ولا تقف فيما تجد عند جلب المصالح ودرء المفاسد لأوقاتها الحاضرة، بل يأخذ العقلاء منها سبلا من التفكير، ويخترطون سيوفا من الهمة، ليصيبوا من سعيهم شوارد من القوة، ونواد من المكنة، ويستخرجوا دفائن من الثروة ويجمعوا ذلك للأمة، لصيانة حياتها إلى حد العمر اللائق بها، كما يسعى الحازم جهده لتوفير ما يلزم لمعيشته، وما يطمئن به قلبه في دفع حاجته مدة العمر الغالب، بل يزيد عليه ما فيه الكفاية لأبنائه من بعده، وإن الدور الأول من أعمار الأمم لا ينقص عن خمسة قرون ثم تتلوه سائر الأدوار، وأولها أقصرها وهو سن الطفولية، وبدء الكمال فيما يليه، فما أرفع همم العقلاء في الأمم المستبصرة!
إذا بلغ الإحساس من مشاعر أفراد الأمة إلى الحد الذي بيناه، رأيت في الدهماء منهم والخاصة همما تعلو، وشيما تسمو، وإقداما يقود، وعزما يسوق، كل يطلب السيادة والغلب، فتتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، ولا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه، ويكون نزوهم على الأمم بعد الغلب الأول تدفقا من الطبع لا يحتاج إلى فكر وروية إلا في إعداد وسائل الفوز والظفر.
هذا الأمران - الوفاق والغلب - عمادان قويان وركنان شديدان من أركان الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يستمسك بها، ومن خالف أمر الله فيما فرض منهما عوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، جاء في قول صاحب الشرع: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، وإن المؤمن ينزل من المؤمن منزلة أحد أعضائه إذا مس أحدها ألم تأثر له الآخر، وجاء في نهيه: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا»، وأنذر ما شذ عن الجماعة بالخسران والهلكة، وضرب له مثل الشاة القاصية تكون فريسة للذئاب.
هذا كله بعدما أمر الله عباده بالاعتصام بحبله، ونهاهم عن التفرق والتغابن، وامتن عليهم بنعمة الأخوة بعد أن كانوا أعداء، ونطق الكتاب الإلهي:
إنما المؤمنون إخوة ، وطلب من المخاطبين بآياته أن يبادروا بإصلاح ذات البين عند التخالف، ثم شدد على وجوب الإصلاح وإن أدى إلى مقاتلة الباغي، فقال:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، وإنما أمر الله الدخول فيما اتفق عليه المؤمنون وتوحيد الكلمة الجامعة:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وتوعد الكتاب الأقدس كل من انحرف عن سبيل المؤمنين بالعقاب الأليم، فحكم بأن من يتبع غير سبيل المؤمنين يوله الله ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيرا، وفي أمره الصريح إيجاب التعاون على البر والتقوى، ولا بر أحق بالتعاون عليه من تعزيز كلمة الحق وإعلاء منار الأمة.
وأخبر الصادق
صلى الله عليه وسلم
أن: «يد الله مع الجماعة»، وكفى بالقدرة الإلهية عونا إذا صح الاجتماع وصدقت الألفة، وقد بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية، حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفا عن حكم الله وما في علمه ، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقا من الدين ، وانسلاخا عن الإيمان، ومن عناية الشارع بأمر الاتفاق قوله
صفحة غير معروفة