كتاب الهادي
أو
«عمدة الحازم في الزوائد على مختصر أبي القاسم»
تأليف
الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي
المولود بجماعيل سنة (٥٤١ هـ) والمتوفى بدمشق سنة (٦٢٠ هـ) - رحمه الله تعالى -
اعتنى به تحقيقا وضبطا وإخراجا
نور الدين طالب
طبع على نفقة
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
كِتَابُ الهَادِي
أو
«عُمدَةُ الحَازِمِ في الزَّوَائِدِ عَلَى مُختَصَرِ أبي القَاسِمِ»
1 / 3
حُقُوق الطَّبْع محَفُوظَة
لوزارة الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
الطبعة الأولى / ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعينُهُ، ونَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، وَسيئاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَاديَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
فَإِنَّ "كتابَ الهَادي"، أو "عُمدةَ الحازِمِ في تَلخيصِ المَسَائِلِ الخارجةِ عنْ مختصرِ أَبي القَاسِم"، من مُؤلفاتِ الإِمامِ شيِخِ الإِسلامِ أبي مُحمَّدٍ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ قدامةَ الحنبليِّ، المتوفَّى سنة (٦٢٠)؛ كتابٌ عظيمُ الفائدةِ، كثيرُ النَّفْعِ، مشهورٌ بينَ الأَصحابِ، معتمدٌ فيما يُذْكَرُ فيه من المسائِل العلميةِ.
وهوَ من جُملةِ المصادرِ التي اعتمدَ عليها، ونَقَلَ عنها علامةُ المذهبِ الحنبليِّ ومحرِّرُهُ الإِمامُ الشيخُ عليُّ بنُ سليمانَ المَرْداويُّ، في كتابِهِ "الإنصافِ" المشهورِ.
وقد لخَّصَ الإمامُ الموفَّقُ أكثرَ "عُمدةِ الحازمِ" من كتابِ "الهدايةِ"
1 / 5
للعلامةِ أَبي الخَطَّابِ محفوظٍ بنِ أَحمدَ الكَلْوَذَانيِّ تلميذِ القاضي أبي يَعلى، وشيخِ الشيخِ عبدِ القادِرٍ الجَيْلانيِّ.
وقصدَ الإِمامُ الموفَّقُ بتلخيصِ "الهِدَايةِ" بهذا المختصرِ المفيدِ، أن ينقلَ فيهِ من مَسائلِ "الهدايةِ"، المسائلَ التي لم تُذكرْ في "مُختصرِ" أبي القاسم عمرَ بنِ الحسينِ الخِرَقِيِّ، المتوفي سنة (٣٣٤)؛ فجاءَ مصنفًا صغيرَ الحجْمِ، كثيرَ العِلْمِ.
ولم يصْنع فيهِ الإمامُ الموفَّقُ كَمَا صَنَعهُ في "عُمدةِ الفقْهِ"، حيثُ جعلَها على قولٍ واحد، اختارَهُ هو من الرواياتِ عن الإِمامِ أَحمدَ، بل مَشَى فيه على طريقةِ أصلِهِ، في بعضِ المواضع؛ من ذكرِ الرواياتِ عنِ الإِمامِ أَحمدَ ﵀ والوجوهِ عن أصحابِهِ.
وقد ذكرَ في أولِ كثيرٍ من فصولهِ بعضَ الأحاديثِ الجليلةِ التي بَنى عليها مسائلَ الفَصْلِ، وهذا عملٌ صالحٌ مُنَبِّهٌ للطالبِ الذَّكيِّ على تَتَبُّعِ الأَدِلةِ، وطلِبها من مظانِّها.
ومنْ تأمَّل مِنْ أهلِ العلمِ هذا المختصرَ، علمَ أنهُ مِنْ أجمعِ المتونِ للمسائلِ العلميةِ، وأنه يُغنى عن كثيرٍ من المُختصراتِ الفقهيةِ، ولا يغُني عنهُ غيرُهُ.
فرحمَ اللهُ الإمامَ الموفقَ، لقدْ جَدَّ واجتهدَ في نَصْرِ مذهبِ إِمامِ أهلِ السُّنَّةِ أَحمدَ بنَ حنبلٍ، حتى صارتْ كتبُهُ كلُّها عمدة عندَ الحنابلةِ، وقدَّموها على غيرِها من المؤلفاتِ.
وأما مختصرُ أبي القاسمِ الخِرقِيِّ، فقد قَرَأَهُ الإمامُ الموفَقُ على شيخِهِ الشيخِ عبدِ القادرِ الجيلانيِّ، وشَرَحَهُ في كتابهِ "المغني" الذي هو
1 / 6
أكبرُ مؤلَّفاتِ الموفَّقِ، وأكثرِها علمًا، وقد عُني علماءُ الحنابلةِ بهذا المختصرِ؛ بحفظِهِ وشرحِهِ ونظْمِهِ، حتى ذكر بعضُ العلماءِ أن له ثلاثمئةَ شَرْحٍ.
ومنَ العلماءِ من شَرَحَهُ بالنظمِ.
ونظمَهُ جعفرُ بن أحمدَ السرَّاجَ، المتوفَّى سنةَ (٥٠٠)، ونظمَهُ -أيضًا- العلامةُ يحيى بن يوسفَ الصَّرْصَريُّ المتوفى سنة (٦٥٦)، ولما أتمَّ نظمَهُ، نظَمَ "زوائدَ الكافي على مُختصرِ الخِرَقِي" بمنظومةٍ سَمَّاها "واسطةُ العِقْدِ الثمينِ وعُمدةُ الحَافظِ الأمينِ" قال في أوَّلها:
سَأَلْتَ هَدَاكَ اللهُ لَمَّا نَظَمْتُ مَا ... رَوَى الخِرَقِيُّ مِنْ مَسَائِلِ أَحْمَدِ
وَزِدْتُ عَليها أنْ أُحَبِّرَ نَاظِمًا ... مَسَائِلَ لَم يُذْكَرْنَ فيهِ لِنُشَّدِ
فَوَافَقْتَ مِني للإِجَابَةِ لِلَّذِيْ ... سَأَلْتَ قَبُولًا مِنْ أَخٍ مُتَوَدِّدِ
وَعَوّلتُ في نَظْمِي عَلى مَا أَفَادَهُ الـ ... ـمُوفَّقُ في "الكَافِي" الكِتَابِ المُسَدَّدِ
وقالَ في آخِرِهَا:
وَعِدْتُهَا ألفَانِ كُنْ خَيْرَ آلِفٍ ... لَهَا تَحْمِدِ الآثَارَ مِنْهَا وَتُحْمَدِ
تَخَيَّرْتُهَا مِما حَوَى ابنُ قُدَامَةَ الـ ... ـموفَّقُ في "الكَافِي" تَخَيُّرَ مُقْتَدِ
هُمَا لَقَبَا صِدْقٍ لَهُ وَلِجَمْعِهِ ... بِتَوفيقِهِ تُكْفَى الضَّلالَ وَتَهْتَدِيْ" (١)
وبعدُ ثانيةً:
فهذا ما قَدَّم بِهِ الشيخُ العلامةُ محمدُ بنُ عبد العزيزِ بِنِ مانعٍ الحنبليُّ -رحمهُ اللهُ تعالى- الطبعةَ الأولى من هذا الكتابِ لما "صَدَرَ الأمرُ
_________
(١) انظر: "كتاب الهادي" (طبعة العلامة ابن مانع) (ص: ٣ - ٤).
1 / 7
الكريمُ من الشيخِ المعظَّمِ عليِّ بن الشيخِ عبد الله بن قاسمِ الثاني -حاكم قَطَرَ- بطبعِ "عُمدةِ الحازمِ" على نفقتِهِ، وجَعَلهُ وقفًا على طلبةِ العلمِ" (١).
أحببتُ التصديرَ بِهِ هُنا اعترافًا بفضْلِ هذا العَلَم الهُمَامِ -العلامةِ ابن مانعٍ- الذي نذرَ نفسَهُ لخدمةِ العلمِ وأهلِهِ، والسعيِ في طبع كتبهِ، وبخاصَّةٍ ما يتعلَّقُ بمذهبِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ ﵁.
وإشادةً بجهود حاكمِ قطرَ الأسبقِ سمو الشيخِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ آل ثاني -رحمه الله تعالى- في نَشْرِ كتبِ المذهبِ الحنبليِّ وغيرِها، والتي لو لم يقُمْ بتمويلِ طَبعِها على نفقتهِ الخاصَّةِ لبقيَ الكثيرُ منها متعثّرًا لم يجد له من يطبعُهُ، فجزاهُ اللهُ خيرًا، ورحمهُ، وغفرَ لَهُ، على ما قَدَّم وأكرم (٢).
ومع أنَّ هذا الكتابَ كانَ قد طُبع سنة (١٣٨٠) إلا أني تطلبتُهُ مدةً من الزمن فلم أعثرْ عليه، وسألتُ عنه المهتمينَ من الكُتبيينَ فأكثرهُم أشارَ إلى أنه لم يُنمَ إليه خبرُه، ثم وقفتُ على نسخةٍ منه، فحرَّكتْ همتي لإعادةِ تحقيقِهِ ونشرِهِ، وذلك لأسبابٍ خمسةٍ:
_________
(١) اقتباسًا من المصدر السابق (ص: ٤).
(٢) وقد صَدَر كتابٌ خاصٌّ "يضمُّ مجموعةً أولى من الكتب النادرة والمخطوطة التي نشرها هذا العالمُ المحسنُ تزيدُ على ٩٠ كتابًا، وهو يوزعُها كلها مجانًا في سبيل الله" بعنوان "فهرس مطبوعات الشيخ علي بن عبد الله الثاني حاكم قطر السابق" بعناية وإشراف الشيخ عبد البديع صقر -رحمه الله تعالى- مدير المكتبات بقطر حينَها، وطبع سنة ١٣٨٧ هـ - ١٩٦٧ م.
1 / 8
السببُ الأولُ: أهميتُهُ، وقد ذكرَ طرفًا منها العلامةُ ابنُ مانعٍ، في مقدمتِه السابقةِ.
السببُ الثاني: نُدرةُ وجودِ المطبوعةِ بين يدي طلبةِ العلمِ.
السببُ الثالثُ: احتواءُ المطبوعِ على جملةٍ وافرةٍ من الأخطاءِ الطباعيةِ، فضلًا عن الأخطاء الأساسية الواقعةِ في أصلِ نَسْخِ المخطوط، أو قراءَتِهِ أثناءَ تحقيقِهِ.
السببُ الرابعُ: كثرةُ السِّقطِ الحاصلِ في المطبوعِ حتى بلغَ أحيانًا ربعَ صفحة كاملة، مما ستراه لاحقًا أثناءَ مروركَ على النصِّ.
السببُ الخامسُ: حصولي على نسخةٍ خطيةٍ مهمةٍ هي أصلٌ للنسخةِ الخطيةِ التي اعتمدَ عليها العلامةُ ابنُ مانعٍ في مطبوعتِهِ السابِقةِ.
* عند ذلك صحتِ العزيمةُ على تحقيقِهِ ونشرِهِ، وكانتْ خُطَّةُ العملِ فيه ما يلي:
١ - نَسخُ الكتابِ من المخطوطِ الأصلِ، ثم معارضةُ هذا المنسوخِ بالمطبوعِ (مطبوعةِ العلامةِ ابنِ مانع).
٢ - الإشارةُ إلى أهمِّ الفروقِ الموجودة بين المخطوطِ الأصلِ والمطبوعِ، وقد بلغتْ عامةُ الفروق ما يزيد عن (٥٠٠) فرق، مما يدلُّ على كثرةِ التصحيفِ والتحريِفِ الناشئِ معظمُهُ من خللٍ في الناسخِ الذي قام باستنساخِ المخطوطِ أَصلًا.
٣ - اعتمادُ النصِّ المخطوطِ أصلًا إلا في مواضعَ يسيرةٍ جدًا، كان الصوابُ فيها مع ما جاء في المطبوع، فأثبتُّهُ في صُلبِ النصِّ، وأشرتُ
1 / 9
إلى الخلاف مع المخطوط في الحاشيةِ، وذلك رغبةً في وقوفِ طالبِ العلم على نصٍّ كاملٍ صحيحٍ أثناءَ قراءَتِهِ للكتابِ أو دراستِهِ له، ومنشئُ الخطأ في المخطوط مردُّه -كما هو معروفٌ لدى الخُبَراءِ- إلى فسادِ نقلِ الناسخِ من الأصلِ الذي نقلَ عنهُ.
٤ - ضبطُ النصِّ بالشكلِ الكاملِ، حتى تَسْهُلَ على طالبِ العلم قراءتُهُ دونَ توقُّفٍ.
٥ - تخريجُ الأحاديثِ والآثارِ الواردة في النصِّ، وذلكَ بذكرِ راوي الحديثِ، وذكرِ الكتابِ والبابِ ورقم الحَديثِ، فإن كان الحديثُ في الصحيحين اقتصرتُ على العزو لهما، وإلا ففي السننِ الأربعةِ، ثم باقي الكُتبِ الحديثيةِ.
٦ - كتابةُ مقدمةٍ للكتابِ.
٧ - إدراج ترجمةٍ للمؤلفِ، بقلم الإِمام ابن رجب الحنبلي.
٨ - صناعةُ فهرسٍ خاصٍّ بالموضوعاتِ.
* أما النسخة الخطيةُ فهي من محفوظاتِ المكتبةِ المحموديةِ بالمدينةِ النبويَّةِ، وتقعُ في (١٥٥) ورقة، برقم (٦٦ فقه حنبلي)، نُسخت سنة (٨٣٨)، وهي نسخةٌ متوسطةُ الجودةِ والصِّحةِ، لكن يغفِر لها أنها الوحيدةُ بتاريخِها وقدمِها.
وقد جاء في صدر النسخة: "كتابُ الهادي على مذهبِ الإمامِ المبجَّلِ أبي عبدِ اللهِ أحمدِ بنِ محمدِ بنِ حنبلٍ الشيبانيِّ قدسَ اللهُ وجهَهُ ونوَّرَ ضريحَهُ، وأثابَهُ الجنةَ بمنِّهِ، آمين. وهو زوائدُ الهدايةِ على
1 / 10
الخِرَقِي، جمعُ شيخِ الإِسلامِ موفقِ الدينِ أبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ ابنِ قُدامَةَ المقدسيِّ ﵁".
وجاء في ختامها: " ... في أصح الروايتينِ، آخرُهُ والحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وكانَ الفراغُ من تتمةِ هذا الكتابِ المباركِ بتاريخِ ثامنِ من [كذا] شهر جُمادى الأولى، سنةَ ثمانٍ وثلاثين وثمانمئة".
* * *
هذا وأسألُ الله تعالى أن يتقبل هذا العَمل، ويجعلَه خالصًا لوجهِهِ الكريمِ، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
وَكتبه
نور الدين طالب
سوريا - دمشق - دومة
١٦ ربيع الأول ١٤٢٧ هـ
1 / 11
ترجَمَة
الإمام ابن قدامة المقدسي
بقلم
الإمام ابن رجب الحنبلي (١)
هو: عبدُ الله بنُ أحمدَ بنِ محمدَ بن قُدَامةَ بن مِقْدامِ بنِ نصرِ بنِ عبدِ اللهِ، المقدسيُّ، ثم الدِّمشقيُّ، الصَّالحيُّ، الفقيهُ، الزاهدُ، الإمامُ، شيخُ الإِسلامِ، وأحدُ الأعلامِ، موفَّقُ الدِّينِ، أبو محمدٍ.
وُلد في شعبان سنةَ إحدى وأربعين وخمس مئة، بـ: "جَمَّاعيل".
وقدم دمشق مع أهله وله عشرُ سنين، فقرأ القرآن، وحفظ "مختصر الخرقي"، واشتغل، وسمع من والده، وأبي المكارم بن هلال، وأبي المعالي بن صابر، وغيرهم.
ورحل إلى بغداد هو وابنُ خالَته الحافظُ عبد الغني سنة إحدى وستين، وسمعا الكثير من هبة الله الدَّقاق، وابن البَطِّيّ، وسعد الله
_________
(١) نقلًا مختصرًا من "الذيل على طبقات الحنابلة" للإمام ابن رجب الحنبلي (١/ ١٣٣ - ١٤٩)، وانظر مزيدًا من ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" (٢٢/ ١٦٥)، و"العبر" (٣/ ١٨٠)، و"فوات الوفيات" (٢/ ١٥٨)، و"الوافي بالوفيات" (١٧/ ٢٣)، و"البداية والنهاية" (١٣/ ٩٩)، و"المقصد الأرشد" (٢/ ١٥)، و"المنهج الأحمد" (٤/ ١٤٨)، و"شذرات الذهب" (٥/ ٨٨)، وغيرها.
1 / 13
الدجاجي، والشيخ عبد القادر، وابن تاج الفراء، وابن شافع، وأبي زرعة، ويحيى بن ثابت، والمبارك بن خضير، وأبي بكر بن النقور، وشُهد، وخلق كثير، وسمع بمكة من المبارك بن الطَّبَّاخ، وبالموصل من خطيبها أبي الفضل.
وأقام عند الشيخ عبد القادر بمدرسته مدة يسيرة، فقرأ عليه من "الخرقي"، ثم توفي الشيخ، فلازم أبا الفتح بن المنِّي، وقرأ عليه المذهب، والخلاف، والأصل، حتى برع، وأقام ببغداد نحوًا من أربع سنين، ثم رجع إلى دمشق، ثم عاد إلى بغداد سنة سبع وستين.
وذكر الناصح ابن الحنبلي: أنه حج سنة أربع وسبعين، ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها سنة، فسمع درسَ ابن المنِّي، قال: وكنت أنا قد دخلت بغداد سنة اثنتين وسبعين، واشتغلنا جميعًا على الشيخ أبي الفتح بن المنِّي، ثم رجع إلى دمشق، واشتغل بتصنيف كتاب "المغني في شرح الخرقي"، فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ في المذهب، عشر مجلدات، تعب عليه، وأجاد فيه، وجَمَّلَ به
المذهب، وقرأه عليه جماعة، وانتفع بعلمه طائفة كثيرة.
قال: ومشى على سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة، وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم.
وقال سبط ابن الجوزي: كان إمامًا في فنون، ولم يكن في زمانه بعد أخيه أبي عمر والعماد أزهدُ ولا أورعُ منه، وكان كثير الحياء، عزوفًا عن الدنيا وأهلها، هَيِّنًا، لينًا، متواضعًا، محبًا للمساكين، حسنَ الأخلاق، جوادًا، سخيًا، من رَآه كأنه رأى بعض الصحابة، وكأنما
1 / 14
النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سُبعًا من القرآن، ولا يصلي ركعتي السنة في الغالب إلا في بيته؛ اتِّباعًا للسنة، وكان يحضر مجالسي دائمًا في جامع دمشق وقاسيون.
وقال أيضًا: شاهدتُ من الشيخ أبي عمر، وأخيه الموفق، ونسيبه العماد: ما نرويه عن الصحابة والأولياء الأفراد، فأنساني حالُهم أهلي وأوطاني، ثم عدت إليهم على نية الإقامة، عسى أن أكون معهم في دار المقامة.
وقال ابن النجار: كان الشيخ موفق الدين إمام الحنابلة بالجامع، وكان ثقةً، حُجَّةً، نبيلًا، غزيرَ الفضلِ، كامل العقل، شديد التثبت، دائم السكوت، حسن السَّمت، نزهًا، ورعًا، عَابدًا، على قانون السلف، على وجهه النور، وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه، صنف التصانيف المليحة في المذهب والخلاف، وقصده التلامذة والأصحاب، وسار اسمه في البلاد، واشتهر ذكره، وكان حسن المعرفة بالحديث، وله يد في علم العربية.
وقال عُمرُ بنُ الحاجب الحافظ في "معجمه": هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل، طنت في ذكره الأمصار، وضنت بمثله الأمصار، قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية؛ فأما الحديث: فهو سابق فرسانه؛ وأما الفقه: فهو فارس ميدانه، أعرف الناس بالفتيا، وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع عند الخاصة والعامة، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار، وكان مجلسه عامرًا بالفقهاء
1 / 15
والمحدثين وأهل الخير، وصار في آخر عمره يقصده كل أحد، وكان كثير العبادة، دائم التهجد، لم يُرَ مثله، ولم يَرَ مثلِ نفسِهِ.
وقال أبو شَامة: كان شيخ الحنابلة موفق الدين إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين في العلم والعمل، صنف كتبًا حسانًا في الفقه وغيره، عارفًا بمعاني الأخبار والآثار، سمعت عليه أشياء، وكان بعد موت أخيه أبي عمر هو الذي يؤم بالجامع المظفري، ويخطب يوم الجمعة إذا حضر، فإن لم يحضر، فعبد الله بن أبي عمر هو الخطيب والإمام، وأما بمحراب الحنابلة بجامع دمشق، فيصلي فيه الموفق إذا كان حاضرًا في البلد، وإذا مضى إلى الجبل، صلى العماد أخو عبد الغني، وبعد موت العماد: كان يصلي فيه أبو سليمان بن الحافظ عبد الغني، ما لم يحضر الموفق، وكان بين العشاءين يتنفل حذاء المحراب، وجاءه مرة الملك العزيز بن العادل يزوره، فصادفه يصلي، فجلس بالقرب منه إلى أن فرغ من صلاته، ثم اجتمع به، ولم يتجوز في صلاته، وكان إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة يمضي إلى بيته بالرصيف، ومعه من فقراء الحلقة من قدره الله تعالى، فيقدم لهم ما تيسر يأكلونه معه.
ومن أظرف ما حكي عنه: أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة فيها رمل يرمل به ما يكتبه للناس من الفتاوى والإجازات وغيرها، فاتفق ليلة خطفت عمامته، فقال لخاطفها: يا أخي! خذ من العمامة الورقة المصرورة بما فيها، ورُدَّ العمامة أغطي بها رأسي، وأنت في أوسع الحل مما في الورقة، فظن الخاطف أنها فضة، ورآها ثقيلة،
1 / 16
فأخذها وَرَدَّ العمامة، وكانت صغيرة عتيقة، فرأى أخذ الورقة خيرًا منها بدرجات، فَخَلَّصَ الشيخُ عمامته بهذا الوجه اللطيف.
وبلغني من غير وجه عن الإِمام أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه قال: ما دخلَ الشامَ بعدَ الأوزاعيِّ أفقَهُ من الشيخِ الموفَّقِ.
قال الضياء: كان ﵀ إمامًا في القرآن وتفسيره، إمامًا في علم الحديث ومشكلاته، إمامًا في الفقه، بل أوحد زمانه فيه، إمامًا في علم الخلاف، أوحد زمانه في الفرائض، إمامًا في أصول الفقه، إمامًا في النحو، إمامًا في الحساب، إمامًا في النجوم السيارة والمنازل.
قال: ولما قدم بغداد، قال له الشيخ أبو الفتح بن المنِّي: اسكن هنا؛ فإن بغداد مفتقرة إليك، وأنت تخرج من بغداد ولا تخلف فيها مثلك، وكان شيخنا العماد يعظم الشيخ الموفق تعظيمًا كثيرًا، ويدعو له، ويقعد بين يديه كما يقعد المتعلم من العالم.
وسمعت الإِمام المفتي شيخنا أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة ببغداد يقول: ما أعرف أحدًا في زماني أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق.
وسمعت أبا عمرو بن الصلاح المفتي يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق.
وقال الشيخ عبد الله اليونيني: ما أعتقد أن شخصًا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه؛ فإنه ﵀ كان كاملًا في صورته ومعناه؛ من الحسن، والإحسان، والحلم، والسؤدد، والعلوم المختلفة،
1 / 17
والأخلاق الجميلة، والأمور التي ما رأيتها، كملت في غيره، وقد رأيت من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، ووفور حلمه، وكثرة علمه، وغزير فطنته، وكمال مروءته، وكثرة حيائه، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب وأربابها: ما قد عجز عنه كبار الأولياء؛ فإن رسول الله ﷺ قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره"؛ فقد ثبت بهذا أن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى نفعه إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنة، وأعظم من ذلك وأحسن: ما كان جِبلَّةً وطبعًا؛ كالحلم، والكرم، والعقل، والحياء، وكان الله قد جبلهَ على خُلُقٍ شريفٍ، وأفرغ عليه المكارم إفراغًا، وأسبغ عليه النعم، ولطف به في كل حال.
قال: وكان لا يناظر أحدًا إلا وهو يتبسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيح يقتل خصمه بتبسمه.
قال: وأقام مدة يعمل حلقة يوم الجمعة بجامع دمشق، يناظر فيها بعد الصلاة، ثم ترك ذلك في آخر عمره، وكان يشتغل عليه الناس من بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم يقرأ عليه بعد الظهر، إما من الحديث، أو من تصانيفه إلى المغرب، وربما قرأ عليه بعد المغرب وهو يتعشى، وكان لا يُرِي لأحدٍ ضَجَرًا، وربما تضرر في نفسه، ولا يقول لأحد شيئًا.
• ذكر شيء من كراماته:
قال سبط ابن الجوزي: حكى أبو عبد الله بن فضل الأعتاكي قال: قلت في نفسي: لو كان لي قدرة، لبنيت للموفق مدرسة، وأعطيته كل يوم ألف درهم، قال: فجئت بعد أيام، فسلمت عليه، فنظر إليَّ
1 / 18
وتبسم، وقال: إذا نوى الشخصُ نية، كُتبَ له أجرُها.
وحكى أبو الحسن بن حمدان الجرائحي قال: كنت أبغض الحنابلة؛ لما شُنِّعَ عليهم من سوء الاعتقاد، فمرضت مرضًا شنج أعضائي، وأقمت سبعة عشر يوما لا أتحرك، وتمنيتُ الموت، فلما كان وقت العشاء، جاءني الموفق، وقرأ علي آيات، وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢]، ومسح على ظهري، فاحسست بالعافية، وقام، فقلت: يا جارية! افتحي له الباب، فقال: أنا أروح من حيث جئت، وغاب عن عيني، فقمتُ من ساعتي على بيت الوضوء، فلما أصبحتُ، دخلت الجامع، فصليت الفجر خلف الموفق، وصافحته، فعصر يدي وقال: احذر أن تقول شيئًا، فقلت: أقول وأقول.
وقال قوام جامع دمشق: كان ليلة يبيت في الجامع، فتفتح له الأبواب، فيخرج ويعود، فتغلق على حالها.
وحدث العفيف كتائب بن أحمد بن مهدي البانياسي بعد موت الشيخ الموفق بأيام قال: رأيت الشيخ الموفق على حافة النهر يتوضأ، فلما توضأ أخذ قبقابه، ومشى على الماء إلى الجانب الآخر، ثم لبس القبقاب وصعد إلى المدرسة -يعني: مدرسة أخيه أبي عمر-، ثم حلف كتائب بالله لقد رأيته، وما لي في الكذب حاجة، وكتمت ذلك في حياته، فقيل له: هل رآك؟ قال: لا، ولم يكن ثَمَّ أحد، وذلك وقت الظهر. فقيل له: هل كانت رجلاه تغوص في الماء؟ قال: لا، إلا كأنه يمشي على وطاءٍ ﵀.
1 / 19
وقرأت بخط الحافظ الذهبي: سمعت رفيقنا أبا طاهر أحمد الدربي، سمعت الشيخ إبراهيم بن أحمد بن حاتم -وزرت معه قبر الشيخ الموفق-، فقال: سمعت الفقيه محمدًا اليونيني شيخنا يقول: رأيت الشيخ الموفق يمشي على الماء.
• ذكر تصانيفه:
صنف الشيخ الموفق ﵀ التصانيف الكثيرة الحسنة في المذهب، فروعًا وأصولًا، وفي الحديث، واللغة، والزهد، والرقائق.
وتصانيفه في أصول الدين في غاية الحسن، أكثرها على طريقة أئمة المحدِّثين، مشحونة بالأحاديث والآثار، وبالأسانيد، كما هي طريقة الإِمام أحمد وأئمة الحديث، ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام، ولو كان بالرد عليهم، وهذه طريقة الإمام أحمد والمتقدمين، وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات، من غير تفسير ولا تكييف، ولا تمثيل ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل.
* فمن تصانيفه في أصول الدين:
١ - "البرهان في مسألة القرآن" جزء.
٢ - "جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن" جزء.
٣ - "الاعتقاد" جزء.
1 / 20
٤ - "مسألة العلو" جزآن.
٥ - "ذم التأويل" جزء.
٦ - "كتاب القدر" جزآن.
٧ - "فضائل الصحابة" جزآن، وأظنه:
٨ - "منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين".
٩ - "رسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في تخليد أهل البدع في النار".
١٠ - "مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكلام".
* من تصانيفه في الحديث:
١ - "مختصر العلل" للخلال، مجلد ضخم.
٢ - "مشيخة شيوخه" جزء، وأجزاء كثيرة خرجها.
* ومن تصانيفه في الفقه:
١ - "المغني في الفقه" عشر مجلدات.
٢ - "الكافي في الفقه" أربع مجلدات.
٣ - "المقنع في الفقه" مجلد.
٤ - "مختصر الهداية" مجلد.
٥ - "العمدة" مجلد صغير.
٦ - "مناسك الحج" جزء.
٧ - "ذم الوسواس" جزء.
1 / 21