فليشهد الثقلان أني رافضي
كان الشيخ محمد عبده متميزا من ناحية الكمال الجسماني بالفطرة والوراثة والنشأة الريفية، ويظهر أنه كان ذا منزلة خاصة عند أبويه؛ لأنه أصغر أبناء أمه وأنجب إخوته، فتربى على شيء من الحرية يكون عادة للأبناء المميزين ولا يكون لغيرهم؛ فينشئون ذوي استقلال وجرأة وإقدام، ولا ينكر أثر التربية الصوفية في نفس الأستاذ؛ فإنها وجهت كل عواطف الشباب في نفس الفتى إلى اللذائذ القدسية ، لذائذ العارفين.
وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تلطيف السر بأنواع من الرياضة البدنية والروحية ...
قال ابن سينا في الإشارات:
العارف هش بش بسام، وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء فإنه يرى فيه الحق.
العارف شجاع، كيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفاح، وكيف لا وذكره مشغول بالحق؟
هذه التعاليم الصوفية من شأنها أن تربي جانب الوجدان، وتلطف السر وتجمل النفس وتزينها، ولا جرم كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق، وقد هذبت من صوفيته تربية السيد جمال الدين الأفغاني، وزاده ما استفاد من الأسفار وتعلم اللغة الفرنسية تهذيبا.
قال المرحوم قاسم بك أمين في وصف الأستاذ: «بلغت فيه طيبة النفس إلى درجة تكاد تكون غير محدودة، كان يجذبه الخير كما يجذب المغناطيس الحديد فيندفع إليه ويسعى إلى كل نفع للغير عام أو خاص، كان ملجأ للفقراء واليتامى والمظلومين والمرفوتين والمصابين بأي مصيبة، وأهل الأزهر الذين هم أكثر الناس احتياجا إلى المساعدة؛ لأنهم في وسط المدنية الحاضرة المتأخرون العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم في ميدان حياتنا الجديدة، يبذل إليهم ماله ويسعى لهم عند ولاة الأمور بهمة لا تعرف الملل، كأنما كان يسعى لأعز إنسان لديه، بل كان يسعى لصاحب الحاجة وهو يعلم أنه أساء إليه وقدح فيه، وتحالف مع خصومه في ترويج عبارات القذف والنميمة التي لم تنقطع عنه يوما مدة حياته، كان الأستاذ يرى أن الشر لا فائدة منه مطلقا، وأن التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء، ويفيد في إصلاح فاعله.» •••
اتصل الشيخ محمد عبده بالمناصب الحكومية وبالشئون السياسية وبالحركة العلمية والأدبية وبأعمال البر، وكان له في كل هذه الميادين نشاط مثمر ورأي مصلح، وعزم لا يعرف دون الكمال تراجعا ولا فتورا، لكن الميدان الذي أنفق في رحابه الشيخ محمد عبده خير ما وهب من صحة وهمة وعقل وعلم وفصاحة هو ميدان الإصلاح الديني؛ دعا الشيخ محمد عبده إلى الإصلاح الديني باعتباره أساسا لكل إصلاح في الشرق.
وتنتظم دعوة الشيخ إلى الإصلاح الديني أمورا ثلاثة: (1)
صفحة غير معروفة