ناقشنا حتى هذه اللحظة عددا من القضايا الفلسفية التي نشأت من الموقف الإشكالي الناتج عن الكوبرنيكية. وقف كوبرنيكوس على عتبة العلم الحديث، وفتح التحول الكوبرنيكي الأبواب أمام الثورة الكوبرنيكية. فهل يمكن أن تخبرنا الكوبرنيكية شيئا عن العملية التي تحدث وفقها الثورات العلمية؟ (7) كوبرنيكوس والثورات العلمية
يتمثل أحد مقاييس عمق أي نظرية فيزيائية في المدى الذي تطرح به تحديات جدية أمام جوانب في نظرتنا للعالم كانت تبدو فيما سبق غير قابلة للتغير. (جرين، «الكون الأنيق» (2000)، 386)
أشرنا إلى أن كوبرنيكوس أوجد تغييرا في المنظور؛ إذ استهل كوبرنيكوس التحول الكوبرنيكي. وعلى الرغم من أن نظامه كان يتضمن العديد من المزايا، فإنه لم يرق إلى مستوى الثورة العلمية؛ فمن ناحية، يتمسك كوبرنيكوس كثيرا بأسلافه الإغريق وأساليبهم الهندسية، كما يتبنى وجهة نظر حركية بحتة، ولم يضف أي بيانات رصدية جديدة مهمة إلى المشاهدات المتوفرة؛ ومن ناحية أخرى، يترك تكافؤ الفرضيات كما هو، كما يرى أنه من المقبول استخدام عدد من الأدوات الهندسية على نحو متبادل، دون أن يتساءل عن أيها أكثر توافقا مع الآلية الفيزيائية لحركة الكواكب، ولكن نموذجه يتوافق على نحو أفضل مع البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي، ويتمتع في هذا الصدد بصلاحية تجريبية أكبر، ومع ذلك، بنيته الجبرية ناقصة، ولهذا السبب فشل النموذج الكوبرنيكي في الوصول إلى الصلاحية النظرية التامة.
إذا كان التحول الكوبرنيكي خطوة أولى في اتجاه الثورة العلمية، فما المعايير المتاحة للحكم على حدث علمي بأنه ثورة علمية؟ اقترحت عدة نماذج للثورات العلمية: (أ) «نموذج كون الإرشادي للثورات»: وفقا لتوماس كون، يتكون تاريخ العلم من سلسلة من الفترات «العادية» و«غير العادية» (كون 1970،هوينينجن هونا 1993). تتميز الفترة العادية من العلم بوجود نموذج مهيمن. ويكون هذا النموذج مقبولا كإطار صالح للأبحاث الجارية. وخلال فترات العلم العادية، ينخرط العلماء في حل المشكلات. وتحدد المشكلات والحلول المقبولة من خلال النموذج السائد. ومن الأمثلة النمطية للنماذج علم الفلك شمسي المركز، والميكانيكا النيوتونية، والبيولوجيا التطورية الداروينية. خلال فترات العلم العادية، يقبل ممارسو المجال العلمي افتراضات النموذج الأساسية. ويتضمن عملهم صقل القوة التمثيلية والقدرة التفسيرية للنموذج. قبل كبلر وجاليليو ونيوتن فرضية مركزية الشمس. وقبل نيوتن قوانين كبلر؛ لأن جاليليو اختار أن يتجاهلها. غير أن مشاهدات جاليليو قدمت مساهمات كبيرة لنظرية مركزية الشمس. صقل كل منهم النموذج وحسنه بطريقته، ومع ذلك، فإن أي فترة علم عادية تواجه أزمة في نهاية المطاف، ثم تحل فترة علم غير عادية. يمكن أن تحدث أزمة العلم لعدد من الأسباب. فوفقا لكون، غالبا ما ترتبط بفشل النموذج في التعامل مع جميع الظواهر في مجاله. تحدث أزمة بسبب أن النموذج يواجه «شذوذا» كبيرا. حالة الشذوذ ليست مجرد فشل في التنبؤ أو وجود تناقض بين النظرية والمشاهدات؛ فهذه التناقضات لا يمكن تجنبها؛ فأجهزة الرصد ليست مثالية، والنظرية دائما ما تقوم بعدد من عمليات الفصل وإضفاء المثالية. تحدث حالة الشذوذ عندما يوجد خلاف مستمر بين النظرية وتوقعاتها. تنشأ حالة الشذوذ عندما تدعي النظرية أن العالم يسير بطريقة ما وتخبرنا المشاهدات أنه يسير في اتجاه آخر. واجهت نظرية الدوائر المتراكزة الإغريقية سريعا حالة شذوذ. أشارت النظرية ضمنيا إلى أن الكواكب تكون دائما على مسافة ثابتة من الأرض، بينما أخبرت المشاهدات الإغريق بخلاف ذلك؛ فقد كانت المسافة بين الكواكب والأرض تتغير. وتمنع نظرية مركزية الأرض ظهور المذنبات بعد المجال القمري. وأصر عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت على أنه لا يمكن لكوكب المشتري أن يمتلك أي أقمار. رغم أن مشاهدات براهي وجاليليو أخبرتهما بخلاف ذلك. واجهت هذه النظريات حالات شذوذ. لم تتمكن هذه النظريات من استيعاب المشاهدات التي كانت تقع على نحو واضح ضمن مجالاتها. وعندما تحدث مثل هذه الأحداث، يقع النموذج الذي كان مهيمنا في أزمة، ويحاول ممارسو العلم حل المشكلة بعدد من الطرق. إذا نجحوا في ذلك، فقد يستمر النموذج في هيمنته، ولكن إذا فشلوا، يدخل المجال العلمي «فترة ثورية». وخلال الفترة الثورية - كما يشير كون - يفكك النموذج القديم ويحل محله نموذج آخر جديد؛ فالثورة العلمية هي عملية استبدال للنموذج.
والنموذج هو مخطط مفاهيمي يكون وسيطا للتفاعل بين العالم والعالم؛ فهو يسهل إضفاء البنيات الرمزية على العالم التجريبي. وفضل كون لاحقا الحديث عن «مصفوفة نظامية»؛ وهي مجموعة مرتبة من العناصر. وتضم المصفوفة عددا من العناصر المفاهيمية؛ منها تعميمات رمزية مثل القوانين الأساسية، ومسائل نموذجية يستطيع الطلاب من خلال حلولها ممارسة تقنيات المجال، وقيم علمية مثل الاتساق والترابط وقابلية الاختبار والتوحيد، وقناعات ميتافيزيقية مثل الإيمان بأن الكون منظم، ووجود واقع خارجي مستقل وقوانين حتمية. أعاد كون تسمية نموذج العلم باسم «مصفوفة المجال» للإشارة إلى أن البنى المفاهيمية تشكل شبكة متسقة. ثمة سمة مميزة لنموذج كون الإرشادي للثورات العلمية هي أن العلماء يعتبرون ملتزمين على نحو أساسي بنماذجهم؛ فالنموذج يمنحهم موطئ قدم يمكنهم من دراسة العالم الطبيعي بطريقة منهجية. وفقا لكون، يبدأ العلماء في رؤية العالم في سياق النموذج الحاكم. وكأن العالم يرتدي نظارات - نظارات نيوتونية أو نظارات داروينية - يستطيع من خلالها فقط رؤية العالم. ووفقا لكون، لا يستطيع العلماء سوى تبني نموذج واحد فقط في ذات الوقت. وإذا كانت هذه هي الحال، فإن النماذج التي تفسر مواقف إشكالية مختلفة تماما تجعل العلماء يرون العالم على نحو مختلف تماما. فيجدون صعوبة في التحدث بعضهم مع بعض، لأنهم يعيشون في «عوالم مختلفة»؛ فالأرسطيان في مسرحية بريشت كانا يعتنقان نظرية مركزية الأرض ويسكنان عالما مركزي الأرض. ومن المنطقي بالنسبة لهما أن يرفضا النظر عبر التليسكوب؛ لأن أقمار كوكب المشتري «لا يمكن أن تكون موجودة». وعلى النقيض من ذلك، كان جاليليو يؤمن بمركزية الشمس، وكان يعيش في عالم شمسي المركز. ولم يغير لجوءه للأدلة الرصدية رأي عالم الرياضيات والفيلسوف؛ فقد كان يتحدث من منصة نموذج لا يستطيعان فهم لغته؛ فلا مجال هنا للخطاب النقدي.
إذا كان هذا السيناريو يصف تاريخ العلم على نحو صحيح، فإن كون يواجه مسألة كيف يصير التغيير العلمي ممكنا من الأساس. إذ يبدو أن كلا طرفي النزاع مقتنع تماما بصحة نموذجه. يستخدم كون مصطلح «اللاقياسية» لوصف حالة الجمود هذه. يشير هذا المصطلح إلى أنه ليس من الممكن تحويل كل عنصر من نموذج ما إلى عنصر في النموذج المنافس له. من الممكن مقارنة النموذجين على مستوى عام، ولكن ليس من الممكن مقارنة كل عنصر مفاهيمي في أحد النموذجين مع عنصر مفاهيمي في النموذج الآخر (انظر أندرسن/باركر/تشن 2006، الفصل الخامس). ربما نتساءل عن سبب اعتبار ذلك أمرا جللا أو يمثل حتى مشكلة. فإذا لم يوجد ما يكافئ «فلك التدوير» في نموذج كبلر، فإن هذا يبدو مكسبا وليس خسارة، ومع ذلك، يرى كون أن سمة اللاقياسية في النماذج سمة مهمة في تاريخ العلم؛ لذلك كان عليه أن يشرح كيفية تغير النماذج إذا كان العلماء يرتبطون بها كرؤى كونية. تتمثل إجابة كون في أن بذور التغيير الثوري موجودة في كل نموذج؛ فكل نموذج يواجه في النهاية حالة شذوذ. وعدم التوافق المستمر بين النظرية والبيانات التجريبية هو ما يدفع النموذج إلى حالة الأزمة.
وفي النهاية يظهر نموذج جديد. ومع النموذج الجديد، تبدأ مرحلة جديدة من العلم الطبيعي. ويكون معظم ممارسي العلم في هذه الفترة متفقين على نحو أساسي مع فرضيات النموذج الجديد. وهو يفرض مرة أخرى رؤية على العالم تختلف على نحو ملحوظ عن الرؤية السابقة. «فما كان بطا في عالم العالم قبل الثورة أصبح الآن أرانب بعدها» (كون 1970، 111). وفقا لكون، النقلة النوعية من نموذج ما إلى آخر لها عواقب وخيمة؛ أولا: تتغير الشبكة المفاهيمية بأكملها. يوجد اختلافات كبيرة في الأنطولوجيا - الخاصة بالأشياء التي من المفترض أن توجد في العالم - بين النموذجين القديم والجديد؛ فعلى سبيل المثال، استبدال كبلر بالأفلاك الصلبة كواكب تسير بحرية، وحلت قوانين كبلر للكواكب محل الأدوات الهندسية الإغريقية. يؤثر هذا التغيير المفاجئ أيضا على مجموعة المشكلات المقبولة والتقنيات المقبولة. من كبلر لنيوتن أصبحت المشكلة المهيمنة هي السؤال الآتي: «لماذا تدور الكواكب في مدارات؟» أصبحت الأساليب الهندسية قديمة وحلت محلها تقنيات رياضية أكثر تطورا. ثانيا: يحدث انقطاع في التواصل، كما توضح مسرحية بريشت. لم يكن كون واضحا دائما فيما يخص مدى انقطاع التواصل. وبعد الانتقادات بدا أنه تقبل أن انقطاع التواصل يكون جزئيا فقط (كون 1983؛ نولا 2003، الفصل 1.4.1). سيتقبل العلماء على الأقل جزئيا بعض الاستمرارية بين النموذج القديم والجديد، ولكن الأسباب المنطقية وحدها ليست كافية لإقناع العالم المتشكك بمميزات النموذج الجديد. يفسر كون تبني النموذج الجديد كحالة تحويل وإقناع. أما الواقع فهو أكثر تعقيدا، كما اعترف كون في نهاية المطاف. فثمة روابط مستمرة ومتقطعة بين النماذج. وجرت مناقشة حادة بين الكوبرنيكيين والبطالمة وعلماء دين. لقد ظلت المراسلات بين أوزياندر وكوبرنيكوس وريتيكوس باقية، واستمر النزاع لمدة 150 سنة. كان هذا وقتا كافيا لترتيب النماذج المختلفة. قدم البطالمة حججا مناهضة لحركة الأرض، وتبنى كوبرنيكوس نظرية الزخم لرفض حججهم، واتخذ تيكو براهي موقفا وسطا. والمناصر المتعصب للكوبرنيكية، مثل جاليليو، تجاهل ببساطة قوانين كبلر. تحول البعض إلى الكوبرنيكية، مثل ريتيكوس في ألمانيا وديجز في إنجلترا. وحتى بداية القرن السابع عشر لم توجد أدلة كافية على صحة فرضية مركزية الشمس حتى إن بعض العلماء قبل أجزاء وحسب من النظام الكوبرنيكي (ريبكا 1977؛ دراير 1953، الفصلان الثالث عشر والرابع عشر). وانتصر الكوبرنيكيون أخيرا عندما ضم نيوتن قانون القصور الذاتي إلى قانون الجاذبية.
لا يتفق التحول الكوبرنيكي فعليا مع نموذج كون (هايدلبيرجر 1980)؛ فهو لا يشكل نقلة نوعية؛ فالنسخة الكوبرنيكية لمركزية الشمس لا تكاد تكون في حالة غير متكافئة مع مركزية الأرض بسبب التداخل الكبير بين النظامين. يستخدم كوبرنيكوس العديد من المشاهدات الإغريقية، ولم يبتكر أي طريقة جديدة، بل على العكس من ذلك، أراد أن يكون أنقى من بطليموس، حيث اعترض على استخدام الموازن. وكما يوضح النقاش حول مصطلح «الفرضية»، من الصعب رصد مثل هذا القدر الضئيل من انقطاع التواصل الجزئي. وبطبيعة الحال، فإن المعارضين لم يقبلوا ذلك. يبدو أن غموض مصطلح «الفرضية» أرسى رابطة بين أنصار الكوبرنيكية ومعارضيها. وبعد ذلك، لم يتفق الكوبرنيكيون حتى على بعض العناصر الأساسية في مصفوفة المجال. واصل جاليليو الإيمان بوجود الحركة الدائرية. والرؤية الكونية الكوبرنيكية متوافقة مع الذرائعية والواقعية؛ فمن خلال التركيز على تكافؤ الفرضيات، دعم أوزياندر الذرائعية. ومن خلال التركيز على بنية نموذجه الطوبولوجية (في الكتاب الأول من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»)، وصل كوبرنيكوس إلى وجهة نظر واقعية.
لم تتغير الشبكة المفاهيمية بنقلة نوعية ولكن تغيرت عن طريق تحول بطيء. فمشاهدات تيكو وحسابات كبلر ونتائج جاليليو قدمت حججا قوية لصالح الفرضية الكوبرنيكية. وشكلت هذه الإنجازات قيودا قوية لم يستطع النظام الأرضي المركز أن يتوافق معها؛ لذلك، فلنتناول بعض النماذج البديلة للثورات العلمية. (ب) «نموذج كوهين ذو المراحل الأربع»: اقترح مؤرخ العلم برنارد آي كوهين نموذجا ينص على أن الثورة العلمية تتكشف على أربع مراحل (كوهين 1985). تتألف المرحلة الأولى من الابتكار المفاهيمي، كما نجد في الكوبرنيكية والداروينية، وقد ناقشنا هذه المرحلة سابقا على أنها تغيير في المنظور. مع ذلك، ليس تغيير المنظور كافيا لتشكيل ثورة.
16
صفحة غير معروفة