واعترضه أبن واصل بأن هذا مخالفة للخليل بن أحمد صاحب الفن، وجميع من أتى بعده من أهل العروض من غير ضرورة تدعو إلى مخالفتهم، بل بمجرد مناسبة ضعيفة، مع أن ما ذكره الإمام ﵀ واقتفى القوم أثره فيه له وجه من المناسبة، إن لم يكن أحسن مما ذكره المحلى فليس بدونه، ونترجح نحن بسبب موافقة جميع أهل الفن فنقول: إنما قدمت دائرة المختلف لاشتماها على الطويل والبسيط اللذين هما أشرف من سائر البحور لطولهما وحسن ذوقها وكثرة ورودهما في أشعار العرب، وقد قال أبو العلاء المعري في كتابه جامع الأوزان: أن أكثر أشعار العرب من الطويل والبسيط والكامل، ومن تصفح أشعارهم وقف على صحة ذلك، وأيضًا فكل بحور هذه الدائرة مثمن، والتثمين أشرف من التسديس لأن الثمانية زوج زوج ينتهي في التحليل إلى الواحد، بخلاف الستة التي هي زوج فرد، ولا يرد علينا دائرة المتقارب إذ تفاعيلها ثمانية لأن هذه ترجحت بطول بحورها لتركبها من خماسي وسباعي، وبكثرة ما يخرج منها من البحور، وبكثرة الاستعمال، بخلاف تلك.
ثم قدمت دائرة المؤتلف على دائرة المجتلب، إما لأن دائرة المؤتلف من بحورها الكامل، وهونظير الطويل والبسيط في حسن الذوق وكثرة الاستعمال في شعر العرب، وإما لأن دائرة المجتلب كالفرع لغيرها لأن بحورها مجتلبة من دائرة الطويل وهذه لم تجتلب بحورها من غيرها، فهي أصل في نفسها.
ثم تقدمت دائرة المجتلب على دائرة المشتبه لأن أوتاد دائرة المجتلب كلها مجموعة، ودائرة المشتبه كل بحر من بحورها فيه وتد مفروق، والمجموع أشرف ثم تقدمت دائرة المجتلب على دائرة المشتبه لأن أوتاد دائرة المجتلب كلها مجموعة، ودائرة المشتبه كل بحر من بحورها فيه وتد مفروق، والمجموع أشرف من المفروق لقوته، ولهذا لم يأت إلا في دائرة المشتبه وحدها، والمجموع أتى في الدوائر كلها.
ثم قدمت دائرة المشتبه على دائرة المتفق لأنها سباعية التفاعيل ودائرة المتفق خماسية، والسباعي أشرف من الخماسي، وأيضًا فبحور دائرة المشتبه أكثر لأنها تسعة، ستة منها مستعملة وثلاثة مهملة، ودائرة المتفق لا يخرج منها إلا بحران أحدهما مستعمل والآخر مهمل، فكانت دائرة المشتبه أولى بالتقديم لا سيما ومن بحورها السريع والمنسرح والخفيف، وهذه أكثر في الاستعمال من المتقارب فظهر بما ذكرنا وجه المناسبة في ترتيب الدوائر على مذهب الفخليل ومن تبعه من العروضيين، فالمصير إليه أولى، والله الموفق، قال: فمنها انبنى المصراع والبيت منه والقصيدة من أبيات بحر على استوا أقول: بيت الشعر له نصفان، وكل واحد منهما يسمى مصراعًا تشبيهًا له بمصراع الباب، فجعل الناظم ﵀ المصراع مبينًا من أجزاء التفعيل الولقعة في الدوائر المتقدمة على حسب الترتيب المذكور فيها، فضمير المؤنث من قوله (فمنها) عائد على الأجزاء المذكورة كيف هي هناك، وضمير المذكر من قوله (منه) عائد إلى المصراع، أي أن بيت الشعر ينبني من المصراع إذ هو نصفه، ولابد للبيت من نصفين، فهو إذن مؤلف من المصراع، والقصيدة تنبني من أبيات بحر واحد بشرط أن تكون الأبيات كلها مستوية في أعداد الأجزاء، وفيما يجوز فيها أو يلزم أو يمتنع احترازًا بأن لا تستوي الأبيات في عدد الأجزاء، كما إذا نظم شاعر أبياتًا من بحر البسيط مثلًا بعضها واف وبعضها مجزوء فلا يمكن نظمها مع اختلاف عدد الأجزاء في سلك واحد، بحيث ينطلق على مجموعها قصيدة واحدة، واحترازًا من أن تستوي الأبيات في عدد الأجزاء ولا تستوي في الأحكام، كما إذا نظم أبياتا من بحر الطويل بعضها ضربه تام، وبعضها ضربه مقبوض، وبعضها ضربه محذوف، فلا يمكن أن يجعل مجموع ذلك قصيدة واحدة.
قال الشريف (والقصيدة مؤلفة من أبيات بحر واحد بشرط أن لا تختلف الأبيات، وذلك بأن تكون مستوية في الأحكام اللازمة. وقد قيل: لا تسمى الأبيات قصيدة حتى تكون عشرةً فما فوقها، وقيل أزيد من عشرة وقيل حتى تجاوز سبعةً، وما دون ذلك قطعة.
والقصيد جمع القصيدة من الشعر. قال في الأساس: أصله من القصيد وهو المخ السمين المكتنز الذي يتقصد، أي ينكسر، إ'ذا استخرج من قصته لسمنه فسموه به كما يستعار السمين للكلام الجزل، والغث للردى منه. وقيل القصيد فعيل بمعنى مفعول، لأن الشاعر قصده بتجويده وتنقيخه. قال:
1 / 19