156

المسافات طويلة والشقة بعيدة فلا بد أن يكون لنا في كل مكان موطئ لأقدامنا لنحتفظ بأملاكنا، فلنا حق في اغتصاب جل العالم لأجل الهند، خصوصا القطر المصري، فإن به السبيل التي لا يماثلها سبيل، وليس لنا عنها غنى، وكنا في تطلع إليها من زمن قديم وكثيرا ما تمسكنا بحبال من الوسائل إليها فرثت في أيادينا بقوة حكام تلك البلاد، حتى هيأت لنا حوادث السنين الأخيرة ما أحلنا دارهم وأقرنا في قرارهم.

إنا ذهبنا لتقرير توفيق باشا وتثبيته على كرسي الخديوية المصرية، إلا أنه بقتال ونزال، فلا تختلف صورته عن صورة الفتح، فلنا حق التملك في تلك الأقطار، وقد فهم الناس أن مسيرنا إلى مصر كان لغاية إقرار الراحة وإزالة الاختلال، وكأننا صرحنا بذلك عند عزمنا عليه، ولكن الغرض الحقيقي إنما هو تأمين طريق الهند. فتسنى لنا ما قصدنا بحلول عساكرنا في وادي النيل، فثبتنا فيما أصبنا وليس لنا أن نتركه بعد الوصول.

وحيث إننا عقدنا العزم على البقاء في مصر وأضربنا عن إخلائها، لزمنا ضمانة الديون المصرية وحملها ثقيل على كواهلنا، فعلى جميع الدول أن تمدنا بالمساعدة وتكون لنا عونا على تنقيص الفوائد، ولا نحب أن تكون مذاكراتها معنا إلا في المالية خاصة؛ فإنا لا نرجو من مفاوضاتها فائدة، أما سائر الشئون فعلينا تدبيرها وإلينا مصيرها.

هذه أقوال تصدر عن آمال يمدون أسبابها إلى برلين، ويرجون أن تكون مواصلها ومعاقدها في تلك المدينة عاصمة الألمان.

أما البرنس بسمارك وهو مدير السياسة في أوروبا وبيده زمامها، فيرى أن هذه فرصة ينتهزها؛ ليستفيد صديقا وينكي عدوا، وليست له علائق سياسية تحمله على المدافعة عن مصر، ولا منافسة له مع الإنجليز تبعثه على معاكستهم، بل له إليهم حاجة في ضمهم إليه وإبعادهم عن فرنسا لتكون منفردة بين الدول لا حليف لها، وقد تكون له من صلة الإنجليز مآرب أخرى سوى قطع فرنسا من الحلفاء ينالها يوم الحاجة إليها وما هو عنه ببعيد.

فماذا يضره إذا ادخر عونا وأساء عدوا والنفقة على خزينة غيره؟ نعم، ربما يظن أن بسمارك يمنعه عن مثل هذه المعاملة رعاية بجانب حلفائه من النمسا وإيطاليا لما لهم من المصالح في البحر الأبيض، ويصعب عليه أن يصيب بسياسته الجمع بين مراضاة إنجلترا لنيل مصافاتها وبين التمسك بعهوده مع ذوي حلفه، إلا أنه قد يسهل عليه التخلص من هذا المضيق بالإشارة إلى طرابلس الغرب وبلاد الأرناءوط والإيماء إلى الأراضي البلقانية وسالونيك ويجلوها لأنظار معاهديه، فيسكن جأشهم ويطمئن خاطرهم فيستثبت بذلك موالاة الدولتين، ويقلم أظافر روسيا من أوروبا الشرقية، ويضيع مصالح فرنسا في بلاد المشرق عموما ومصر خصوصا، وفي كل ذلك الربح له، والخسارة على غيره، وليست هذه أول فعلة فعلها بسمارك أو يفعلها فهي شرعته التي يرد إليها ويصدر عنها من يوم معاهدة برلين إلى هذا الوقت.

وفرنسا واقعة بين مراوغات الإنجليز ومكائد بسمارك، لها حقوق سابقة في البلاد المصرية كاد يمحى أثرها بمداخلة الإنجليز، وبها حاجة شديدة لعلو الكلمة في طريق منشآتها ببلاد الصين والبحر الهندي ومدغشقر؛ لهذا تبذل الجهد لإجلاء العساكر الإنجليزية عن مصر وتخفيض سلطة الإنجليز فيها، ويوجد لها عون من دولة روسيا، ولها من المنعة ما لو أيدته أفكار المصريين وآراء ذوي العزيمة من رجالهم وميل أفئدتهم؛ لمكنها من تخليص مصر وانتزاعها من أيدي الإنجليز، سعيا في حفظ مصالحها ووقاية حقوقها، وهذا مما يؤيد سياسة الدولة العثمانية ويشد عضدها في مدافعة الإنجليز ومطاردتهم من بلادها.

للدولة العثمانية أن تظهر عزمها في هذه الأوقات لتستنفد ممالكها من طمع الطامعين وتعيد ولايتها على الأقطار المصرية خالصة لها من سلطة المعتدين، وإن جميع المسلمين ينتظرون منها الحذق في هذه المسألة، ولهم فيها الأمل القوي والثقة الكاملة، ورجاؤهم أن لا تفوتهم هذه الفرصة بدون أن ينالوا بها حظهم من الغنيمة.

وليس على الدولة من بأس إذا طالبت الإنجليز برد حقوقها كافة؛ فإنهم بالنسبة إليها أضعف من أن يجاهروها بالعدوان، وإنا نكرر ما قلناه سابقا من أن الإنجليز يستحيل عليهم أن يعلنوا على الدولة العثمانية حربا، خصوصا في هذه الأوقات التي أصبحت فيها دولة روسيا متاخمة لمملكة الأفغان، فإن أول إشاعة لهذه الحرب توقد لهيب الثورة في عموم الممالك الهندية، وهذا جلي عند كل إنجليزي، أن التغافل والوهن ربما يوسعان مجال الطمع فيفتح باب المسألة الشرقية أو يكون لها استعداد قريب.

وليس للمصريين في طورهم هذا أن يركنوا إلى من ليس من أبناء جلدتهم؛ فإن الثغرة التي تحمل على الحمية تكاد أن تكون منحصرة بحكم الطبيعة في أبناء الوطن فلا ترجى من غيرهم، فعلى العقلاء من أهالي مصر أن يسارعوا إلى معاضدة الدولة العثمانية والاتحاد معها على تخليص بلادهم، مستعينين بأفكار الدولة التي تقضي عليها مصالحها بالسعي في إنقاذها وإعادة شأنها الأول، وتحقيق ما يقال من أن مصر للمصريين.

صفحة غير معروفة