقل لسان، كل عالم
منها له لسان ولغة تختص به، علموا ذلك في مواطن أصول لسانهم وغيوبهم الأصلية،
والعارف الكامل يخاطب كلا منها بلسانه ولغته، ويسقيه بكأسه من مشربه.
وقال رضي الله عنه : ما ظهر متلصص كون إلا عند غيبة حارس المعرفة، ولو ظهر حارس
المعرفة ما ظهر متلصص كون أبدا.
وإن شئت قلت - تنويعا لمثل التوصيل - : ما لاح كوكب كون إلا عند غيبة
65
شمس المعرفة ، متى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار،
وغابت نجوم الأغيار:
فإنك شمس والأنام كواكب
إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب
ولو علم الناس قدر الولي تأدبوا مع كل لأنه لابس مثل لبسته، وظاهر في مثل
صورته.
وقال رضي الله عنه: إذا أمرك آمر العلم، وزجرك زاجره، فائتمر لأمره، وقف عند وجود
زجره - وإن كان مقامك أعلى ، ورتبتك في منازل القرب أدنى - أدبا مع الله تعالى ،
ووفاء بحق حكمته ، ووقوفا مع حدود أوامر إلهيته ، إذ من تمام أدب جليس الملك أن
يتأدب إذا زجره حاجب الباب تتميما لدوائر الملك، وتأدبا بأدبه.
وقال رضي الله عنه : شيئان إن لم يمر على العبد بهما لعبت به الدنيا: سماعا لباطنه، ورؤية
لبصيرته.
وقال رضي الله عنه: كل كون - أعلى أو أدنى - يقبل نوعا من المعرفة ، وبقيت معارف لم
بظهر لها أمثال، ولم تخطر لذي بصيرة على بال.
وقال رضي الله عنه : سهم المعرفة متى وقف أمامه هدف إيمان قلب أصابه ولم يخطئ.
وقال رضي الله عنه : ما ظهر كون قط - علوي ولا سفلي - إلا وهو دليل ومثال على
حضرة ربانية ونور معرفة خفية، وثم حضرات وأنوار لم يدل عليها دليل ومثال، ولا
تجلى مستور جمالها بحال، ومنها ما لم يكن لبشر إليها منال، ولم يخطر لذي بصيرة على
بال.
66
وقال رضي الله عنه : مما يلوح للقلوب الإيمانية والمدارك النظرية : أن تأخر إنشاء الأموات
من التراب، وإنبات حبات بني آدم من بطون الأمهات، إنما هو لما سبق في علم الله تعالى
وتقرر من ضرب الآجال لها ، ولما في ذلك من الحكمة الإلهية ، وأن توجه الإنشاء الآن
إنما لتوليد نسمات بني آدم من أصلاب الآباء وبطون الأمهات، وتمام هذه الدوائر على
هذا النظام الخاص حتى تتقضي آخر أمرها . فإذا حان أجلها، وانتهت مدتها، واستوفت
آخر سلسلتها، ومات آخر الناس موتا ، توجه الإنشاء للدائرة الأخرى والنشأة الثانية ،
وعادت السماء كالأب، والأرض كالأم، وكان التوليد واحدا دفعة واحدة ، لاقتضاء
حكمه المعلومة ، ومعانيه المفهومة ، وتنبت حبات نبات الآدميين من بطن الأرض نباتا
واحدا، فكأن كل بطن أم أرض، وكأن كل أرضي بطن أم، فالحال كالحال، فلا تختلفن
عليك المظاهر والأشكال فالأمرفيهما كالواحد.
فالحق - الآن - الغالب فيهما بالشاهد : (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
نخرجكم تارة أخرى )، ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا
يتساءلورن). (والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع
إنه لقول فصل وما هو بالهزل).
وقال رضي الله عنه : إذا نطق لسان المعرفة [لعارف]، صمت وجوده كله.
وقال رضي الله عنه : لو علمت النفوس ما به تطالب، لكانت تسابق داعيها إلى ما يدعوها
إليه.
67
وقال رضي الله عنه : إذا أنت لم تمزج شراب الدنيا بشيء من شراب الآخرة ، أسكرتك
بشرابها حتى تغيب عن شهود رشدك، وأنت لا بد لك من شرب شرابها، فامزج
بشراب من الآخرة حتى تكون محفوظا.
وقال رضي الله عنه : ما من وقت جديد إلا وفيه مدد جديد، يرى ذلك وبتلقاء كبراء
الوقت ووسائطه ، وأرباب النفوذ ، أكبرهم أرباب التلقي للمدد الوقتي، وسفراؤه
وحمال أوقات قلوب أهل زمانهم
وقد جاء في الحديث : ألا وإن لربكم في دهركم هذا نفحات ، ألا فتعرضوا
لنفحات رحمة الله فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم هذا ، فذاك إشارة إلى المدد الوقتي ، وهو أنفع
شيء للقلوب ، وأشفى شيء لداء المحب المكروب، فوجه همة قلبك ، وحدق ببصر
68
طلبك لما يوجد من النفحات الوقتية ، فإنها الشراب العذب الصافي ، والدواء النافع
الشافي.
وقال رضي الله عنه: إذا أشهدك عظيم أنواره غيبك عن شعود الأكوان، وإن حجبك بعزه
واقتداره كأن ما كان: ما كان.
وقال رضي الله عنه : من ذكرك بالآخرة والموت يخشى من النفس أن تدفع تلك التذكرة
بالتسويف ، لتأخر مشاهدة ذلك ، ومن ذكرك بالحقائق الأصلية لزمك شهود تذكرته
[لزوم] قرط أذن، لأنه شاهد وقتك.
وقال رضي الله عنه: إذا سلمت للقدر - بتحقيق - كان ذلك تكفيرا، بغض النظر عن
ملاحظة بعض المعاني الشرعيات ، وإذا راعيت أمر الشرعيات - مع شهود الظواهر
كان ذلك تكفيرا بغض النظر عن ملاحظة بعض سوابق المقدورات ، وربما أقيم لهذا
قوم ولهذا آخرون، كل على حسب شاهد حاله.
وقال رضي الله عنه : تدري أي خبر هو لك أنفع ، ولمقامك في الملأ الأعلى أرفع ? هو كل
خبر تجلى مخبره عليك فيه.
وقال رضي الله عنه : ما وردت حقيقة على عارف قط إلا وذهب شاهده تحت سلطان
أنوارها، وأما السامع منه فيمكن بقاء شاهده مع وجود تلقنها منه، لأنها وردت من
تشر اليه.
وقال رضي اللع عنه: خفيت الأرواح في الأشباح لظهور الأشباح في هذه الدار ، فوقع
الاعتناء بالظواهر، فشغل العبد بشهود ظاهره عن مراعاة القلوب والسرائر.
فالموفق السعيد: من زاحم لروحه فأظهرها، وجاهد في إصلاح [حقيقته]
69
فخلصها وحررها.
والمخذول البعيد : من بخسها حقها ، وعن اللحوق بالدرجات العلى أوقفها
وأخرها (قد أفلح من زكاها وقد من خاب من دساها ).
وقال رضي الله عنه: ليس الشأن من غرب عليك بتستير أمر [بشريته)، إنما الشأن من
أظهر أمرها وأوصافها ، ثم أبدى لك آثار التخصيص عليها من مكنوناتها بإبداء الحق
تبارك وتعالى ذخائر الغيوب، وفي ذلك إشارة لفهم قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم
يوحى إلي ) .
وقال رضي الله عنه: العارف لا يبقى مع غير الله تعالى بحال [ولا يقف مع ما بدا له من
حق] - ومن وقف مع ما بدا له من الله تعالى إليه حجب بذلك.
وقال رضي الله عنه : رب شارب دواء نافع وهو في صورة الماء، ظن أنه ماء فشربه بالعادة،
فكان في ذلك شفاؤه من جميع أمراضه واعتدال صحة جسده، كذلك ربما عثر على الولي
الموصل للى حضرة الله تعالى - من [هو] من جنس عموم البشر، فينفعه تعالى
70
بواسطته فكان سبب وصوله إلى حضرة الله تعالى، وهو عن ذلك غافل ، حتى
يصافح صرائح الأنوار، فيعلم - إذ ذاك - ما من به عليه، ويعترف بحقوق من كان هو
الموصل له إليه.
وقال رضي الله عنه : كنز المتسببين في أسبابهم الرجوع بقلوبهم فيها إلى حسن تدبير الله تعالى
وسابق إرادته.
وقال رضي الله عنه : في الآدمي صنعة منيعة تثبت لأنوار التجليات، لأن طينته عجنت من
أصل أصيل، فلذلك عند سلطان التجلي يتدكدك الجبل ويثبت البشر : (فلما تجلى ربه
للجبل جعله دكا ) ، ( لو أنزلنا هنذا القرآن على جبل لرأيته
خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون).
وقال رضي الله عنه: الألسنة ثلاثة: لسان نقل عن لسان، ولسان نقل عن قلب، ولسان
نقل عن غيب. والناقل عن لسان حاك، والناقل عن قلب عالم، والتاقل عن غيب
عارف، فلسان اللسان هو عن هوى، ولسان القلب داع إلى هدى، ولسان الغيب يسير
إلى عالم المحق والفناء ، وانطواء الفرع الأدنى في الأصل الأعلى.
وقال رضي الله عنه: مهر العلوم حسن الفهوم، ومهر الحقائق الفناء تحت قهر سلطانها.
وقال رضي الله عنه : إن فاتك لزوم الحسن، فلا يفوتنك لزوم الحزن.
وقال رضي الله عنه: وجود العارف الظاهر الحسي ، ونفسه المجعولة لأمر الحياة الدنيا
وسياسة معيشتها ، وعقله الطبيعي الكائن لتسكين النفس وتسليكها مسالك الاعتدال
71
في اقتضاء مطالبها - كل ذلك تلميذ تحت نور معرفته ، ومريد تحت يد أستاذ روحه
وحقيقته، تأخذ عنه مع جملة الآخذين، وتستفيد منه مع جملة المستفيدين، ويربى عنه
كما يربى غيره من المريدين، ويؤمن بخصوصيته كما يؤمن بها من شاء الله من المؤمنين
وهو معزول عن معرفة حقائق علومه الربانية ومقاماته العلوية ، لأن ذلك كله
من الأسرار الغيبية والعلوم المكنونة الحقيقية ، التي لا تطلع عوالم المظاهر - منها - إلا
على ظواهر آثارها ، ولا تشهد وجودات الظلال إلا أشعة أنوارها.
وقال رضي الله عنه : أهل التحقيق والعنايات وعلي الدرجات ، يحتسبون في السراء كما
يحتسبون في الضراء ، لأنها عندهم من المصيبات ، لأن النعم مع الحجاب نوع من أنواع
العذاب، كما قال بعضهم.
اللهم إني أحتسب عندك حياتي، وما اشتملت عليه حياتي، لأنها من بعض
ضرائي ومصيباتي، وأحتسب عندك مماتي، وما قطعني عنه مماتي من ذكري إياك
بتوفيقك، وما كان ممكنا أن تمن علي به من طاعتي وجميع قرباتي.
وقال رضي الله عنه : إن لم يسمعك الغيب فأسمعه، إن لم يسمعك بالتجليات والأنوار
فأسمعه أنت بالطاعات والأذكار.
وقال رضي الله عنه: من تحدث له يقظات في وقت فذاك دليل على أن له غفلات، وأهل
التخصيص والعنايات ليست لهم يقظات ، لأن اليقظة عن غفلة و لا غفلة لهم.
72
وقال رضي الله عنه: إذا كنت مفتقرا في إنشاء طينتك الإنسانية إلى خلقه وتصويره، كيف لا
تكون مفتقرا في هداية حقيقتك الأصلية إلى لطفه وتنويره2!
وقال رضي الله عنه : يشترط في بدو نور المعرفة وظهور آثارها : تطاول زمن أخذها ،
وانطواء من أخذت عنه.
وقال رضي الله عنه : كان الحق تبارك وتعالى يقول: عبدي متى لقيتني وأنت بي عارف
كتبت لك بعدد الأكوان حسنات.
وقال رضي الله عنه : رب عبد كان يستصغر نفسه عن أن يكون في الوجود موجودا، فلما
كسي خلعة، فقد صار يستحي من الله تعالى أن يرى الوجود الكوني - مع الله تعالى
شيئا مشهودا.
وقال رضي الله عنه: عليك باستماع الأخبار الطرية التي لم تحدث عن وجود فكر وروية
فإنها للقلوب نافعة، ولأضرار الغفلة رافعة.
وقال رضي الله عنه: ذاتك مرآة ذاتك، وشكل ذاتك مرآة ذاتك.
وقال رضي الله عنه: إذا رأيت من رأى ققد رأيت.
وقال رضي الله عنه : كل حقيقة إذا شاهدتها غلب سلطانها على شهودك، فهو مشهد حق،
وكل حقيقة إذا شاهدتها وجدت إدراكك له سلطان عليها، فما شهدتها حق شهودها،
وكل حقيقة بدت فغاب تحت سلطانها شاهد شاهدها، فذاك مشهد حق، وإن لم يغب
ففي شهوده ذلك مزج وتلبيس.
وقال رضي الله عنه : الأرواح من حيث ذاتها لا عورة لها، وإنما ذلك من حيث أشباحها،
وذلك لما وقع ارتكاب النهي من بني آدم بدت لهما السوءات ، لانطواء الأرواح وبدو
ما يجوز عليه ارتكاب المنهيات ، لأن ظهور عوالم الأرواح مؤذن بدوام الشهود ، ولا
ارتكاب منهي مع وجود ذلك.
73
وقال رضي الله عنه : من أعز الأشياء وجود الطلب الصادق، وتلته في العزة القبول، وأعز
منه الظفر بالوصول.
وقال رضي الله عنه: شيئان لا يكاد القلب يثبت عليهما : معرفة الله ، والخروج عما سوى
الله.
وقال رضي الله عنه: ليس الشأن تجلي حبيبك مع فقدان رقيبك، وإنما الشأن تجلي حبيبك
مع وجود رقيبك.
وقال رضي الله عنه : العارف إن لم يطلبه الخلق ليصلوا بواسطته إلى الله تعالى، طلبهم هو
لاقتضاء حق الله.
وقال رضي الله عنه : الجنة مطلوبة والنار طالبة، ولهذا تعامل هذه بالطلب، وتعامل هذه بالهرب،
وفي الحديث : ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها.
وقال رضي الله عنه : يرسل الوالد الشفيق ولده الطفل إلى الطبيب من حيث لا يعرف
الطفل، ويقال: تلطف به، ولا تشقق عليه إكراما إلينا، وأجرتك عندنا، ولا يكلفه
74
معرفة دائه، ولا معرفة مداواته، والقصد معلوم والفائدة تحصل كذلك، كأنما يقال
للعاوف:
داو مرضى عبادنا إذا أتوك - بتسييرنا وهم لا يشعرون - ولا تكلفهم معرفة
دائهم، ولا معرفة مداواتهم، فإنه ربما شق ذلك عليهم، وعاملهم كما عاملناهم، فإنك
داع إلينا، ومطالب بحقنا، فلقد دعوناهم إلى حضرتتا وجنتنا، وهم بها غير عالمين،
وبكنه حقائقها على الحقيقة غير عارفين (وما قد روا الله حق قدره ).
وجزاؤك أنت علينا، ونحن بما أنت عامل عاملون ( قل كفى بألله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب ).
وقال رضي الله عنه : إذا ظهر نور المؤمن خفيت الأكوان، وإذا أراد الله أن ينعمة بالجنة
أخفى عنه علي نور قلبه.
وقال رضي الله عنه : تتصارع الأسرار والأنوار، ويدير كل واحد منهما كأسه على الآخر،
فيسكران من كأسيهما، فيغيبان عن وجودهما، فلا أسرار ولا أنوار.
وقال رضي الله عنه : الوسائل الربانية جلاء عرائس الملأ الأعلى فيما بين الوجودين : وجود
الآفاق، ووجود الأنفس.
وقال رضي الله عنه: نعمة وأي نعمة إن خاطبوك ولو بكلمة.
وقال رضي الله عنه : إن من الحمق عدم احتمال الهموم.
وقال رضي الله عنه: إنما تزهد فيما أنت فيه راغب لأحد أمرين: إما لظهور نقص وخلل
فيه، وإما لشهود ما هو أعلى.
وقال رضي الله عنه : الزاهدون قسمان: منهم من زهد فيها لشهود غيرها، ومنهم من زهد
فيها لشهوده في شرف الآخرة وعلوها . والعارفون زهدوا فيها ، لرؤية ما هو أشرف
وأعلى وأجمل وأستى.
75
وقال رضي الله عنه : عليك بالنور الكلامي ، والمدد العلمي ، المتصلين بسلاسل الأسانيد الحقيقية ،
المرويين بثقات رواة الاحاديث القدسية والأنباء العلوية عن النور النبوي والروح
الأمري، وأدمن الشرب بكأسيهما إلقاء وتلقيا، فإن بذلك - إن شاء الله - تخمد نيران
الطبائع البشرية ، وتركد أمواج الدائرة الإنسانية، وتغيب صفات النفوس الشهوانية ،
وتخنس - لإلقاء شهب النور الكلامي - إلقاءات الخواطر الشيطانية ، وينطوي تحت
سلطان عالم القهر المستتبع بصفة الكلام، وبدو حقيقة ظلال العوالم الحسية ، وتتلاشى
عند مشاهد عالم الحق - بفتح عين البصيرة - الأفكار الدنية ومشاهد الغرور الدنيوية ،
وهو أتم حالا من الصمت مع النفوذ والمشاهدة ، فإن النور الكلامي والإلقاء
الروحاني، هو نفس مدد هذه الأمة المحمدية ، جاء في الحديث: ما من الأنبياء نبي إلا
أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون
اأكثرهم تابعا يوم القيامة.
وقال رضي الله عنه : الحق تبارك وتعالى اختص من النطق الإنساني ما شاء: لغة وكلما
وكلاما وحرفا، فجعله معادنا لأنواره، ووسائلا لتوصيل رسائل أخباره ، كما اختص
من البشر والملك من شاء، فجعله دليلا عليه، وداعيا بإذنه، وحاملا لكنوزه وأسراره،
فصدرا عن المحل الأعلى ناطقا ونطقا نطقا جليا وقلبا عليا، فلاح شعاع النور الأمري
من النطق البشري، وتبدى ضياء الروح الأصلي من الشكل الظلي، وقال تعالى: ( فإنما
يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون )، وقال تعالى: ( الله يصطفي من
الملائكة رسلا ومن االناس إن الله سميع بصير).
76
وقال رضي الله عنه: كل غيب حقيقي يكون علمك به: بأن يغيب شاهد حسك فيقوى
سلطانه عليك فيدركك هو، فتجده بادراكه إياك، لا بإدراكك له.
وقال رضي الله عنه : العابد يعادي فعل نفسه، والعارف يعادي ذات نفسه.
وقال رضي الله عنه : إذا سلكت مسالك التحقيق، فلن تزال تقول: لا إله إلا الله حتى
تغيب عن لا إله إلا الله ب لا إله إلا الله .
وقال رضي الله عنه : متى مزج لك شراب المحبة بالمعرفة شربت كأسا طيبة.
وقال رضي الله عنه : إنما يصد العبد عن العارف المحقق وجود شرك في ذلك العبد ، لأنه
يدفع بك في حضرات الجمع والتفريد ، فتفر النفوس من حر نار الأنوار إلى ظل ظلال
الأغيار.
وقال رضي الله عنه: من أحب الله تعالى، أحب كل ما كان بسبب منه، ومن أبغض الله تعالى
أبغض كل ما كان بسبب منه.
وقال رضي الله عنه: كانما يقال للعارف اذا شكى آثار بشريته: إنا نريد ان نعمر بك دوائر
الحس، كما عمرنا بك دوائر القدس.
وقال رضي الله عنه : خرج ابن آدم إلى الدنيا محتاجا []، وفوقه سماء وتحته نار، فإن ربى
جناحه وريشه طار، وإن تركه وأهمله سقط في النار.
وقال رضي الله عنه : من دليل قهر القهار: أن يريك ما يريك ويشهدك ما يشهدك، فلا
77
تستطيع أن تسلكه ولا تعمل على مقتضاه إلا إذا شاء أو أراد: (وربك يخلق ما يشاء
ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ).
فإياه فاقصد، وعليه توكل، ولا تطلب شيئا إلا منه.
لا تطبن حياة عند غيره
فليس يجيبك إلا من توفاك
وقال رضي الله عنه : كأنما يقال للعارف :
لا تستخبر عني غيري، أحجبك به عني فتراه ولا تراني، اكتب فتيا حالك
وأرسلها إلي سرا، أكتب لك بعلم التثبيت والهداية ما يسكن إليه سرك ومتى علم بها
كون ليس عليك ما يكتب لك فيها.
وقال رضي الله عنه : لو ظهر سر من المعرفة، غابت الأكوان وتلاشت واضمحل شاهدها،
فمتى اطلعت على شيء من المعرفة فلا تطمع أن يجمع بين ذلك وبين مشاهدة الأكوان،
ولا موافقتها في ذلك، لأن ببدو ذلك تذهب حقائقها، وأنت لولا سر عنايتنا فيك،
وغربة حالك فيها ما أطلعناك على شيء من ذلك، فأعط الأمر حقه، ولا تتعد طوره:
تزيدين كيما تجمعيني وخالدا
وهل يجمع السيفان - ويحك- في غمد
وقال رضي الله عنه: لو صفت القلوب والأسرار لشاعدت الجنة والنار .
78
وقال رضي الله عنه: كليما ازداد عيد بالحضور، ازداد الوقت به نور
وقال رضي الله عنه : أخذت النار أقواما ، لأنهم كانوا بالله تعالى مشركين ، ولم يكونوا
عارفين، فأخذت النار منهم محل الشرك، إن كان كلا فكل، وإن كان جزءا فجزء، ولو
علموا أن لهم ربا وكانوا بذلك مقربين ، لكانوا في زمرة الناجين وكانوا للمغفرة
واصلين وبها فائزين، وإنما نالت نيلا النار ممن كان من المصرين، لأنهم كانوا على خفي
الشرك مشتملين، فلما [تطهروا] من خفي الشرك والأوزار ، رجع بهم إلى دار الأنوار
وقرار الأخيار، جاء في الحديث: علم عبدي أن له ربا وقيل بآخره: قد غفرت لعبدي
فليعمل ما شاء.
وقال رضي الله عنه: النار من أثر ثوب عزة، تأخذ محل الشرك من العباد.
وقال رضي الله عنه: لست إلى شيء أحوج منك إلى نور يهديك، وعلم يردك عن غيك
وتماديك.
وقال رضي الله عنه : حقيقة السر: ما لا يظهر أبدا
79
وقال رضي الله عنه : العوالم ثلاثة : عالم الشهادة، وعالم الملكوت، وعالم الحقائق . وكل منها
مشتمل على غيوب مكنونة، وعلوم مصونة، وكنوز مخزونة، لا تقال إلا لأربابها، ولا
تعلم إلا من طريق أسبابها، ولا تؤتى بيوتها العلية القدسية إلا من أبوابها، ظواهر ما
فيها أجساد لأرواح معانيها، لا تباع إلا بسماسرة الأنوار، ولا تباح إلا بفتاوى علماء
الأسرار، ولا تجلى عليك عرائس جمالها إلا بجلاء سفراء حبها، ولا يأتيك دور كأسها
إلا على يد ساقيها . كما قيل:
ورأيت أسباب المنى مقطوعة
من دونها بالناس من أسبابها
إلا لمن أعطى الصبابة حقها
وأتى بيوت الحي من أبوابها
فالمطلع على أسرار الكون الشهادي حكيم ، والواصل لإدراك حقائق الملكوت
عالم رباني، وصاحب أسرار عالم الأنوار عارف محقق، وقد يختص نوع بنوع أو نوعين
وقد يعطى ذلك كله لمن شاء الله: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)
وقال رضي الله عنه: قضاء الله بسابق قدرته ولطيف حكمته ألا يظهر باطن لب إلا بعد
إزعاج ظاهر قشرته و[كلما] لطف اللب وخفي، اشتد إزعاج ظاهر قشره وقوي،
كذلك النوع الإنساني : لا يظهر لب حقيقته إلا بإزعاج ظاهر طينته، وعلى حسب علو
80
مقامه، وشرف ما في وعائه، على حسب إزعاج ظاهره وشدة بلائه، ولهذا قلب في
الأطوار، ليظهر ما فيه من كنوز الأسرار ولطائف الأنوار، قال الله تعالى: ( ولنبلونك
حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم).
وقال رضي الله عنه: العلم بماهية الشيء غير إدراكه، فقد يعلم الشيء ولا يدرك، وقد يدرك
ولا يعلم، ولا يتلازمان أيضا كالعالم بحقيقة الدواء وتركيب أجزائه، ليس ذلك هو
عين استعماله ووجود أثره.
وكذلك : المستعمل للدواء الواجد لأثره ليس هو نفس علمه به، إذ قد يستعمله
غير عالم به، ولا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، وليس أحدهما عين الآخر، ولا
لازمه.
كذلك : العالم بحكم الصلاة والحج وأنواع العبادات وبماهياتها ، لا يلزم منه إتيان
ذواتها، ولا نيل مثوباتها
وكذلك : العلم بحكم المحبة والرضا والخوف والشكر وأنواع المعاملات القلبية
لا يلزم من ذكر وصفها وجود الاتصاف بها، لكن متى وجدت من المتصف بها كان
أنفع لسامعها وأنجح في قلب قائلها.
والعالم بها غير المتصف بحقائقها . إن كان بحسن نية ، وصدق طوية ، وقصد
صحيح، حصل النفع بها أيضا، لكن مع اجتهاد قائلها، وبذل وسع المستمع لها.
81
والمتصف بها نفعه أعظم وأعلى، وبيانه أصدق وأجلى، وهو يغني به الآخد عنه
عن كثير اجتهاده، ويوصله إلى كثير منها بصدق مراده.
وإن كان العالم بذلك غير المتصف ، قصده مدخولا ، وسر علمه في ذلك
معلولا، حصل بذلك ضرر للقلوب، وحجب المستمع له - باستماعه ذلك - عن أنوار
الغيوب، قال صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات... الحديث.
وأما علوم الحقائق فعلمها ذاتها ، وذاتها علمها، ولا يجدها إلا عالمها، ولا
يعلمها إلا واجدها، ولا يشهدها إلا مبدئها، ولا يبدأها إلا شاهدها، علمها فان في
ذاتها، وذاتها محيطة بعلمها:
رق الزجاج، ورقت الخمر
فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنه خمر ولا قدح
وكأنه قدح ولا خمر
بل إذا أذنت شمسها بظهورها غاب كل وجود ليلي عند إشراق نورها، حتي ظل
شاهدها وقالب واجدها يذهب مع الذاهبين، وغيب ليل بشريته عند بدو نورها
المبين
حتى إذا جذب الصباح لثامه
ورمت مليحة شمسه بنقابها
رأت الدجينة أنني من بعضها
فذهبت بالأنوار عند ذهابها
82
قال عبد: نحن إنما نلقى الله بالأوائل، وقال سهل بن عبد الله: لا تكونوا من
أبناء الدهور، ولا من أبناء العد والإحصاء، وكونوا من أبناء الأزل.
وقال رضي الله عنه : كأن الحق تبارك وتعالى يقول : يا ابن آدم ملاة الأرض طولا
وعرضا ولم يملأ السماء إلا قليل.
وقال رضي الله عنه : الحق تبارك وتعالى :( يفعل ما يشآء)، كما أخرج نارا من
الحجر ، كذلك أظهر نورا من البشر.
وقال رضي الله عنه: ما سكت عارف قط - ولو نفسا - إلا عقوبة لأهل زمانه، ولا تكلم
ولو كلمة - إلا اتتفع بها كل أهل أرض هو عليها.
وقال رضي الله عنه : الرجال أقسام : منهم : من يدعو بالنور الأعلى ، ومنهم : من يدعو
بالنور الأدنى، ومنهم: من يدعو بالنور الأعلى والأدنى، فصاحب النور الأعلى غاية لا
83
تتعدى، وصاحب النور الأدنى قد يساوى ويعلى،
وقال رضي الله عنه: من غفلة العبد وعماء قلبه، نسبته الأشياء لغير ربه.
وقال رضي الله عنه : لن تستطيع أن تسلم من الشيطان الملتصق بذات وجودك ، الملتقم أذن
قلبك، الجاري منك مجرى الدم، ومن وسوسته وإلقائه ونفثه، إلا برجوعك إلى من هو
أقرب إليك منه وهو الله تعالى، قال الله تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما
توسوس به نفسه ونحن أقرب إله من حبل الوريد ).
وقال رضي الله عنه: الناس أقسام: ففيهم: من له قلب، وفيهم: من له علم ولا قلب له،
ومنهم: من يحكم قلبه على علمه، ومنهم: من هو تارة وتارة، ومنهم: من يستوي فيه
الأمران فيتوافقان فيه
فصاحب القلب ذو سلطان وحكم، لا بسبب ولا مستند من الخارج، بل إنما هو
أمر قهري وجداني مدده النور الأمري، والعلم مدده النور الظاهر بصدق السند وتحقق
الاتباع ، وصحبة العقل والفكر الصادقين ، فإن توافقا فذلك الأمر الهني ، والعيش
الرضي، والحال الذي لا ريبة فيه ولا شبهة، وإن تعارضا فتلك محل حيرة اللب.
وقال رضي الله عنه : إنما كانت سيئات الظواهر في طريق المعاملة في معرض المغفرة والعفو
لأنها مخالفة للأوامر السمعية الواردة على الخلق من وراء الحجاب ، بخلاف أنوار
القلب والأسرار في علوم المشاهدة وطريق المواجهة ، لأن الخلل في ذلك نزول عن
حقائق القرب والدنو، وتلك لا مغفرة لسيئاتها، ولا عوض عن فواتها، قيل لإبراهيم
84
ابن أدهم - رحمه الله تعالى - لما كان منه خلل في طريق المعاملة ، وخلل في طريق
المواصلة : كل ذنب لك مغفور سوى الإعراض عنا، قد غفرنا لك ما فات، بقي ما
فات منا.
وقال رضي الله عنه : ما تعقبت ندامة قط وقتا فارغا أو مظلما، إلا ملأته أو نورته.
وقال رضي الله عنه: لا تستكثر طلبا في جنب وصول بحق، فإن كثير طلب في قليل وصول
قليل.
وقال رضي الله عنه: أولا: تسمع، ثانيا: تفهم، ثالثا: تعلم، رابعا: تشهد، خامسا: تعرف.
وقال رضي الله عنه: من علم ما فاته كثرت حسراته.
وقال رضي الله عنه : ابن آدم ذو عوالم ثلاثة: عالم إنساني، وعالم شيطاني، وعالم روحاني،
فله : من حيث المعنى الإنساني الطيني : الجهل ، والنسيان . ومن حيث الريح الشيطاني
التكذيب والكفران ، والجحود والطغيان . ومن حيث الوصف الروحاني : التصديق
والإذعان، ثم اليقين والعرفان، ثم الشهود والعيان.
وقال رضي الله عنه : القلوب على ثلاثة أقسام:
85
قلوب أرضية: فالشيطان يأوي إليها، وربما استحوذ بالإغواء عليها.
وقلوب سماوية: فهو يلقي إليها، ويسترق السمع من نواحيها، فهو ينال من سماع
أخبارها، وربما رجم بشهب من أنوارها.
وقلوب عرشية: فهو أبدا لا يدانيها، ولا يصل أبدا إليها، تحصنت منه بالمحل
الأعلى ، وترقت عنه بالعكوف على الجناب الأقدس الأحمى
وقال رضي الله عنه : السامع من الغيب بالحق قليل، والسامع من السامع بالحق قليل.
وقال رضي الله عنه: أول سماع بالحق للقرآن: غيبة السامع عن شهود الاكوان.
86
وقال رضي الله عنه : إذا أراد الله بعبد خيرا أوصل إلى قلبه العلوم الحقيقية ، المتلقاة من
الحضرة الربوبية ، من طريق ليس فيه إشكال على الظواهر الشرعيات ، ولا تعدي
القواعد العقليات.
وقال رضي الله عنه : الكون الشهادي كله منطو في ظاهرية آدم وظاهرية آدم منطوية في
طي تسويته، وتسويته منطوية في معنى روحه، وروحه غيب في طي النفخ فيه، والنفخ
87
منطو في الإضافة وذلك منقطع الإشارة.
وقال رضي الله عنه : كأن الحق تبارك وتعالى يقول - بما دلت عليه قواعد العرفان، وأثبت
بشواهد الإيمان على لسان العبد الفاني، إذ كل شيء له منه دليل وبرهان، وحجة وبيان:
عبدي إن حجبتك بشريتك عني فلا تقطع رجاءك مني. عبدي إن فتحت لك
باب تعريف مني حطمت عنك أبواب التعريف من كل شيء سوي ما تعرفت به إليك
فلا تطلب - إذ ذاك - من شيء سوى ذلك دليلا، ولا تتخذ إلى التعريف من سوى تلك
الوجهة سبيلا.
عبدي لا تيأس مني أبدا ولو أبعدتك، ولا تأمن مكري في شيء وإن قربتك
عبدي أتريد أن تيسر أعلام الحقائق والأنوار، وتثبت شيئا من العلوم والأسرار،
في دار الحجاب والظلمات والأكدار، وبين الرقباء والأغيار، ولا تجد منها ومنهم شيئا
من التكدير والإنكار? هذا ما لا يتفق، ولو كنت في أعلى من هذا المنار، وأشرف من هذا
المقدار، بل لا بد من خشخشة الظلال والآثار لنفرتها عن أضدادها، وبعدها عن سلوك
طريق رشادها، ولما تحقق من معاداة عوالم الظلم لعوالم الأنوار، لكن أنا الكفيل الكافي
القدير، والمغني الشافي النصير، ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى
بربك هاديا ونصيرا).
وقال رضي الله عنه :لولا أن جعلت لطائف طاعاتك في صحيفة لطيفة، فجعلتها في
صون عنايتي، لذهبت بذهاب الأمان، ولغلب عليها سلطان (كل من عليها فان).
88
وقال رضي الله عنه : ما تدري ماذا يكون إذا شاهد القلب قلبا شاهدا؟!
وقال رضي الله عنه: من أعظم وسائل النجاة في الدنيا : أن تتخذ عند الله عهدا.
وقال رضي الله عنه: كل كون نظر بعين عقله، عوقب بفنائه.
وقال رضي الله عنه : لو نطق العارف بلسان حقيقة ، لم يسع الكون الشهادي كلمة من
كلماته.
وقال رضي الله عنه : إذا ظهر الكثيف وبطن فيه اللطيف: فتلك دار تكليفه وخدمته، ومحل
ظهور أسباب تكريمه - لمن يشاء - وإهانته ، ومظهر إرخاء الحجاب لبدو سلطان قهره
وعزته، وإبداء أسباب حكمته.
وإذا ظهر اللطيف وبطن فيه الكثيف : فتلك دار لطفه وكرامته، وحسن جزائه
ومثوبته، وإبداء آثار فضله ورحمته، وهي دار جنته المعدة لعباده الصالحين وأهل طاعته.
وإذا ظهر اللطيف وغاب الكثيف : فذاك عند بدو أنوار حضرته وتلك هي
حضرات القدس المحفوفة بقرب عنايته وعظيم ولايته.
وإذا غاب اللطيف والكثيف : فتلك حضرة أحديته ، وتجلي علي جلاله وبهاء
عظمته، قال تعالى: ( قل الله ثعرذرهم في خوضهم يلعبون).
فإنك شمس والأنأم كواكب
إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب
وقال رضي الله عنه: لو لاح نور حرف بحقيقته، ما لاح لشاهده كون سواه.
وقال رضي الله عنه : كأن الحق تبارك وتعالى يقول لعباده : «يا من طلب مني حدوثا، من
طلبني قف.
89
وقال رضي الله عنه: ما من قلب إيماني إلا وفيه سر سليماني.
وقال رضي الله عنه: ما ازداد عبد حضورا إلا وازداد له نور.
وقال رضي الله عنه : أما والله لو رقيت إلى الدرجات العلا ، لتنزلت إلى الجنة تنزلا.
وفال رضي الله عنه: من مزج لك كأسا من التذكرة بذرة من بشريته فقد أذاك.
وقال رضي الله عنه: لو خير العارف بين مائة ألف خصوصية، وكشف حجاب، لاختار أن
يكشف له ذرة من حجاب.
وقال رضي الله عنه : الحال ما جذبك إلى حضرته، والعلم ما ردك إلى خدمته.
وقال رضي الله عنه : لولا ضيق المجاري ، كنت ترى النور جاريا .
وقال رضي الله عنه: ما منعك من شم النسيم إلا زكامك، ولا حجبك عن شهود النور إلا
ظلامك.
وقال رضي الله عنه - في قوله تعالى : (هم وأزواجهم في ظلال) - : فيه إشارة إلى
نعيم الزوجية ، وتنبيه لمعنى التنعم بالحالة الاثنينية ، إذ ما ظهر من النعيم من مظاهر
الزوجية ، وما بطن من هبوب نسمات الحالة الوترية ، (لهم فيها فاكهة) يفهم منه :
غايات نعيم النفوس والأجساد ، ومقدمة لبلوغ الأماني وحصول المراد ، (ولهم ما
يدعون) مبادئ نعيم الإطلاق، وبإطلاق إنشائهم، ووجود الإنشاء عن إرادتهم،
( سلام قولا من رب رحيم) وهناك، هبوب نسيم النعيم في الحالة الوترية ،
ووجود الحياة الحقيقية بتجلي أنوار الأحدية.
وقال رضي الله عنه : من تزيد له حب في محبوبه بسبب جديد، فهو عن الصدق - في غاية
المحبة - بعيد .
90
وقال رضي الله عنه : الحالة التي لا ريب فيها ولا عيب - من ظاهر وباطن - : هي جمع لا
شطح [فيه]، وفرق لا شرك فيه.
وقال رضي الله عنه : من أبدى من أسرار الله تعالى ما لا يليق إبداؤه ، وأفشى من العلم
المكنون ما لا يناسب على لسان علم البرية إفشاؤه ، عوقب بسوء الظنون ، أو بما فوق
ذلك مما يعاقب به كل شاطح مفتون.
وقال رضي الله عنه: شيئان لا يؤذن فيهما إلا لنافذ ثابت القدم في النفوذ: الوصول إلى نور
الغيوب، والتمكن من نفع القلوب.
وقال رضي الله عنه : قطع الشهود بأن خطاب الله تعالى سابق لخطاب رسله.
وقال رضي الله عنه: لو زال منك أنا، لاح لك من أنا.
وقال رضي الله عنه: عالم الآدمي فوق عالم الشيطان، ولهذا لم ينل منه وهو في عش حضراته
حتى نزل إلى أرض شهواته، ولذلك كان اسم العبودية علما على وصفه الحقيقي، فقال
( إن عبادي ليس للك عليهم سلطان).
91
وقال رضي الله عنه : إنما يفر العباد من الخلق، لأنهم لم يعرفوا سر الله فيهم، وإنما أنس
العارفون بالخلق، لأنهم عرفوا أسرار الله فيهم.
وقال رضي الله عنه: من أعظم السماح: الكرم بقوت الأرواح.
وقال رضي الله عنه: كلما دق الكشف الغيبي وخفي كان أعلى، وإذا دام لصاحبه فهو دونه.
وقال رضي الله عنه: التجليات الباطنة تذكرك العهود بالشهود، كلما عطشت سقاك، وكلما
ضللت هداك.
وقال رضي الله عنه: كل دليل تستدل به على معرفة الله تعالى فأنت أظهر منه، وجودك
أظهر من كل دليل، وسبيلك بك إليك أوضح سبيل.
وقال رضي الله عنه: الأرواح تسترت بالأشباح لشهود العز، فمن نظر إلى الأرواح بشهود
الأرواح شهد بارئها ، ومن نظر إلى الأشباح - بغير شهود الأرواح - حجب من
منشيها.
وقال رضي الله عنه: ما عمل العاملون في هذه الدار على حالة ولا مقام سوى انحيازهم إلى
الله عز وجل، وإن كان الكل في طي ذلك.
وقال رضي الله عنه : إذا ظهر نور المؤمن غابت الأكوان، فإذا أراد [الله] أن ينعمه في الجنة
أخقى عنه نور قلبه.
وقال رضي الله عنه : الروح: متوسط بين السر والقلب، والنفس: متوسطة بين العقل
والجسد، فالسر : غيب الروح، والقلب شهادته، والعقل : غيب النفس، والجسد
شهادتها، فإذا مال الروح إلى السر خفي، وإلى القلب ظهر، واذا مالت النفس إلى العقل
92
خفيت، وإلى الجسد ظهرت.
وقال رضي الله عنه: كل شيء له ذات وعرض له عارض أخرجه عن اعتداله لا يرجع الى
أصل ذاته إلا بركوبه مكروهاتها.
وقال رضي الله عنه : كل ما كان من الموجودات بعيدا عن شهود الاختيار في أفعاله ، طال
بقاؤه كالسماء والأرض والجبال والبحار، وما كان قريبا من شهود اختياره، قصر بقاء
وجوده كالحيوان والآدمي.
وقال رضي الله عنه : لما كان المؤمن في الدنيا نسب الفعل لله وحده في أفعاله ، ولم ينسب
فعلا لغيره نفعه ذلك في الدار الآخرة، فلم يسلط كونا يغلب عليه.
ولما كان الكافر المشرك بالله تعالى ينسب [الفعل] لغير الله تعالى [بأن] ادعى
إلهية غيره ، سلط عليه ما يغلب عليه من أليم العذاب وسوء العقاب، جزاء لشركه به.
93
ولما كان المؤمن العاصي أشرك بحسه ووحد بقلبه ، سلط الغير بالتعذيب عليه
بحسب ذلك، ما لم ينله شفاعة أو رحمة.
وقال رضي الله عنه : لما كان اللؤمن في الدنيا جعل التأثير لقدرة الله تعالى وحده، جعله الله
تعالى في الآخرة مؤثرا في الأشياء وليست هي مؤثرة فيه .
ولما كان الكافر ينسب التأثير لغير الله، ولاه ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت
مصيرا.
وقال رضي الله عنه: العباد ثلاثة: عبد لم يشهد ذنبه، فهو بعيد، وعبد اعترف بذنبه، فهو
سعيد، وعبد لم يشهد وجوده، فهو شهيد.
وقال رضي الله عنه : الظلال شفت فوصفت، والحقائق هاجت فأشرقت، والقلوب
زاحمت فنظرت.
وقال رضي الله عنه: سوابق العناية قبل نواطق الهداية.
وقال رضي الله عنه: الدنيا، أنت غير قار فيها، والآخرة لم تصل بعد إليها، ولم يبق إلا
رجوعك للقريب المجيب (وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب).
وقال رضي الله عنه: ما أكرم الله عبدا بمثل نور أهبطه على قلبه.
94
وقال رضي الله عنه : إذا تكلم العارف كلمة غاب فيها وجود المستمع، لأن الكلام ذكر
السمع أنثى، و( الرجال قوامون على النساء).
وقال رضي الله عنه: لو تنفس العارف في بلد ثبت إيمان كل عبد فيه.
وقال رضي الله عنه : متى اهتدى القلب لسبيل السداد ، وصل بجد المراد الوداد.
وقال رضي الله عنه: أمام كل وصول عارض شهواني غيبي.
وقال رضي الله عنه: كل عارف لا يميت وجوده أمام مريده، لا يصل مريده إلى الله.
وقال رضي الله عنه : ما يصل إلى حضرات الأنوار إلا الخالص من الأسرار.
وقال رضي الله عنه: المراد: أن تتطهر ذاتك من غفلاتك ونجاسات شهواتك.
وقال رضي الله عنه : إذا انخفض السر المحجوب إلى السر النافذ، أفاض عليه أبدا.
وقال رضي الله عنه : ما نظر مريد لعارف بعين توقير ووداد، إلا كان سالكا لسبيل حق
ورشاد.
وقال رضي الله عنه : لو خير عارف بين أن يأتي إلى الله بوفاء نفسه أو فاقة نفسه، لاختار أن
يأتي بفاقة نفسه، فلأن يأتي إلى الله بعوازها خير من أن يأتي بوصف من أوصافها.
وقال رضي الله عنه: ما يباح التوحيد بالفهم إلا في محل التكليف خاصة.
95
وقال رضي الله عنه: من وحد بالفهم في مواطن لم يصل إليها تزل قدمه، وإنما يباح ذلك
لمأذون له ، أو لمن هو تحت إشارة عارف.
وقال رضي الله عنه : الواردات الربانية لا تصل إلى الفهوم، وما وصل إلى الفهم فمن
رشاش مائها، ومن شعاع ضياتها.
وقال رضي الله عنه: لا يلوح لك نور حقيقة الإيمان حتى تخرج عن عادة الأكوان.
وقال رضي الله عنه : إذا ورد العلم الحقيقي على القلب ذهبت الأمثال والصور.
وقال رضي الله عنه : المثالات الطلبية لأخذ الحقائق الأصلية.
وقال رضي الله عنه: إنما خلق فيك ما خلق لتعرف به الأكوان لا المكون، ولا تعرف المكون
إلا به.
وقال رضي الله عنه : مواد الحكمة منطوية في القوة الإنسانية ، وإنما يفضل الحكيم على غيره
باستخراجها من قوته إلى فعله.
وقال رضي الله عنه : الآدمي لا تقع عليه الإشارة، لأن نسبته تاهت في أنوار الفناء.
وقال لل: متى كان لك في الوصول نية، فلا تبق منك بقية.
وقال رضي الله عنه: ابن آدم ذو وجودات مطوية، تبصر في خلالها، فعسى يلوح لك شيء
من جمالها.
وقال رضي الله عنه:إذا لاح الأعلى فتوجه إليه عشقا، وإذا لاح الأدنى فسر إليه صدقا.
وقال رضي الله عنه : نور الحضرات سابق على نور الجنات ، ما برزت الجنات إلا بعد
الحضرات.
وقال رضي الله عنه : ما يظهر جوهر الإيمان إلا وجود الامتحان.
96
وقال رضي الله عنه: نيل الشهوات عذاب معجل مستور.
وقال رضي الله عنه : الحقائق كلما علت مدت - بوصفها - خفاء في ظهور ، وظهورا في
خفاء ومددها قوله - بالواو - : ( هو الأول والآخر).
وقال رضي الله عنه: ما ورد وارد عال وله تهيئة قط.
وقال رضي الله عنه: العارفون بسطوا أيديهم بالتقبيل، لأنهم ظهروا بالله تعالى لا بأنفسهم.
والعباد قبضوا أيديهم عن ذلك، لأنهم بأوصاف أنفسهم ظاهرون، وبعوالم حسهم
شاهدون، فهؤلاء قبضوا أيديهم لأنهم استحيوا من الله، وهؤلاء بسطوا أيديهم لأنهم
غابوا عن شهود أنفسهم لظهور عظمة [الله].
وقال رضي الله عنه: الواجدون قسمان: واجد محقق، وواجد غير محقق.
والمحققون الواجدون قسمان : مأذون له في الدلالة والإفصاح، وغير مأذون له في
الدلالة والإفصاح
97
وقال رضي الله عنه : [رب]) منعة كان فيها لطف وبركة، لأن فيها بساطا لعطاء لا
ينقطع، وفضل لا ينحصر، وإطلاق في عوالم البقاء الفسيح الأعلى.
وقال رضي الله عنه: إذا مرت بك سحابة [حقيقة] غيبية فقف تحتها، فهي إما أن تظلك
وإما أن تبلك.
وقال رضي الله عنه: إذا رأيت الرجل ينقل قدمه حيث لا يقوده هواه، فذاك دليل على
حريته.
وقال رضي الله عنه: الثبوت على حسن القصد تحقيق لحصول المقصود.
وقال رضي الله عنه : من دليل صحة حال المؤمن : [شوقه] لما ليس فيه هوى نفسه،
وخوفه ورجاؤه فيما ليس من ملائم نفسه، ومنافرتها.
وقال رضي الله عنه: من عصر لك من ماء ظاهر [بشريته] لتشربه، فإياك أن تشرب منه،
فإنه يجرك لاتباع الهوى وركوب الضلال، ومن عصر لك من ماء خصوصيته، فاشرب
هنيئا، فإنه الشراب النافع العذب الزلال.
وقال رضي الله عنه: كل كلام كنت مختارا في قبوله ودفعه، فنفعه عندك قليل، وكل كلام
قهرك على قبوله ، فذاك الذي يدفع بك إلى الأمر الحسن الجميل.
وقال رضي الله عنه: اخزن ولا تحزن احزن فإن الحزن ينفعك، ولا تحزن فإن الله معك.
98
وقال رضي الله عنه : فرق بين المريد والعابد، فالمريد سيره باطنه وظاهره تبع، والعابد سيره
ظاهره وباطنه تبع، والعابد يؤقت أوراده، والمريد يؤقت وارداته ، فما وقع للعابد خيره
بباطنه، وما وقع للمريد خيره بظاهره.
وقال رضي الله عنه: ما علموا حتى يعصوا، إنما علموا حتى يرحموا، وما علموا ليتحصنوا
بعلمهم من الأقدار، إنما علموا ليفروا إلى الله تعالى عند ورودها باللجاء والافتقار.
وقال رضي الله عنه : قوله تعالى: (وإذا جاءك) كأنه يقول: لا تنظروا إلى ظاهر
أحوالهم من سعة مال وجاه - بدليل سياق الآية - ولكن انظروا إلى كسوة الإيمان،
فمن جاء بها فهو أهل لوجود سوابق الإحسان، وكأنه يقول: من جاءك بأمارة الإيمان
فأعطه من ذخائر العرفان.
قال رضي الله عنه : قدس الله الأسرار المجردة والعلوم العلية عن أن تمكث زمنا ما في الزمن
الفاني، فإذا لاحت الغيوب للأسرار وتنزلت العلوم إليها، فلا مكث لأحدهما فيما
وصل إليه بعد حصول الفوائد في ذلك، ورجع كل إلى محله.
وقال رضي الله عنه : المشهد العلوي يمكن إدراكه مع بقاء وجود الشاهد، والمشهد الغيبي
إنما يدرك مع فناء الشاهد، فإن كان المدرك الغيبي من أصول الشاهد ومن كليات
جزئياته، فهو الذي يفنى وجوده عند شهوده، وإن كان أجنبيا عن ذلك فلا طريق له إلى
شهوده غيبا، بل يمكن أن يشهده علما أو مثالا، وما شهد من الغيبيات من غير فناء
شاهدها فذاك بطريق المثل والأشكال.
99
وقال رضي الله عنه : أحوال أهل المعرفة غريبة جدا، إذا كانوا مع بشرياتهم فحيتان في ماء،
وإذا كانوا بخصوصياتهم فطيور في هواء، فهم إذا كانوا بوصف نفوسهم فغرقى في
بحار الدنيا، وإذا كانوا بوصف أرواحهم فهم جوالون في أفق العالم الأعلى
إذا كنا به تهنا دلالا
على كل الموالي والعبيد
ولكنا إذا عدنا إلينا
عطل ذلنا ذل اليهود
واذا سكرت فإنني
رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني
رب الشويهة والبعير
وقال رضي الله عنه: كل ما كان شبها بالعالم الأعلى أو قويت أصالته منه، كان أقل مكثا في
الدنيا على قدر شبهه أو أصالته منه، أو بعده عنها.
وقال رضي الله عنه : كل ما كان فوق إدراك العقل ربما يمشى فيه بأحد الأمرين : إمأ
بالنور ، أو بالاعتقاد.
وقال رضي الله عنه : كلما قلت الحيلة من المخلوقات ، كثر من الخالق تبارك وتعالى التوفيق
والإعانات.
وقال رضي الله عنه: أصل حجاب بني آدم وقوفهم مع الظلال، مع الغيبة عن شهود
حقائقها، والعلم له ظل وحقيقة، فحجب كثير منهم عن شهود
مع ظلاله.
وقال رضي الله عنهع : الشاكر في حال شكره لسان ينطق عن ربه ، جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
فإن الله عز وجل يقول على لسان عبده: سمع الله لمن حمده.
100
قال رضي الله عنه: فاقة الأستاذ لما فاقه أشد من فاقة المريد إلى أستاذه.
وقال رضي الله عنه : ميراث الأنوار إلى قلوب المريدين : صدق المحبة.
وقال رضي الله عنه : وجود العارف في الدنيا لغيره، ووجود الخلق في الدنيا لأنفسهم.
وقال رضي الله عنه : كلما وجه العبد قلبه إلى الله انجمع، وكلما وجه قلبه إلى الخلق تفرق.
وقال رضي الله عنه: نعيم العبد وحياته هو بقاء ذاته، فكل سبب فرقه فقد أفناه، وكل
سبب جمعه فقد أثبته وأحياه.
رقال رضي الله عنه: الجنة مجسدة لأرواح الحقائق، وباب لحضراتها .
وقال رضي الله عنه : إنما فر العباد من العباد، لأنهم وجدوا منهم نتن جيفة الدنيا لظواهر
بشرياتهم ، وإنما أقبل العارفون عليهم ، لأنهم وجدوا طيب ريح الأرواح لباطن
خصوصوياتهم.
وقال رضي الله عنهم: الكرم يكسو، والعز يسلب، والكون بين كسوة وسلب.
وقال رضي الله عنه : كما تحب أن تراني وحدك أحب أن أراك وحدي، وإن الله ليغار
على وليه أن يعرفه غيره.
وقال رضي الله عنه : لا يعرف الولي حتى يعرف الله تعالى لأنه عنده، ولا يعرف إلا بعد
معرفته، ولأنه لو عرف قبل معرفة الله لكان حجابا عن الله.
101
وقال رضي الله عنه : الطريق الحقيقي للخلق في الدنيا الوصول إلى الله، والباب المفتوح لهم
فيها: معرفة الله، والسبب المتمسك في ذلك : العلم بالله ليس إلا شيئان وهما: الوحي
للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والعلم الإلهامي للأولياء.
وقال رضي الله عنه : الكشف الأعلى إذا نزل في أول مراتب تدليه، وتبدى بأوضح مظاهر
تجليه على أول بشر من أول مباشرته ، فذلك هو العلم الأصلي والنور الكل ، وهو
للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا نزل رتبة عن ذلك وكان مأخوذا من هنالك،
فذلك العلم الإلهامي والنور الفتحي ، وهو لأكابر الصديقين والأولياء المقربين
وقال رضي الله عنه : الأعين في مناظرتها أربع:
عين صحيحة الذات قوية النظر ، وهي عيون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،
وعين صحيحة الذات ضعيفة النظر: وهي عيون الأولياء ، وعين موجودة الذات
محجوبة النظر : وهي عيون المؤمنين الغافلين ، وعين عمياء : وهي عيون الكافرين
الجاهلين.
وقال رضي الله عنه : منذ حصر الآدميون في قراب البشريات، وسجنوا في سجون المظاهر
الحسيات ، لم يأتهم نقش العالم الغيبي ، ولا شيء من شعاع أنوار المحل الملكوتي ، ولا
102
علم حقيقي جديد، ولا فتح يؤذن لهم بنور مزيد، إلا على أيدي الأنبياء والمرسلين، ثم
بوساتطهم من الأولياء والصديقين والعلماء العارفين.
وليس معهم - سوى ذلك - إلا ما أوتوه في أوائل فطرتهم، وما نالوه - زادا -
في مدة أمد سفرهم، مما هو حاصل بحقيقة جملتهم عند زوال مانعهم، ثم يستخرج
لآحادهم ما قدر لهم منه باستعمال قوي فكرتهم، فليس لهم علوم جديدة طرية إلا من
تلك المنابع العلية القدسية.
قال رضي الله عنه : من عرف العارف تعب به العارف، لأنه حامل أثقاله والناظر في تقلب
أحواله، ومن جهل العارف استراح من حمل مؤنته، ومن التوجه إلى جهته.
وقال رضي الله عنه : كلما قويت معرفة العارف زاد إفلاسه وافتقاره، لأنه كلما زاد معرفة
ازداد قربا ، وعند القرب تزول النسب ، إذ لا يكون تنسب وأسباب إلا مع البعد
وإرخاء الحجاب.
وقال رضي الله عنه : العارف في الدنيا كشمعة تضيء مع خفائها.
قال رضي الله عنه : لا نجاة يوم الهلاك، ولا فوز وفلاح يوم يسبق السابقون، ويخسر
المبطلون، إلا للأصول، و[المتمسك بالأصول، والمتعلق بالمتمسك] بالأصول.
والأصول: الأنبياء والمرسلون، والمتمسك بهم: الأولياء والصديقون، والمتعلق بهم
الأتقياء التابعون، والمحبون الصادقون.
وقال رضي الله عنه : المثل للمريدين، والحقائق للعارفين ، كمثل رجلين أحدهما عند البحر
103
فهو يغرف حيث شاء، والآخر حمل عنده حمل ماء قليل، فهو ينتظر حمله لسعيه.
وقال رضي الله عنه: إذا حاولت أن تفهم في القرآن فذلك من عجيب حالك، لأنك تريد
أن تفعل فيما هو فاعل فيك.
وقال رضي الله عنه : تبدو الحقائق بالمثل للمريدين ، وبالخطاب للمتوسطين ، وبالحقائق
للمحققين.
قال رضي الله عنه : إذا بقي المؤمن يوما واحدا في الإيمان، تمسك بأكثر من مائة ألف عروة،
كل عروة لا انفصام لها، قال تعالى: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ففد
أستمسك بالعروة الوثقى لا أنفصام لها وألله سميع عليم ).
وقال رضي الله عنه : إذا قاد الشيطان الإنسان إلى الذنوب والعصيان، فإن دام في الإصرار
نمت حيلته عليه، وإن رجع وتاب فكأنه ما انقاد له قط.
وقال رضي الله عنه: إذا دعوت عبدا لغير هوى نفسه، فاتقه ما أمكنك، فإنه يعاديك بنفسه
ويواليك بإيمانه.
وقال رضي الله عنه : إذا أصبح العامل الناسك نظر في عمله ليصلحه وإذا أصبح المتوجه
نظر في حال قلبه ليصلحه مع ربه ، فأنت إذا أصلحت عملك أقبلت الجنة عليك، وإذا
104
أصلحت قلبك أقبل الحق بإحسانه إليك.
وقال رضي الله عنه : إذا أجنب العبد ألف جنابة كان غسل مرة واحدة يطهره من ذلك،
ويتيح له الدخول في الصلوات والاتصاف بأنواع القربات ، فكذلك إذا أجنب العبد
بالغفلة العصيانية ثم ذكر الله تعالى مرة واحدة ، كان ذلك مطهرا له من تلك الجنابات ،
ومبيحا له الدخول في الحضرات ، وفتح له - بحسن عوائد الله تعالى - أبواب المناجاة
وانصبت له ينابيع الخيرات ، قال الله تعالى : (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل
ان الحسنات يذهبن السيئات).
وقال رضي الله عنه: إذا حصل لك الأطيبان، فلا تبال: الإيمان بالله، والعود بعد العود إلى
الله.
وقال رضي الله عنه: والله لولا أن الله يريد ستر أوليائه وستر ما أودعهم، ما سلط عليهم
قول قائل قط.
وقال رضي الله عنه : من أضاء عليه نور الحقيقة تبينت له معالم الطريقة، فإن سلك هدي
وإن وفف انتظر، وإن رجع دفع.
وقال رضي الله عنه: كل كون قرب من عالم الشهادة طال زمن مكثه فيه، وكثرت فيه
جزئياته وقل تأثره لتغير عوارضه، كالجبال والبحار والأجسام البعيدة من عوالم
الأرواح، وكل كون قرب من عالم الغيب قصر زمن مكثه فيه، وقلت جزئيائه وضعف
عن قبول آثار عوارضه ، كالآدمي والحيوان والنباتات والعوالم القريبة من عوالم
الأرواح القابلة لها.
وإنما ذلك: لفزوع كل كون إلى ما هو أقرب إليه، واستيحاشه من الأبعد منه،
105
ولهذا إذا تراجع العالمان وهب نسيم العالم الغيبي، تلاشت العوالم الشهاديات، وثبتت
وقومت وظهرت الحقائق الغيبيات، وما اتصل بها وجاورها من تلك ، لأنها انطوت في
حمى جاهية أسرارها، واستترت تحت ضياء أشعة أنوارها (يوم تمور السماء مورا
وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين) (هنالك تبلو كل نفس
ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا بفترون ).
وفال رضي الله عنه : استمع الكلمات الرادعة عن الغي، والنصائح النافعة في زمن الرخاء
قبل أن لا ينفع ذلك، قبل أن تبدو الحقائق بذواتها، فإن أولها: كتاب، وثانيها: خطاب،
وثالثها: عقاب، ورابعها: حجاب، وخامسها: عذاب، (يوم يأتي بعض آيات ربك لا
ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إبمانها خيرا) .
وقال رضي الله عنه : نسبتك إلى الله بالتقصير، خير من نسبتك إلى غيره بالوفاء والصدق
وقال رضي الله عنه: من طلب مني بما يبدو مني، فقد طلب مني بوصفي، فالكرم إلي
أقرب.
وقال رضي الله عنه: «إذا طلبتني ولم تجدني، فأنا قد طلبتك ووجدتك، وأنا الغالب، جاء
في الحديث : اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
106
وقال رضي الله عنه : إذا رأيت عبدا سعت به قدماه إلى غير ما فيه هواه، فذاك دليل على
صحة تقواه، وتصحيح نسبته لسيده ومولاه، قال الله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه
ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) ، فإن نهيت
النفس عن الهوى كانت الجنة هي المأوى ، وإن سعيت بقدم التقوى لما ليس للنفس فيه
هوى ، كانت الحضرة هي المأوى .
وقال رضي الله عنه: إنما يرد بني آدم عن غيهم وطغيانهم أحد ثلاثة أشياء: إما شهود
عبوديتهم، وإما: إقرارهم بالإيمان بموجدهم، وإما: أخذهم بعذاب الله.
وقال رضي الله عنه : لو رفعت لك الستور، لاحت لك السطور.
وقال رضي الله عنه: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استقرت حقائقهم في دوائرالغيب،
فهم بذواتهم الحقيقية هنالك ، ولهم رقائق في عوالم الشهادة وفاء بحق دوائر الظواهر،
والأولياء في عوالم الشهادة ، ولهم رقائق جوالة في عوالم الغيب
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام نفذوا الحجاب بحقائقهم ، والأولياء نفذوا
الحجاب برقائقهم، فما هو لأولئك شرب هو لأولئك مزاج (ومزاجه من تسنيم
عينا يشرب بها المقربون). وعموم أهل الإيمان من وراء
الحجاب موقفون، يلقون ما يلقى إليهم، كل على حسب منزلته.
وقال رضي الله عنه : إنما يستجيب الدعاء إلى الله تعالى بالاختيار العباد الأحرار.
107
وقال رضي الله عنه : إذا فتح الله القلب بنور عنايته، كل لسان العبد عن كثرة عبادته.
وقال رضي الله عنه: رأس مالك في صلاح حالك، ووجود إقبالك.
وقال رضي الله عنه : الصلاة المقبولة قطعا هي الصلاة التي اتصلت بالمبايعة الحقيقية .
وقال رضي الله عنه : الناطقون بالحقيقة - على الحقيقة - قسمان:
ناطق: ينطق بها بعد تقدم شهودها على حال نطقه، فهو ناقل لأحوالها وضارب
لأمثالها، وربما - بعد لباس ثوب بشريته، وغيبة شهود شمس بصيرته - تغير عليه في
نقله الحال، فاضطرب عليه في إبدائها ضرب المثال، وانتفاع سامعه والآخذ عليه على
حسب صحة نقله وانتقاله وجوده بوصله وضرب مثاله.
وناطق: ينطق بها عند نزول غيب سحابها إليه، وحال تجلي شمس جمالها عليه،
فذاك الذي يسقى وهو على شاطئ بحر شرابه ، وذاك الذي يدعو إلى حضرة الملك وهو
واقف ببابه، وذاك الذي نور الحقائق لديه إذ ذاك جديد، وليس عهد السامع منه ببعيد.
وقال رضي الله عنه: لو أن عارفا بالله في مشارق الأرض ينطق بحقيقة، ورجل محب له في
مغربها، لكان له نصيب من ذلك على حسب قسمته وتهذيب محبته.
وقال رضي الله عنه: كل عمل موعود بجزائه آجلا، وقد يكون له ألطاف عاجلا، والتذكرة
جزاؤها عاجلا مع ما لها من الآثار آجلا، قال الله تعالى : (وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين).
وقال رضي الله عنه : عزت معرفة العارفين أن تكون هذه الدار لأربابها مظهرا
108
وقال رضي الله عنه: لأن تلقى الله تعالى وقلبك مستنير، خير من أن تلقى الله تعالى وعملك
كثير.
وقال رضي الله عنه: لسان الحس أعجمي، ولسان القلب عربي، فمهما أوقع لك بعجمة
حسك ففسره بعربية قلبك، تجد الهدى والبيان، فإن لكل منهما لسان.
وقال رضي الله عنه: القلوب على أصل سذاجتها، فإذا حركت بالتذكرة فمن استقام بعد
ذلك أعانه الله، ومن اعوج زاده الله، قال الله تعالى: ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من
يقول أيكم زادته هذه إبمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم
يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا
وهم كافرون).
وقال رضي الله عنه : حقيقة الكبر : شهود النفس، وحقيقة التواضع : شهود أثر قدرة الله
تعالى فيها.
وقال رضي الله عنه: من عرف منة فتح له بابها، فافتح باب العرفان، يفتح لك باب
الامتنان.
وقال رضي الله عنه : القول بالحق وسماعه عبادة، عمل به عامله أو لم يعمل.
وقال رضي الله عنه: يضطر العارفون إلى ملابسة الخلق والدنيا، لإنقاذ من فيها من الغرقى
وتخليص من بها من الأسرى ، ويتحملون كثيرا من أكدارها ، وينالون شيئا من
مضارها، استسلاما لإشارة الغيوب، وطلبا لأهل القسمة ممن هو بهم مطلوب، كما
109
يرسل الملك إلى بلد العدو من يخلص أسراها من للملك به عناية، فيضطرون إلى الستر
في سيرتهم ومخالطتهم، ويتجشمون شدة ما يرون من سوء مشاهدتهم.
وقال رضي الله عنه: سائر المعقولات والروحانيات تقاسمت وتحالفت : أن لا تلتقي في
هذه الدار كفاحا، إلا بوسائط الحسيات والبشريات :
حتى إذا جذب الصباح لثامه
ورمت مليحة شمسه بنقابها
وقال رضي الله عنه: العوالم ثلاثة: عالم موحش: وهو عالم الشهادة، وعالم مؤنس: وهو عالم
الملكوت، وعالم مهوب مخوف مفن: وهو عالم الغيب الأعلى .
فعالم الشهادة الأدنى: يشبه حالك معه حال أضدادك وأعدائك.
وعالم الملكوت: يشبه حالك معه حال إخوانك وأخلائك.
وعالم الغيب الأعلى: يشبه حالك معه حال أصولك وآبائك.
فحال العالم الأدنى حال أعداء آذوك وعادوك، وحال العالم الأوسط : حال
أخلاء بسطوك، وآنسوك، وحال العالم الأعلى: أصول غيروك، وأخفوك، وأفنوك.
لما لاح لصاحب الطور موسى عليه السلام جمال عالم الملكوت استأنس وانبسط ، فقال
( قال رب أرني أنظر إليك) ، فلما تجلى له نور من العالم الأعلى صعق
فقال: ( قال سبحانك تبت إليك ).
وقال رضي الله عنه: لسان التوحيد في الدنيا غراب بينها، يبعث بفنائها، ويصيح فيها
مؤذنا: يوشك زوالها، وسر انقضائها.
وقال رضي الله عنه : لما كانت هذه الأمة أقوم الأمم بحقائق التوحيد، كانت لذلك
110
أضعف الأمم أجسادا وأقلها أعمارا.
وقال رضي الله عنه على الوجودين الشهادي والغيبي، والدارين الدنيا والآخرة ، حق
توحيد يقتضيه منهن بحكم حق إلهيته.
فأما العالم الشهادي والدار الدنيا : فلما لم يقم كل ساكنهما بحق التوحيد فيهما
اقتضى العز الرباني والحكم الالهي توجه سلطان التوحيد إلى إفنائهما وقصر أمد
بقائهما ، حتى يأتي الفناء عليهما جملة ، فيذهب منهما العلوي والسفلي والجزئي والكلي
قضاء لحق توحيد إلهيته، وقياما بحق ربوبيته.
وأما العالم الغيبي والدار الآخرة: فسكان كل قائمون بتوحيده، متوجهون إلى
تعظيمه و تمجيده، وهم بعظيم إلهيته قائمون، وبذكره مشتغلون، (يسبحون اليل والنهار
لا يفترون) عن ذكره ولا يستكبرون، ولا يسأمون من ذلك ولا
يستسخرون، وقواهم بأنوار عنديته، وأيدهم بشهود جمال حضرته، قال تعالى: ( فإن
استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون).
ولذلك: جعل دارهم دار البقاء، وقدس عزائمهم العلية عن نيل حكم سلطان
الفناء، فافهم ههنا عند ذكر العالمين والإنباء عن الوصفين ما نسب إلى أهل الدارين
قال تعالى: ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو
والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته
ويسبحونه وله يسجدون) ، وقال تعالى: ( وله من فى
السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستخسرون
يسبحون الليل والنهار لا يفترون ).
111
وقال رضي الله عنه : الصدق في كل شيء هو السبب القوي في التوصل إليه.
ولذلك : لما كان أهل الدنيا أخل صدق في طلبها وصلوا إلى كثير منها ، مع الغفل
عن شهود قدرة بارئهم في إيصال ذلك إليهم ، ولما كان أهل الآخرة ليسوا لها طالبين،
وفي غيرها عنها راغبين، لم يصلوا إلى كثير منها من حيث كسبهم ، وإنما وصلوا إلى ما
قسم لهم منها من حيث لطف ربهم.
وقال رضي الله عنه: أصل حال العبد مع ربه: أن يقول الرب ويسمع العبد دون شيء مما
سوى ذلك، وكل ما سواه نقل إليه، ودرجات وخطى قصرت عليه.
وقال رضي الله عنه : لا يصل شيء إلى الأسفل حتى يكون الأعلى واسطة ، إلا ما وصل
لخواص بني آدم، فإنه كان سرا فيما بينهم وبين ربهم.
وقال رضي الله عنه : ما خاطبت كونا وخاطبك إلا بغير حقيقتك الأصلية، إلا الحقائق في
تلقيها والتوجه إليها، فذلك بعين ذاتك الأصلية.
وقال رضي الله عنه : لو باشر صريح الحقائق قلب المريد الصادق، لم تسعه الأكوان.
وقال رضي الله عنه : إذا [علت] الحقيقة لم تظهر إلا على أشرف الخليقة ، لذلك لما كان نور
[النبي صل الله عليه وسلم] - أعلى الأنوار لم يبد إلا على [أشرف الأبشار].
وقال رضي الله عنه : طلب الأستاذ فن المريد، وصنعه فيه - إذا سبقت له قسمة العناية
112
أن يخرجه من الدائرة الدنيوية جملة ، إما يذهب به إلى الأولية ، وإما يذهب به إلى
لآخرية ، إما إلى حال بهج نور التسوية الأولى، وإما حال نفخ صور الآخرة .
وقال رضي الله عنه: لولا ضعف العقول، لقال الشاهد بنور اليقين: إن المحبة أول قدم
للسائرين.
وقال رضي الله عنه : استقرار الحقيقة في ذهن السامع أكثر من استقرارها في ذهن الناطق
بها، لأن الناطق بها يستمدها عينا فيقل زمن مكثها عنده، والسامع يأخذها عن شهادة
فيطول زمن مكيها عنده.
وقال رضي الله عنه : متى لاح نور فاستصحب منه شهودا أو محبة ، فقد حصل لك نصيب
من ذلك.
قال رضي الله عنه : الأنوار الفرقانية بارزة من غير محل البشرية، فإن أردت تلقيها، فلا
تجعل البشرية شرطا فيها.
وقال رضي الله عنه: لا يستفيد مريد من أستاذه نورا ما إلا على [قدر]، تأدبه في حق
الاستاذ.
وقال رضي الله عنه: متى سمعت كلاما عن رجل في كتاب، أو نقل، فإن لم يكن لك نسبة
في شهود حقيقته لم تنتفع بكلامه .
وقال رضي الله عنه : لولا شهود الجزاء أمام القلوب الإيمانية ، لغلب في شهودها فوق ذلك
رتب علية.
وقال رضي الله عنه : إذا عرض الكون الدنيوي حجب، وإذا عرض الكون الأخروي
أوقف.
113
وقال رضي الله عنه : كل كلام ينزل إلى الكناية فهو من الدوائر الحكمية، وهو كشف نازل
عن الحقيقة العليا ، كحال الطائر البطيء الطيران إذا نزل إلى الأرض ، فيمكن أن يدرك
مثاله ويستحضر خياله، كذلك كلام الحكمة في تنزله إلى اأرض البشرية، فيمكن أن
يقتنص بالكنايات، ويضبط بطريق المحاكاة.
وقال رضي الله عنه : مدد النعيم من الحرية ، ومدد العذاب من الملكية ، وهما من الأسرار
الخفية.
وقال رضي الله عنه : إذا ذكرت الحكمة أو الموعظة، فأثرت هذه بفهم معناها، وهذه باإثارة
خوفها ورجائها، وعرض بعد ذلك عارض دنيوي، أو سبب نفساني، غيب عن
استيفاء أثرهما ، لأن بوجود إحدى الدائرتين تذهب الأخرى.
واذا ذكرت الحقيقة لا يطفئ نور شمسه هبوب هوى النفوس والدنيا ، لأن
جواهرها مستقرة في قعر بحار القلوب، ولا ينتهي إليها غواص النفس والهوى ،
بخلاف الأوليين.
وقال رضي الله عنه : من دليل صحة حال من أخبر عن سعة رحمة الله بصدق عدم اغترار
من سمع منه.
114
وقال رضي الله عنه : ظهر الآدمي في المظهر الجسمي الجبلي في العالم السماوي بحال كونه
مسجودا له مكرما معرفا، ثم خفي في سلالة الظهور
ثم ظهر في المظهر التفصيلي متعاقبا في الكون الدنيوي مقلدا متعبدا مكلفا، ثم
خفي في برزخ القبور إلى يوم النشور، ثم ظهر في اليوم الأخروي بجملة تفصيله محاسبا
ومعاتبا ومعلقا، فيوم خفاء الظهور كيوم خفاء القبور، والأخروي كالدنيوي، هذا
عملي وذلك جزاؤه، هذا أساس وهذا بناؤه، هذة نقطة وتلك بسطة دائرته، هذا ظاهر
حق وتلك باطن حقيقته.
وقال رضي الله عنه: ظهرت في بطن نعمان بظلك دون حقيقتك، وفي النفخ والاستواء
بظلك منطويا في حقيقتك، وفي السلالة من ظهور إلى بطون ما بين ظل وحقيقة، وفي
الأمد الدنيوي: بظلك مع خفاء حقيقتك غفلة، وبظلك منطويا في حقيقتك حضورا
وشهودا ، وبحقيقتك في البرزخ مع ظل، وفي المحشر بالحقيقة والظل معا، وأنما يزول
عنك ظلك حال ما تكون في ظلهم.
وقال رضي الله عنه : العارف لو لم تبعد الحقيقة عن ذاته قليلا ، ما أمكنه التعبير عنها.
وقال رضي الله عنه : إذا نظر العارف بعين بصيرته غابت الدنيا في مرآته، لأن حدقة بصيرته
أوسع منها، ولأن مستمده الذي وجه بصيرته إليه يغيب الدنيا حال شهوده.
وقال رضي الله عنه : العالم الدنيوى [محل] ظهور المعنى الإنشائي، ومن بعد الموت إلى
آخر المحشر محل ظهور النور الإيماني ، ومن مبدأ دخول الجنة مبدأ السر العرفاني
115
وقال رضي الله عنه : كل حقيقة لله فيها علم لا يعلمها فيها غيره، والناس فيما دون ذلك
متفاوتون.
وقال رضي الله عنه: إذا ثبتك الحق لسماع الحقائق مدة، فارج في الله، فإنه ما ثبتك إلا وهو
يريد أن يعطيك، فإن القلوب الغافلة إذا سمعت الحقائق نفرت.
وقال رضي الله عنه : ما أفادت الحقائق أهلها إلا الإفلاس منها لما دخلوا حضرة الفناء
عهدوا هناك أن يظهروا أو لا يظهروا، فلا يظهر ما لي في الدنيا بحقيقة قط ، وإنما
يظهر علمه لا عينه، فإذا كان يوم القيامة أظهر الله منهم الأعيان، واتضح حق حقيقتهم
وبان.
وقال رضي الله عنه: ربما هبت نسمات رحمات في أوقات عنايات، فيتحمل الكائن في بركة
السر والكائن في ينبعه، فيدخلان حرم الوصول دخولا واحدا، قال ذلك العارف: إذا
فتحت عين من الكرم، ألحقت المسيء بالمحسن.
وقال رضي الله عنه : يا ابن آدم: ما أنصفت، يدعوك داعي الدنيا للذاهب الكدري الفاني
بكلمة واحدة فتجيبه ألف يوم ، ويدعوك داعي الآخرة للثابت الصافي الباقي بألف
كلمة وقد لا تجيبه يوما واحدا، فليتك - إذ لم تعط ذا حق حقه - سويت، أو فليتك إذ
لم تجعل للآخرة كل وجهتك تداركت شيئا من أمرك وتلافيت.
وقال رضي الله عنه : إن من الأنوار أنوارا في غيب من غيوب الله لو برزت منها ذرة للنار
العظمى لأحرقتها كما تحرق النار من أثرت به ، وكما أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءا
من جهنم، فنار جهنم كأنها جزء من سبعين ألف جزء من تلك الأآنوار.
116
وقال : كان الملأ الأعلى يتعجبون للآدمي إذا نظر لشمس الدنيا فاستضاء
بأنوارها وانتفع بآثارها، وهو في سر وجوده شمس أنوار هو غاقل عن شهود حقيقتها،
ولاو بشهود ظلمة ذاته الظاهرة وقالبه الطيني، عن ملاحظة سني جمالها وعلي بهجتها
كما قد قال شاهد ذلك المطلع على ما هنالك.
ذاب رسمي وصح صدق فنائي
وتجلت للبشر شنس سمائي
وقال رضي الله عنه: ديننا هذا قسمان: ظاهر علم، وباطن حقيقة
فظاهره مضبوط بأنوار القلب، فمن أتاك بشيء منه فاستشهد عليه بما هو منه،
فالظاهر بشواهده، والباطن بشواهده، فمن قبل من ظاهر بغير نقل ثقة ذل، ومن قبل
من باطن من غير شهود قلب ضل.
وقال رضي الله عنه: من علامة إذن التعبير : أن تمسك شمس الحقيقة عن سيرها في فلك
المعارف ، لتوسع للمعرفة بقدر ما يفيد قلوب المريدين لضرورة توصيل الحقيقة إليهم
وليقاتل أعداء ظلم قلوبهم.
وقال رضي الله عنه: أرباب الأنوار أربعة : حامل الإبداء، وحامل علم الإخفاء، وحامل
سر التوصيل، وحامل سر الإخفاء
وقال رضي الله عنه: من أحسن الأنوار: نور يرد على قلب المريد يلوث بظلمة الدعوى.
وقال رضي الله عنه : ليس قصد الأكابر والدعاة إلى الله تعالى بالحقيقة من المريدين
والمدعوين لا علوم، ولا أعمالا، و لا أحوالا، ولا مقامات، ولا خصائص، ولا آدابا
ولا نوعا من السلوك، [إلا أن يلوح لقلوبهم] ، نكتة هي مقصود الدعاة إلى الله تعالى،
فإذا حصل ذلك فهو المقصد الأعلى ، والمطلب الأرقى، كما قيل
117
وأنت حاجتي الكبرى ولو ظفرت - بما أردت - يدي لم يبق لي حاج
فإذا هي حصلت ، تبعها كل ذلك على أحسن الوجوه وأكملها، وأتم الصفات
وأجملها.
وقال رضي الله عنه: الآدمي دائر بين حرفين: بين أثره وتأثره، فأثره نطقه، وتأثره بصره،
كما قيل:
وتنحل حتى لا يبقي لك البلى
سوى مقلة تبكى بها وتناجيا
وقال رضي الله عنه : ثلاثة لا تخرج إلا من مواهب المنن وعيون الكرم :
الإيمان بالله، والرجوع إلى الله، والو صول إلى الله.
وقال رضي الله عنه: لولا أن الله قيد الأرواح بقيدين شديدين، لطارت إلى الله طيرانا.
وقال رضي الله عنه: القلوب على ثلاثة أقسام: قلب يكتب، وقلب يكتب فيه، وقلب لا
يكتب ولا يكتب فيه.
فالقلب الذي يكتب قلوب العارفين، والقلب الذي يكتب فيه قلوب المريدين،
والقلب الذي لا يكتب ولا يكتب فيه قلوب الغافلين.
118
وقال رضي الله عنه : إذا جاء الفتح في محل، أشعر أن السابق كان مغمورا، وإن كان على
عير ذلك.
وقال رضي الله عنه : إنمما يكون المريد مريدا حقيقة وقت صدق سماعه فقط، وفيما بعد ذلك:
( وربك يخلق ما يشاء ويختار ).
ويا حبدا وفي ذلك كفاية
إن زار الحمى ولو نفسا واحدا
وقال:
اليس الله يجمع أم عمرو
وإبانا فذاك بنا يداني
نعم وترى الهلال كما أراه
ويعلوها النهار كماعلاني
قال رضي الله عنه : ما أنفع التشويقات للقلوب، تبرز القلوب بالتشويقات كالسهام من
القسي.
وقال رضي الله عنه: بدو الحقائق على قسمين: تارة تبدو لك، وتارة تبدو فيك، فإن بدت
لك كان علما، وإن بدت فيك كان كشفا.
وقال رضي الله عنه : إذا لاح للعارف أعلى المعارف، نودي : فيم أنت واقف؟! لم تقف قط
موقفا أعز من هذا الموقف.
وقال رضي الله عنه : ملك الموت يقبض أرواح المؤمنين رفعا، ويقبض أرواح الكافرين
دفعا.
وقال رضي الله عنه : النقل في الدنيا لأرباب الأعمال تكليفي، ولأرباب القلوب
والأحوال تعريفي، ولهذا بعد الموت يضعف نقل أرباب الأعمال، ويقوى نقل أرباب
الأحوال .
119
وقال رضي الله عنه: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: لا يسمع مدي صوت المؤذن جن ولا إنس
ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ... الحديث، يبدو للقلوب الإيمانية أن مدى صوت
المؤذن ما بين المشرق والمغرب.
وقال رضي الله عنه : شهود الحقائق إلقاء وتلقيا، أجدى على القلب المؤمن وأنفع له وأكثر
ثوابا وأشد في ثبات عقده من وجود الكرامات ، لأن الحقيقة تفيد الإيمان بذاتها
والكرامة تفيد بواسطة تعريف ولازم دليل، ويمكن انفكاكها عن ذلك، والحقيقة
ليست كذلك بل إفادتها بذاتها وعينها، ولا يتصور تخلف الإيمان عنها.
وقال رضي الله عنه: إنما تفرح النفس من ما تكرم به من الله عز وجل بما يمكن بقاؤه معها
زمنا أو زمنين، أو أكثر من ذلك، وتشهده بحسها أو فكرها، كخوارق العادات
والكرامات الظاهرات، وما لا يمكن بقاؤه معها، ولا مسايرة حسها له، ولا جولان
فكرها فيه، كالعلم الحقيقي، والكشف الغيبي، ودرجة التحديث، ونور المعرفة، فهي لا
تأنس به، لقلة بقائه معها، أو لضعف إدراكها له، لعلو أمره وبعده من عالم الشواهد كما
قيل:
ولا وصل إلا ما تزود ناظر ناظر
ولا قرب إلا بالخيال الذي يرى
وقلن لنا: نحن الأهلة إنما
نضيء لمن عرى بليل ولا نقري
وكما قيل:
زائر زار ما رزار
كانه مقتبس نار
مر بباب الدار مستعجلا
يا ليته لو دخل الدار
120
وقال رضي الله عنه : الاسم الأعظم له علم وحكم، فعلمه من شهود الحقيقة ، وحكمه
من وجود الكرامة، وقد يوجد عند الرجل علمه دون حكمه، وحكمه دون علمه، وقد
يرجدان معا.
وقال رضي الله عنه : من آمن بالظلال جوزي بالظلال ، ومن آمن بالحقائق جوزي
بالحقائق.
وقال رضي الله عنه: العالم الرباني في الوجود كالقلب، والوجود له كالجوف، و(ما جعل
الله لرجل من قلبين في جوفه).
وقال رضي الله عنه : لو ورد المدد الحقيقي في هذا العالم من عارفين على السواء - لا بأن
يكون أحدهما عن الآخر - لسرى في قلوب الآخذين وجود الشرك الخفي.
وقال رضي الله عنه : لو أصلح أهل كل محل نظر العارف لما احتاج إلى نقل قدمه.
وقال رضي الله عنه: سر الحجاب الوقوف عن الانتقال.
وقال رضي الله عنه : حقيقة هذا الأمر: صفاء القلب بسماعه.
وقال رضي الله عنه: ما من عبد طلب مطلبا إلا وكانت غايته عين مطلبه.
وقال رضي الله عنه : المجالس على قسمين:
مجالس أذن لها، ومجالس لم يؤذن لها، فالمجالس المأذون لها ينتفع بأثرها القلوب،
والمجالس التي لم يؤدن لها لم تنتفع بأثرها القلوب .
قال رضي الله عنه: ما ثبت على عبد خصوصية نفسين إلا طغى بها، وإذا أراد الله بعبد خيرا
طهره من شهود أوصافه.
121
وقال رضي الله عنه : لولا وجود الحس الذي يتمسك به أهل العناية ، لأذابت الحقيقة
وجوداتهم.
وقال رضي الله عنه: آدم - صلى الله عليه - لما وقع ما وقع منه كان طبقتين فنجاء وإبليس
لما وقع ما وقع عنه كان طبقة واحدة ، فهلك .
وقال رضي الله عنه : لف العلم في القلم، فلو برز العلم من غير عالم القلم لأحرق كل
كون سواه.
وقال رضي الله عنه : تمتد دائرتان من نور المحمدية : باطنة ، وظاهرة، فالباطنة تقوى لقرب
الآخرة، والظاهرة تضعف لذلك.
وقال رضي الله عنه : الفتح الحقيقي هو على المعارف الأصلية، على المعنى الروحاني .
وقال رضي الله عنه : إذا أراد الله إذهاب دائرة الدنيا أظهر الظل المحمدي، حتى يكون خاتما
ليدائرة الإنسانية كيا كان خائما للدائرة النبوية ، وإذا أراد الله إنشاء العالم الأخروي أظهر
المثال المحمدي حتى يكون مبدأ للعالم لأخروي كنت نبيا وآدم بين الماء والطين
122
أنا أول من تنشق عنة الأرض.
وقال رضي الله عنه: السالكون إلى الله والعارفون به يختم لكل منهم بالإسلام أكثر من
مائة ألف مرة، لتكرار موتاهم في ذات الله، فقوم: يموتون بسيوف المجاهدات، وقوم :
يسوتون بكاسات المشاهدات .
وقال رضي الله عنه: الجنة تبدو من عالمين : من عالم التصديق، ومن عالم التحقيق، فإن بدت
123
من عالم التصديق عرض في ذلك إلقاء الشيطان ووساس الإنسان ، وفي ذلك مجال
الإيمان، وإن بدت من عالم التحقيق فلا عارض لها .
وقال رضي الله عنه : أصل في القتح : مراعاة الخاطر الحاضر.
وقال رضي الله عنه : لو علمت من أين تجلت الحقائق سارعت إلى قبولها.
وقال رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يثقل ميزانا، أحضر رجلا من أهل العناية، فكانت
رائحة حضوره ترجح ميزان ذلك الحاضر.
وقال رضي الله عنه: متى سرت قدما واحدة على إثر قدم إمام معرفة، كان أحسن من مائة
ألف فرسخ من غير ذلك.
وقال رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يوصلك إلى كون، وصل إليك معرفته.
وقال رضي الله عنه : البنية الآدمية جزء من اقطار الجملة الحقيقية.
رقال رضي الله عنه : كلمة الحكمة عروس كريمة، فإن لم تجد كفوا رجعت إلى بيت أبيها.
وقال رضي الله عنه : إذا نظرت إلى كون بكونه، كان ذلك حجابا، فإذا نظرت إليه بالمكون
كان ذلك شهودا.
وقال رضي الله عنه: ما برز غيب قط إلى عالم ظهور إلا بواسطة روحاني.
وقال رضي الله عنه : أقوى علامات المغفرة في الدنيا وجود الفتح الحقيقي ، وهو توقيع
الولاية.
124
وقال رضي الله عنه: العابد يسلم في عمره مرة واحدة، والمريد يسلم في عمره كذا كذا مرة.
وقال رضي الله عنه: تباع كل طائفة يأخذون بالإيمان، وتباع هذه الطائفة يأخذون
بالعيان.
وقال رضي الله عنه: متى صح مريد صادق في زمن، وزن به أهل ذلك الزمن.
وقال رضي الله عنه: [الدست]الخفي في الدنيا : هو إقامة القلوب بين يدي بارئها.
وقال رضي الله عنه : الأعمال مراق ومدارج، والأحوال أجنحة للقلوب، والمعارف أعين
باصرة، وشموس مضيئة.
وقال رضي الله عنه : شمس المواهب أعظم من بدور المكاسب.
وقال رضي الله عنه: في قول سمنون: كان لي قلب أعيش به، ضاع مني في تقلبه، رب
فاردده علي، فقد عيل صبرى في تطلبه، فأغث ما دام بي رمق يا غياث المستغيث به:
قوله ذلك كان يؤذن بترق عن حال كونه مع قلبه، فكأنه يريد برده الرفق بنزوله
عن سطوات التجلي ويدخل تحت الأستتار بعالى قلبه عن حر نور شمس عين الحقيقة ،
وأن علو حال المعرفة هو أن يعيش العارف بربه لا بقلبه ، إذ العارف - تحقيقا - لا قلب
له يرجع إليه، كم قال بعض العارفين - وقد ذكرت عنده القلوب - فقال: عاش من
لا قلب له ، وكما قيل:
يقولون لو رعيت قلبك لارعوي
فقلت: وقهل للعاشقين قلوب
وقال رضي الله عنه: إذا قل زمن مكث الوارد، ذاك دليل على علوه.
125
وقال رضي الله عنه: لو كشف للعبد المؤمن أو العارف عما في طي قلبه ، لأشرقت منه
الأكوان.
وقال رضي الله عنه : كل غيب إذا بدا وله شيء يلتبس به في الظاهر، فينبغي للعارف أن
يسكت عنه.
وقال رضي الله عنه: لا بد أن يجلس العارفون في الجنة، ويحدثوا الناس حديثا فوق هذا.
وقال رضي الله عنه: من فتح لقلبه باب، وقف معه.
وقال رضي الله عنه : فتح المريد ساعة.
وقال رضي الله عنه: أكثر الناس عطاء من قسمت على يديه قسمة لعباد الله.
وقال رضي الله عنه: لو لم يوجد لهذا الأمر من يتلقاه ، لخيف على الدنيا وأهلها معالجة امر ما.
وقال رضي الله عنه : عامة الأحاديث : أخبار ، وحديث العارفين : أنوار ، وعموم الحديث:
حكايات وأثمار، وحديث الحقيقة : كؤوس تدار.
وقال رضي الله عنه: قلوب العارفين جهينية الأخبار، وعند جهينة الخبر اليقين.
126
وقال : لولا روح الحقائق ماتت الخلائق .
وقال رضي الله عنه : للقلوب ترق إلى الحقائق لتنالها ، وللحقائق تعطف وحنو على القلوب
لتصل إليها، والعارف يتوسط بين قضاء الحقين، فإن لم تكن هذه، فهذه.
وقال رضي الله عنه: لو علمت قدرك قبل أبيك آدم، لكنت على فوته أي نادم.
وقال رضي الله عنه: لا تقل: هو لفظ يعبأ، إنما هو لفظ يخبأ.
وقال رضي الله عنه : ما ثم إلا أحد شيئين: إما أن تقول: سمعت ورويت، أو: شهدت
ورأيت.
وقال رضي الله عنه : متى وصف الشهود مع الحجاب من غير طريق المربي فتن.
وقال رضي الله عنه: لو نطق العارف مائة ألف سنة، ثم قدم على الله عز وجل لقدم بوصف
السكوت، قال الله عز وجل: ( يوم جمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم)
الآية.
وقال رضي الله عنه : مواعيد أهل الأنوار: بدو صبح وطلوع نهار.
وقال رضي الله عنه: العلم لين يسيره: يتنزل العارف عن همته، ليرقي بعلمه.
وقال رضي الله عنه: ثم رجال ينقلون إليك ظواهر الأخبار، ورجال يجلون عليك عرائس
الأنوار.
وقال رضي الله عنه: كل حقيقة برزت من عارف وتلقاها مريد له صادق، لم تزل تنمو في
127
قلبه إلى أن يدخل الجنة .
وقال رضي الله عنه: الرجل الكامل يربى بالدائرتين، بالأبوة، والأمومة.
قال رضي الله عنه : للتربية قطب، وللمدد قطب، وقد يجتمعان في واحد، وقد يفترقان،
ومدد أحدهما أعلى من الآخر.
وقال رضي الله عنه : لو لم يصبح واحد الوقت يتوجه في أمر جنس البشر، لفاجأهم أمر من
الله.
وقال رضي الله عنه : ما من مجلس تجلس فيه وفيه رجل نافذ، إلا وحفت الجالسين فيه
عناية الله.
وقال رضي الله عنه: لأن تبيت وأنت في فضل الله طامع، خير من أن تبيت وأنت ساجد
وراكع.
وقال رضي الله عنه : النفس إن رقيتها إلى شهود المعارف ذابت، وإن نزلتها إلى علوم الحكم
غابت، فهي أبدا دائرة معك بين ذوبان وغيبة.
وقال رضي الله عنه: من مد من دواة عقله قصر نظره، ومن مد من دواة مشهده امتد نظره.
128
وقال رضي الله عنه: ما حياة هذا الآدمي إلا صحبة أهل النفوذ.
وقال رضي الله عنه: لا يثبت الوجود وتحقق البنود، إلا عند الغيبة عن الشهود ، وحاضر
الحضرات لا اسم له ولا صفة.
وقال رضي الله عنه : ما اختار أحد الصافي الأعلى إلا وحصل له المقام الأدنى.
وقال رضي الله عنه : إن الله تعالى يكشو خواص أهل الجنة خلعا لا لون لها.
وقال رضي الله عنه: ما يصلح لتجلي روح المعرفة إلا من خطي الأكوان كلها، ولا يصلح
ذلك في الدنيا إلا للنبوة.
وقال رضي الله عنه: لو تجلت شجرة في الجنة بحقيقتها ، ما استطاع عموم أهل الجنة أن
ينظروا إليها.
وقال رضي الله عنه: الخلق على ثلاثة أقسام : قوم هنا وليس لهم هناك شيء، وقوم هنا ولهم
هناك بعض شيء، وفوم هناك ولهم هنا بعض شيء.
وقال رضي الله عنه : أنت اليوم تقول للكون : أخبرني عن مكونك. وهو غدا يقول لك:
وأخبرني عن مكوني.
وقال رضي الله عنه: إذا خرج العبد عن الدنيا سمي عابدا زاهدا، وإذا أقبل على نفسه ونجا
بها سمي مارفا نافذا.
129
وقال رضي الله عنه: متى عرفت ما دون الله قبل معرفة الله حجبت عن الله، ومتى عرفت
الله لم تحجب بما دون الله عن معرفة الله.
وقال رضي الله عنه: من سخي بنفسه ظفر بها، ومن شح بها فاتته.
وقال رضي الله عنه : العوالم أربعة : عالمان أصليان، وعالمان ظليان، فالجنة والحضرة عالمان
أصليان، والدنيا وتوابعها إلى الفصل ومحل الجزاء عالمان ظليان ، فإذا انجلت الشمس
الحقيقية العليا في أفقها الأعلى، ثبت الأصليان واستتر الظليان.
وقال رضي الله عنه : إذا قال العبد المؤمن : يا الله اشتمل بحقيقة معناه على معنى كل
مطلوب سواه ، وأحاط بحقيقة التوجه فيه على أمر عظيم الشأن ، ولو كان المطلوب بعد
ذلك أي شيء كان.
وقال رضي الله عنه : من دخل الجنة ، فله كل الجنة.
وقال رضي الله عنه : النظر في أفعال المذكر ربيما حجب عن بعض فوائد أقواله، والنظر
لذات العارف ربما حجب عن بعض إشاراته وشهود أعلى أحواله.
وقال رضي الله عنه : جاء في الحديث الصحيح إن لله ملائكة سائحين يلتمسون حلق
الذكر ، فإذا اجتمع قوم يذكرون الله تعالى تنزلت عليهم الرحمة ، وحفت بهم الملائكة
وذكرهم الله في من عنده ، وأشهد لهم بالمغفرة، هذا لعموم مجالسيهم ، فإن اتفق أن
يكون فيهم قلب نافذ واصل للترقي عن الملا الأعلى، وصل إلى قلبه - بعد حصول ما
حصل للجملة - مزيد من الأنوار، وفوائد فوق ذلك من معارف وأسرار، وإن كانت
الجماعة الحاضرين له متبعين وبه مقتدين ولورود ما يرد على قلبه متطلعين ومتهيئين بأن
يكونوا عنه آخذين ، نقل إلى قلوبهم بواسطته جملة ينابيع الألطاف والعوائد، وسرت إلى
130
سرائآرهم بسبب برزخيته الأنوار والزوائد.
وقال رضي الله عنه: إذا غلب على العارفين غليان أنوار الواردات، وقوي احتياج العوالم
إليها، [ف] مالت هممهم وغلبهم ما يجدون إلى [إفاضته] على جملة العوالم، ناداهم
منادي الأدب، وعز حضرات الربوبية، وسابق القسم المقدرة : تأدبوا بأدب سادات
المعارفين ، واسكنوا في مقر التلقي من تدبير رب العالمين ، وقروا في مقر التسليم
والتفويض بحكم أحكم الحاكمين، حتى أهئ لكم أهل عنايتي، وأسوقهم إليكم
بسابق إرادتي، وأهديهم للأخذ عنكم بلطفي وهدايتي ( ألله يجتبي إليه من يشاء
ويهدى إليه من ينيب. ( إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يبدى
من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ).
وقال رضي الله عنه: كيف تعرف خالقك بشيء وهو خلقه فيك؟! إذ كل مدرك له سلطان
على ما أدركه (وهو القاهر فوق عباده).
وقال رضي الله عنه: تجلى العالم الروحاني: إذا بدا بمجرد ظلاله كانت الدنيا، وإذا مال إلى
أفق تحققه كان فناؤها ، وإذا أخذ في ظهوره بتحقيق إفناء الظلال كان المحشر ، وإذا
أبدى أول أنواع تجليه تحقيقا كان هو النعيم المقيم، والوصول إلى جنات النعيم.
وقال رضي الله عنه : الأرواح على قسمين: أرواح شهادية، وأرواح غيبية :
فالأرواح الشهادية : مسجونة في مثلها ، والأرواح الغيبية غير مسجونة في مثلها ،
والأرواح الشهادية أبيح لعموم الخلق إدراكها في مثلها.
والأرواح الغيبية : يدركها خواص من الخلق، وهم عموم وخصوص، فعمومهم
يدركها في مثل، وخصوصهم يدركونها كذلك ومجردة.
131
وقال رضي الله عنه: قل أن يرد معنى غيبي، إلا ويرد معه - للمأذون له - من العبارة
خادمه.
وقال رضي الله عنه : طي الأرض على قسمين: طي كرامة، وطي علو همة.
فطي الكرامة : أن تطوى لك مساحة الأرض فتنتقل منها من أفق إلى أفق في زمن
يسير ، على خلاف العادة في ذلك.
وطي علو الهمة - وهو الطي الكشفي - : أن يكشف لك عن حقيقة الأرض
فتراها في أم الكتاب، فعلى الأول تكون الأرض تسعك ، وعلى الثاني يكون أنت تسعها .
وقال رضي الله عنه : الذي اقتضى الشهود : أن الحروف لا غاية لها ، وجميع ما يتألف من كلم
وكلام فهو حروف لها.
وقال رضي الله عنه: كل من ظن أن الحروف تثبت في خزائن حفظه فهو محجوب.
وقال رضي الله عنه: ما أبعدك عن الأكوان إذا جئتها بك وبها، وما أقربك إلى أطيبها إذا
جئتها بالله.
وقال رضي الله عنه : الجنة هي إشراق عوالم الوصول.
وقال رضي الله عنه : بدو عوالم الغيب منطوية [من]، تحت ظلال سحائب أنوار الأسيماء
فلا تصل العقول البشرية إلى إدراك مبدئها.
وقال رضي عنه: تأتي نسمات الأرواح تشمك، فمتى وجدت فيك بقية من بشريتك
نفرت عنك.
وقال رضي الله عنه: فرق بين المعبر عن الله، وبين من له نصيب من الله.
132
وقال رضي الله عنه: لما خلق الله آدم أعطاه شيئين: أحدهما ضمنه باطنه، والثاني فتح له بابا
إليه، فجميع ما يبدو من الحسن الآدمي باعتبار طبعه وجبلته - من المعقولات والحرف
والصناعات - فمما تضمنه باطنه ، وجميع ما يبدو منه من الكشوف والمعارف ، وموارد
الغيب فمما قتح له باب إليه، فالأول: حاصل للجملة، والثان: متجدد أبدا.
وقال رضي الله عنه : التحديث في درجة الولاية أعلى من الخطاب في درجته.
وقال رضي الله عنه : الأولياء حول صاحب الكلام الرfاني، كالعجم حول الفصيح، فلا
نشترط معرفتهم ولا معرفته لذلك.
وقال رضي الله عنه: أبوك من كدرك وأستاذك صفاك، أبوك سفلك وأستاذك علاك، أبوك
ما زال بك حتى مزجك بالماء والطين، وأستاذك ما زال بك حتى رفعك أعلى عليين
كما قال من حام حول هذا الأمر.
أباء أجسادنا هم سبب
لأن جعلنا عوارض التلف
من علم الناس كان خير أب
ذاك أبو الروح لا أبو النطف
وقال رضي لله عنه: مريدو التصوف بالحق : هم حمال أمانة الوجود.
وقال رضي : الله تعالى يريد أن يحفظ ما خلق، ولذلك دعاك إلى ما فيه نجاتك
وهداك:
وقال رضي الله عنه: لسان العارف كلسان الميزان، أي جهة ثقلت - بصدق التوجه مال
إليها
133
وقال رضي الله عنه : كثير من الأنفاس الموسوية والعيسوية لم تتصرف إلا في هذه الأمة ،
لضعف أولئك - الأمم المتقدمة - عن حملها.
وقال رضي الله عنه : الشيطان يمد إنسانيتك من عوالم الأوهام والخيال ، والحق تبارك
وتعالى يمد إيمانك من إمداد التحقيق والإقبال.
وقال رضي الله عنه: الكمال للعالم الأعلى وسفراؤه الملقين ، وجميع ما يكون من العجز
والنقص وطول المدى، فمن دوائر المتلقين.
وقال رضي الله عنه: يخرج من الجنة نور يكمل به كل من يدخل به فيها، فالجنة حمامها على
بابها.
وقال رضي الله عنه: من دخل الدنيا ولم ير رجلا كاملا يربيه، خرج منها وهو متلوث، ولو
كان له من الأعمال مثل ما بين السماء والأرض.
وقال رضي الله عنه - وقد شئل عن العبد يجد الوسوسة في الصلاة ولا يجد ذلك إذا كان
بين العارفين سامعا لهم - : تدري لم ذلك ? لأن المصلي يناجي ربه ، والمستمع للعارف
يناجيه ربه.
وقال رضي الله عنه : إنما كانت الأجساد تحجب في الدنيا، وتطلب الأرواح الخروج عنها
بمقتضى ما قدر من الأجل، وطلبت الأرواح مفارقة أشباحها، لأن أشباحها في الدنيا
حاجبة لها عن قوة إدراكها ، فاقتضت الحكمة الإلهية مفارقتها لأشباحها الظلمانية ، فإذا
كان يوم القيامة في دار النعيم والصفاء كانت الأشباح شفافة نورانية فلم تحجب
الأرواح عن إطلاق إدراكها، فلهذا بقيت الأشباح في الآخرة دائمة، واقتضى ذلك فناء
الأشباح في الدنيا وتقديرها إلى أجل مسمى.
وقال رضي الله عنه: في قول السري - رحمه الله تعالى - لم اكان يتكلم مع أصحابه في
134
الشكر ، والجنيد غلام صغير ، فدعاه فقال : يا غلام ما الشكر? ، فقال الجنيد - رحمه
الله: هو ان لا يعصي الله تعالى بنعمه،، فقال له السري: يوشك أن يكون حظك من الله
تعالى لسانك. قال الجنيد: فما زلت أتخشي من قوله هذا.
هذا الكلام من الأستاذ أبي القاسم نوع تنزل أو تستر، ولو لقيته لبشر بعظيم هذه
المنزلة وعلو هذا المقام ، لأن السري تفرس ما سيظهر عليه ، لأن السري - رحمه الله -
أستاذ محقق ، فلاح له ما سيصير إليه ، وهو : علو رتبة المقام اللساني والنور الكلامي
والمدد العلمي، الذي عبر عنه النطق والكتب، ومهد به وله القلم واللوح، وهو غاية في
مقامات أرباب الأنوار، ومعراج من معارج ذوي الأسرار، فكل يعطى منه على حسب
منزلته ودرجته، ويستقي من كاساته على مقدار وسعه وطاقته، وبلوح له م تجلياته
135
على مقتضى علوه ورفعته.
وقال رضي الله عنه : الدنيا منذ خلقها الله تعالى وأهلها ساكتة، لم يتكلم فيها غير العارفين.
وقال رضي الله عنه : الرزق الحلال الطيب حقا : هو ما نيل على يساط معرفة الرزاق تبكرك
وتعالى بشرط الأدب الشرعي، ورعاية ظاهر العلم، والحرام المحض : ما ليس كذلك .
وقال رضي الله عنه: من أعظم منن الله تعالى على خلقه أن يظهر للأرض عارفا بينهم، وإن
لم يعرفوه ولم يروه.
وقال رضي الله عنه : ما من زمن قط إلا والحق تبارك وتعالى يريد ان يخاطب فيه عبيده.
وقال رضي الله عنه: النظار ثلاثة: ناظر: ينظر بالاعتبار، وناظر: ينظر بتجلي الأنوار،
وناظر: ينظر بالفناء عن الآثار.
وقال رضي الله عنه: الأقدام ثلاثة: قدم يبصر به الوجود، وقدم يخالط به الوجود، وقدم
تخرج به عن الوجود.
وقال رضي الله عنه: كسيت الأكوان خلع التكوين، لتتعلم عشق الجمال، وعريت من ذلك.
وأفنيت حتى لا يتعلق بالظلال.
وقال رضي الله عنه: إذا عرفت الله تعالى لا تخش شرا، فما هناك شر مع معرفة الله.
وقال رضي الله عنه : يدخل الجنة ثمانية أنواع: صاحب العفو، وصاحب الشفاعة،
وصاحب النجاة، وصاحب الاستواء، وصاحب العمل، وصاحب الحال، وصاحب
المقام، وصاحب السر .
وقال رضي الله عنه : لا يعرف الرجل العارف بكراماته ولا بمكاشفاته ولا بخصوصياته
ولا بتعبداته، بل بأمر غير ذلك، فناهيك برجال غرباء في السماء، فكيف لا يكونون
غرباء في الأرض ?!
136
قال بعض العارفين: الزاهد غريب في الدنيا لأن الآخرة وطنه، والعارف غريب
في الآخرة لأن حضرة الله وطنه، يمر الزاهد في المحشر فيعرف بظعور أنوراه، ويمر
العارف في المحشر فلا يعرف لخفاء أسراره.
وقال رضي الله عنه : المربي إذا أقبل عحل القلوب بالتربية - وهي القلوب الآخذة عنه، المرباة
من نوره - فتارة يبدو نور إلقائه من ظواهرها، فيتجوهر القلب من ظاهره، وتارة يبدو
له المدد من باطنه فيشتمل على أسرار المعارف ، وتلقى فيه جنات شجرات العرفان،
فالأول : مقام الأبرار، والثاني : مقام المقربين.
وقال رضي الله عنه: ما من مريد صادق يتبع عارفا نافذا إلا تلألأ النور في قلبه ووجهه
فإن تم به حاله ودام له إقباله، صار هلاله بدرا.
وقال رضي الله عنه : تفضل ذرة عن العارفين من أنوار أفكارهم، فيصرفونها في العلم
الظاهر، فيستغرق كثيرا من علم العلماء.
وقال رضي الله عنه : إن الله يستر عن العارفين كثيرا من مقاماتهم وكراماتهم، حتى لا
يحجبوا بدعواهم ويحجب بهم غيرهم، قال بعض العارفين: إن الرجل العارف ليكون
في السفينة، والأولياء حوله مشاة على الماء، يتلقون عنه، ويأخذون منه، وهو لو نزل
معهم غرق.
وقال رضي الله عنه : الإيمان الحقيقي هو الذي ثبت مع العوارض.
وقال رضي الله عنه : لا تصحب عابدا ناسكا يوقفك عن حسن الرجاء من الله، واصحب
عارفا شاهدا يجذبك إلى حضرة الله تعالى.
وقال رضي الله عنه : هرتك ثلاثة عوالم: عالم الدنيا وعالم جسدك وعالم قلبك، حتى لا
[تسكن] إلا إليه، فهل رأيت مهزوزا يستقر?
وقال رضي الله عنه: الحق تبارك وتعالى إذا ناجاك عرفته، وإذا تجلى عليك عبدته.
وقال رضي الله عنه: ما تحرق بالنار إلا الغيبة عن الأنوار، لأنه يقوم بالأنوار حالة غضبية
فتحرق بالنار من أساء الأدب معها.
وقال رضي الله عنه: ما لم يذب رسوم المقتدى به لا يصح أن يكون مقتديا به، فمتى ذابت
رسومه فتواضعت له، فإنما تواضعت لله.
وقال رضي الله عنه : لوصفت القلوب من أدران الذنوب، لحدثث عن فواتح الغيوب.
وقال رضي الله عنه : كل ما حجبك عن الله تعالى، فهو ذنب.
وقال رضي الله عنه: الواصلون ثلاثة أصناف :
صنف: إذا فتحوا أعينهم رأوا أمرا عظيما ولا يمكن النطق به، ولا توصيله إلى
غيرهم. وصنف: إذا فتحوا أعينهم راوا أمرا عظيما ويمكنهم النطق بشيء منه، ولا
يمكنهم توصيله إلى غيرهم . وصنف : إذا فتحوا أعينهم رأوا أمرا عظيما ، ويمكنهم
النطق بشيء منه، وتوصيل ما شاء الله تعالى منه إلى غيرهم.
وقال رضي الله عنه: الناس رجلان: رجل: ليس فيه شيء، ورجل: فيه كل شيء.
وقال رضي الله عنه : أنت محتاج إلى امر عظيم احتياجا عظيما، والكلام معك في فصلين
فيهما دواء ذاتك: خروجك من غفلتك، و ظفرك بحاجتك، كما قيل:
إن إليك على الأنفاس محتاج
لو كان في مفرقي الإكليل والتاج
فأنت حاجتي الكبرى، فلو ظفرت
بما أردت يدي لم يبق لي حاج
138
وقال رضي الله عنهم : إذا دخل العبد المؤمن إلى الجنة يفتح الله عليه - إذ ذاك - من العلم ما
[يراه] أعظم من نعيم الجنة.
وقال رضي الله عنه : يا عجبا للخلق يتزاحمون على حجر نزل من الجنة، ولا يتزاحمون على
قلب برز من الحضرة.
وقال رضي الله عنه: إذا تألم العبد من آثار بشريته، ومما وقع له من تكاليف الدنيا، وحجابه
بها عن مداومة ذكر ربه، وذوق لذاذة ذلك والتنعم به، والبقاء واللزوم لمشاهدة أرواح
الحقائق واستجلاء عرائسها ، ودوام السرور بما خص به أهل الإيمان الحقيقي سرا
والبعد عن الكون مع معية ذلك دواما، اشتكت الأسرار إلى بارئها فواساها بلطائف
رحمته كما بدأ بمنته عليها ، لاقتضاء سر الرحمة الربانية ، وتوجه سؤال العوالم الخلقية
فمن عليها ببشارات العبارات تسكينا لقلقها بجميل وعوده، وبط كرمه ورحمته
وجوده ، إذ قد عجزت عن القيام بالوفاء معه ، وله الرحمة الواسعة والمثل الأعلى فكأنه
يقول:
عبدي إن عجزت أن تكون معي فأنا قادر على أن أكون معك، وقد قلت وقولي
الحق : (إن الله مع الذين اتقوا وألذين هم محسنون) . ومن لم يعبد إلها
معي ووحدني فقد اتقاني، ومن آمن بي فقد أحسن.
وقال رضي الله عنه : يري سبحانه الحقائق للسامع والناطق، وهي مع ذلك مخبأة في خزائن
عزه، لا يوصل منها إلا لما قدر وشاء (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)
139
وقال رضي الله عنه: متى وصل العبد وفتح له، نال البغيتين، فإن فيك نظر، ومنك نظر،
فإذا وصل نظرك نلت إحدى البغيتين، ومتى فتح للنظر فيك، نلت البغية الأخرى.
وقال رضي الله عنه : ما [يمزق] هذا الحجاب - نطقا وأسماعا - إلا كل قلب نافذ.
وقال رضي الله عنه : متى ذهب بك في حضرة الأين، فأين الأين ?!
وقال رضي الله عنه : من شهد الفرق بالنور عاش بالعناية، ومن شهد الجمع بالفتح عاش
بالولاية.
وقال رضي الله عنه : لكل شيء صديق هو بابه، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم بابان، وصديقان وهما:
أبو بكر، وعلي رضي الله عنهما.
وقال رضي الله عنه: من فهم منك وأخذ عنك بلسان التحقيق، فذاك - وإن كان واحدا
فهو يملأ الوجود نورا، فلا مبالاة بإعراض معرض محجوب، ومن لم يفهم عنك ولم
يأخذ عنك، فليس بشيء، فلا مبالاة بإعراضه.
وقال رضي الله عنه : المريد يلقى في أول خاطري سلوكه ظاهر نور مرتبته، فسمي مريدا
سالكا وفي ثاني خاطريه يلقى باطن نور حقيقته، فيسمى: واجدا واصلا، ومن
هناك: بحار واسعة، وأنوار نافعة.
وقال رضي الله عنه: ثم من الأولياء من يخبر، ومنهم من يسبق الأمر خبره، فإن منهم من
يخبر عن غيب فيكشف له، ومنهم من يخبر عن غيب فيتكون.
وقال رضي الله عنه : المؤمن له نوران: نور متصل، ونور منفصل، والنور المتصل: نور قلبه
والنور المنفصل : نور حقيقته .
وقال رضي الله عنه : إن لم يحفظ المكتوم ، فعسى أن يحفظ المرسوم.
140
وقال رضي الله عنه : كل ناطق إذا صعد إلى الملا الأعلى سكت ، إلا الناطق بالمعرفة ، إن
صعد إلى الملا الأعلى تكلم.
وقال رضي الله عنه : كل داع بحق إذا دعا الخلائق أجابه من كل خلق مجيب.
وقال رضي الله عنه: ليس الشأن من يجعل ظاهره تبعا لباطنه، إنما الشأن من ستر باطنه
بظاهره.
وقال رضي الله عنه: من نظر المهم بتحقيق، لم يشغله [رهج] الأكوان.
وقال رضي الله عنه : معاصي أهل السعادة كالأوهام، ومعاصي أهل الشقاوة تحقيق، لأن
أهل الإيمان أسكرهم حب الله فناموا عن الدنيا وأهلها، فواقعوا ما قضي مواقعته في
نوم ، وحال النائم يواجه بالعفو والمسامحة ، جاء في الحديث : الناس نيام.
أديرت كؤوس للمنايا عليهم
فأغفوا عن الدنيا إغفاء ذي السكر
141
وقال رضي الله عنه : الحق تبارك وتعالى جعل الدنيا ممحوقة الذات ، تتجلى بسلطان
التوحيد ، وليتحمل عن أهل التحقيق فيه مؤنة الاعتذار عند رفع الأستار.
وقال رضي الله عنه : أيها العبد، لو أن أباك أدبك بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة
عشرين سنة، وأدبك معلم المكتب عشرين سنة ، وأدبك معلم العلم الظاهر عشرين
سنة، ثم وصل إليك العارف كلمة حقيقة، كان ما استفادته حقائق سرك وروحك من
ذلك أعظم وأجل وأنفع، مما استفادته نفسك وعقلك مما قبله.
وقال رضي الله عنه: قوام الوقت هم الذين يبلغون جديد الأمداد.
وفال رضي الله عنه: الغيب إذا بدا لا يرجع أبدا.
وقال رضي الله عنه: لا تقتد إلا بقلب نافذ، ولا تقتد بذلك القلب إلا وهو [شاهد].
وقال رضي الله عنه: لو [مشيت] أكثر لرأيت أكثر وسمعت أكثر، لكن يسير العناية كثير.
وقال رضي الله عنه : موجبات اليقظة أعظم وأظهر من موجبات الغفلة، لأن موجبات
الغفلة ظلية، وموجبات اليقظة حقيقية.
وقال رضي الله عنه : قانون العدل التصريفي يقيمه الجنة والنار ، وقانون العدل الأصلي
[تقيمه] الأقدار.
وقال رضي الله عنه: كلما عظمت سفن أهل التحقيق والعناية، لم يسافر إلا بهبوب رياح
الأمداد والرعاية ، دون مجاديف الأسباب والفكر والرواية .
142
وقال رضي الله عنه: لا يهولنك هذا الكون وسعته، إذا وصل إليك أمر من أمره فقد جمع
لك كل مفترق.
وقال رضي الله عنه : خزائن الأسرار أوسع من خزائن الآثار.
وقال رضي الله عنه : مكنونات الدنيا إذا رميت بصرك إليها أوقفت بصرك عن غاياتها،
ومكنونات الجنة إذا رميت بصرك إليها لم توقف بصرك عن غاياتها.
وقال رضي الله عنه: إذا نفخ في الصور قال المريد الصادق : سمعت هذا منذ زمان.
وقال رضي الله عنه: الحالة الهنية : هي التي تجمع بين فرق وجمع ، لأن الفرق عذاب
والجمع فناء.
وقال رضي الله عنه : من عرف الله لم ييأس من الله، ما يبعدك عن الله إلا جهلك بالله
وقال رضي الله عنه : الأكوان كلها مراحل لا قرار فيها لثاو ولا لراحل، وليس فيها ولا
منها جواب لمسألة سائل.
الا ترى إلى الإشارة الإبراهيمية لما سار في السلوك الأعلى ، واختصر له الكون
كله ما بين روحانية وجسمانية في المظهر الجبرائلي ، فقال : ألك حاجة ? فقال له: أما
إليك فلا، وأما إلى الله فلي، فلما قطع الكونين، وخلع في سيره في قدم واحدة النعلين
حتى لم يبق إلا حقائق العبودية بين يدي أنوار الأحدية، فأشار إليه لينطق من أثنائه،
143
قال: سله، فأجاب - بتخليته عن إثبات شيء منه حتى يكون الأمر من الله إلى الله -
تقال: حسيي من سؤالي علمه بحالي.
وقال رضي الله عنه: إذا سمع العبد الواصل السماع الرباني حقا، سمع كل الكون ينطق
جمعا ومتفرقا، وأنشد:
إذا سمع المحب خطاب ليلى
تراه هائما في كل واد
ويسمع كل لون من هواها
له نطق بمعناها ينادي
وقال رضي الله عنه: الحروف لها ظواهر وبواطن ، وعلوي وسفلي، ومستتر وباد، فعاليها
وباطنها وخافيها نواطق، وما سواها صوامت.
وقال رضي الله عنه : إن الله تعالى أعطى الخلائق الدنيا في قبضة شمائلهم، وأشار بالآخرة
الى قبضة أيمانهم، ثم ناداهم: دعوا هذه تأخذوا هذه، فهذان قابضان ومقبوضان
عموما، ثم أظهر من غيب الغيب قابضا خفيا، ومقبوضا أخفى منه، ومن هاهنا قيل:
لا تسأل إن كنت لم ترهم
عن حديث الحب كيف جري
قد جري ما لست أذكره
إنما يدركه من حضرا
وقال رضي الله عنه: تجلي الحقيقة بالنسبة إلى أمرها كجزء من مائة جزء، وشهودها
للعارف بالنسبة إلى تجليها كجزء من مائة جزء، وتعبيره عنها بالنسبة إلى شهوده كجزء
من مائة جزء ، وسماع المريد الصادق لها بالنسبة إلى تعبيره عنها كجزء من مائة جزء ،
ورسمها كتابة بالنسبة إلى سماع المريد لها كجزء من مائة جزء ، ثم من بعد ذلك دخلت
في عالم الخفاء والاستتار فلا اطلاع عليها لشيء من الآثار .
وقال رضي الله عنه: إذا حضر مجلس الداعي إلى الله بعض الأغيار فكأنما يقال له: أنقق
الآن من خزانة فكرك مدد التذكير والموعظة، وظواهر الحكم، وضرب الأمثال،
144
والتقريب في السلوك الأول، واستر ما في خزانة قلبك، ولا تنفق من ذلك إلا عند
أخصاء مجلسك في وقت يحسن فيه تلقيهم، وفي وقت تستعين بالله على إحضار قلوبهم
فيه.
ولذلك يقل النطق بالحقائق من العارفين عند حضور كثير من الأغيار ، لان
العارفين بالله ليسوا بأنفسهم.
وقال رضي الله عنه: ما ينبغي للمربي أن يزحزح مريدا عن عقد أو تمسكه مشهدا.
وقال رضي الله عنه : النفس تشهد الجنة تقديرا ومثالا، والروح تشهد الجنة عيانا.
وقال رضي الله عنه : لو لم يجعل المدبر الحكيم المقدر العليم الدنيا والآخرة منزلتين إلى
حضرته، ما سلكهما سالك صادق.
وقال رضي الله عنه: من سقاك من جسدك فقد ظلمك، ومن سقاك من عقلك فقد
ظلمك، ومن سقاك من شراب سلسبيل قلبك فقد أحياك.
وقال رضي الله عنه: العارف بين حقيقتين: حقيقة تتعزز، وحقيقة تتكرم، فأما الحقيقة التي
تتعزز شفاء معذب تحت ذل قهرها، وأما الحقيقة الني تتكرم، فتقول : لا أبذل إلا لمن
يكون لي أهلا .
وقال رضي الله عنه: لو تحاكم ذوو العقول بالإنصاف في مسائلهم عند حاكم قلب نافذ،
لحكم بينهم بالعدل.
وقال رضي الله عنه: إن الله تعالى يقول: يا بني آدم سألقي عليكم ما تثبت به عوالمكم
فألقى عليهم أبواب العبادات فتثبتت به عوالمهم، ثم ألقى عليهم نور الحكمة
145
فاضطربت عوالمهم اضطرابا يسيرا، ثم ألقى عليهم نور العلم فاضطربت أكثر من
ذلك، ثم ألقى عليهم المعرفة فذابت تحت ذلك ذوبانا.
وقال رضي الله عنه : الجنة غاية لطيف الأجساد.
وقال رضي الله عنه : إذا قيل: ما هي التوبة الحقيقية ? فقل: حركة القلوب إلى لقاء
المحبوب، فتلك ماحية الذنوب.
وقال رضي الله عنه : العوالم الغيبية إذا تجلت غاب ما سواها.
وقال رضي الله عنه : لا تحدث بلسان التسليك والنقل من الأعلى إلى الأدنى، وتحقيق
مقامات الترقي إلا لسان الفرق الأصلي لا الفرق الفرعي، فإن ذلك حجاب، وأما
لسان الجمع الأصلي فهوكما قيل
لم يبق الانفس خافت
ومقلة أسبابها تاهت
ومغرم تحرق أخشاؤه
بالنار إلا أنة ساكت
وقال رضي الله عنه : الحروف في الدائرة الفرقية أصول الكلم ومبدأ مبانيها.
وقال رضي الله عنه : من عرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بطريق الدنيا المجردة فهو
غافل ومحجوب، ومن عرف الأنبياء بطريق الآخرة فهو ناج ومنعم، ومن عرف الأنبياء
بطريق الوصول إلى حضرة الله تعالى فهو واصل ومقرب
وقال رضي الله عنه: يؤتى بعبد يوم القيامة فيقتش قلبه هل فيه ذكر الله ? فلا يوجد ذكر الله
قط، فيقال: فتشوا ظاهره، فيوجد على ظاهره علامة ذكر الله، فتكون سبب نجاته.
وقال رضي الله عنه : للمؤمن الحقيقي في الآخرة ثلاثة مواطن : موطن تبدل له سيئاته ،
وموطن تعظم له طاعاته، وموضع تغيب عنه ذاته، فالأول: عند رفع الحجاب، والثاني:
عند الوقوف بالباب، والثالث: عند لقاء الأحباب
146
وقال رضي الله عنه: العلوم ثلاثة: علم سلوكي، وعلم شهودي، وعلم سري، فالعلم
السلوكي : يجب إبداؤه ، والعلم الشهودي : ربما أبيح إبداؤه، والعلم السري : لا يباح
إبداؤه.
وقال رضي الله عنه : العوالم ثلاثة : عالم الشهادة، وعالم الغيب، وعالم غيب الغيب، والنصبة
التامة الجسدانية تدرك عالم الشهادة ، والنصبة التامة القلبية تدرك عالم [الغيب، والنصبة
التامة الروحية تدرك] وعالم غيب الغيب ، والأصل أن القاعدة الروحية التامة في
متصبها عامة الإدراك.
وقال رضي الله عنه : الاطلاع على كنه صفة أفعال الحق، وأسرار تدبيره في مكوناته، وربط
الأسباب بعضها ببعض، والإشراف على وجه الحكم المبثوثة فيها ، مع تحقيق العلم بما
وبأوصافها ونسبها، تتعذر معرفته بالتحقيق على جنس البشر إلا من أيد بنور من الله.
والنفوس البشرية متطلعة حريصة مستشرفة لعلم ذلك ، فإذا لاحت لها -
بحسب ما ركب في طباعها وأوصافها - أمور ظنية، أو خيالية، أو وهمية، أو تجريبية، أو
تقليدية، سارعت إلى ادعاء علم ذلك تحقيقا، وتوهمت أنها أدركت ذلك بالعلم اليقين،
بحرصها على دعوى العلم في ذلك ، ونفور طبعها عن الاتصاف بصفة الجهل بشيء
وذلك غلط لمن لم يتدبر أمر نفسه وحقيقة حاله، فإن الاطلاع على شيء مما تقدم
تفصيله متعذر بالتحقيق على جنس المحجوبين، إلا من أيد من الله بنور ويقين.
وقال رضي الله عنه: ما من عبد يتوجه إلى الله تعالى بعمل إلا وينادى عليه: أين قلب هذا
العبد ? أثبتوا ديوان عمله حيث كان قلبه.
147
وقال رضي الله عنه : إنما يعاقب الناس بحرمانهم، [وإنما] يعاقب المرء في دار الآخرة بعين
حرمانه ، فالنار عبارة عن حرمان نعيم الجنة.
وقال رضي الله عنه : أول ما يدعو العارف تستجيب له الأرواح ، فإن سلمت من
العوارض تبعت وإلا رجعت.
وقال رضي الله عنه : شكل الآدمي - ما عدا أهل العصمة - صنمي ، فمن أقبل عليه
عبده، ومن أعرض عنه وحد.
وقال رضي الله عنه : إذا كان انطوى في ظل موسى عليه السلام سبعون رجلا فسمعوا الكلام
الرباني، فكيف لا ينطوي في ظل محمد عليه السلام سبعمائة ألف وأكثر من ذلك [مع أن]
بعض أولئك حرفوا، وكل هؤلاء عرفوا.
وقال رضي الله عنه: فيك ثلاث روحانيات: فروحاني أقامك، وروحاني مشاك، وروحاني
علاك.
وقال رضي الله عنه : إذا ظفرت بقلب نافذ فعض عليه بالنواجذ.
وقال رضي الله عنه : تقدمك أبوان: نفيس، وخسيس، فثم طائفة تنسبك إلى أكرم الأبوين
وهو النفيس، وثم طائفة تنسبك إلى أخس الأبوين وهو الخسيس.
وقال رضي الله عنه: أعطنا من قلبك يسيرا نعطك من غيبنا كثيرا.
148
وقال رضي الله عنه : جسد الآدمي اختصر في الدنيا مع الفقر، واختصر جسده في الآخرة
مع الوجد.
وقال رضي الله عنه: ما أعز هذا الأمر، وما أعز من يطلبه! وما أعز في طالبيه من يجده،
وما أعز في واجديه من يثبت عليه!!
قال رضي الله عنه: متى خرجت مع الرفقة وتبع الدليل، فالماء والمنزل والظل الظليل.
وقال رضي الله عنه: العلماء ثلاثة: عالم يقول لك: إن لم تعمل بعلعي لم ينفعك، وعالم
يقول لك: افهم علمي، واستحضره، فإن لم تستحضره لا ينفعك، وعالم يقول لك:
لا تختاج أن تعمل بعلمي ولا أن تستحضره - استودعه ربك ينفعك.
وقال رضي الله عنه : يجمع الله تبارك وتعالى الخلائق يوم القيامة فينادى : أين العابدون ?
فيؤتى بقوم فيجعلهم في درجة، ثم ينادى: أين المشتاقون ? فيؤتى بقوم فيجعلهم في
درجة فوق أولئك، ثم ينادى: من عبدنا جازيناه وأعطيناه، ومن خافنا أمناه ونجيناه
ومن اشتاق إلينا وصلناه وقربناه.
وقال رضي الله عنه : كل مشهود ثبت شاهده مع شهوده، فليس بمشهود في الحقيقة.
وقال رضي الله عنه : الآدمي إن كان في رتبة وسط، فما شهده مما فوقه غاب في مشهوده،
وما شهده فيما دونه غاب فيه مشهوده.
وقال رضي الله عنه: الآدمي إن كان ما شأنه أن يشهده دونه فهو معذب به، وإن كان ما
يشهده فوقه فهو منعم به.
149
وقال رضي الله عنه: إذا حضر مريد بين يدي متكلم بالحقيقة نافذ، فيكون سامعا من فوق
رأسه، وسامعا عن يمينه، وسامعا عن يساره، وسامعا من خلفه، وسامعا من بين يديه
فإن لم يسمع هو سمع أولئك.
وقال رضي الله عنه : الأخبار العلوية إذا سمعت تجلت.
وقال رضي الله عنه: لا يزال الوجود يمحو ما في لوح قلبك، والنور يكتب فيه.
وقال رضي الله عنه: إذا شهد العارف غيبا من الغيوب - عرشيا أو كرسيا، أو غير ذلك -
فهو إد ذاك ليس ببشر، ولكن غير ذلك مما يعلمه أهله، وحال كونه بوصفه ورجوعه
إلى جنسه ووصف طينته غير شاهد لغيب إنما هو مؤمن بذلك كغيره من المؤمنين.
وقال رضي الله عنه : يأخذ العارف المريد، فيخرج به من ضيق هذا العالم إلى فضاء ووسع
عالم الغيب، فيشهده هناك مشاهد، وعقله وفكره وحسه غير عالم بذلك، ولكن سيدرك
ذلك ولو بعد حين.
وقال رضي الله عنه : الفقهاء يتكلمون مع الخلق وهم بالخلق مع الخلق ، والعارفون
يتكلمون مع الخلق وهم بالحق مع الحق ، جاء عن أبي القاسم الجنيد أنه قال: لي ثلاثون
150
سنة أتكلم مع الله، والناس يظنون أنني أتكلم معهم.
وقال رضي الله عنه: آدم لما هبط إلى الأرض أركز له أثر في السماء، فلهذا ترى العارف
الكامل حينا يكون أرضيا، وأحيانا يكون سماويا.
وقال رضي الله عنه: من جلس بين يدي الله تعالى بصدق وتصديق فقد اعتدل، ومن
اعتدل فقد تهيأ وكمل، وإلى جنة القرب قد دخل، ومن إلى ذلك دخل فقد وصل
واتصل.
وقال رضي الله عنه : إن لله عبادا وصلوا إلى درجات من المعرفة إلى حد بحيث لا يستطيع
مريد أن يدخل تحت جملة تحكيمهم، ولو دخل مريد تحت تحكيمهم لحطوا عليه عبئا من
أعبائهم، ولو حطوا عليه عبئا من أعبائهم لذاب كما يذوب الرصاص.
وقال رضي الله عنه: يا عجبا لبني آدم، ينزل عليهم النور من السماء ولا يقبله منهم إلا
قليل.
وقال رضي الله عنه : ما على وجه الأرض أسعد من رجلين: رجل نفذ قلبه لربه، ورجل
نفذ قلبه لهذا القلب.
وقال رضي الله عنه : قيود الحقائق كثرة العوائق .
وقال رضي الله عنه : لولا أن الله تعالى يريد أن يظهر أثر العدل في يوم الحساب ، لما أمر أن
يوزن عمل عبد مؤمن أبدا.
وقال رضي الله عنه:لا يوزن عمل عبد مؤمن إلا إذا تعرى من أنوار التجليات، وإذا لبس
أنوار التجليات لا يسع عمله الميزان.
وقال رضي الله عنه : من الرجال رجال يتمثل لهم المقام، ومن الرجال رجال يشاهدون
المقام، ومن الرجال رجال ينازلون المقام.
151
وقال رضي الله عنه : الكعبة المشهودة عموما هي الكعبة الجزئية ، يتوجه لها الجسد الجزئي ،
وهناك كعبة كلية يتوجه بها الجسد الكلي بإمامة ومأمومية ، فكيف بحال الكعبة التي
تتوجه [لها] النفس الكلية ? : ثم وكيف بحال ما يتوجه إليه العقل الكلي?! ثم فكيف
بحال ما يتوجه إليه القلب?! ثم كيف بحال ما بعد ذلك?!
وقال رضي الله عنه : الجنة لها ثمانية أبواب ، وهي لما بعدها باب ، وأي باب ! باب لقاء
الأحباب ، باب رفع الحجاب ، باب دنو أولي الألباب ، فسبحان الملك الوهاب .
وقال رضي الله عنه: من أنفق عليك من خزانة نفسه، فلا تقبل منه شيئا، ومن أنفق عليك
من خزانة عقله ، فاقبل واترك على حسب ما تلقح بنور الحكمة ، ومن أنفق عليك من
خزانة قلبه، فخذ واستكثر ولا ترد من ذلك شيئا، ومن أنفق عليك من خزانة غيبه
فذاك الكنز الأكبر والنور الأبهر، والأمر الذي يتنافس فيه ويعتنى بتحصيله، فيصان
ويدخر.
ثم : اعلم أن الله تعالى لما خلق النفس والعقل جعل لهما خزانتين من خزائن
فضله، ثم أذن لهما في الإنفاق منهما مدة دولتهما، ولما خلق القلب والروح طلبا ما جعل
للأولين، فقال: وعزتي وجلالي لأجعلن لكما ما جعلت لهما، لأنكما عندي أجل رتبة
منهما، وأعلى قدرا من قدرهما، ولكن أنفقا وأنا أمدكما مددا دائما سرمدا، ولا أقطع
عنكما فضلي، ولا عطائي أبدا، فإنكما في كنف عزتي وظل قربي وجلالي، ولكما إشارة
من المغني البلالي: أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
وقال رضي الله عنه : داعي الدنيا من جميع وجوهها - خفيها وجليها - يدعوك من حيث
تشتهي وتميل، وداعي الآخرة - حقا وصدقا من غير مزج - يدعوك من حيث تنفر
وتكره، وداعي الحقيقة يدعوك من حيث تفنى ويذهب شاهدك.
152
فلهذا : تستجيب النفس سريعا للأول وتميل لما يقول ، لأنه على موافقة هواها،
وتتعسر استجابتها وتتلون وتستصعب لاستجابة الثاني.
وأما الثالث : فلا يكاد يستجيب له إلا صاحب عناية، ومن لاح له من أفق
التوفيق فجر تخصيص وهداية.
وقال رضي الله عنه: لو أنطق الله لك صامت وجودك أو صوامت الأكوان، لقالوا مثل
ما يقول العارف.
وقال رضي الله عنه : ليس قصدي أن أذهب إلى الله بصحف أكتبها، وإنما قصدي أن
أذهب إليه بقلوب إليه أجذبها، وأميلها إلى ما عنده، وأخبتها.
وقال رضي الله عنه : أعظم من الحجاب : الحجاب عن الحجاب ، لا يشهد الحجاب إلا
بكشفه، ولا يعرف بحقيقة الحجاب إلا من رفع حجابه.
وقال رضي الله عنه: لو صاح العارف ما رفع الكون صوته.
وقال رضي الله عنه: صاح صائح الغيب منذ آلاف من السنين، فسمعه الأول فالأول،
حتى انتهى إلى الأكمل.
وقال رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يرقيك ردك إلى أصل الفطرة حيث مستوى الأقلام،
ثم يفيض عليك من فضله ما شاء.
وقال رضي الله عنه : إن الله تعالى قضى أن لا يوصل إلى العلم الحقيقي إلا من أخذ قلبه
ين الأكوان.
وقال رضي الله عنه : لو ذكر كون مكونه في الحقيقة لأحرقته أنوار التوحيد، ولتلاشى
153
وجوده حتى [يصير] لا وجود له.
وقال رضي الله عنه : إذا وصل العبد المؤمن إلى دار القرار ، ونجا من أهوال المحشر وعذاب
النار ، وحصل على البغية ، وظفر بالنعيم المقيم والعيش الهني ، وقضاء الأوطار ، دخل في
الغبطة والحبور ، وأنس بما وصل إليه ونعم به من الولدان والحور ، ناداه منادي
التحقيق، من أفق الإيمان :
أقر قرارك ههنا، وانتهت سفرتك إلى هذا المحل، إن لك عندي مراتب علية
وأحوالا مرضية، اسمع لي حتى أرقيك، وأجذبك من أدانيك إلى أعاليك، وحتى
أختارك وأصطفيك وأنقيك من بقاياك وأضيفك عندي.
إنك في طورك الأول والثاني تتردد في أطوار المفعولات ، والطور الأول في بدء
نشئك كان المفعول الفاني، فيقلبك من غيرتي عليك إلى الطور الأصفى الباقي الثاني،
لتحل في دار القرار، وتتخلص من الآفات والأكدار.
فهذا ما كان في أطوار مفعولاتي، ثم ارق إذن من الوقوف مع مفعولي إلى شهود
[جود] فعلي، فتجلى لك إذ ذاك جنة علية، وقصور بهية، وحضرات قدسية، تشغلك
عما صرت إله، فتتسع كل قصورها، ويشرق عليك أعظم من الإشراق الأول نورها.
ثم أخطفك عن ذلك خطفة أخرى، أشرق عليك بها شموس أنوار أسماء
لاحت تلك المفعولات عن أنوار فعلها، فكيف بها? !
ومن هنا [مبدأ أخذك مني]، ودخول حضرة مناجاتي، ومن هنا مبدأ عمر
حقيقتك، ودخولك بالحقيقة إلى حضرة جنتك:
154
وناداك من تهوي بطيب خطابه
تعال إلى قربي ولا تتعلل
فتنقل الى الأعلى وقل متحققا
بقرب فلذات الهوى في التنقل
تركت قوي سلمي وليلى بمعزل
وجئت إلى مصحوب أول منزل
ونادتني الأشواق مهلا فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزل
وقال رضي الله عنه : تارة يتكلم عن الغيب من حيث ما هو هو، ولا يلتفت الناطق إلى
قلوب الخلائق ، ولا يأخذ عنه في هذه الحال إلا القوي من الرجال ، الذي يأخذ الأنوار
من حيث لاحت ، وتارة يتكلم على القلوب من حيث هي هي ، فهذا الذي يربي
المريدين، وبدرب السالكين واصلين كانوا أو غير واصلين.
وقال رضي الله عنه: كلمة التوحيد هي العروة الوثقى الكائنة بين الدائرتين ، فأهل العلم
الأدنى الدائرة الأولى ، يتعلقون بها وبمعناها ، فيخرجون بذلك من الشرك الجلي
والخفي.
وأهل الدائرة العليا يتعلقون بها تنزلا ، ويتمسكون بشاطئها عند الغرق في بحار
الأنوار ، وتوالي تيار أنوار الأسرار ، وحيرة الألباب عند رفع الأستار ، ويتمسكون تعبدا
ب لا إله إلا هو.
وقال رضي الله عنه : النور إذا كان من وراء أظهر الصور ، وإذا كان من قدام جلا الحقائق.
وقال رضي الله عنه : إذا قال العبد: ولا إله إلا الله، أو : سبحان الله ، أو : الحمد لله ، أو
ذكر الله كيف كان، فإن ثبت قائلها كتبت، وإن لم يثبت قائلها كانت أعلى من ذلك
155
وقال رضي الله عنه : لا إله إلا الله، ثلاثة اعتبارات في ثلاثة إبداءات :
أحدها: أن يكون في معنى ظواهر العمليات ، فلا يوازيها شيء من السيئات،
قليلات كن أو كثيرات، كبيرات كن أو صغيرات، دليله: فطاشت السجلات وثقلت
البطاقة.
وثانيها : أن يميل إلى أنوار العلوم العليات ، فلا يوازيها شيء من العلويات ولا من
السفليات ، ولا الأرضين - بمن عليها - ولا السماوات ، دليله : ما جاء في المناجات
الموسويات : يا موسى وعزتي وجلالي لو ان السماوات السبع والأرضين السبع في كفة
و(لا إلة إلا الله) في كفة لثقلت بهن (لا إله إلا الله).
وثالثها : أن يرجع إلى نسبة العوالم القدسيات، ويبدو عن أنوار التجليات
156
الربانيات، وهناك يعود من حيث بدأت، ويبدأ من حيث يعود، وهناك يتخلص من
الكائنات ، ويميل إلى التحقق بالأسماء والصفات ، دليله: ما جاء في الحديث : لو أن
السماوات والأرض حلقة من حديد لقصمتهن لا إله إلا الله حتى تخلص إلى الله.
وقال رضي الله عنه : كان الحق تبارك وتعالى يقول لعباده العارفين:
بلغوا عني حجتي، وأوضحوا لعبادي محجتي ، وأنا أريحكم وأكفيكم، وأكتب
لكم ما لا تبلغونه بأعمالكم، ولا بمحاسن أحوالكم، وأنا الكريم الكافي ( أليس الله
بكاف عبده) .
وقال رضي الله عنه : كأن القياس أن أرباب القلوب والأنوار لا يظهرون لأهل الحجاب
وذوي الغفلة والأغيار، فأما إذا ظهروا لقضاء حق الله، ولإقامة حجج الله، ولإظهار
دين الله، فلا بد من الخفاء في ذلك الإظهار، ولا بد في ذلك البدو والإبداء من التحجب
والاستتار ، لظهور الوصفين، وقضاء حق الحالتين : (وربك يخلق ما يشاء ويختار)
تجرد يا جميل الوصف حتى
ترى ذاك الجمال بلا حجاب
وغب عن حال حسك واستمع
تجد من كل ناطقة خطابي
وقال رضي الله عنه: وجودك هذا البشري قذاة في عين بصيرتك، فلو زال عن عين بشريتك
قذاها رأيت ماءها ومرعاها، ولاح لك ما أعد لها مولاها، وأبصرت رشدها وهتداها [هداها]
157
كما قيل:
فأنت حجاب القلب عن صر غيبه
فلولاك لم يطبع عليه ختامه
وإن غبت عنه حل فيه وطنبت
على منكب الكشف المصون خيامه
وقال رضي الله عنه: العلوم ثلاثة: علم الكتب، وعلم الكلام، وعلم الإسم، فعلمان يمحى
العبد فيهما وهما: علم الكلام، وعلم الإسم، وعلم يثبت فيه وهو علم الكتب، وهو
قسمان: أصلي، وفرعي، ومنه وعنه انتشر وجود الآدمي، وطوراه: الفاني والباقي.
وقال رضي الله عنه : الزمان يجعجع بأصوات مختلفة، والمحق الصادق الواصل فيها قليل.
وقال رضي الله عنه : أعز الدالين على الله من تتجلى له صرائح الحقائق، ثم يوصلها بتلطف
وحسن توصيل إلى عموم الخلائق ، ثم هم بعد درجات ، فمنهم السابح والغارق
ومنهم الصامت والناطق، ومنهم السابق واللاحق.
وقال رضي الله عنه: الغيب إذا تجلى، له ثلاث مراتب: مرتبة هي أصل مدده ومرتبة هي
أصل مظهر وجوده، ومرتبة هي شعاع أنواره.
فالأولى: هي غيب الغيب، لا تدرك ولا يحاط بها، ولا يعبر عنها لسان، ولا يرقى
إلى علو سمائها قلب ، إلا لمن شاء الله من أهل العرفان.
والثانية : مظهر وجوده ، وهي مظهر العلم اللدني ، ومحل انبساط اللوح العلوي.
والمرتبة الثالثة - وهي شعاع أنواره - وهي إبداء العوالم العلوية بتفاصيلها من فرع
وأصل، ويجمعها العالم الباقي.
ثم هناك: مرتبة أخرى وهي: آثار ظلالها، وبوادئ مظاهر خيالها، وهي ما يشاهده
ظواهر علوم الإحساس، وما يدركه عموم الناس.
ويشير إلى الأول قوله تعالى : (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ).
158
ويشير إلى الثاني قوله تعالى : (قل لؤكان البحر مدادا لكلمات ربي).
ويشير إلى الثالث قوله . (إن ربكم الله الذى ...) الآية .
وإلى الرابع قوله تعالى : (إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط
به نبات الأرض) الآيات.
وقال رضي الله عنه : الدال على الله الكامل هو الذي يدل على النور الحقيقي ويشير إليه ،
وينقل إلى العلم العلوي ويدل عليه، وينهض للحال الصادق فيتصف الآخذ به.
وقال رضي الله عنه : يقف العارف الداعي إلى الله على جبل المعرفة وجودي ، العناية،
والخلق في وادي البشريات ومجرى سبيل الفناء ، فينادي بهم لما رأى ما لم يروا:
يا أيها الناس انهضوا، فتعالوا إلى جبل النجاة من قبل أن يأتي سيل الفناء وسبق
القضاء وغلبة الشقاء، فيحال بينكم وبين الوصول، وتحرموا هذه البغية والسؤل.
فلا يكاد يسمعه إلا من شاء الله، ومن سمعه ربما عجز عن الوصول إليه، فيشتد
حرصه على نجاتهم، فيقول: قفوا لي فلعل أحتال، فأتنزل إليكم فربما أوسع الحيلة.
وطلب من الملك القدير ما يكون سبيا لنجاة عباده، وربما تنزل لكي يتوصل إلى
نجاتهم مع مخاطرة في تنزله، وربما غلب عليهم حال حجابهم ففروا عنه هاربين، وردوا
على أعقابهم ناكصين ، [ف]يناديه منادي السبق الأول : (ليس عليك هداهم
ولكن ألله يهدى من يشاء ).
وإن شئت تقول : يركب العارف الدال على الله في السفينة النوحية العرفانية، وقد
أحاط بالخلائق طوفان الغفلات وماء الصفات البشرية ، وقاربوا أن يغرقوا في بحار
159
حجابهم، ويبعدوا عن الوصول إلى أحبابهم، ويقفل عنهم ما فتح لهم من أبوابهم
فينادي عوالم طينته وأبناء حقيقته، والمتوجهين إلى قريب من طريقته، وقد آووا إلى جبال
أوصافهم: ( يا بني أركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوى إلى جبل
يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وربما غلب القضاء وسبق الشقاء، وحيل بين المدعو وبين سماع الدعاء، (وحال
بينهما الموج فكان من المغرقين)، وأنشد بديها:
سرت من ضميري للفؤاد سريرة
ففاضت دموعي حيث لا تشعر النفس
ولاحت بروق شاهد القلب ضوءها تجلت بغيب حيث لا يدرك الحس
وقال رضي الله عنه: العلم الحقيقي كما يبدو لأهل الشهود من اللوح المحفوظ ، كذلك هو
منهم إليه يعود، فهو إلقاء وتلق منه وإليه، فيه مكتوب، فلا تسعه الأفكار ولا تحويه
الأسطار، ولا تحيط به القلوب.
وقال رضي الله عنه: لأن تخاطب محجوبا خير لك من أن ترافق نافذا.
وقال رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : مقلب القلوب إشارة إلى إنشاء فهم تكوينها
في سر تلوينها، فكن حريصا على فهم إشارات علم اليقين، إذ كل قطرة من بحارها لو
160
سرت إليها إلى الصين لم تظفر بمثل هذا العلم الرصين ، وأنشد بأثره - تضمينا
وارتجالا:
هبطت إليك من المحل الأرفع
عذراء ذات تحجب وتمنع
وأتت تزف إليك من أفق العلا قد كنت ناهدا لها بتطلع
وقال رضي الله عنه: ألجمت النفوس في مفتاح التوحيد بلجام حق حتى تقصر عن جملة
دعاويها.
وقال رضي الله عنه: فيض الغيوب واسع الأنبوب، لا تحتمله مجاري القلوب إلا أن يتوسط
في ذلك من له موهوب
وقال رضي الله عنه: عبوديتك منقسمة شطرين: فشطر هو شهود القدرة، وشطر: هو امتثال
الأمر، فما نقص من شهود القدرة قيد بامتثال الأمر.
وقال رضي الله عنه : مما يقال : إن من الرجال رجالا إذا جلسوا يذكرون الله يكون منكر
ونكير حاضرين، ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في المحال والمآل، قال الله
تعالى: ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة).
161
وقال رضي عنه : مريد أهل المعرفة يخفف عليه في البرزخ السؤال، لأنه يسأل بالإجمال
عن تلك الثلاث خصال، فيقول : قد كوثرني هذا المقال، واستقرت حقائقه في البال
وقد روي ظمأ قلبي من مائه الزلال، والحمد لله على كل حال.
وقال رضي الله عنه لمن حضره وقتا وقد ورد وارد أثر فيهم أثر خير: أود أن تنصرفوا، وأود
أن لا تنصرفوا ! أود أن تنصرفوا إذ قد حصل خير، وأخشى أن تكر عليكم الطباع
البشرية فتغير عليكم صفاء ما قد حصل لكم من بركة وقتكم هذا. وأود أن لا
تنصرفوا: لعل ان يرد بسبب حضوركم وارد خير.
وقال رضي الله عنه أيضا: بليتم بي، وبليت بكم! بليت بكم بأن أقول ما لا تصل إليه
العقول.
وقال رضي الله عنه: يؤتى بعبد يوم القيامة، فينظر في باطنه وقلبه ومحل ذكر الله تعالى منه
باطنا بالذكر الأصلي، فإن لم يوجد فيقال: انظروا في ظاهره أثرا لذكر الله تعالى، فإن
162
وجد كان من الناجين الظافرين.
وقال رضي الله عنه : يقال للعابد: يا صلاة اشفعي فيه، ويقال للعارف : اشفع في
صلاتك.
وقال رضي الله عنه : متى لم يفدك النور الغيبي ضرك الكدر الشهادي.
وقال رضي الله عنه : حقيقة الطريق: أن تكون مفلسا أبدا، وأن تكون طالبا للأعالي أبدا،
ومتى ظننت أنك وصلت فما وصلت، ومتى ظننت أنك ظفرت فما ظفرت، ومتى
ظننت انك حصلت لكل حال فلا حال لك.
وقال رضي الله عنه : المسألة في الغيب أصل النقطة ، فإذا برزت على لسان الناطق الواصل
صارت عين النقطة ولم تبرز للشهود ، فإذا وصلت إلى السامع صارت خطا وبرزت
للشهود .
وقال رضي الله عنه : ما مر نفس من الأنفاس إلا والجنة تتجلى عليك، والنار تتجلى عليك،
فالجنة تقول لك : أنت لي ومن سكاني، والنار تقول لك : أنت لي ومن شكاني ، ولا
تستطيع ان ترد على هذه، ولا على هذه.
وقال رضي الله عنه : لو لم يجعل للعارفين روح من غير عالم الحس ، لقل نطقهم بالحقائق.
وقال رضي الله عنه العارف يتلون في اليوم مائة مرة ، والعابد يقيم على الحال الواحدة كذا
163
كذا سنة ، لأن العارف مائل إلى دائرة التصريف ، والعابد مائل إلى دائرة التكليف.
وقال رضي الله عنه : اطلع الله على أهل الدنيا فقال : يا أهل الدنيا من عرفني كفيته، ومن
أطاعني جازيته، ومن أعرض عني أمهلته، فإن عاد قبلته.
وقال رضي الله عنه : إن قيل : ما الفتح ? فقل: هو أن تستيقيظ فترى الناس نياما.
وقال رضي الله عنه : لما صاح العارفون في الدنيا صاحت لهم حقائق في الملأ الأعلى ، فإذا
سكتوا هم لم تسكت حقائقهم.
وقال رضي الله عنه: الآدمي خرج بالتخليق، ورجع بالتحديث.
وقال رضي الله عنه : كل من له التفات بحقيقة يعجز عنها إن لم يمده الرب.
وقال رضي الله عنه : كل كون في الجنة غيب من غيوب الله.
وقال رضي الله عنه: أول هذا الأمر سماع وتصديق، ثم فهم وتدقيق، ثم شهود وتحقيق.
وقال رضي الله عنه: إن قيل لك: قدم قدما، فقدم قدميك.
164
وقال رضي الله عنه : جاء عن سيدي أبي الحسن رضي الله عنه : وغدا جميل لين رآه.
فالرائي على ثلاثة أقسام: راء محجوب، وراء نافذ، وراء وارث:
فالرائي المحجوب : لا عبرة به ، والرائي النافذ : هو المقصود ، والرائي الوارث :
يقول مثل قوله.
وقال رضي الله عنه: كأن تسبيح كل كون أن يقول: أنزه خالقي عن إدراكي له.
وقال رضي الله عنه : يا صاحب الجنس المغرور إياك أن تخرج إليهم بغرورك! تشبه بأبناء
جنسك الكرام، ولا تتشبه بأبناء جنسك اللئام.
وقال رضي الله عنه : إذا نودي عليك في السماء ليعرفك أهل السماء ، فما عليك أن لا ينادى
عليك في الأرض ليعرفك أهل الأرض، فمن جهلك فقد فاته حظه منك، وإنما أضر
بنفسه.
وقال رضي الله عنه : لما خرج الخلق من محل الإبداء تسابقوا إلى المقاصد ، فمنهم الظافر
ومنهم الخاسر.
165
وقال رضي الله عنه : هذه الطريق لما لم يدخل تحتها الخاص دخل تحتها العام ، ولو دخل تحتها
الخاص هلك.
وقال رضي الله عنه : لابن آدم نقطتان : نقطة جسدانية ، ونقطة روحانية ، فالنقطة الجسدانية:
أحاط بها الكون الشهادي ، والنقطة الروحانية : أحاط بها عالم القدس ، ثم كان بيتهما
عالم الجنة.
وقال رضي الله عنه : إن لله عبادا أعطاهم الدنيا والآخرة ، ثم استقرضها منهم، فوقع الخلف
عليهم.
وقال رضي الله عنه: من عبر عن التصوف فليس بصوفي، ومن شهد التصوف فليس يصوفي،
والتصوف أن يغيب عن التصوف.
وقال رضي الله عنه : كان القياس أن تقول الجنة : اللهم لا تجعل لمؤمن وطرا في غيري،
ولكن من الله تبارك وتعالى ووسع على المؤمن في الدنيا ، وكان القياس أن لا يكون
ذلك، ليتهيأ لعظيم ما أعد له، كما قال ذلك القائل:
166
عني إليكم ، ظباء المنحنى كرمت
عاهدت قلبي لا تهوى لغيرهم
وقال رضي الله عنه : من يبشرني بحضور قلبه، أبشره بالوصول إلى أجرعظيم.
وقال رضي الله عنه: إن من الكلم كلمة تحتها ألف كلمة، وإن من الكلم كلمة تحتها مائة
[ألف]، كلمة، وإن من الكلم كلمة تحتها بحار لا يحاط بقطراتها، ولا يدرك عظيم
غاياتها.
وقال رضي الله عنه: أمد الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار نهضة معتدل القلوب، فإن زاد على
ذلك، فاض عليها بمقتضى زيادته، وإن نقص عن ذلك نقص عن مقدار أمدها
بمقتضى رتبته.
وقال رضي الله عنه: قلب ابن آدم بالنسبة إلى جسده كليلة القدر بالنسبة إلى سنتها، وقلب
كل مؤمن ليلة قدر جسده، وليلة قدر كل سنة قلب عامها، كما قال ذلك القائل:
ما ليلة القدر المعظم شأنها إلا الذي عمرت به أوقاتي
وقال رضي الله عنه: ليس للحقائق غاية إلا أن تفنيك وتبقى هي، قال تعالى: ( كل من عليها
فان ويبق وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وكما قيل:
ولا بدا نور شمس العز من أفق التعظيم إلا ليخفيني ويبديك
وقال رضي الله عنه: الخلق العظيم ما لا يحتمل فضلا.
167
وقال رضي الله عنه : إذا سبح الملك سبح معه كل نوراني في أفقه ، وإذا سبح الآدمي المؤمن
سبح معه كل نوراني وظلماني في جملة الآفاق .
وقال رضي الله عنه : المريدون على أقسام :
مريد: يعرض ما يرد عليه من مربيه على عقله قبل أن يصل إلى قلبه، ومريد: لا
يعرض ذلك على عقله بل يصل إلى قلبه، ومريد: لا يعرض بادي الرأي، وهذا أقرب
إلى النفع، وفي كل خير.
وقال رضي الله عنه : أهل النور والإيمان سبقوا، فقدموا ذخائر التوحيد والإيمان من قبل أن
يدركهم عدو الله الشيطان، فحصنوها في حصون الحفظ والصيانة والأمان، فما أدرك
منهم فإنما أدرك ما هو تافة يسير ظاهر، وذلك فعل العاجز الضعيف الخاسر، وفي ذلك
تنبيه عظيم، وإشارة جليلة لذوي البصائر.
وقال رضي الله عنه : أهل السلوك والمعاملات تعترض لهم النفوس بأفعالها واتباع هواها
والجنوح إلى شهواتها ، فتوقفهم عن مزيد الأذكار وتحصيل الطاعات وسلوك سبيل
الجنات.
وأهل العرفان والمواصلات تعترض لهم النفوس بنفس وجودها وعين ذاتها ،
فتحجبهم تلك عن لذيذ المشاهدات والارتقاء إلى أعلى الدرجات والنعيم بأنوار
التجليات والوصول أو الدوام في تشريف التعريف [مما] يبدو من أنوار الأسماء
والصفات، فهي مانع وعارض للفريقين، وعذاب وحجاب لذوي الطريقين.
وقال رضي الله عنه : الدنيا أمك ، والآخرة أبوك ، فمتى عرفت الخالق الفاطر الأول الآخر
الظاهر الباطن ، ترقيت عن العالمين ، وخرجت عن الطورين ، وغربت في الوطنين،
168
وتيتمت عن الأبوين، ونزعت عن الدائرتين، ولاح لبصر إيمانك - من تحت تحت
بشريتك - شمس مقام خلع النعلين ، ففررت إذ ذاك عن الزوجين : (ومن كل
شيء خلقنا زوجين لعلكر تذكرون ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين)
تركت هوي سلمي وليلى بمعزل
وجئت إلى مصحوب أول منزل
ونادت بي الأشواق أهلا فهذه
منازل من تهوي رويدك فانزل
وقال رضي الله عنه: كأن الحق تبارك وتعالى يقول: يا بني آدم سألقي عليكم أنوارا وأحوالا
أختبر عوالمكم بها، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة).
وألقى عليهم أعباء الطاعات والعبادات، فثبت لها قوم قليلون، واضطرب ها
الأكثرون، فألقى عليهم أنوار الحكم الربانيات، فثبت لهما قليل من ذلك القليل، ثم
ألقى عليهم حقائق العلوم العلويات، فثبت منهم لها قليل من القليل الباقي، وكع
عن الوصول إلى أحوال شيء منها عوالم كثيرون منهم.
ثم ألقى عليهم أسرار المعارف الحقيقيات والأنوار الباهرات، فتلاشت عوالم من
قليل القليل واضمحلت رسومهم، ولم يبق إلا الأفراد الآحاد من الخواص المحققين
والسادات المؤمنين الذين سبقت لهم الإرادة، ونالوا الأخص الأتم وأنواع السعادة.
169
وقال رضي الله عنه : إذا لم تلتقط حب إبداء كلمات التحقيق ، غرست في أرض العناية ،
فأنبت الله منها شجرات طيبات (أصلها ثابت وفرعها في السماء).
وقال رضي الله عنه : مما يفهم من بعض أسرار الحكمة قلة اجتماع الخلق على العالم الرباني ،
إذ ليس كل واحد له قسمة في النيل منه، فلو كثر من يحضره ثم أعرض معرض منهم
- لفوات قسمته - لاشتد عليه عذاب الإعراض . فلهذا لا يساق إليه غالبا إلا صاحب
قسمة، فيقل من يحضره، إذ صاحب القسمة من الأنوار العلوية قليل، وأنشد بديها
لو كنتم تطلقوني حتي أبث حقائقي
نا بين هذا العالم وتسمع الأكوان
لكن سجنت وهذا حال الذي في سجنكم
لكن سأصبر لعلي أفوز بالغفران
ألجمتمونى لأدعو فصار حالي هكذا
أسير طورا وأخفي حقائق العرفان
يضيق وسع نطاقي عن بعض ما يملى له
لا يستطيع أن يخبر بما ترى العينان
وقال رضي الله عنه : الكأس العليا هي التي لا يشربها صاحبها وحده، وأنشد بديها:
أنا شرابي صاف يطلب جماعة تشربه
ويسكر الكل جملة، ويطرب الندمان،
وقال رضي الله عنه: لسان الحقيقة واحد، لا ينطق به إلا واحد، ولا يسمعه إلا واحد.
وقال رضي الله عنه: العارف يأخذ من كل شيء، فمن خرج عن كل شيء صحبه، ومن بقي
170
عليه شيء لم يصطحبه في شيء.
وقال رضي الله عنه : من ورد القيامة وقي قلبه نور خفيف، يرجى له السلامة من أهوال يوم
الحساب.
وقال رضي الله عنه : لك ثلاث مراتب: الأولى: أن تعاتب، الثانية : أن تخاطب، الثالثة : أن
تواصل.
وقال رضي الله عنه : الكاسات ثلاث: كأس يشرب منها في الدنيا، وكأس يشرب منها في
الآخرة، وكأس يشرب منها في حضرة الله.
وأما الكأس الأولى: فلها ظاهر وباطن، فقوم يشربون من ظاهرها، وقوم يشربون
من باطنها، وأما الكأس الثانية : فكذلك، وأما الكأس الثالثة: فظاهرها باطنها، وباطنها
ظاهرها، ومن هنالك ينشد لهم:
أسكر الناس دور كأس
وكان شكري من المدير
وقال رضي الله عنه : الرجال ثلاثة : رجل مسجون في العالم الأعلى، ورجل مسجون في العالم
الأدنى ، ورجل متصرف في العالمين ، فالرجل المسجون في العالم الأعلى ليس بقدوة
والرجل المسجون في العالم الأدنى كذاك ، وليس بقدوة إلا من تصرف في العالمين.
وقال رضي الله عنه : لما شهد الكون الفاني - بعين الغفلة - موجودا مع الله، قضى الله عز
وجل بفنائه غيرة لأحديته.
وقال رضي الله عنه: صه! ما من طور للعبد إلا ولله فيه اسم يعبده فيه به.
وقال رضي الله عنه: وجود العالم لتسكين قلوب بني آدم [...
171
ناداهم: يا عبادي إنما طلبت ولم يصل كل الخلائق إلينا من أول الأزمان.
وقال رضي الله عنه : وجود هذا الآدمي أفق من آفاق تصريف الملك الواحد القهار ، يبدي
فيه ما يشاء من الآثار من ليل ونهار، ومساء وإبكار، وظلمات وأنوار، وغير ذلك من
غرائب الأسرار
وقال رضي الله عنه : لو أقام العابد ألف سنة يعبد الله على التحقيق، كانت شمة من عارف
أفضل من ذلك كله.
وقال رضي الله عنه: من أعظم أنواع رجائك وجود وجودك، فيقول العبد بلطيف مناجاته:
إلهي، نجيتني من الأنوار العليا، فكيف لا تنجيني من بين النار والدنيا ?
وقال رضي الله عنه : تقوى قوى روحانية [ان] تمنع من التزود من الأكوان، لقربها من
بارئها، فهو الغني بذاته عن كل شيء، وهي الغنية به عن كل شيء.
وقال رضي الله عنه : إذا رحلت الأبدان من هذه الدار كان محطها في جنة الله، وإذا رحلت
172
القلوب والأسرار كان محطها في حضرة الله.
وقال رضي الله عنه: لما قيل: السؤال نصف العلم، فالعلماء يسألون بالألسنة، والعارفون
يسألون بالقلوب.
وقال رضي الله عنه : كيف يغرف تسليك العباد من لم يعرف مدد سلوكهم؟ وإنما مدد
سلوكهم مع معرفة تسليكهم، والمورد الممد هو العالم بمقادير أحوال عباده.
وقال رضي الله عنه : (بسم الله) من العارفين شيء من أنوار التكوين.
وقال رضي الله عنه : ما من صامت ولا ناطق إلا هو ناطق بحقائق.
وقال رضي الله عنه : يا ما أبعد الجنة والنار من الأخيار!
وقال رضي الله عنه: لما حصل لعموم بني آدم مرض حجاب باعتبار الظاهر، داواهم الله
بشفاء ظاهر ، أي : لما نزلوا أرض البشرية نزلت لهم إذ ذاك أنوار الخصوصية .
وقال رضي الله عنه : من نظر بعينه لما تحت عينه [لم] ير بالتحقيق بعينه، ومن نظر بعينه لما
فوق عينه فذلك بالتحقيق الناظر بعينه ، وهذا هو الإبصار تحقيقا ، والأول هو العمى
( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب ألتى في الصدور) وقال
تعالى : (لكم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصون بها) .
ومن و تمام إشارة ذلك : كأن الحق تبارك وتعالى يقول : من طلبني مني دللته علي
ومن طلبني من غيري حجبتة عني.
وقال رضي الله عنه : الله أمرك بشيئين، ونهاك عن شيئين، أمرك: أن تسلم نفسك لله، وأن
تسلم نفسك لأمر الله، ونهاك عن شيئين: أن تسلم نفسك للشيطان، وأن تسلم نفسك
للدنيا.
173
وقال رضي الله عنه : كأن الحق تبارك وتعالى يقول : عبدي عمرت بك الحضرات ، ثم
عمرت بك عوالم الجنات، ثم عمرت بك العوالم الفانيات، فهل أنت إلينا آت، أم أنت
فائت مع ما فات ?
وقال رضي الله عنه : جميع ما في هذه الدار أجساد حسية، ومعان وهمية، وجميع ما في العالم
الأعلى أجساد روحانية، ومعان وجودية.
وقال رضي الله عنه : كأن الحق تبارك وتعالى يقول: رسائلي واصلة إليك، ورسائلك
واصلة إلي فلا بعد بيننا.
وقال رضي الله عنه: عقول عموم الخلائق أقبل للمعاني الحكمية الفكرية منها للمعاني
الشرعية الأصلية .
ولهذا : كان السلف الماضون في حال قوة الإيمان يربون بظواهر الأمور الشرعية
مضربين عن معاني الحكم الفكرية لاستغناء قلوب الأقوياء عنها.
ثم احتاج أهل التربية في متأخر الزمان إلى معالجة القلوب - لنقصان أنوارها
بكثير من المثل والإشارات ، والتنبيه على التصريح بحقائق من المعلومات ، وسياسة
القلوب بشيء من الحكم الفكريات ، لكي يقرب لها التناول لبعد عهدها ، تقريبا
للقلوب الغافلة ، وإرشادا للعقول الذاهلة ، على حسب ما أشير إليهم وأمروا به
وأقيموا فيه، كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : حدثوا الناس بما يصل إلى عقولهم،
174
وقال رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين وصل الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم،
قوله تعالى: ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على
العرش) في الآية إشارات وتنبيهات على حقائق ، منها :
الإشارة إلى العوالم الثلاثة : عالم الشهادة : بقوله تعالى (ألذى خلق السموات
والأرض وما بينهما في ستة أيام ثو استوى على العرش) .
وعالم الغيب الجبروتي: في الإشارة بذكر العرش.
وعالم النور الأعلى : فيما ذكر من سر الاستواء
ثم مدد الأمر المحيط بكل ذلك المشار إليه بقوله : (يدير الأمر ).
فعالم الشهادة : مقيد بالكون الزمني، والمعنى الكوني في ذاته وتصرفه ، وليس ظرفا
لفعل الموجد، وإنما هو صفة للكون الشهادي ، أي : الكون الشهادي ملتبس به ومرتبط ،
لا أنه ظرف لفعل الرب الخالق.
وكل كون من أمهات العالم الشهادي له مبدأ ذاتي هو مهبط أنوار الروحاني عليه ،
وهو قلب لتقلب ذات وجوده الظاهر ، وكأنه المعبر عنه - توهما - بالكوكب
الفلكي، والأمر فوق ما يدرك من كان محجوبا.
ولكل كون من الأمهات العلوية الشهادية صفة زمنية يعبر عنها بيومها مع
مناسبة حكمية، فينقسم خواص الأزمان على خواص الأكوان، ولها مع ذلك دور أول
يبتدأ منه وينتهى إليه على حسب أصول تعدادها، فيبتدأ من سابعها إلى ثامنها، فيكمل
دورها الأوسط ستة، ويفصل على حسب آفاقها، فلكل كون منها على حسب أفقه يوم
175
ودور ، فتختلف الأيام باختلاف الآفاق ومراتب مظاهرها ، وإبداؤها من يوم هو
خمسون ألف سنة إلى ما دون ذلك ، وهذه لمعة من إشارة يتنبه بها قلب المتوجه.
وقال رضي الله عنه : اعلم أن العوالم الغيبية المحتجبة من مدارك الإحساس والخيالات
الأوهام والعقول البشرية لا تثبت للفكر البشري ، ولا تقف لجولان تردده حتى ينظر
فيها ويقضي ما [هي] عليه، وإنما تشهدها قلوب العارفين الواصلين حال تجليها، وإنما
يستثبت الفكر كونا ما ين جنس ما يدرك بعوالم الحس كالسماء والأرض والأفلاك
المشهودة حسا وما يتصل بها ويستلزم من معانيها الحقيقية المغيبات المجردة ، التي ليس
عليها طريق [دليل] من عوالم الشهادة وهي لا تقف للأفكار ، وليس لها إلى علو
أوجها مطار، وإنما تبدو وتلوح أنوارها وبهاء جمالها لبصائر أهل العرفان، حال تجليها
عليهم وحال استتارها، و[حال] انطواء خصوصياتهم في ظلال بشرياتهم، كأنهم لم
يكن لهم علم لانطواء الشاعد والمشهود ، وبدو دولة ظاهر الوجود ، فهم إذ ذاك
بالعقول والأفكار، و[حكمهم] حكم حال البشر المحجوب، وذلك ليس له سلطان
على إدراك عوالم الغيوب.
وقال رضي الله عنه : إذا ورد الوارد الرباني على القلب الإيماني العرفاني فقد تشكل باعتبار
المظهر البشري ، فيكون كلاما باعتبار من ورد عليه من عربي وأعجمي ، فيظهر في
قوالب العبارات ، فيتلقاه في الصور النفسانية ، وهو المسمى خطابا عند السادة
الصوفية ، وقد يكون باعتبار الخارج ، فيكون هاتفا وخطابا من كون.
176
وقد يتعالى ويرد على الصورة النفسانية فلا يقوى لعلوه أن يتشكل لها في قوالب
العبارات، فيتلقاه لذلك مجملا، ثم يتفصل على اللسان البشري، فيرد في ظاهر اللسان
في بعض أهل العرفان ، كما يرد في باطن الجنان خطابا بالنفس للإنسان ، وتلك الدرجة
أعلى، وأظهر من تلك وأحلى.
وقال رضي الله عنه : قد تشهد القلوب الإيمانية والأسرار العرفانية بعض ملاحظات
سحائب الكرم وأنوار الرحمة الربانية آية ، كما أن الدار الآخرة وموقف الحساب
والعرض اظهره الله تعالى وقضى بوجوده لتحقيق الحساب والسؤال وعرض أحوال
القلوب والأعمال؛ فلذلك : جعل، وبسط، وحكم لظهوره بظهور عظيم من الرحمة
الفعلية، وآثار الوصفية، وكثير من الإحسان والأفضال.
وقال رضي الله عنه: إذا صفا قلب العبد بلغ حدسه كل شيء، وإذا غلظ دفعه كل شيء.
وقال رضي الله عنه : ما أنت إليه أحوج أنت عنه أغفل!
وقال رضي الله عنه : ما من شيء يناله العبد باطنا وظاهرا إلا وللنفس واسطة في تلقيه، إلا
الحقائق العلية فإنها واردة من غير طريقها.
وقال رضي الله عنه : لا تؤمن الأقلام والأسطار على علي الحقائق وعظيم الأنوار.
وقال رضي الله عنه: أف لقلب لا يستدل بالصنعة على الصانع، ولقلب لا يستدل بالدنيا
على الآخرة.
وقال رضي الله عنه : العارف مع المريد كالأم مع ابنتها، إن حسن حالها أبرزتها لترى، وإن
نقص حالها سترتها عن أعين الناظرين.
177
وقال رضي الله عنه: أصل الورع: هو حبس النفس عن مشتهاها، وهو على ثلاثة أقسام:
ورع عن المحرمات ، وورع عن الشبهات ، وورع عن الفضلات ، فما كان عن
المحرمات يسمى : تقوى، وما كان عن الشبهات يسمى: ورعا، وما كان عن الفضلات
يسمى: زهدا.
وقال رضي الله عنه : ما توجه المؤمن لطاعة في دينه أو خير في طريقه إلا عرضت له بشريته في
ذلك، وإذا رأيت في ذلك نشاطا وقوة نفسانية فإنما ذلك لدخل فيه.
وقال رضي الله عنه : لما كان العبد المربوب : حياته ونجاته، وفوزه وسعادته، ونعيمه وراحته،
وحقيقة وجوده، وثبوت ذواته الأصلية عليه، والوصول إلى غاية مزيده، وما لا يدرك
تفصيله وجمله بتعديد وبقول وعبارة، إنما يشار إليه بخفي إشارة.
كل ذلك: لا ينال ولا يوصل إليه، ولا يتم ولا يحصل، إلا بكون العبد بين يدي
جنده ومثوله في حضرة خالقه وموجده ، ولما كان علي أنوار الحضرة الأحدية وبهي
جليل جمال الدار الجليلة العظيمة العلية ، لا بقاء لعبد ولا ثبات لمخلوق عند تجلي بهاء
شعاع أنوارها، ولا قرار لعلم بقاء وجوده عند فيض لجج بحارها، لاسيما عند تجرد
حقيقته وكونه بوصف عبوديته الأصلية وحال وجدته، فيذوب وجوده تحت قهر
سلطان الفناء، فلا ثبوت له إذ ذاك ولا بقاء، فيذهب مع الذاهبين، ويعود لما كان قبل
الماء والطين، كم قيل:
حتى إذا جذب الصباح لثامه
ورمت مليحة شمسه بنقابها
رأت الدجينة أنني من بعضها
فذهبت بالأنوار عند ذهابها
فإنك شمس والأنام كواكب
اذا ظهرت لم يبق منهن كوكب
إذا شهد المحب جمال ليلى
تراه في خفاء واستتار
يصير جباله دكا إذا ما
سري ليلا فآنس ضوء نار
178
وهل نجم يكون له ظهور
إذا ما أشرقت شمس النهار ?!
ولما سبق علم الله تعالى ، واقتضت الرحمة الأصلية والحكمة الإلهية العلوية أنه لا بد
للعبد السعيد المختص بالعناية ، الموسوم بالولاية ، المربى بأنوار الهداية من وصوله إلى
حضرة خالقه ومنشئه ومنعمه، وحياته بالقرب من موجده ومبدئه.
وأن لا بد أيضا من خلاص عبد آخر من ظلمات حجابه، ووصوله إلى سعة أنوار
الحضرات وفتح مغلق أبوابه .
ثم ل ابد من إدراك بقية الجملة وعموم الجنس المشارك من ظلال ظهور تلك
الأنوار، ووقوفها على فهوم رسوم تلك المعالم والآثار ، لإقامة الحجج وإظهار آثار
الحكمة الربانية ، واتمام إنفاذ قضاء الكلمة الإلهية
ثم ولا بد من إيصال آثار حقائق تلك الأنوار إلى عامة الأكوان التابعة للحقائق
الأصلية المجعولة من أجلها ، وإلى سائر الآثار.
فلما كان ذلك كذلك : تجلى الحق تبارك وتعالى بنور اسم تدق عن إدراك جماهير
الخلائق الإشارة إلى ذوق شهوده ، ويخفي كل الخفاء - عن كثير- الإيماء إلى آثار ظهور
وجوده ، وتجلى - تبارك وتعالى وتقدس - بنور اسمه الظاهر والباطن والأول
والآخر ، وتجلي تبارك وتعالى بآثار أنوار الصفة العلية الكلامية بظهور اسمه المتكلم
العلي، فظهرت تلك الأنوار، وطابت الأكوان بتنسم نسيم تلك الأخبار. وتجلى تبارل
وتعالى بآثار صفة القدرة العظمى والقوة العليا ، فكانت تلك المقدورات ، وتبين من
تحت أستار أعدامها تلك المكونات.
179
ثم من بعد ذلك لم يكن للعبد المجرد الوحداني العري بمطلق ذاته عن جملة
الصفات، ترق بنيل ولا بوصل إلى شهود شيء من آثار تلك التجليات، فاقتضى الكرم
الرباني والجود الإلهي انسياب صفات له ، لعله يتوصل بتوسط أسبابها إلى الظفر بنيل
رشاش من تيار بحارها، ويحظى بملاحظة ما جعل له تكرما من نور الإبصار إلى شيء
من أشعة بهاء أنوارها ، فجعل له صفة تدق الإشارة إلى نعت اسمها وذاتها ، كما كان ما
وجه إليه كذلك.
ثم جعل له صفة هي دون تلك في الخفاء، ووصفت بصفات وجعلت لها أسماء
وعوالم وأوج حضرات، وتنزل وتعل، واتصال وانفصال، وبدو وخفاء، وتجل واستتار،
واجتماع وافتراق، وتصريف في ملك، وترق منه وعنه إلى ملكوت، وتوجه بوصف
كمال إلى الخسيس الأدنى ، وتوجه وتعشق بنعت جلال إلى النفيس الأعلى ، ثم إلى ما لا
يتسع ذكره فتكون مهيأة بورود أنوار الظهور عليها، و[مراقبة] ملاحظة لتوجه تجلي
بهاء الجمال إليها.
ثم صفة دون الثالثة في الخفاء، وأقرب منها للظهور والجلاء ، قريبة التوجه لعوالم
الظلال ، كثيرة الالتفات والجذب والانجذاب إلى ذوات الصور والأشكال ، يسير
جنودها وأمدادها إلى دوائر ذوي التألف والانحلال، ثم وسمت بسمات، ووصفت
بنعوت ودلالات، وجعل أعلى أوصافها وأشرف نعوتها مهيأ لتلقي تلك الكلمات
العليات والآيات البينات والمواطن القدسيات .
180
ثم نزلت الصفات من السماويات إلى الأوحيات ثم إلى الأرضيات ، ثم كان في
الأوحيات صفات متوسطات ، فما كان هو الأقرب إلى السماويات خص بصفات
إدراكيات خفيات واعتبار ما دونها من المدركات، وسمي أيضا ذلك باسم، وجعلت له
فى ذلك صفات وإدراكات، وتنزل وتعل وتشبه بما فوقه، ومنح باكتساب صفة ما دونه،
وإدراك أشياء متشابهة الأطراف من أنواع المدركات .
ثم ما يليه من الأقرب إلى الأرضيات، مما هو ملتبس بها مشتبك بأوصافها، معانق
لذواتها، كأن هذه تلك، وكأن تلك هذه، فتارة تراه متعلقا بما فوقه، منتبها ساعيا على
منهاجه، وهو من الأقل شخصا وزمنا وحالا، وتارة ينزل إلى ما دونه من أرض -
[وهو] في الأكثر شخصا وزمنا وحالا - فتراه عاطفا عليه، ومائلا بكل أوصافه بين
يديه، ثم إلى القوالب والأرضيات بجملة تفاصيلها، واتساع عوالمها، وتقلب أشكالها
وصورها حسبما يقتضيه آثار علومها، وأسباب حقائقها بتدبير موجدها ومنشئها
وخالقها ومبدئها، والمتصرف فيها وفي أسباب أوائلها ومبادئها، تعالى وتقدس علوا
كبيرا.
وليس السياق بيان شيء مما تقدم الإشارة إليه، بأن ذلك بحر لا يعارض في الحجة
بالأذهان والعقول ، ولا يقترب من حمى شاطئه العزيز بالعبارات والنقول ، وإنما
المقصود سوق الفهوم والأذهان - مع ما جعل فيها من أنوار الفطرة الإحاطية وسر
حقائق الإيمان - إلى بيان شيء من عقد تربط القلوب عليه، وإشارة بلوغ إلى علم ديني
لعل يهتدي قلب مريد إليه، والله تعالى الموفق الهادي إلى سواء السبيل.
فلما من الله تعالى بهذا الفضل العظيم، والجود العميم، واللطف والإنعام، وأظهر
ما أظهر من العوالم العلوية والسفلية ، والعرشية والفرشية،، الروحانية والجسدانية،
والحقيقية والظلالية، والظاهرة والباطنة، وأبدأ شريف هذه الأكوان البهية، وخمائل هذا
النظام ، ظهر فيما أظهر بخفي حكمته إبهاما لقضاء ترتيب الأسفل والأعلى والأشرف
181
والأدنى، أنه ليس كلها متهيأ لتلقي حقائق غاياته، ولا قابلا - بذاته - إلى الاتصاف
بجملة صفاته، ولا ناهضا - بوصف نفسه - إلى الوصول إلى علي درجاته.
فجعل بعضها في ذلك واسطة لبعض تتميما لحكمته، وإظهارا لفضل حكم إلهيته،
فكان أعلى الوسائط هو أشرف الوسائط وأول الوسائط وأظهر الوسائط ، وفي ذلك
غموض وخفاء، فلنشر إلى ما هو بين في ذلك - وهو أجلى
ولما كان الأمر مترددا بين العلويات والسفليات ، والروحانيات والجسدانيات ،
ولترقي ما هو ملتفت إلى الأدنى ومتوجه إليه، إلى المحل الأعلى والقدس الأسمى ،
ليصل إلى بابه، فينعم ويحيا، ويسعد ويرقى، ويدوم ويبقى، وليصل العبد - بأصول
عوالمه الحقيقية ، وذواته الأصلية - إلى معرفة صفات العلي الأعلى ، ولينال بظواهر
صفاته ومظاهر ذاته إلى الدرجات العلا ، والحلول في جنة المأوى ، فنزلت له أشخاص
خواص عوالم أنوار من العالم الأعلى، متحملة شيئا من ذلك النسيم الأذكى ، والنور
البهي الأسنى، والحديث الطيب الأشرف الأرقى إلى محل هو لهم سدرة المنتهى وغاية
منزل ومرقى.
ثم يرقى من تنزل من محل أعلى، ومنزل أحمى بأمر من العزيز المولى ، القادر على
ما يريد الفعال لما يشاء، وذلك هو الكمال الأعلى، والصفة التامة الكملى، فيرقى من
يرقى بواسطة من يدلي بنوع من الأمر الذي تلقى، وبه يستقام ويهتدى، وينال به
182
الدرجة العليا ، ليتوصل به إلى كافة الخلق اجمعين بدوائر شتى ، وتجلى وجوه كثيرة لا
تعد ولا تحصى، وليسعد بذلك خلق وخلائق شتى، والله تعالى يهلك ويشقي، ويضل به
ويهدي، وليوصل به إليه من يشاء ويرضى، وليصل ذلك إلى العيش الرغيد الأهنى
والمشرب الألذ الأصفى.
وربما دنا الأخص الأسمى ، فيرقى إلى حضرات القرب الأعلى والغاية القصوى
والمنزلة العليا التي ليس وراءها مبدأ ، ولا دونها لخلق مرمى ، ولا لبصر لاحظ إليها
مسمى، فسمع ورأى، وأخذ وتلقى و( ما زاغ البصر وما طغى ) ، ( فكان
قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ، فلذلك كان (وما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة
فأستوى ) ، فوصل إذ ذاك إلى الرفعة العليا ، والمقام الأخص الأوحد
الأقرب الأرقى ، وقد أشير - إلى جملة مجاميع إشارات ما تقدم التنبيه عليه - بشيء من
قطرات بحار واسعة، وأنواي من قول العلي الأعلى - تقدس وتمجد وتبارك وتعالى -:
( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن
هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى) إلى قوله تعالى: ( لقد رأى
من آيات ربه الكبري ) .
فالمتوسط المنزل من السماويات والروحانيات : ملك.
183
والمتوسط المرقى من البشريات: نبي.
وما ألقي وحمل وبلغ ووصل: وحي، وخطاب، ورسائل، وكتابات.
فليتحقق في العبد الإيماني ، والجنان الإنساني ما اجتمع عليه الرسولان : البشري
والملكي ، وليثبت في الأذهان ما اتفق فيه الواسطتان : الخفي ، والجلي ، وليستقر في البال
ما يقرر سؤالا وجوابا بين السبيلين الجليلين ، والروحين الشريفين ، والأمينين
الكريمين الجبريلي والمحمدي .
ليظهر في حقائق الوجود ما هو إشارة إلى الأمر المشهود ، والمنهل العذب الرحيق
المورود ، ولبيان المتوسط بين العقدين ، والواسطة بين المشهدين : الإسلامي والإحساني
لينال المشهد الوتري من العدد الثلاثي قال : ما الإيمان ? قال: الإيمان أن تؤمن بالله
وملائكته وكتبوه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره... الحديث.
184
وقال رضي الله عنه: من علم يقينا من أين يأتيه رزقه، أتاه رزقه من غير سبب ولا تعب،
ومن لم يعلم من أين يأتيه رزقه، ألقي في أودية الأسباب.
آخر الكتاب والحمد لله رب العالمين.
فرغ من نسخه يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر
من سنة ثلاث وأربعون وتسعمائة من الهجرة النبوية
على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم
ورضي الله عن الصحابة
أجمعين.
185
ختام النسخة
بلغ قراءة على يد سيدي وشيخي وأستاذي الشريف الحسيب العالم
الفاضل الكامل العلامة وحيد دهره وفريد عصره جمال الدين محمد بن عبد
الله التلمساني المغربي رضي الله عنه ، وذلك يوم الثلاثاء العشرين من شهر رجب الفرد
سنة تسعمائة وتسع وأربعون من الهجرة الشريفة.
186
صفحة غير معروفة