بعد هذا قال رياض باشا: إني لا أفهم لفظ بروتكتور
1 (حماية) ولا أعلم ماذا يراد منه، ولكني لا أرى وسطا بين أمرين، إما ضم البلاد إلى الحكومة الإنجليزية فتستلم إدارة أمورها وتتولى شئونها كلية كانت أو جزئية، وهذا هو الذي أفهمه من تلك العبارات، وإما ترك البلاد لأهلها ليأخذ بزمام السلطة فيها رجال من أهليها وإليهم الحل والعقد في إدارتها، فانتحلوا مذهبا من المذهبين فإن القول بحل وسط بينهما ضرب من الجنون. ا.ه.
وليس بعجيب أن يصدر مثل هذا الكلام من رياض باشا، فعهدنا به رجل ذو حياة وطنية وإحساس بما يلزم لحفظ حياته هذه، وهي أشرف أنواع الحياة، فإن تكلم فإنما ينثر الكلام منه إرادة ناشئة عن فكر تثيره قوة حيوية، وكان أملنا أن يوجد من طرازه كثير في الأقطار المصرية يصدعون بما يصدع به خصوصا بعدما نزلتهم هذه الحوادث المريعة ومثلت لهم مستقبل بلادهم في حاضرها، ولقد أدى الرجل حقا واجبا عليه والقائم بأداء الفريضة قد يشكر إذا أهملها المكلفون بها حتى صارت عندهم من نوافل الأعمال أو في منابذ المكاره، ولكن يأخذنا العجب من بقية أعضاء هذا المجلس الموقر كيف مجمجوا أو تلكئوا أو سكنوا، وكيف وسعتهم القدرة على إمساك ألسنتهم عن التعبير بما في ضمائرهم.
إنا لا نعلم أحدا منهم تجنس بالجنسية الإنجليزية وحاشا جميعهم من ذلك، ولا يختلج في صدورنا أن مصريا أو تركيا أو شرقيا - أيا كان - يميل ميلا صادقا إلى تسلط الأمم الأجنبية على بلاده، أو يخلص في خدمة الإنجليز ومجاراة رغائبهم إخلاصا صحيحا، خصوصا أولئك الأمراء المصرح بأسمائهم، بل لو كشف الحجاب عن قلب كل واحد منهم لرأيناه ذائبا من الأسف في ما حل ببلاده وفانيا من الحزن على ما نزل بوطنه من تردد جيوش الأجانب بين أطرافه، ومضمحلا من الكدر على ما عقبه حلول القوة الأجنبية من انقباض الأنفس وانقطاع الآمال وعموم الاختلال وشمول الفقر والفاقة وبطلان حركة الأعمال.
بل لو شاء القلم أن يعبر عن حالة الأمير منهم عندما يطرق آذانه أخبار التصرف الإنجليزي في إدارات حكومته وكف أيدي الموظفين من أبناء ملته من أداء ما يجب عليهم لبلادهم، وبسطة أيدي أولئك الأجانب في الإنفاق من ماله ومال عياله وأقاربه وأحبائه وجميع مواطنيه بدون حق شرعي ولا مصلحة وطنية، أو عندما يرى غنيا أعدم وعزيزا ذل وكاسيا عري وحبا أشرف على الهلاك من ضغط المظالم، ولو نهضت قوة البيان لشرح ما يظهر على وجهه من ألوان الكمودة، وفي أعضائه من أنواع الرعدة، وما ينبض به قلبه وما يحدثه فكره من هواجس الهموم وخواطر الغموم؛ لما استطاع القلم تعبيرا، ولوقفت قوة البيان دون الإتيان على قليل من كثير.
هذا هو الذي لا يبرأ منه أحد منهم ولو أقام على البراءة ألف برهان، كيف لا وهم يعلمون أن عزتهم وسيادتهم وما بلغوا من مراتب الشرف والرفعة؛ إنما كان بوصف قيامهم على أعمال البلاد، وأهليتهم لاستلام مهامها واستعدادهم لإدارة شئون الرعية؟ وهم على يقين بأنه لو ساد في ديارهم أجنبي فلا داعي يبعثه إلى حفظ ما لهم من الشرف والسيادة، بل له من البواعث القوية ما يحمله على تذليلهم وإهباطهم إلى أحط المنازل ليخلفهم على مثل ما كانوا عليه.
فما الذي أمسك بألسنتهم عن الكلام؟! هل الخوف؟ فمن أي شيء يخافون؟ وما الذي يخشونه على أرواحهم أو على بلادهم إذا قالوا حقا وثبتوا عليه؟ ماذا يصنع بهم الإنجليز إذا علموا صدقهم في محبة أوطانهم واتفاق كلمتهم على الرغبة في إنقاذها؟ هل علموا من عدل الإنجليز أنهم يؤاخذون الناس على إبداء آرائهم إذا دعوا إلى المشورة؟ إن كان هذا فما يبتغون من الحياة؟ هل ظنوا أن الإنجليز إذا أحسوا باتفاق في الآراء على مصلحة من مصالح البلاد وإن كانت في خروجهم من مصر يستطيعون تحت أعين أوروبا أن يوصلوا ضررا إلى المتفقين وهم أمراء البلاد وأعيانها؟
إن رياض باشا وحده لم يخش من إظهار فكره، فماذا كان يضر الأمراء الوطنيين لو عززوه أو كاتفوه على مثل رأيه؟ قد علم العقلاء من كل أمة أن أشباه هذه الحوادث تكون سببا في اجتماع الكلمة واتحاد الرأي على مصادمتها وما نراه اليوم من سعادة الأمم العظيمة، إنما كان منشؤه ملمات الشقاء التي أنستهم الضغائن والأحقاد وحملتهم على ترك المنافرات الخصوصية، وأخذ كل بيد أخيه لدفع ما يخشى منه على بناء الأمة أن ينصدع وأساس الملة أن ينقلع، وما سمعنا من أمة اتفقت فخابت ولا ملة افترقت فنجحت.
ألا يعلم أمراؤنا أن أوروبا واقفة بالمرصاد لإنجلترا، تترقب لها الزلل وتتمنى لها الغلط، وأن جميع الأسماع في الممالك الأوروبية مصغية لكلمة يتفق عليها وجهاء المصريين وهي: إنا قادرون على إصلاح شئوننا ولا نريد قوة أجنبية تحل في ديارنا.
امتدت أعناق السياسيين في أوروبا وانحنت إلى المصريين ليسمعوا منهم كلمة حتى كلت رقابهم والتوت أعصابهم والمصريون يشحون بها عليهم، ماذا ينتظر الأمراء المصريين في قول الحق؟ إن الأمم لا تطلب منهم إشهار السلاح ولا بذل الأرواح، ولكن تطلب منهم قولا صريحا لا يجلب إليهم ضررا ولا يقرب منهم خطرا، لا حول ولا قوة إلا بالله.
صفحة غير معروفة