بسم الله الرحمن الرحيم
الشورى في الشريعة الإسلامية
دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية
تأليف:
حسين بن محمد المهدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة
بدار الكتاب برقم إيداع ٣٦٣ في ٤/ ٧ / ٢٠٠٦م
_________
مكتبة المحامي: أحمد بن محمد المهدي
بريد: ahmed_almahdi@hotmail.com
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي الكتاب
بقلم القاضي/ جمال قاسم المصباحي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا رسول ولا نبي بعده وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن كتاب الشورى في الشريعة الإسلامية بدراسته المقارنة للديمقراطية والنظم القانونية، مما يثلج الصدر بعموم فكرته وخصوصيات درسه وملامح طرحه وسلاسة وبساطة عرضه، مع ما اشتمل من وفرة المطالعة وتأصيل الرأي وتنوع التصور عند أهل العلم والرؤى العلمية والشرعية والفكرية والقانونية، فهو بحق قد مدنا بالاغتراف من معين الأصالة الإسلامية وبالمصاحبة للحس والمعروف الطيب من مكارم الأخلاق الإنسانية ونتاج حضارة المجتمع الإنساني الغير معارض لمبادئ الشريعة، ولا غرو على مثل أخينا الأكبر فضيلة العلامة حسين بن محمد المهدي لمثل هذا التصدي العلمي الذي أجاد فيه وأفاد، وأتى بحظ طيب من الشيء الكثير والمواصل لجهود العلماء والفضلاء في مضمار كلمة التنوير والكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وذلك لاستمرارية التجديد في الخطاب الإسلامي والفكر الإصلاحي في جنبات الأمة، والذي يجعلني أحسب أن هذا الكتاب يبدوا واحدًا من مسددات ومكملات المستلزمات والمراجع المكتبية الإسلامية عصرًا ومستقبلًا، وليس بنائي من القول أن أذكر بصاحب الكتاب أنه من بقية امتداد مدرسة الدرس والتحقيق الفقهي والنظري في ساحة الفكر باليمن، وكذلك هو من المخضرمين في الاطلاع والمجالسة والمطالعة والمطارحة العلمية في عصر هذا الجيل الأكاديمي لما بعد الثورة اليمنية المباركة، ولهذا فهو يمثل حلقة وصل بين الجيلين بالفعل، ولا أبالغ إذا قلت وأنا في طرب وسرور عند استطلاعي في طيات الكتاب لأقول ما قاله شعرًا ومبالغةً
1 / 3
أحد شعراء القرن التاسع الهجري وهو يشاهد ختم كتاب فتح الباري للحافظ العلامة ابن حجر العسقلاني، فقال:
هذا المنار الذي للعلم منتصبٌ ... الله أكبر كل الفضل في العربِ
ثم أقول في الختام حسبي وحسب المطالع والمستفيد من الكتاب ما يلمس من إخلاص الجهد والعمل وبذل النصح مع الخاص والعام باتساع عارضه وواسطه ضليعة من آلة اللغة بالتدبر لعلم الكتاب العزيز والسنة المطهرة وتصور وتوجهات أئمة الدين وأهل الفضل بما يجسد التفكر أنه محاولة للسير مع الآية الكريمة: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَأهم اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (١)، صدق الله العظيم.
_________
(١) - الآيات ١٧و١٨ سورة الزمر.
1 / 4
تقديم
د. عبدالعزيز المقالح
في عصر التشكيك في البديهيات، عصر خلخلة القيم والمعتقدات الراسخة، لا مناص من البحث عن مداخل علمية موضوعية للخروج من الدوامة وإقامة الجسور الوثيقة بين القيم الجوهرية الربانية وما لا يتعارض معها أو يتصادم بها من انجازات الحاضر الإنساني. وهذا ما تصدَى للقيام به عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين منذ بداية العصر الحديث وحتى اليوم. ولقد كان لجهودهم العظيمة أكبر الأثر في فتح أبواب الاجتهاد وتقنين أحكام الشريعة على ضوء المستجدات الضاغطة من ناحية، ولضرورة تطوير مؤسسات النظام السياسي الراهن من فاجعة قادمة، وليس الكتاب النفيس الذي بين أيدينا سوى واحد من هذه الجهود الفكرية والاجتهادات العلمية الهادفة إلى البحث بموضوعية عن المميزات الأساسية لنظام الشورى الإسلامي.
ومن عنوان الكتاب يتبين مضمونه: (الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية)، وهو لصاحب الفضيلة القاضي العلامة حسين بن محمد المهدي، الذي أثرى المكتبة القضائية بكتبه وبأبحاثه وأرائه العلمية السديدة.
وأعترف أنني أفدت من هذا الكتاب كثيرًا وتجلت لي بوضوح قدرة عالمنا الجليل على أن يضعنا في إطار رؤية فكرية جادة تضاف إلى عدد من الرؤى التي تقف بإجلال إزاء ما استطاع العطاء الإسلامي الحضاري الإنساني أن يقدمه في النظر السياسي ليس إلى إصلاح أحوال المسلمين فحسب؛ بل وإلى إصلاح أحوال من يشاركهم الحياة على هذا الكوكب الأرضي من المخالفين لهم في الرأي وفي الاعتقاد.
لقد كانت الإنسانية -في الشرق القديم والغرب القديم- قبل ظهور الإسلام تخضع على السواء لأنظمة قاهرة ومدمرة لروح الإنسان وأسلوب حياته، ولا تزال كثير من الشعوب -حتى اليوم- تخضع لأنظمة لا تقل قهرًا وطغيانًا رغم الشعارات واليافطات
1 / 5
البراقة وما تحمله من مضامين خاوية على عروشها، في حين كان الإسلام -وهو عقيدة وشريعة- قد نجح بوسطيته وعمق رؤيته في وضع جوهر ما تبحث عنه البشرية من تحقيق للعدل والحرية والكرامة، والخلاص من الاستبداد والقهر السياسي من خلال نظام الشورى الذي يضمن حق كل مواطن في أن يكون له رأيه في من يحكمه أو يتولى أمره (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، والآية واضحة جلية المعنى، لا تحتاج إلى تفسيرات فضفاضة أو ضيقة، وهي تخص كل مسلم دون استثناء، وتجعل حق الشورى للجميع دون استثناء أيضًا، ونظامها يختلف عن النظم السياسية السائدة في بعض الشعوب التي توصف بالديمقراطية.
إن استلهام الحل الجوهري الكامن في الآية الكريمة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) تحدد باختصار وبلا تفاصيل مملة الصورة المثلى لنظام الحكم. وإذا كانت الشورى بهذا المفهوم العام الشامل قد عانت من الإهمال في عصور، وتم تعسف مفهومها في عصور أخرى، فإن المجتمعات الإسلامية الجديدة بعد أن اصطدمت بالنظم السياسية المعاصرة قادرة على أن تستخلص ما يحقق لها أقصى معاني العدل والحرية دون أن تتجنب الإفادة من الإيجابيات المتوفرة في النظام السياسي الحديث أو أن تقع في سلبياته التي جعلت العالم كله يتحدث عما يفعله أكثر من أربعين مليون أمريكي أسود في بلد الديمقراطية الأول غير أن يتفرجوا على صراع المؤسسات المالية النافذة وهي لعلها تتاجر بأصواتهم وبأصوات غيرهم دون أن يكون لهم رأي أو موقف.
لقد انشغل السياسيون في العالم الإسلامي على مدى قرن ويزيد في الحديث عن المفهومات المتعارضة بين مصطلحي الشورى والديموقراطية، وسال حبر كثير، وتم استهلاك ما لا يحصى من الورق للتعبير المكرور والممل عن ذلك التعارض، وغاب عن الجميع الاسترشاد بما وصل إليه علماؤنا المجتهدون المستنيرون وما وضعوه من حلول مستخلصة من جوهر المعاني لا من ظاهرها، ومن الغاية المؤدية إلى سعادة البشر وسلامة نهجهم الواقعي الحقيقي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين نظام الحكم ومؤسساته والمجتمع الذي يعطيه ولاءه ويعترف بمشروعيته.
1 / 6
وهذا البحث الشامل الكامل (الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة) شاهد على ما بذله العلماء من جهود مخلصة في هذا السبيل لم توضع موضع التنفيذ ولم تجد طريقها إلى أصحاب الحل والعقد الذين وضعتهم الظروف العالمية الراهنة خارج القدرة على الحل والعقد والإفادة من كل ما توصل إليه المتخصصون من علماء الفقه الإسلامي وعلماء الفقه الدستوري، وهم والحمد لله على درجة عالية من الإخلاص والدراية، ومعرفة ما يصلح للأمة وما لا يصلح لها في حاضرها المضطرب والمصحوب بركام هائل من الحيرة.
أخيرًا، ليسمح لي القارئ بأن أتقدم بخالص التقدير والامتنان لصاحب الفضيلة القاضي العلامة حسين بن محمد المهدي، على حسن ظنه بي ومنحي فرصة السبق في الإطلاع على مؤلفه النفيس وتصديره بهذه الكلمات المتواضعة. سائلًا من المولى العزيز أن تكون أعمالنا كلها خالصةً لوجه الكريم. والله ولي التوفيق.
كلية الآداب - جامعة صنعاء
٧/ ٤/٢٠٠٧م
1 / 7
تمهيد:
الحمد لله المتفرد بالقدرة والكمال، وصلى الله وسلم على من ابتعثه الله بالحكمة ونعته بالرحمة وهي من أشرف الخلال، فقال جل شأنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (١). وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) وعلى آله وأصحابه والتابعين. وبعد:
فإن للشورى أهمية كبيرة في حياة الأمم والشعوب، وإن أي نظام أو تنظيم ينشد الخير والفلاح ويبحث عن العدالة والمساواة ويتوق إلى العزة والكرامة، ويحب أن يسود الأمن والاستقرار والرخاء، ويرغب في منع الظلم والتسلط والاستبداد، لا بد أن تكون الشورى سمته ومنهجه، لأن بالشورى تكتشف الحقائق وينجلي العمى ويستنبط الصواب ويصح الرأي وتتضافر الجهود وتتوزع المسؤولية وتقوى شوكة الأمة، ما ذلك إلا لأنه بالشورى تنبعث عوامل الألفة والمودة والمحبة والتعاون والتناصح، وتتشابك الأيدي لحل المعضلات، وبالشورى يصل الإنسان إلى ما يصبو إليه من عزة وفلاح وسعادة ونجاح في أمور الدنيا والآخرة.
وبالشورى تبنى المجتمعات الفاضلة والدول القوية، وبالشورى يحصل النصر وتستمال القلوب، ويتعاون أهل الشورى من أجل بناء الأوطان وعمارة الأرض وإرضاء الرب.
والشورى هي من أهم خصائص الأمة الإسلامية والشرائع الربانية، فهي من صفات المؤمنين الموحدين الذين استجابوا لله رب العالمين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (٣) ولأهمية الشورى جاء ذكرها في هذه الآية بين الصلاة والزكاة، فقد وصف الله المؤمنين بأنهم الذين استجابوا
_________
(١) - الآية ١٢٨ سورة التوبة.
(٢) - الآية ٢ سورة الجمعة.
(٣) - الآية ٣٨ سورة الشورى.
1 / 9
لربهم وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة وكان منهج الشورى هو منهجهم. وقد قال بعض الباحثين إن سياق النص قد نبه عليه بعض المؤصلين والبلاغيين من حيث أن لفظ وجملة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) جاءت متوسطة بين الصلاة والزكاة لتدل بتنبيه عبارة النص وإشارته على ضرورة مداومتها بما يشبه الصلاة والزكاة، وعموم خطاب الآية الكريمة هو من الوجوب الشمولي في الأمة. فمفهوم الأمر جاء بطبيعة الخبر والمدح وهو أعظم من الأمر الصريح عند البيانيين من علماء اللغة الذين قرروا أن طرق الأمر الحتمي في اللغة تصل إلى ثمانية وعشرين وجهًا.
ويتبين أيضًا من هذه الآية الكريمة أن الإسلام ليس حصرًا على الصلاة والزكاة وإن كانا من أركانه، لأن من استجاب لله وجب عليه أن يتخذ الشورى منهجًا، فكما لا يجوز له إهمال الصلاة وتركها فإنه لا يجوز له إهمال الشورى وتركها، وبهذا يتضح أن الإسلام دين اجتماعي سمح، ليس فيه سلطة قاهرة تكبت الحريات وتمنع حق إبداء الرأي، وإنما هو دين يدعو إلى الشورى والنظر المشترك في الأمور الهامة وفي كل ما ينصلح به أحوال الإنسانية أفرادًا وجماعات، وفي كل أمر تحصل به العزة للمسلمين والسعادة للموحدين، فالشورى قاعدة من قواعد الشريعة وخُلق من أخلاق المؤمنين، ونظام الشورى هو أفضل نظام يمنع من التسلط والاستبداد ويبعث على المحبة والتواد، ولهذا امتدح الله المؤمنين الذين جعلوا المشورة قانونًا لهم في أعمالهم كما هو صريح آية الشورى سالفة البيان، وفي الحديث: (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم) (١).
ولما للشورى من أهمية كبيرة في حياة الأمة فقد أمر الله نبيه ﵌ بمشاورة المؤمنين، وهو الذي يمتاز بكماله الروحي لاتصاله بالوحي الرباني، ومع ذلك فإن الله خاطبه بقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ) (٢). فإذا كانت
_________
(١) - مصنف ابن أبي شيبة تأليف العلامة المحدث أبي بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى سنة ٢٣٥هـ ج٥ص٢٩٨ حديث (٢٦٢٧٥) الناشر: مكتبة الرشد الرياض الطبعة الأولى ١٤٠٩هـ، والأدب المفرد تأليف العلامة الجليل والمحدث الكبير محمد بن اسماعيل، أبو عبدالله البخاري المتوفى سنة ٢٥٦هـ ج١ص١٠٠ حديث (٢٥٨) الناشر دار البشائر الإسلامية بيروت الطبعة الثانية ١٤٠٩هـ١٩٨٩م.
(٢) - الآية ١٥٩ سورة آل عمران.
1 / 10
الشورى في حقه ﵌ واجبة، فهي من باب أولى واجبة في حق غيره، فالله عليم حكيم بما يصلح أحوال الناس، وقد علم أن شواغل الحياة وأمور التعامل بين الناس واختلاف أحوالهم وتنوع المعارف، كل ذلك لا يخلو من مشكلة تفرزها طبيعة الحياة التي فطر الله الناس عليها، وحلها ضرورة لا بد منها.
فإن كان ذلك لمصلحة فرد فربما استعصى الحل عليه بمفرده، فكان لا بد من إشراك غيره من أهل الخبرة والإختصاص في حلها وأن يشاركه في الرأي ليكون الحل قد جاء على الوجه المطلوب وتعرف على صوابه، وإن كان الأمر متعلقًا بمصلحة عامة، وجب أن لا تحل بالاستبداد في الرأي حتى لا تتعرض المصلحة العامة لأي خطءٍ ولا تضيع حقوق ومصالح الأمة، وكان من الضرورة أن يصار في ذلك إلى مشاركة ذوي العقول الراجحة من ذوي الخبرة والإختصاص ليتناولوها ببصيرة ويجال الرأي فيها عن علم ودراية، لتكون النتيجة سليمة وصائبة، ولذلك ندب الشارع إلى الشورى في تدبير الأمور وتوخي المصالح، لتكون إلى الصواب أقرب وعن الزلل أبعد، ويكون النجاح مضمونًا في الغالب الأعم في تحقيق مصالح الأمة، وفي ذلك ما يكفي للتدليل على أهمية الشورى، مما يدعو إلى الأخذ بها ليكون الإنسان قد استجاب لله وأمن الوقوع في المهالك، وقد جاء في العقد الفريد:
الرأي كالليل مسودًا جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح أراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح (١)
فالشورى في حقيقة الأمر تعني توزيع المسؤولية حتى لا تقع على كاهل فرد واحد، فالجميع يتقاسمون المسؤولية، فلا يتلاوم الناس فيما بينهم ويتنافرون ويتشاجرون، ولا يرمي أحد بالنتيجة على الآخر، وإن كانت النتيجة سيئة، والشورى تعتبر مع ذلك خير وسيلة تدرب المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة وتشركه فيه، وبها الوصول للرأي المحمود الذي ينصلح به حال الأمة وتحل به مشاكلها. وقد جاء في العقد الفريد أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ذكر في المشورة سبع خصال: استنباط الصواب،
_________
(١) - أورد هذين البيتين العلامة والأديب الكبير أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي في العقد الفريد، ج١ص٦٠،طبعة دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، ووردت في الموسوعة الشعرية للكاتب والأديب والواعظ والخطيب بدر بن عبدالله بن عبدالكريم الناصر ص١٤٥ الناشر دار العاصمة الرياض المملكة العربية السعودية الطبعة الأولى ١٤٢٧هـ٢٠٠٦م
1 / 11
واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والتحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وإلفة القلوب، واتباع الأثر (١). وجاء في جواهر الأدب أن بيهس الكلبي قال:
عقل الفتى ليس يغني عن مشاورةٍ ... كحدة السيف لا تغني عن البطل
إن المشاور إما صائبٌ غرضًا ... أو مخطئٌ غير منسوبٍ إلى الخطل (٢)
وقد أثر عن الفاروق عمر بن الخطاب ﵁ قوله: لا خير في أمر أبرم من غير مشورة. ولهذا يقال: الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الإنفراد والاستبداد.
وقد نقل صاحب العقد الفريد - في الشورى - أقوالًا مشهورة، وحكمًا مأثورة نلخصها فيما يأتي:
١) لا معين أقوى من المشورة ولا عون أنفع من العقل. فالمشورة تقوي العزم وتمنح النجاح وتوضح الحق وتبسط العذر وتزحزح عن مواقف الندامة، والعقل يهدي صاحبه إلى الأخذ بثمرة المشورة.
٢) من استشار ذوي الرأي والمعرفة في فعل ما عناه فقبل المشورة منهم واقتدى بآرائهم فيها ولم يعدل عنها وعن قويم نهجها قل أن يخفق مسعاه ويفوت مطلوبه، فإن أعجزه القدر فهو معذور غير ملوم.
٣) من ترك المشورة وعدل عنها، فلم يظفر بحاجته صار هدفًا لسهام الملام ومضغة في أفواه العاذلين.
٤) من فضل المشورة أنها تكشف لك طباع الرجال. فمتى طلبت اختبار رجل فشاوره في أمرٍ من الأمور يظهر لك من رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشره مكانته.
٥) من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحًا وعند الخطأ عاذرًا (٣) قال الراغب الأصفهاني: قيل إن الأحمق من قطعه العُجب عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، فالرأي الواحد كالسجيل، والرأيان كالخيطين، والثلاثة إصرار لا ينقض. (٤)
_________
(١) - العقد الفريد للملك السعيد لأبي سالم محمد بن طلحة القرشي النصيبي المتوفى سنة٦٥٢ - ص٤٢. طبع في القاهرة بمطبعة الوطن ١٣٠٦هـ.
(٢) - جواهر الادب للعلامة أحمد الهاشمي -بيروت لبنان، الطبعة الخامسة والثلاثين ١٤١٦هـ.
(٣) - العقد الفريد. ص ٥٨.
(٤) - الذريعة إلى مكارم الشريعة ١٩٢ - للشيخ أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى - الطبعة الأولى ١٤٠٠هـ - ١٩٨٠م - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
1 / 12
وصحيح ما ذهب إليه الراغب، فإن رأيين خير من واحد، وقديمًا قيل: ورأيان خير من واحد، ورأي الثلاثة لا ينقض، ولذا يقال: من أُعِجبَ برأيه ضل، ونقل القرطبي عن الحسن البصري والضحاك أنهما قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته بعده، ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه ... في قوله (شاورهم) و(توكل) (١)
فالشاعر يدعو في هذين البيتين إلى المشاورة وحسن اختيار المستشار، وقد جاء لأحد الشعراء قوله:
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبًا ولا تعصه (٢)
وقال القرطبي: الشورى بركة، وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله ﵌ (ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي) (٣) وفي الحديث (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) (٤). قال العجلوني: رواه الطبراني في الصغير، والقضاعي عن أنس، وفي سنده ضعيف، وما أحسن ما قيل:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يومًا وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تلقى كفاحًا من نآى ودنى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآت
وقال النجم: روى ابن أبي الدنيا في العقل عن زائدة. قال: إنما نعيش بعقل غيرنا - يعني المشاورة، ولبعضهم: الناس ثلاثة: فواحد كالغذاء لا يستغنى عنه، وواحد كالدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات، وواحد كالداء لا يحتاج إليه أبدًا.
_________
(١) - الجامع لأحكام القرآن ٤/ ٢٥٠ لأبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي (المتوفى في ٩شوال سنة٦٧١هـ).
(٢) - هذا البيت مما اشتهر في ذلك وقبله:
إذا كنت في حاجة مرسلًا ... فأرسل حكيمًا ولا توصه
وإن باب ....
ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإله ... تبين ذلك في شخصه
(٣) - القرطبي ٤/ ٢٥٢، وقد ورد الحديث في مسند الشهاب تأليف العلامة المحدث محمد بن سلامة بن جعفر، أبو عبدالله القضاعي المتوفى سنة ٤٥٤هـ ج٢ص٦ حديث (٧٧٣) الناشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية ١٤٠٧هـ١٩٨٦م.
(٤) - المعجم الصغير تأليف العلامة المحدث سليمان بن احمد بن أيوب، أبو القاسم الطبري، ج٢ص١٧٥ حديث (٩٨٠)، الناشر المكتب الاسلامي بيروت الطبعة الأولى ١٤٠٥هـ١٩٨٥م. ومسند الشهاب للقضاعي ج٢ص٧ حديث (٧٧٤).
1 / 13
وللخطيب في تلخيص المتشابه - عن قتادة - قال: الرجال ثلاثة: رجل ونصف رجل ولا شيء، فأما الذي هو رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو يشاور. وأما الذي هو نصف رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو لا يشاور. وأما الذي هو لا شيء: فرجل له عقل وليس له رأي يعمل به وهو لا يشاور. قال النجم: وقلت:
ليس من عاش بعقله ... مثل من عاش بفضله
إنما الفضل ما انضم ... حجى الناس بعقله
وكذا الجاهل من لم ... يرفي الناس كمثله
نفسه يبصرها كا ... ملة من فرط جهله (١)
وصحيح ما ذكره النجم - فإنك إن شاورت مجربًا للأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما يقع عليه غاليًا وأنت تأخذه مجانًا، فيكون من الحمق ترك المشاورة.
أما الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس - فيقول عن الشورى أنها مدرسة تربوية للأمة تظهر من خلالها شخصيتها وتحقق ذاتها وهي سبب من أسباب النصر على أعدائها، حقق المسلمون بها انتصاراتهم على أعدائهم وأضحوا سادة الأمم بعد أن كانوا رعاة الشاء والغنم. (٢)
قلت: وليس ذلك فحسب وإنما حققوا بها العدالة وحصل لهم بها المودة والألفة وقد أحسن بشار بن برد في قوله:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي تابع للقوادم (٣)
وقال أخر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا علي اليوم ما تراياني (٤)
_________
(١) - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعجلوني: وهو المفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي - ٢/ ١٨٦ الطبعة الثالثة ١٣٥٢هـ - دار إحياء التراث العربي.
(٢) - د. محمد عبدالقادر أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ص٧٦ دار الفرقان- عمان - الأردن ١٩٨٦م.
(٣) - ولهذين البيتين رواية أخرى وردت في الموسوعة الشعرية وهي:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي حكيمٍ أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي قوة للقوادم.
وهناك رواية ثالثة وردت في ديوان بشار المطبوع في لبنان سنة ١٤١٣هـ، جاء فيها:
... إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو مشورة حازم
... ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم.
والجميع من حيث المعنى والوزن والروية صحيح.
(٤) - ورد هذا البيت مستشهد به في الامالي لأبي علي اسماعييل بن القاسم القالي، ج١ص٤٤، وفي الموسوعة الشعرية. للكاتب والاديب والواعظ والخطيب بدر بن عبدالله بن عبدالكريم الناصر ص١٤٥، الطبعة الأولى ١٤٢٦هـ٢٠٠٦م، دار العاصمة بالمملكة العربية السعودية الرياض ص٩.
1 / 14
وفي الأثر: ما سعد أحد برأيه ولا شقي عن مشورة غيره.
وإذا كانت الشورى من الأهمية بذاك المكان، فإنها ليست قصرًا على شؤون الحكم والسياسة، وإنما تشمل كل ما لم يرد فيه نص قطعي من الأمور العامة والخاصة وكل ما فيه صلاح للأمة والأسرة. وكل ما فيه رعاية مصلحة أو دفع مفسدة، فقد أرشد القرآن الكريم إلى التشاور في ذلك حتى في فطام الرضيع وفصله عن ثدي أمه، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (١).
وهكذا نجد الشورى مهمة في بناء الأسرة والمجتمع والدولة.
_________
(١) - سورة البقرة أية (٢٣٣).
1 / 15
خطتنا في هذا البحث:
لما كانت الشورى بهذا المكان من الأهمية فقد استجبنا لطلب الكتابة حول هذا الموضوع، وكانت خطتنا في ذلك على النحو التالي:
تناولنا بحث هذا الموضوع (الشورى) في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: وفيه لمحة تاريخية عن الشورى في حياة الأمم.
الفصل الثاني: اشتمل على مبحثين، خصصنا المبحث الأول للتعريف بالشورى لغة واصطلاحًا، وفي المبحث الثاني أتينا ببيان مشروعية الشورى.
الفصل الثالث: وفيه أوردنا الشورى في الأمور العامة، وتناولنا ذلك في عدة مباحث:
المبحث الأول: خصصناه لبيان الشورى في التشريع.
المبحث الثاني: أوردنا فيه بيان الشورى في الوظائف العامة.
المبحث الثالث: بينّا فيه الشورى في القضاء والحكم.
المبحث الرابع: وفيه أوردنا الشورى في الحرب.
المبحث الخامس: وفيه بيان من هم أهل الشورى في ذلك؟
المبحث السادس: أوضحنا فيه الكيفية التي تتم بها الشورى.
المبحث السابع: بينّا فيه نتيجة الشورى ومدى إلزامية ذلك.
الفصل الرابع: خصوصية الشورى وأهمية تعليمها.
المبحث الأول: خصوصية الشورى ومنفعتها في الأسرة والمجتمع.
المبحث الثاني: تعليم الشورى واتخاذها منهجًا تعليميًا.
1 / 16
الفصل الأول
لمحة تاريخية عن الشورى
لمحة تاريخية وجيزة عن الشورى في حياة الأمم
إنه من المعلوم لكل العقلاء أن تداول الرأي في كل أمر يترتب عليه إصلاح شؤون الأمة أفرادًا وجماعات في شتى مجالات الحياة وعلى مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والصحية والاقتصادية والعسكرية ... إلخ. ضرورة لا بد منها، ذلك لأن الناس يعيشون في بيئات مختلفة ويكتسبون بمقتضى ذلك خبرات متنوعة ويحملون مواهب متعددة بأفهام متباينة فالإنسان لا يستغني بنفسه عن غيره خاصة في الأمور الهامة والعامة والتي لا بد فيها من الاستفادة من قرائح ومعارف ومهارات، ولكل عقل ميزة، ومن طبيعة الشورى أن تتعدد فيها الآراء وتجول فيها الأفكار ويستفاد من عقول الناس وتجربتهم وخبرتهم صواب الرأي وسداده، وتداول الرأي في الحوادث مارسته شعوب منذ أقدم العصور فمارسه العرب والفرس والمصريون والهنود والرومان، ومارسه الملوك الفراعنة ومارسها الصينيون كما يشير الحكيم الصيني (صون توزور) منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد إلى التشاور والتباحث فيقول: (فعندما يجري التجنيد العسكري لتأديب العابثين بحرمة البلد والأمة فإن أهل الحل والربط في ساعات البت العسكري لحاجة الدفاع أو حاجة الردع للعدو يجتمعون في المعبد الديني من أجل التشاور والبحث في صلاح الحكم القائم في البلد أو عدم صلاحه، ومدى ثقة الأمة بذلك العهد الحاكم، ثم يجري بحث أحوال الطقس وتقلباته في ذلك الفصل من مواسم السنة ثم يبحثون طبيعة الأرض وميادين القتال، وبعد مذاكرة هذه العوامل الثلاثة مذاكرة ودراسة وافية يجري اختيار القائد العسكري للحملة ومسؤولية الهجوم أو الردع. (١)
وقد استعملت عبارة أهل الحل والربط وهو ما يترادف مع أهل الحل والعقد في الإسلام، ثم تعيين مكان الاجتماع، وإنه المعبد ثم وضع جدول العمل وموضوعات
_________
(١) - نقل ذلك الدكتور علي بن سعيد الغامدي عن فن الحرب ترجمة عمر حليق ص٧٩، وانظر فقه الشورى دراسة تأصيلية نقدية تأليف الدكتور علي بن سعيد الغامدي، الطبعة الأولى ١٤٢٢هـ٢٠٠١م، الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض ص٢٤.
1 / 17
البحث، ثم أول ما يجري فيه التشاور صلاح الحكم أو عدم صلاحه وهذا أساس في مواجهة الأعداء فإن الحكم الفاسد غير قادر على الصمود في الحرب، ثم بحث الزمان وجو المعركة وجو الطقس وتقلباته، ثم صلاح ميادين المعركة أي طبيعة الأرض وميادين القتال، ثم اختيار القائد المناسب الجدير بالقيادة بسبب كفاءته (١).
وقد نقل القرآن الكريم بعض نماذج عن أخذ الرأي، من ذلك قصة ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان ﵇ وما حكى الله عنها حينما ألقى الهدهد كتاب سليمان إليها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ*) (٢)، وكتاب سليمان ﵇ واضح الدلالة في الدعوة إلى عبادة الله والإذعان للحق ﷾ بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة والإسلام، وأن بلقيس دعت الملأ من قومها، وهم أشراف الناس من قومها ووجوه القوم وأهل الرأي، ذكر ذلك ابن جرير وغيره من أئمة التفسير (٣)، وهذه القصة تفيد وجود التشاور بين الحاكم والمحكومين في العصور القديمة فقد أبانت الآية أن ملكة سبأ كانت هي وقومها وثنيون يعبدون الشمس، ولكنها مع ذلك بادرت إلى الاستشارة ولم تستفرد بالرأي دونهم، دل على ذلك ما حكاه الله عنها حيث تقول: (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) ونقل القرطبي عن قتادة قوله: ذُكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا وهم أهل مشاورتها كل رجل منهم على عشرة آلاف (٤). كما نقل القرآن مشاورة ملك مصر في شأن رؤيا رآها فقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (٥)، وقد طلب الملك الرأي من الملأ في تفسير هذه الرؤيا لكونها متعلقة بمصير الأمة.
وهناك نموذج آخر حكاه القرآن الكريم عن فرعون حينما جاءه موسى يدعوه إلى توحيد الله (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (٦) والآية واضحة الدلالة في طلب الرأي من قبل الملأ غير أن ما يلاحظ عليه هو أن فرعون كان لديه نزعة استبدادية إذ أنه أبدى لهم رأيه في شأن موسى وأنه ساحر وأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره فكأنه حرضهم عليه، ومع ذلك فقد كان في جواب قوم فرعون ما يدل على استجابتهم لطلب المشورة وأخذ فرعون بها دل على ذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) (٧) والنص واضح الدلالة أن حث الناس على الاجتماع واتباع السحرة كان مشروطًا بفوزهم على موسى ﵇ بخلاف الملأ من قوم بلقيس فإنهم (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (٨). ولعل فرعون مع نزعته الاستبدادية أراد مشاركتهم الجادة في الوصول إلى ما يريده ليشاركوه في نتيجة ما تسفر عنه المناظرة التي ربما كان يخشى سلفًا انها قد لا تكون في صالحه تمامًا، وكأن من طبيعة الجبابرة والمستبدين إملاء آرائهم والتحريض على الأخذ بها أو الاستعانة بالرأي على الأخذ بما ينزعون إليه، فطبيعة فرعون هي الاستعلاء والتجبر كما حكى الله عنه في أكثر من آية ففي سورة القصص حكى الله عنه إدعاء الألوهية بعد أن دعاه موسى إلى أن يتزكى ويدع إدعاء الألوهية (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (٩) مع أن موسى ﵇ دعاه إلى دين الحق وطالبه بأن يدين لإله يملك العالمين (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
_________
(١) - انظر الشورى للأستاذ الدكتور عبدالله أحمد قادري ص١٧ - ١٨طبعة دار المجتمع ١٤٠٦هـ، وفقه الشورى للدكتور علي سعيد الغامدي ص ٢٤ - ٢٥.
(٢) - سورة النمل: الآيات (٢٩ - ٣١).
(٣) - انظر جامع البيان للإمام ابن جرير الطبري ١٩ - ١٥٢.
(٤) - انظر الجامع لأحكام القرآن ج ١٣ - ص ٩٥.
(٥) - سورة يوسف: الآية ٤٣.
(٦) - سورة الشعراء ٢٩ - ٣٥.
(٧) - سورة الشعراء ٣٦ - ٤٠.
(٨) - سورة النمل ٣٣.
(٩) - سورة القصص ٣٨.
1 / 20
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (١) وهكذا نجد فرعون قد ادعى الألوهية وتنكر لموسى ﵇ وافتخر بعزة السلطان والملك الواسع فقال مباهيًا مفتخرًا (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) (٢) فكان من عاقبة استبداده إغراقه وجنوده في البحر (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا) (٣) وآل الملك العظيم لغيره (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (٤).
وهناك أمثلة كثيرة حكاها الله في أخذ المستبدين كقصة النمرود وغيره، ولقد جاء الإسلام فأراد هدم الاستبداد السياسي من أساسه، فها هو رسول الله ﵌ يقول: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه وفقير فخور) (٥) فالأول يمثل الاستبداد السياسي والثاني يمثل الطغيان المالي والثالث وهو الفقير الفخور يمثل خدم النظامين من الاتباع الذين يمشون في ركاب الكبراء والأغنياء المترفين إنهم صعاليك ولكنهم يفخرون بسادتهم الذين التحقوا بهم (٦)، ولو ذهبنا نتتبع الشورى في العصور القديمة لاحتجنا إلى مجلدات ولكننا نكتفي بهذه اللمحة لندلل أن الشورى كانت موجودة في الأمم السابقة، وأما الشورى الإسلامية وإن لم تكن ابتكارًا إسلاميًا فهي أمر يزكيه القرآن ويأمر به كي تكون الشورى سبيلًا إلى معالجة أمور الدنيا وسياستها في ما لا نص فيه، سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع، بين الحاكم والمحكومين وبين الناس بعضهم مع بعض، ولقد عرض القرآن الكريم لمعنى الشورى محبذًا أسلوبها ومزكيًا نمط الحكم الملتزم بها، فكانت الشورى هي المصطلح الذي أوجز أغلب مفكري الأمة الإسلامية تحته فلسفة الحكم كما رآها الإسلام وارتضاها المسلمون منذ ظهور الإسلام وقيام الدولة العربية الأولى ومنذ نشأة التيارات الفكرية السياسية الإسلامية، وإلى فلسفة الشورى انحازت كذلك السنة النبوية فعبرت الأحاديث النبوية عن تحبيذها وامتداحها كما سيأتي بيان ذلك.
_________
(١) - سورة الشعراء ٢٣ - ٢٨.
(٢) - سورة الزخرف ٥١.
(٣) - سورة الإسراء ١٠٣.
(٤) - سورة الدخان ٢٥ - ٢٩.
(٥) - صحيح ابن حبان تأليف العلامة المحدث محمد بن حبان احمد، أبو حاتم التميمي البستي المتوفى سنة ٣٥٤هـ حديث (٧٤٨١) الناشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية ١٤١٤هـ١٩٩٣م، وابن خزيمة في صحيحيه عن أبي هريرة ﵁ حديث (٢٢٤٩).
(٦) - انظر الإسلام والاستبداد السياسي للشيخ العلامة محمد الغزالي ص ٦٣ الطبعة الأولى دار الكتاب العربي القاهر١٩٩٨م، والأستاذ الدكتور العلامة وهبة الزحيلي في حق الحرية في العالم ص ١٧٧، الطبعة الأولى محرم ١٤٢١هـ نيسان إبريل٢٠٠٠م.
1 / 21
وأخيرًا فإن الفكر الإسلامي عني بالشورى وتطبيقات المسلمين المحدودة لفلسفتها وذلك ما يفتح باب الاجتهاد واسعًا أمام الأساليب والأشكال المنظمة لعملية التشاور، والأمل معقود على الحاضر والمستقبل لتحقيق الازدهار، للشورى فلسفة وسلوكًا في الشؤون الخاصة والعامة في جميع البلدان الإسلامية بما يحقق للأمة مصلحتها ويكفل لها نهضتها وازدهارها حتى تأخذ مكانها بين الأمم وتؤدي الرسالة المناطة بها، وسيجد المتتبع لما سنأتي عليه في دراستنا عن الشورى ما يحث الأمة على العمل بالشورى وإحياء هذه الفريضة الربانية والسنة النبوية وأداء هذه الأمانة العظيمة ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
1 / 23
الفصل الثاني
تعريف الشورى وبيان مشروعيتها
المبحث الأول: تعريف الشورى
؟ أولًا تعريف الشورى لغة:
الشورى هي الأمر الذي يُتشاور فيه، قال الراغب: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، وشرت العسل وأشرته: أخرجته (١)، وفي اللسان: عن ثعلب: أن شار الدابة يشورها شورًا وشِوارًا وشوّرها وأشارها، كل ذلك: راضها أو ركبها عند العرض على مشتريها، وقيل: عرضها للبيع، وقيل: بلاها ينظر ما عندها، وقيل: قلبها، والتشوير: أن تشور الدابة تنظر كيف مشوارها أي كيف سيرتها، وفي حديث أبي بكر ﵁ أنه ركب فرسًا يشوره أي يعرضه، ومنه حديث طلحة ﵁ أنه كان يشور نفسه بين يدي رسول الله ﵌ أي يعرضها على القتل، والقتل في سبيل الله، بيع النفس، وقيل: يشور نفسه أي يسعى ويخفف - يظهر بذلك قوته. (٢)
ويظهر من ذلك أن الشورى مشتقة من الفعل "شوَرَ" ولمشتقاته عدة معان فمنها ما سلف ذكره، ومنها: استخراج الرأي وتقليبه، قال ابن منظور: الشورى والمشورة - بضم الشين - مفعلة ولا تكون مفعولة، لأنها مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال - مفعولة - وإن جاءت على مثال - مفعول - وكذلك المشورة، وتقول منه: شاورته في الأمر واستشرته - بمعنى - وفلان خير شيِّر، أي يصلح للمشاورة، وشاوره مشاورة وشوارًا واستشارة: طلب منه المشورة، وأشار الرجل يشير إشارة: إذا أومأ بيده، ويقال: شورت إليه بيدي وأشرت إليه، أي لوحت إليه وألحت - أيضًا، وأشار إليه باليد: أومأ، وأشار عليه بالرأي، وأشار يشير - إذا ماوجه الرأي، ويقال: فلان جيد المشورة.
_________
(١) - المفردات في غريب القرآن ٢٧٣ للراغب: أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (٥٠٢هـ) تحقيق وضبط: محمد خليل عيتاني - الطبعة الثالثة ١٤٢٢هـ - ٢٠٠١م - دار المعرفة. بيروت - لبنان.
(٢) - لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري، ج٤/ص٤٣٦ مادة شور طبعة دار صادر، بيروت، دار الفكر.
1 / 25
والمشورة - لغتان - قال الفراء: المشورة أصلها مشْوَرة، ثم نقلت إلى مَشُورة لخفتها، وقال الليث: المشورة: مفعلة - اشتق من الإشارة، ويقال: مَشُورة، وقال أبو سعيد: يقال: فلان وزير فلان وشيِّره، أي مشاوره، وجمعه: شُوَرَاءُ. (١)
ويستفاد من ذلك أن الشورى في اللغة تعني: تقليب الرأي وإظهاره، ومن خلال تلك المعاني يمكننا تعريف الشورى اصطلاحًا بالآتي:
؟ ثانيًا: تعريف الشورى اصطلاحًا:
الشورى: اصطلاحًا طلب الرأي من أهله، وإجالة النظر فيه، وصولًا إلى الرأي الموافق للصواب.
وقد عرفها الباحثون بتعاريف عدة ومنها تعريف الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس، إذ يقول: الشورى: تعني تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا واختبارها من أصحاب العقول والأفهام حتى يتوصل إلى الصواب منها أو إلى أصوبها وأحسنها ليعمل به لكي تتحقق أحسن النتائج. (٢)
أما الشيخ أحمد محيي الدين العجوز - فعرفها بقوله:
الشورى: هي تبادل الآراء في أمر من الأمور لمعرفة أصوبها وأصلحها لأجل اعتماده والعمل به. (٣)
وعرفت الشورى بأنها: استنباط المرء رأيًا فيما يعرض له من الأمور والمشكلات، وهذا التعريف يدخل فيه التشاور في كل ما يعرض من المشاكل بين الأسرة، كما في حق فطام الطفل الرضيع إذ يقول الله تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (٤)، ويستفاد من النص ضرورة التشاور (٥).
_________
(١) - لسان العرب ٤/ ٤٣٧ مصدر سابق.
(٢) - د. محمد أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ٧٩ مصدر سابق.
(٣) - الشيخ أحمد محيي الدين العجوز: مناهج الشريعة الإسلامية ٢/ ١٢٨ مكتبة المعارف - بيروت ١٤٠١هـ ١٩٨١م.
(٤) - سورة البقرة، آية (٢٣٣).
(٥) - ذكره المؤلف حسين بن محمد المهدي في مؤلفه الموسوم بحقوق الإنسان في السنة النبوية ص٤٨٦ الطبعة الأولى ١٤٢٥هـ.
1 / 28