آه! إن الخمسين الفرنك التي سمحت بها الشركة لا تكفي لدفع نفقات الوليمة! ولكن عائلة أديب، تلك العائلة المضيافة، قلما أمسكت كيسها عن أحد. •••
كانت الليالي عذبة مسكرة في شهر أيار الضاحك؛ ففي ذات ليلة مد الخوان تحت شجرة الطلح المزهرة، فجلس رئيس المحطة في مقدمة المدعوين؛ وكانت السيدة أديب تذهب وتجيء من المطبخ إلى الخوان فتحث النساء على الأكل وتملأ القناني الفارغة أو تسكب الطعام في الصحون، في حين يكون الدسم ينشد في المقلاة فوق نار مضطرمة.
عند هذا كانت روائح أردية شفافة معطرة بعطر قديم تفوح من النساء وتمتزج بأشذاء العناقيد المتدلية من شجرة الطلح أو بأريج الأوراق الذابلة على خصر الفتاة ابنة أديب.
أما النساء فكن مرتديات أجمل ثيابهن في تلك السهرة، حيث برزت السيدة فارس بردائها البسيط وشعورها الكستنائية، كأنها تسترجع عهد شبابها القديم.
والسيدة بطرس بثوب العرس الأسود وقد رث وتخرق فجمعت أطرافه المخرقة بدبابيس وغطيت بأقمشة مزركشة.
وكانت عائلة عزيز من المدعوين إلى تلك الحفلة العائلية فجاءت من جونية، حيث كانت قد استوطنت وابتاعت بيتا صغيرا تحيط به الجنائن والكروم. لا تسل عن فرحها برؤية العملة بعد غيبة طويلة، فأخذت تحدثهم عن مزروعاتها ومواشيها الصغيرة وأولادها الذين وطدوا دعائم مستقبلهم.
أما نجيب فكان يتحدث إلى الرئيس في حين كان بطرس ذو المزاج السوداوي يسخر من ثوب امرأته الجميل، ذلك الثوب الموثقة أطراف خرقه بالدبابيس.
وفي طرف الخوان كان الفتيات يضحكون بملء أشدقاهم، بينهم ابنة أديب التي كانت تلج على جميل الموظف الجديد في الشركة وتجتهد في استمالة أبصار فريد.
وعندما أوشكت الوليمة أن تنتهي أخذ البعض يتناشدون الأشعار ثم نهضوا للرقص، فأبعدوا المناضد إلى ناحية من الفسحة واصطف العجز على قدم الجدار ليفسحوا مجالا للراقصين.
دارت حلقة الرقص بين القرويين والقرويات فجلست السيدة فارس والسيدة أديب في الظلمة، وأخذتا تنشدان بصوت بطيء أغاني «دبكة» يعرفها الجميع في القرية، في حين كانت العاملات ينحنين على عتبة المطبخ ليتفرجن على الرقص بدون أن يتوقفن عن غسل الصحون وتنشيفها.
صفحة غير معروفة