فقال فريد: أجل، إنهم يركبون قطارا لا أوراق له، وعندما يقوم القديس بطرس بدورة التفتيش يدفعهم إلى أيدي الأبالسة الأشرار.
لاحظ فريد أن أمارات الزهو قد احتجبت عن وجه فارس وحلت محلها أمارات العبوس والحزن، فقال في نفسه: ربما تكون الصورة قد أثرت في نفسه! رب، إذا كنت قد رميت في صدره بذور أفكار صالحة فدعها تنمو وتزهر! •••
انتهى الصوم وجاء أحد الشعانين فأنشد نجيب تسابيح القداس الاحتفالي في كنيسة جونية، وكان قد أصبح منذ أيام قلائل صديقا حميما للأب يوحنا؛ لأن الموسيقى والقصائد الطيبة وذكريات الجندية كانت قد جمعتهما بخيوط متينة من الحب.
ففي مساء هذا الأحد بينما كان مستأجرو أديب مجتمعين تحت شجرة الطلح دفع عزيز نجيبا إلى التحدث عن الدين؛ وفي حين كان هذا يتكلم بما أوحت إليه عاطفة إيمانه كانت النساء صامتات يصغين إلى كلامه إلا السيدة بطرس، فإنها صرحت أن في احتفالات التعبد ينبوعا من الشعر الصحيح طافحا بمياه عذبة.
أما أديب الذي كان شديد التمسك بالأحاديث القديمة فقد صرح بأن في نيته أن يقوم بواجباته في الفصح لكي يحافظ على العادات التي تمشى عليها جده ووالده، وأما عزيز فقد كان مؤمنا، فلم يبق إلا بطرس الذي لم يقف عن خطبه اللادينية بالرغم من تأفف نجيب فقال ساخرا: إنك مندفع عن جهل يا صديقي نجيب، فانظر إلى أين أوصلتك معاشرة الرهبان، أتود أن تتمم واجباتك الدينية في الفصح القريب؟
فأجاب الجندي القديم مجمجما: ولم لا؟ معاذ الله أن أخجل بهذا الواجب! أما أنت يا بطرس، أنت الذي ربيت في كنف الدين المسيحي والذي تنكر مباديك الأولية، فجيب عليك أن تخجل بجحودك الذي لا معنى له ... - لا معنى له؟ اصمت يا نجيب فلقد جننت! إن من يكون رجلا عائشا في القرن العشرين لا يجد مندوحة من فتح عينيه ليتأكد أن الله والدين والكنيسة ليسوا إلا أشياء ميتة أو خرافات باطلة. - أما أنا فعندما أفتح عيني أرى نفسا من أنفاس التجدد يحرك العالم ويوقظ الحمية في صدور الشباب ... - لا بل في صدور المغرورين الذين استولى عليهم خداع بعض الرهبان! - إنني لا أتكلم فقط عن الأحداث، بل عن شبان هذا العصر، عن رجال هم أترابك أنت، أتجهل يا بطرس أن في لبنان ألوفا من العملة يتمسكون بمبادئهم الدينية ويجاهرون بها في المجتمعات والمجالس؟ أجل يا صديقي، فسينمو عددنا بالرغم منك، ونؤلف في جونية جمعية كبرى نعطيها اسم «جمعية عمال السكة الكاثوليكية»، هل اتضح لك أن الإيمان لم يمت، بل هو هاجع في الصدور؟ وأنه لا يحتاج إلا إلى رحمة الله ليستيقظ ويهب؟
أجل يا رفاقي، إنني لا أعرف الذي تهبه لنا قلة الإيمان، ولكنني أعرف حق المعرفة ماذا تضمر لنا مواظبة الدين، فلهذا السبب ترونني مستعدا؛ لأن أتمم واجباتي في هذا الفصح؛ إذ إنني أحترم الرجل الذي يقرن أعماله بمعتقداته.
عند هذا كان فريد قد اقترب من المتحدثين، فاستغرب عندما رأى فارس يحيط نجيبا بنظرات ملؤها الإعجاب، فقال في نفسه: أتراه قد تحرك لدي هذا المثل؟
ولكن الأسبوع المقدس كان قد فات بدون أن يبدو من فارس ما كان يشغل بال فريد؛ فقال الولد في نفسه: لا، سوف لا يستجاب طلبي! ... ذلك لأنني لم أضرع إلى الله كما يجب أن أضرع ... كان الأحرى بي أن أتوسل إليه أكثر مما توسلت!
صرف فريد الليالي التي تقدمت العيد في الصلاة والتضرع بالقرب من سريره، ففي ذات ليلة دخلت إليه السيدة فارس بعد أن صرفت قسما من الليل في إنجاز عملها، فدهشت إذ أبصرت شعاعا من النور أمام الباب، فحدقت في الغرفة فرأته ساجدا على الأرض ويداه ملتصقتان بسبحة صغيرة ورأسه مستلق على حافة السرير وقد نام نوما عميقا.
صفحة غير معروفة