ضوابط التكفير في ضوء السنة النبوية
الناشر
دار الحضارة للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
تصانيف
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن المتأمل لكثير من القضايا التي تشهدها ساحتنا الإسلامية سواء على المستوى العقدي أو التشريعي أو الفكري أو النفسي أو الاجتماعي يقف على حاجة المسلم الماسة إلى تأصيل شرعي لموقف المسلم منها في ضوء القرآن وصحيح السنة، ومن القضايا التي برزت على الساحة الإسلامية قضية (التكفير)، وقد كثر الخوض فيه قديما وحديثا، وهو مضلة أفهام ومزلة أقدام، قد يفضي إلى التناحر والشقاق واستحلال الحرام باسم الدين. وقد انقسم الناس فيه إلى طرفين ووسط؛ طرف يعتقد أن التكفير شرط فيه الاستحلال أو الجحود فمن أتي بأي معصية ما لم يستحلها لا يكفر حتى وإن كانت هذه المعصية كفرا منصوصا عليه، وقد يحكمون على الأعمال الكفرية بأنها غير مكفرة وأنها من المعاصي التي هي دون الكفر، وقابلهم في تطرفهم طائفة أخرى تكفر بالشبهات وتتصيد
1 / 5
الزلات والعثرات، وينصب أحدهم نفسه بلا أهلية معتبرة شرعا قاضيا يحكم على من يشاء بما شاء، فيكفر ويخرج من أراد من حظيرة الإسلام، غير مكترث لخطورة هذا الأمر عليه وعلى المجتمع وعلى وحدة الصف الإسلامي، والحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، كوسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق المائلة يمينا أو يسارا عن الصراط، ولهذا لم يترك السلف (تكفير المسلمين) مع خطورته حمى مستباحا لكل أحد، بل درسوه وأصلوه وضبطوه، وقد جاء هذا البحث (ضوابط التكفير في ضوء السنة النبوية) إسهاما في تناول هذه القضية تناولا تأصيليا من خلال حديث رسول الله ﷺ، أضف إلى الآتي:
١. إن فتنة التكفير التي مزقت جسد الأمة الإسلامية هي أول البدع والفتن ظهورا في الإسلام، وهي منبع لكثير من الانحرافات العقائدية والسلوكية والخلقية والنفسية التي عانت منها الأمة المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: " أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي ﷺ في وجهه: اعدل يا محمد
1 / 6
فإنك لم تعدل (^١)، وأمر النبي ﷺ بقتلهم وقتالهم وقاتلهم أصحاب النبي ﷺ مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
والأحاديث عن النبي ﷺ مستفيضةٌ بوصفهم وذمهم» (^٢).
٢. خطورة التكفير سواء على من يلقي هذا الحكم بلا أهلية معتبرة شرعا، أو على المجتمع حين تستباح الحرمات وتسفك الدماء باسم الدين.
٣. التأصيل الشرعي لقضية التكفير وتنقيتها من غلو الخوارج وتفريط المرجئة.
٤. ضبط التكفير بالضوابط الشرعية التي جاءت في كتاب الله وصحيح سنة رسول الله ﷺ.
٥. تسلل هذه الفتة إلى مجتمعنا بفئاته وشرائحه المختلفة يحتم علينا أن نسهم في تحصين المجتمع منها من خلال التأصيل الشرعي والفهم الصحيح المسألة التكفير.
٦. حصر ضوابط التكفير من خلال استقراء نصوص الكتاب
_________
(^١) أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة (١/ ٦١) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (١/ ٢٤٤). وأخرجه البخاري كتاب استتابة المرتدين/ باب من ترك قتال الخوارج للتألف (٦/ ٢٤٥٠) ٦٥٣٤، ومسلم كتاب الزكاة (٣/ ٩٣) ٢٤٩٦.
(^٢) الفتاوى (١٩/ ٧١).
1 / 7
والسنة يشكل حصانة فكرية للمجتمع من فتنة
التكفير
٧. خدمة موضوعات الاعتقاد حديثيا.
هذا وقد قسمت البحث إلى تمهيد ومبحثين وخاتمة.
التمهيد، ويشتمل على تعريف الكفر لغة واصطلاحا، والإشارة إلى خطورة التكفير
المبحث الأول: ضوابط عامة في التكفير في ضوء السنة النبوية:
١. التكفير حكم شرعي، وحق لرب العالمين.
٢. أهلية المكفِّر.
٣. الحكم بالظاهر.
٤. التفريق بين التكفير المطلق، وتكفير المعين.
المبحث الثاني: ضوابط تكفير المعين في ضوء السنة النبوية
(الشروط والموانع).
١. العلم شرط ومانعه الجهل.
٢. القصد شرط ومانعه الخطأ.
٣. الإرادة شرط ومانعها الإكراه.
٤. عدم التأويل شرط ومانعه التأويل.
1 / 8
التمهيد
الكفر في لغة العرب، الستر والتغطية، وسموا الزراع كفارا، لسترهم البذور بالتراب، ومنه قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد: ٢٠]، وسمي الكافر كافرا لأن الكفر غطى قلبه كله، أو لأنه ستر نعم الله عليه. ويأتي الكفر بمعنى الجحود، يقال: كافرني فلان حقي، إذا جحده، ورجل كافر: جاحد لنعم الله، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ [القصص: ٤٨] أي: جاحدون.
وأما الكفر في الاصطلاح، فنقيض الإيمان بالله، وهو نوعان:
كفر أكبر مخرج من الملة: وهو كل كفر أخرج صاحبه من دائرة الإيمان، وقضت النصوص الشرعية بأن صاحبه خالد مخلد في النار، وهو المقصود من البحث، وله ستة أنواع:
تكذيب، وجحود، وعناد، وإعراض، ونفاق، وشك.
وكفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو كل ما أطلق عليه الشارع كلمة الكفر، وقامت الأدلة على أنه لم يرد الكفر الأكبر المخرج من الملة، وإنما أراد الشارع التهديد والزجر.
والتكفير رمي المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا
1 / 9
رسول الله بالكفر بالله ورسوله، وإخراجه من نور الإيمان والهدى إلى ظلمة الكفر والجهل، ومن سبيل الله إلى سبل الشيطان، وإخراجه من جماعة المسلمين، وانتفاء ولايته على ذريته، وتحريم زوجته عليه، وسقوط إرثه، وعدم حل ذبيحته، وعدم جواز تغسيله، والصلاة عليه إذا مات، وأنه لا يدفن في مقابر المسلمين، وعدم جواز الاستغفار له، وما إلى ذلك من أحكام امتلأت بها كتب الفقه والعقائد، ولذا وقف الإسلام منه موقفا شديدا محذرا من عاقبة إطلاقه، وخطورة التساهل مع المتولين كبره. يقول شيخ الإسلام: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم (^١). والخوارج المارقون الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي ابن
_________
(^١) أخرجه مسلم كتاب الإيمان (١/ ٨٠، ٨١) ٣٤٤، ٣٤٥.
1 / 10
أبي طالب وسعد بن أبي وقاصٍ وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفارٌ، ولهذا لم يسب حريمهم ولم غنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟» (^١). وقد كثر الكلام حول التكفير، ولحظ المسارعة فيه، والجرأة عليه، مع أن الخوض فيه دحض مزلة، خصوصا ونحن نرى بعض صغار السن، زادهم من العلم: قيل وقال: ولا يظهر عليهم أثر علم ولا التزام سنة؛ يخوضون في مثل هذه المسائل التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!. (^٢) وقد جاء هذا البحث متناولا ضوابط التكفير في ضوء السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، مبينا أنه لا ينبغي الخوض في التكفير من قبل أن يقف المؤمن على أصوله، ويتحقق من شروطه وموانعه، وإلا أورد نفسه المهالك، وباء بغضب من الله.
_________
(^١) مجموع الفتاوى (٣/ ٢٨٢).
(^٢) حتى لا تبوء بها الشيخ السحيم بتصرف.
1 / 11
المبحث الأول ضوابط عامة في التكفير في ضوء السنة النبوي
الضابط الأول التكفير حكم شرعي، وحق لله رب العالمين
(التكفير حكم شرعي، وحق محض للرب ﷾، لا تملكه هيئة من الهيئات، أو جماعة من الجماعات، ولا اعتبار فيه لذوق أو عقل، ولا دخل فيه لحماسة طاغية، أو عداوة ظاهرة، ولا يحمل عليه ظلم ظالم تمادى في ظلمه وغيه، وإنما لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله) (^١).
يقول شيخ الإسلام: "وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس، كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه، يقولون: لا يكفر إلا من يكفر. فإن التكفير ليس حقا لهم، بل هو حق الله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل لو استكرهه رجل على اللواطة، لم يكن له أن يستكرهه على ذلك،
_________
(^١) التكفير في ضوء السنة النبوية لباسم الجوابرة (٥٨).
1 / 12
ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى نبينا، لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا». (^١)
الضابط الثاني أهلية المكفر
التكفير حكم شرعي، ومسألة كبرى لا يتصدى لها إلا الأئمة الكبار وأهل العلم الذين أمر الله بسؤالهم والرد إليهم، حين قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] وهذا الضابط سيتناول المؤهل لإصدار حكم التكفير.
أ. تعريف الأهلية:
يقال: أهلٌ لكذا: أي مستوجب له؛ الواحد والجمع في ذلك سواء.
ويقال: هو أهل ذاك، وأهل لذاك، ويقال: هو أهلة ذلك، وأهله لذلك الأمر تأهيلا، وأهله: رآه له أهلا، واستأهله: استوجبه (^٢).
ب. شروط المكفر:
لابد أن يكون المكفر عالما مجتهدا، لأن التكفير يقوم على أدلة شرعية إما قرآنية معلومة الثبوت أو حديثية لا يستطيع القطع بثبوتها
_________
(^١) منهاج السنة النبوية (٥/ ٢٤٤)
(^٢) لسان العرب: مادة (أهل).
1 / 13
ولا يمتلك أدوات فهمها فهما سليما إلا العلماء، وأما العوام فالواجب عليهم الرجوع إليهم في هذه المسائل وغيرها من مسائل العقائد والأحكام، يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، ويقول رسول الله ﵌ «… إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» (^١).
وأهل الأهواء من قديم الزمان يسلكون مسلكا مريبا في طعنهم العلماء، ويسقطون هيبتهم من النفوس حتى لا يرجع إليهم، كما سبق أن أسقطوا هيبة الأمراء، وقد قال ابن المبارك: «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته» (^٢).
_________
(^١) أخرجه أحمد في مسنده (١١/ ٣٠٤) قال شعيب الأرنؤوط: صحيح. والطبراني في الأوسط (١/ ١٦٥).
(^٢) رواه ابن المبارك في الزهد برقم (٦١) وأبو عمرو الداني في الفتن (٢/ ٦٢) وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٦٩٥) وانظر: التكفير في ضوء السنة لباسم الجوابرة (٩٢).
1 / 14
ت. النصوص الواردة في أهلية المكفر:
أمر الله بسؤال أهل الذكر ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، قال الشيخ السعدي: (وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر، وهم: أهل العلم؛ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمه) (^١)
٢. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩] قال الشيخ السعدي: «أمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية». (^٢)
_________
(^١) تفسير السعدي (ص ٣٢٢).
(^٢) تفسير السعدي (ص ١٨٣)
1 / 15
٣. ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] قال الشيخ السعدي:
«هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها». (^١)
٤. روى الإمام مسلم عن جندب أن رسول الله ﷺ حدث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: "من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك». (^٢)
ربما نتعاظم جميعا ما قاله ذلك الرجل ونتساءل: من يستطيع أن يقول كما قال ذلك الرجل؟ ومن يستطيع أن يحجر واسعا؟ أو يحكم على مسلم بالخلود في النار؟
أقول: من يحمل راية التكفير الواسعة يستطيع أن يقول ذلك، بل
_________
(^١) تفسير السعدي (ص ١٩٠).
(^٢) (ص ١٠٥٣) ٢٦٢١ كتاب البر والصلة والآداب.
1 / 16
لا بد أن يقول ذلك؟ ومن يجرؤ على التكفير أو يتساهل في أمره فهو واقع في ذلك لا محالة: وكيف ذلك؟ وإذا حكم على معين بأنه كافر فقد حكم بأن الله لا يغفر له، وقد قال بلسان حاله إن لم يكن بلسان مقاله: والله لا يغفر الله لفلان. وهذا أمر بالغ الخطورة!! (^١)
ث. أقسام المكفرين:
القسم الأول: أن يكون المكفر من صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل:
فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة؟، فإن عمر؟ وصفه بالنفاق واستأذن رسول الله ﷺ في قتله، فقال له رسول الله ﷺ: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» (^٢)، ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق.
القسم الثاني: المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة رسوله، وقد رأى كفرا بواحا،
_________
(^١) (حتى لا تبوء بها) الشيخ السحيم.
(^٢) أخرجه البخاري كتاب استتابة المرتدين/ باب ما جاء في المتأولين (٦/ ٢٤٥٢) ٦٥٤٠، ومسلم كتاب فضائل الصحابة (٧/ ١٦٧)، ٢٤٩٤.
1 / 17
كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحود الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك:
فالمكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [النحل: ٣٦] فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبًا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه، والتكفير بترك هذه الأصول، وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم.
القسم الثالث: من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة، أو هوى، أو المخالفة في المذهب، كما يقع لكثير من الجهال: فهذا من الخطأ البين، والتجاسر على التكفير، والتفسيق، والتضليل، لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده فيه من الله برهان.
والمخالفة في المسائل الاجتهادية، التي قد يخفي الحكم فيها
1 / 18
على كثير من الناس، لا تقتضي كفرا ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والواجب على كل أحد، أن يتقي الله ما استطاع، وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم، لا يجب على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب، بل غايته أن يسوغ عند الحاجة، وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ، وقيام الحجة، ولا يحل لأحد أن يكفر، أو يفسق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب.
القسم الرابع: الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر:
وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة أهل ضلال وبدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله ﷺ؛ لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم، والترغيب فيه، وفيه: «أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم». (^١)
الضابط الثالث الحكم بالظاهر
اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على قاعدة (من ثبت إسلامه فلا يزول بشك)؛ فكانوا أعظم الناس ورعا؛ لأن تكفير المسلم مسألة
_________
(^١) الإتحاف في الرد على الصحاف [ص ٢٧].
1 / 19
خطيرة، يجب عدم الخوض فيها دون دليل وبرهان، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلا، فباب التكفير باب خطير، وقد حذر النبي ﷺ أن يكفر أحدٌ أحدا دون برهان.
والأصل في المسلم السلامة من الفسق والكفر، فإذا تقرر هذا الأصل صار هو القدر المتيقن، و… (اليقين لا يزول بالشك) ولا يعدل عن هذا اليقين أو الأصل إلا بدليل صريح صحيح، أما الظن والتخمين فليس هذا مجاله أبدا. وإذا كانت هذه القاعدة تقرر أنه لا يجوز الحكم بنقض وضوء المسلم إلا بدليل، فكيف الحال عند الحكم بنقض إسلامه بالكلية؟!. (^١)
ويتفرع عن هذا الأصل حرمة دم المسلم وعرضه وماله، ودليله حديث رسول الله ﷺ في خطبته يوم النحر في حجة الوداع أخرجه البخاري (^٢) ومسلم (^٣) في صحيحيهما: (.. فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فليبلغ الشاهد الغائب). (^٤)
_________
(^١) قواعد الأحكام (٢/ ٢٦)
(^٢) كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (٤/ ٣٣٥) ١٧٤١.
(^٣) كتاب القسامة والمحاربين (٣/ ٢٣٠٥) ١٦٧٩.
(^٤) [وقفات تأصيلية] (التكفير بين العلم والجهل) د. فهد بن سعد الزايدي الجهني.
1 / 20
وقبل الكلام على أدلة الحكم بالظاهر لابد أن نتعرف على معنى الظاهرة:
أ. تعريف الظاهرة
ظهر يظهر ظهورا فهو ظاهر، والظاهر خلاف الباطن. (^١)
ب. الحكم بالظاهر وأدلة ذلك (^٢):
هذه من المسائل العظيمة في مذهب أهل السنة في الحكم على الناس، فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوي لا يملكون عليها بينات، وهذه من رحمة الله وتيسيره على عباده ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون، وكل ما سبق المقصود به الحكم الدنيوي على الشخص بالإسلام أو الكفر، أما الحكم على الحقيقة فلا سبيل إليه، يقول الإمام الشاطبي الله ﵀ مبينا أهمية هذا الأصل وخطورة إهماله: (إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين
_________
(^١) لسان العرب: مادة (ظهر).
(^٢) مستفاد من نواقض الإيمان الاعتقادية د. محمد الوهيبي (١/ ٢٠١)
1 / 21
وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه. لا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: (خوفا من أن يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه) (^١) فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ريما شوش الخواطر وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (^٢)، ولم يستثن من ذلك أحدا حتى أن رسول الله ﷺ احتاج في ذلك إلى البينة، فقال من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت (^٣) فجعلها
_________
(^١) جزء من حديث، رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ﴿؟؟؟؟ …﴾ الآية .. الفتح (٨/ ٦٤٨) ٤٦٢٢.
(^٢) أخرجه البخاري ٨/ ٣٩٨ في تفسير سورة الأحزاب.
(^٣) أما خزيمة فهو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعده، أبو عمار الأنصاري المدني، ذو الشهادتين شهد أحدا وما بعدها. استشهد مع علي ﵁ يوم صفين، صحابي جليل وله أحاديث، انظر لترجمته: طبقات ابن سعد ٤/ ٣٧٨، أسد الغابة ٢/ ١٣٣. والإصابة ٣/ ٩٣٠.
1 / 22
الله شهادتين (^١) فما ظنك بأحاد الأمة، فلو ادعي أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية) (^٢)
واستند أهل السنة في تقريرهم لهذا الأصل العظيم إلى أدلة كثيرة منها:
١. قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [النساء: ٩٤]
_________
(^١) والقصة في هذا: أن النبي ﷺ ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي ﷺ ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله ﷺ المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي ﷺ ابتاعه فنادى الأعرابي رسول ﷺ فقال إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي ﷺ حين سمع نداء الأعرابي فقال «أوليس قد ابتعته منك «فقال الأعرابي لا والله ما بعتكه فقال النبي ﷺ «بلى قد ابتعته منك «فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي ﷺ على خزيمة فقال «بم تشهد؟ «فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي ﷺ شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه أبو داود (٢/ ٣٣١)، والنسائي (٧/ ٣٠١)، وأحمد (٥/ ٢١٥). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣٦٠٧.
(^٢) الموافقات للشاطبي ٢/ ٢٧١، ٢٧٢.
1 / 23
قال الشوكاني قال: (والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمنا فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمنا والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذا وتقية) (^١).
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ﵀ (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى، إلى أن يقول: (وإن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك) (^٢)
٢. واستدلوا بقوله ﷺ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام،
_________
(^١) فتح القدير ١/ ٥٠١.
(^٢) كشف الشبهات ٤٩.
1 / 24