فقاطعه عزيز قائلا: واحسرتاه، إنني لم أجئ وحدي يا حضرة المدير ... قال هذا وبسط ذراعيه نحو غرفة الانتظار؛ حيث كان ثلاثة أشخاص ينتظرون بفروغ صبر، ثم استطرد قائلا: هو ذا ولدي آدم وابنتي حواء وامرأتي ... وأمتعتي ...
فحول المدير نظره إلى غرفة الانتظار، فرأى قرني معز بارزين بين أخشاب صناديق أربعة، وآذان أرانب عديدة تنصب فوق أعراف جماعة من الديوك والدجج، وأبصر فوق ذلك خرطوم خنزير ينشق بين طرفي قطعتين من الخشب الصلب كتب على إحديهما بحروف سوداء: خنزير محزم.
فقال في نفسه: هذا حوش للحيوانات، لا بل حديقة للوحوش! ثم بدر منه التفاتة فرأى ابن عزيز عاكفا بعناية على خمس شجيرات من الورد غرست في خمسة براميل من الخزف، فقال عزيز: إن البهائم عون للإنسان في حياته، والأزهار هي زينة البؤساء، أليس كذلك؟
عندما دخل الرجلان إلى غرفة الانتظار كانت ابنة عزيز، وهي فتاة في السادسة عشرة من عمرها، قد ركضت إلى النافذة المشرفة على فسحة المحطة وصرخت بصوت مذعور: أين هي بلدة جونية؟ أراني هنا في سهل مقفر لا مأوى فيه ولا منزل.
فأجابها المدير: إن المآوي لكثيرة عند «أديب» ثم إن الذي يجر وراءه أمتعة كثيرة العدد كهذه لا يجب عليه أن يبطئ في إيجاد مسكن يأوي إليه، إني أبصر وراء هذه الألواح الزجاجية سحنة معتر لا أشك في أنه يقودكم جميعا إلى حيث تجدون مأوى لكم. ونادى فريدا فامتثل أمامه خجلا ينظر خلسة إلى قدميه العاريتين، فقال المدير: اذهب يا فريد ودل السيد عزيزا إلى منزل أديب. فتقدم الولد قبيلة عزيز واجتاز بها الفسحة، فالطريق. وفيما هم سائرون سأل الموظف الجديد فريدا عمن هو أديب، فأجاب الولد أنه زراع في البلدة بنى منزلا كبيرا أجر معظم غرفه لعمال السكة الحديدية حتى أطلق عليه اسم «منزل عملة السكة».
كانت جماعة من النساء تشتغل أمام المنزل في ظلال شجرة كبيرة من أشجار الطلح، ولم يكد عزيز وجماعته يصلون إلى مقربة من مأوى أديب حتى وقف النساء ينظرن بدهشة إلى ذلك الموكب، عندئذ انتصبت سيدة المنزل على عتبة الباب وسألت فريدا قائلة: من هؤلاء القوم يا فريد؟ فأجاب الولد: إنهم من المستأجرين يا سيدتي، وقد خلفوا السيد داود حامل البريد الأحمر.
2
حاول داود أن يقنع مديره بإبقائه في وظيفته، فذهبت مساعيه أدراج الرياح، فاضطر أن ينزل عند الأوامر، عند هذا انتصر عزيز فوطد إقامته في جونية.
لم يحتج الموظف الجديد إلى أكثر من غرفتين لإيواء عائلته، أما زوجة أديب فقد سمحت له بأن يضع حيواناته في زاوية من الحديقة؛ حيث بنى لها أقفاصا كبيرة وأكواخا من الخشب، وأما حواء ونبيه فقد كانا يذهبان كل يوم في قطار الصباح لينهيا دروسهما في بيروت.
كانت امرأة أديب كثيرة اللطف كريمة الأخلاق قلما تفارق الابتسامة العذبة ثغرها الجميل، وكانت تعطف على الصبية الصغار وتتعهدهم بما فطرت عليه من العذوبة والرقة، إلا أنها لم تكن تستطيع العيش في معزل عن الناس، فأقل سكينة كانت تؤلمها وتدب في صدرها عوامل السأم والضجر، أما أديب فقد كان يشتغل في حقله من مطلع الصبح إلى منتهى النهار، ولا يعود إلى منزله إلا عندما يعود ولداه من المدرسة.
صفحة غير معروفة