نعم، إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده إلا ما ينعكس إلى مرايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرا ، وكل فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب والالتحام لولا ما تبعث عليه الضرورات وتلجئ إليه الحاجات، عن تعاون الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذا يصرفه في آثارها بقية الأجل، ويكون انبساط النفس لعون القريب، وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم أو نكبة جاريا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش والري والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو ألجأته ضرورة إلى ذلك؛ ذهب أثر تلك الرابطة النفسية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات.
وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض، إذا لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا من أشكالها، فلن يكون منشأ لآثاره، وإنما يعد في الصور العلمية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه - كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة والنظر فيها بعين الحكمة؛ يظهر لك السبب في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم؛ فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين - في الأغلب - إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضا هجرا غير جميل؛ فالعلماء - وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية الناس إليها - لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلا عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شئون العالم الأفغاني، وهكذا.
بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم ولا صلة تجمعهم، إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواع خاصة؛ من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء؛ كانت كذلك بين الملوك والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين، حتى صح أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم ولا بلد وبلد إلا طفيف من الإحساس بأن بعض الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت الملة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه، فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة، وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون - رضي الله عنهم.
كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس، تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلاف إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
صفحة غير معروفة