أقول: قد سبق أن الأجزاء التي يدخلها الخرم ثلاثة، وهي فعولن ومفاعيلن ومفاعلتن، فتكلم الناظم عليها على الترتيب، فتكلم أولًا على فعولن لأنه خماسي وهو أخف من السباعي فقدمه، ثم تكلم على مفاعلين لأن كلا سببيه خفيفان فقدمه على مفاعلتن لأن سببيه ثقيل. والمصدر من قوله «ووضع مفاعيلن» يحتمل أن يبقى على المعنى المصدري، ويحتمل أن يؤول باسم المفعول كما قدمناه. وقد عرفت مما سبق أن مفاعيلن له ثلاث صور: صورة سلامة، وصورة قبض، وصورة كفًّ، فله بحسب ذلك ثلاثة أسماء، خصت صورة السلامة باسم الخرم. فعلى هذا الخرم يطلق بالعموم على حذف أول حرف من الجزء الذي يدخله هذا التغيير، أيّ جزء كان، وبالخصوص على حذف أول مفاعيلن حال سلامته من القبض والكف. قال ابن بري: وكان الأولى أن يوضع له اسم يخصه كما وضع لسائر صور الخرم، لكنه أطلق هنا اسم الجنس على النوع لصدقة عليه. وبعضهم يفتح الراء هنا فيسميه خرما فرقًا بينه وبين الاسم العام، ولا يعرف هذا عن الخليل. فإن دخل الخرم في مفاعيلن مع قبضه سمي ذلك شترا، وذلك بأن تحذف الياء بالقبض والميم بالخرم فيصير فاعلن. وهو مأخوذ من شتر العين وهو شقّ جفنها وانقلابه، يقال رجل أشتر بين الشتر، وهو من العيوب القبيحة، فكأن الجزء لما حذف أوله وخامسه واستقبح النطق به شبه بالجفن الأشتر. وإن دخله الخرم مع الكف سمي ذلك بأن تحذف النون بالكف والميم بالخرم فيبقى فاعيل فينقل إلى مفعول. أخذ من الخراب وهو الاختلال والفساد، لما لحق الجزء من ذلك بحذف أوله وآخره. وقوله «اعرف بالمراتب ما خفا»، يشير بذلك إلى أن الناظر في كلامه ينبغي أن يعرف مراتب التغيير ويجعل الألقاب لها على حسب الترتيب، الأول فالأول، وذلك لأنك قد علمت أن مفاعيلن لا يدخله من التغييرات غير ثلاثة أشياء: الأول منها حذف أوله، فيجعل اللقب الأول وهو الخرم لهذا التغيير الأول إعطاء للمرتبة ما يقابلها. الثاني: حذف أوله مع حذف خامسه، فيجعل اللقب الثاني وهو الشتر لهذا التغيير الثاني لما مر. الثالث: حذف أوله مع حذف سابعه، فيجعل اللقب الثالث وهو الخرب لهذا التغيير الثالث عملًا بما اقتضاه الترتيب. فإن قلت: ومن أين لنا أن التغيير الثاني هو الخرم مع القبض، وهل لا عكس فيجعل الثالث هو الثاني؟ لأن القبض محله الخامس والكف محله السابع ولا يخفى سبق الخامس على السابع. قال الشريف: ويعلم أن حذف الياء لا يسمى شترًا وحذف النون لا يسمى خربًا إلا بقيد انضمام ذلك إلى حذف الميم بتغيير الاسم، لأن حذف الياء وحدها قد تقدم أنه يسمى قبضًا، وحذف النون وجدها قد تقدم أنه يسمى كفا، فلولا ما انضم إلى حذف كل واحدٍ منهما من الخرم لما تغير الاسم. ويعلم ذلك أيضًا من ذكره في فصل الخرم، لأن حذف ثواني الأسباب قد فرغ منه قبل هذا، فلولا انضمامه إلى الخرم لما ذكر في فصله. انتهى. فإن قلت: الوجه أن يقول الناظم «خفي» فما وجه فتح الفاء؟ قلت وجهه الشريف بأنه جرى على لغة طيءّ، وذلك أنهم يبدلون مثل هذه الكسرة فتحةً والياء ألفا. ويحتمل وجهًا غير هذا، وذلك أن ابن القطاع وغيره حكوا أنه يقال: خفيت الشيء بفتح الفاء، بمعنى كتمته، فيمكن أن يكون هذا منه، ويكون الفعل متعديًا، وضمير المفعول محذوفًا، والفاعل ضميرًا مستكنًا عائدًا على النظم، أي اعرف بالمراتب ما خفاه النظم أي ستره وكتمه. ويحتمل أن يكون الفعل لازمًا من قولهم: خفا البرق، إذا اعترض من جانب السحاب، فأشار بذلك إلى أن ما اشتمل عليه الكلام السابق من الإيماء الذي لا يلوح إلا كخطفة بارق على جهة التمثيل.
قال:
مفاعلتن للعضب والقصم والجمم ... وخرمٌ ونقصٌ فيه عقصٌ وقد مضى
1 / 41