وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38)، أي بصر يزوغ عن هذا الصراط المستقيم؟! أي بصيرة لا تهتدي إلى هذا المنهج القويم:
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (المؤمنين: 68).
إن وازع البلاد والقائم على الملك لو ألمح لمحة إلى نفسه لرأى أن بلاده في كل وقت معرضة لأطماع الطامعين، وأن الحرص المودع في طباع البشر، يحرك جيرانه كل آن للسطوة على ممالكه ليذلوا قومه، ويستعبدوا أهله، ويستأثروا بمنافع أرضهم وثمار كدهم، ويمنحوها أبناء جلدتهم، فعليه وعلى من يشركه في أمره من عماله، والحكام النائبين عنه في إيالاته، وقواد جيشه، وعلى كل أرباب الرأي، ومن بهم قوام الملك، أن يستعدوا لدفع طوارئ العدوان، ورفع نوازل الغارات الأجنبية، فلو فرطوا في إعداد لوازم الدفاع، أو تساهلوا فيما يكف عنهم سيل الأطماع، أو تهاونوا فيما يشد قوتهم، ويقوي شوكتهم بأي وجه كان ومن أي نوع كان؛ فقد عرضوا ملكهم للهلاك وألقوا بأنفسهم في مهاوي الأخطار.
هذا مما يفهمه الأبله والحكيم، ويصل إليه إدراك الجاهل والعليم، وهو سر الإفصاح والإبهام في قوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (الأنفال : 60)، أمر بإعداد القوة ووكلها إلى الطاقة وحكم الاستطاعة، على حسب ما يقتضيه الزمان، وما تكون عليه حالة من تخشى غوائلهم، هذا أمر الله ينبه الغافل، ويذكر الذاهل:
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (النساء: 78).
إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض أعمال الملك للقادرين على أدائها؛ مما يوجب صيانة الملك، وقوة السلطان، ويشيد بناء السلطة، ويحكم دعائم السطوة، ويحفظ نظام الداخل من الخلل، ويشفي نفوس الأمة من العلل، هذا مما تحكم به بداهة العقل، وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السماوات والأرض، وثبت بها نظام كل موجود، وهو العدل المأمور به على لسان الشرع في قوله تعالى:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان (النحل: 90)، كما أن الجور عن الاعتدال والميل عن سبيل الاستقامة في كل جزء من أجزاء العالم يوجب فناءه واضمحلاله، كذلك الجور في الجمعيات البشرية يسبب دمارها، لهذا حثت الأوامر الإلهية على العدل، وكثر النهي في الكتاب المجيد عن الظلم والجور، والحكام أولى من توجه إليه الأوامر والنواهي في هذا الباب، العدل هو الحكمة التي امتن الله بها على عباده، وقرنها بالخير الكثير فقال:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (البقرة: 269)، هي مظهر من أجل مظاهر صفاته العلية، فهو الحكم العدل وهو اللطيف الخبير.
من سار في الأرض، وتتبع تواريخ الأمم، وكان بصير القلب؛ علم أنه ما انهدم بناء ملك، ولا انقلب عرش مجد، إلا لشقاق واختلاف، أو ثقة بمن لا يوثق به، وتخلل العنصر الأجنبي، أو استبداد في الرأي، واستنكاف عن المشورة، وإهمال في إعداد القوة، والدفاع عن الحوزة، أو تفويض الأعمال لمن لا يحسن أداءها ووضع الأشياء في غير مواضعها، فيكون جور في الحكم، واختلال في النظم، وفي كل ذلك حيد عن سنن الله، فيحصل غضبه بالخاطئين، وهو أحكم الحاكمين.
صفحة غير معروفة