«الأسباب» و«النتائج» معجز بدقته، رائع بانضباطه: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور)؟ .
إنما كانوا على «التوازن» الذي علمهم إياه الإسلام.. أما «عقلانية» النهضة وما بعدها فقد خرجت على الناس بأمور، غير معقولة «على الإطلاق.. من نفي لوجود الله تارة، ومن إثبات له تارة أخرى مع نفي قدرته على التصرف، ومن جعل السبب الظاهر بديلًا من السبب الحقيقي، ومن جعل ثبوت الأسباب الظاهرة حتميات (١) تفرض نفسها على مشيئة الله!.
ودار الزمن دورة أخرى فانتقلت أوربا – فيما يقال – من سيادة العقل إلى سيادة الطبيعة، حين كشف العلم مزيدًا من أسرار الكون واقتنع «المفكرون» أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو «الطبيعة» لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار. فليس مصدر المعرفة إذًا هو الوحي الرباني –وقد نبذوه وراءهم ظهريًا سواء منه ما كان حقيقيًا بلا تحريف، وما اخترعته الكنيسة من عندها، وقالت إنه من وحي الله – ولا هو العقل، الذي لا ينشئ – ولا ينبغي له أن ينشئ – شيئًا من عنده، إنما هو الطبيعة: هو عالم الحس.. هو الحقيقة الموضوعية..
يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة: «ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة – في نظرها – هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة. هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان –لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة، أي لا يملى عليه مما وراءها، كما يملى عليه من ذاته الخاصة، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست (هي) حقيقة أيضًا! .
_________
(١) ثاب العلم أخيرًا إلى أنه لا توجد «حتميات» فيما سموه «قوانين الطبيعة» إنما هي «احتمالات» .
2 / 18