الاتصال والانقطاع
الناشر
مكتبة الرشد
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
مكان النشر
الرياض - المملكة العربية السعودية
تصانيف
سلسلة نقد المرويات
(٢)
الاتصال والانقطاع
بقلم
إبراهيم بن عبدالله اللاحم
١٤٢٥ هـ
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذا هو القسم الثاني من سلسلة (نقد المرويات)، يتعلق بمباحث اتصال الإسناد وانقطاعه، سرت فيه على الطريقة التي سرت عليها في القسم الأول (الجرح والتعديل)، وذلك فيما يتصل بشمول البحث لأكبر قدر ممكن من المسائل التي تندرج تحت هذا الموضوع، مع مراعاة الحيز المخصص لكل منها، بحيث ينسجم ذلك مع القدر المخصص للموضوع كله، فغير خاف أن بحث هذه المسائل مجتمعة، يختلف عنه في حال إفراد كل مسألة منها ببحث يختص بها.
وقد كنت أثناء كتابتي للقسم الأول يثور دائمًا في نفسي هاجس الخوف من التعمق في بحث جزئياته، والتشعب في تناولها، بحيث يؤدي ذلك إلى الحيلولة دون فهم القارئ لما يكتب، أو ملله، فاجتهدت ما أمكنني في تفادي هذه المشكلة التي قد يقع فيها الباحث دون أن يشعر.
وفي هذا القسم لا أتردد في القول بأن هذا الهاجس قد ارتفعت وتيرته، وزادت حدته، لسبب بسيط جدًا، سيدركه القارئ لأول وهلة، وهو أن المسائل المندرجة تحت باب (الاتصال والانقطاع) تفوق - بكثير - في الدقة والعمق والتداخل ما يتصل بـ (الجرح والتعديل)، مع أن طرق هذا الموضوع والبحث في قواعده من قبل الأئمة والباحثين لا يقارن به في الكثرة طرقهم لموضوع (الاتصال والانقطاع).
ومع أنني بذلت أقصى جهدي في الكتابة بطريقة سهلة ميسرة، متجنبًا
1 / 5
الخوض في بعض الدقائق التي رأيت أن صرف النظر عن البحث فيها ضمن هذا المشروع هو الأنسب، إلا أنني مع ذلك آمل من القارئ الكريم - عطفًا على ما تقدم - أن يلتمس لي بعض العذر، إن وجد فيه مباحث أطلت فيها، أو كان تناولي لها بصفة حالت بين القارئ وفهمها.
كما آمل من القارئ الكريم أن يلتفت إلى نفسه أيضًا، فالبحث - أي بحث - لا شك أن المقصود به القارئ، وعليه أيضًا يقع جزء من التبعة في فهم واستيعاب ما يقرأ، وأعني بذلك أن الباحث مطالب بالاقتراب ما أمكن من القارئ، لكن لا يجوز له أبدًا أن يهبط ويضعف في تناول جزئيات بحثه، إذ يقع على القارئ النصف الباقي من الطريق إلى نقطة الالتقاء، وعليه أن يبذل جهده في قطع هذا الجزء من الطريق، ليلتقي بالباحث الذي يقرأ له.
ولست أعني بما قلت أن القارئ لابد أن يوافق الباحث فيما وصل إليه، وإلا فقد أخلّ بمسؤولياته، فهذا لا يمكن لأحد أن يقر به، أو يقول به، وإن سلكه بعض الباحثين في بحوثهم، فتجده يأخذ بتلابيب القارئ، ويتهدده ويتوعده إن لم يوافقه على ما يقول، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إقحام قضايا الابتداع ومخالفة أهل السنة في مسائل علمية بحتة.
وإنما الذي أعنيه أن يكون القارئ لديه ملكة يستطيع بها فهم القاعدة التي تقرر، والربط بينها وبين ما يساق لها من أدلة، أو ما يضرب لها من أمثلة، والمتن في التطابق بينهما، والتوقف فيما يوجب التوقف، والقدرة على المناقشة وتحرير موضعها، وحسن السؤال عن ذلك، فهذا هو المفترض في القارئ، ولا يتم ذلك كله إلا بالاستعداد النفسي، والقراءة المتأنية، بل وتكرار القراءة أحيانًا، وتفريغ الذهن من المشاغل ما أمكن.
1 / 6
وعندي أمل كبير أن يكون القارئ - بعد قراءته للقسم الأول (الجرح والتعديل) - قد تهيأ للقسم الثاني هذا، فهذا العلم - كغيره من العلوم - حلقاته مترابطة، يأخذ بعضها بزمام بعض، فكثير من تقسيمات العلوم ألجأ إليها حاجة التعليم والتفهيم.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للسداد والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه
إبراهيم بن عبد الله اللاحم
بريد إلكتروني:
IBRAHIMALLAHEM ٣@hotmail.com
1 / 7
تمهيد
اتصال الإسناد أحد الشروط الخمسة المعروفة لصحة الحديث، مع أن حقيقة هذا الشرط تعود إلى شرطين آخرين وهما عدالة الرواة، وضبطهم، إذ الإسناد المنقطع لم يتحقق فيه وجود هذين الشرطين، فقد يكون الساقط غير عدل، أو غير ضابط، وحينئذٍ فالنص على شرط الاتصال إنما هو - فيما أرى - من باب التأكيد.
وقد تضافرت نصوص النقاد في اشتراط اتصال الإسناد، فروى حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عائشة حديث: "كان النَّبِيُّ ﷺ لا يصلي في ملاحفنا "، ثم قال حماد: "سمعت سعيد بن أبي صدقة قال: سألت محمدًا عنه فلم يحدثني، وقال: سمعته منذ زمان، ولا أدري أسمعته من ثبت أم لا؟ فسلوا عنه" (^١).
وقال يحيى بن سعيد القطان: "ينبغي لكتبة الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجل - يعني المحدث -، ثم يتعاهد ذلك منه - يعني نطقه - يقول: حدثنا، أو سمعت، أو يرسله، فقد قال هشام بن عروة: إذا حدثك رجل بحديث فقل: عمن هذا؟ أو ممن سمعته؟ فإن الرجل يحدث عن آخر دونه - يعني دونه في الإتقان والصدق -، قال يحيى: فعجبت من فطنته" (^٢).
_________
(^١). "سنن أبي داود" حديث (٣٦٨).
(^٢). "الجرح والتعديل" ٢: ٣٤.
1 / 9
وروى إبراهيم بن عيسى الطالقاني، قال: " قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبدالرحمن، الحديث الذي جاء: "إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك"، قال: فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال: قلت: هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال: ثقة، عَمَّن؟ قال: قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عَمَّن؟ قال: قلت: قال رسول الله ﷺ، قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج بن دينار وبين النَّبِيّ ﷺ مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل، ولكن ليس في الصدقة اختلاف" (^١).
وقال الشافعي: "إذا اتصل الحديث عن رسول الله ﷺ، وصح الإسناد به، فهو سنة، وليس المنقطع بشيء، ماعدا منقطع سعيد بن المسيب" (^٢).
وقيل لأحمد بن حنبل: حديث عن رسول الله ﷺ مرسل برجال ثبت أحب إليك، أو حديث عن الصحابة أو عن التابعين متصل برجال ثبت؟ فقال أحمد: "عن الصحابة أعجب إليّ" (^٣).
وقال محمد بن يحيى الذهلي: "لا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصل غير المنقطع، الذي ليس فيه رجل مجهول، ولا رجل مجروح" (^٤).
وقال مسلم حكاية عن غيره مقرًا له: "والمرسل من الروايات في أصل
_________
(^١). "صحيح مسلم" ١: ١٦، و" الجرح والتعديل" ١: ٢٧٤.
(^٢). "آداب الشافعي ومناقبه" ص ٢٣٢، و" المراسيل" ص ٦.
(^٣). "مسائل إسحاق" ٢: ١٦٥، و" الكفاية" ص ٣٩٢.
(^٤). "الكفاية" ص ٢٠.
1 / 10
قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة" (^١).
وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي وأبازرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة، وكذا أقول أنا" (^٢).
وقال ابن خزيمة في بيانه لشرطه في "صحيحه": "بنقل العدل عن العدل، موصولًا إليه ﷺ، من غير قطع في أثناء الإسناد ... " (^٣)
ولهذا السبب فقد بذل أئمة الحديث جهدًا كبيرًا في البحث عن الاتصال والانقطاع، فدرسوا كل راوٍ تقريبًا، درسوا رواياته عن شيوخه، فقالوا مثلًا: فلان روايته عن فلان متصلة، فلان سمع من فلان وفلان، فلان روايته عن فلان مرسلة، فلان لم يسمع من فلان، فلان رأى فلانًا ولم يسمع منه، أو دخل عليه لكن لم يسمع منه، إلى غير ذلك، ونظروا في مراسيل المشهورين بذلك من الرواة وحكموا عليها، ووازنوا بينها، وفي كلامهم على الأحاديث التزموا هذا الشرط، فضعّفوا أحاديث كثيرة جدًا بالانقطاع، وهذا أمر متقرر مشهور.
ونلاحظ في كلام النقاد على مراتب أحاديث الأقطار الإسلامية تأثير الاتصال والانقطاع في هذه المراتب (^٤).
وعلى الباحث أن يسلك منهج هؤلاء الأئمة في التحقق من اتصال الإسناد أو انقطاعه، وهو في سبيل ذلك عليه النظر أولًا في سماع كل راو في الإسناد ممن
_________
(^١). "صحيح مسلم" ٣٠: ١.
(^٢). "المراسيل" ص ٧.
(^٣). "صحيح ابن خزيمة" ١: ٥، وانظر أيضًا "صحيح ابن حبان" ١: ١٦٣.
(^٤). انظر: الجامع لأخلاق الراوي ٢: ٢٨٦ - ٢٨٨.
1 / 11
فوقه في الجملة، ثم سماعه لهذا الحديث بعينه منه، وكل هذا يسير فيه الباحث وفق قواعد وأصول منقولة عن أئمة النقد، أو مأخوذة من عملهم وتطبيقهم، فالأمر المتقرر في كل قضية من قضايا النقد هو النظر في عمل أئمة النقد وقواعدهم، ومتابعتهم في ذلك.
والمتأمل في عمل المشتغلين بنقد السنة في الوقت الحاضر يرى خللًا في التحقق من شرط الاتصال والانقطاع في دراستهم للأسانيد، إما لأن القاعدة لم تتحرر عند الباحث كما ينبغي، أو لأنه ذهب إلى خلافها، أو أُتي من قِبل طرده لبعض القواعد في وقت معارضة قواعد أخرى لها، وأهم مما سبق كله التقصير وعدم الاستقصاء في البحث.
والباحث يسير في عمله في التحقق من شرط الاتصال في ثلاث خطوات بارزة: الأولى: نظره في صفة الرواية للراوي عمن فوقه في الإسناد، وهل قصد الرواية عنه أو لا؟ الثانية: إذا كان قصد الرواية عنه فهل لقيه وسمع منه؟ الثالثة: إن كان قد لقيه وسمع منه فهل سمع منه هذا الحديث موضع الدراسة؟
وسأتناول هذه الخطوات الثلاث في ثلاثة فصول، أردفها بفصل رابع، أتناول فيه قضايا متفرقة تتعلق بالاتصال والانقطاع، وهي: درجات اتصال الإسناد وانقطاعه، ومصطلحات يتداولها الأئمة في كلامهم عن الاتصال والانقطاع، وحكم الباحث على الإسناد بعد فراغه من دراسة اتصاله وانقطاعه.
1 / 12
الفصل الأول
صفة رواية الراوي عمن روى عنه
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صيغ الأداء ودلالالتها.
المبحث الثاني: الرواية عن الشخص والرواية عن قصته.
1 / 13
المبحث الأول
صيغ الأداء ودلالالتها
تنقسم صيغ أداء الراوي للحديث قسمين رئيسين:
القسم الأول: الصيغ الصريحة في الاتصال مثل أن يقول: سمعت فلانًا يقول، أو حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو حدثني فلان، أو رأيت فلانًا فقال كذا، ونحو ذلك من العبارات الصريحة في الاتصال، فالباحث سيحكم بداية بأن الرواية بين هذا الراوي وبين من روى عنه متصلة، يحكم عليها بالاتصال بحكم أن الصيغة التي أدى بها هذا الراوي روايته تفيد ذلك، ومع هذا فإن مجرد وجود صيغة تدل بظاهرها على الاتصال لا يكفي، لكن البحث المبدئي يقتضي أن يحكم الباحث على الرواية بالاتصال، وقد يتبين له بعد ذلك خلاف ما حكم به، فقد تكون الصيغة صريحة في الاتصال ومع هذا فالإسناد منقطع، وهذا له صور:
منها ما إذا كان الراوي كذابًا، فإن كثيرًا من الكذابين يدعي السماع ممن روى عنه ويصرح بالتحديث، وهو لم يسمع منه، وقد تقدم في المبحث الأول من الفصل الأول من «الجرح والتعديل» ذكر عدة أخبار في تصريح الكذابين بالتحديث، وإقرارهم بأنهم لم يسمعوا شيئًا.
ومن الصور أيضًا ما يستخدمه بعض الرواة من الصيغ الموهمة للسماع وهو لا يقصد ذلك، مثل خطبنا فلان، أو جاءنا فلان، أو حدثنا فلان، وهو يقصد قومه أو أهل بلده.
1 / 15
ومنها - وهي أهمها - أخطاء الرواة، فتكون الرواية في الأصل ليس فيها تصريح بالتحديث، فيخطئ بعض رواة الأسانيد ويستبدل بها بصيغة صريحة في اللقي والسماع.
وانضم إلى ذلك منذ عصر الرواية إلى عصرنا هذا أخطاء النساخ، ثم أخطاء المطابع في العصر الحاضر، فصار لزامًا على الباحث أن يتريث في الحكم باتصال الإسناد وإن كان ظاهره الاتصال، ولا سيما إذا أخذ الإسناد من كتب غير مشهورة، مثل كتب الغرائب، وكتب الفوائد، والأجزاء الحديثية التي ليست من الكتب المشهورة، فهذه يكثر فيها وجود الأخطاء في الأسانيد، وكذلك الكتب المشهورة المنشورة دون تحقيق علمي جيد.
وسيأتي الحديث عن الصورتين الأخيرتين في المبحث الثاني من الفصل الثاني بشيء من التفصيل.
القسم الثاني: أن تأتي الرواية بصيغة محتملة للاتصال وعدمه، وهذه الصيغ كثيرة وأشهرها: عن فلان، فيقول الراوي: حدثنا فلان عن فلان، مثل أن يقول يحيى بن سعيد القطان مثلًا: حدثنا شعبة، عن قتادة، أو حدثنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، أو يقول الأعمش: حدثنا منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود.
ومن الصيغ المحتملة للسماع وعدمه: (قال)، (ذكر)، (حكى)، (حدث)، وما يؤول إليها، مثل: أن فلانًا قال، أو أنه ذكر ... الخ.
وكون هذه الصيغ - عدا (عن) - محتملة للسماع وعدمه أمر ظاهر، لأنها تستخدم في الأمرين كثيرًا، فيقول الشخص حاكيًا عن شخص شيئًا سمعه منه: قال فلان، ذكر فلان، كما يقول ذلك في حكاية قول شخص لم يسمعه منه، بل
1 / 16
قد يكون بينه وبينه أزمان متباعدة، كما نقول نحن: قال رسول الله ﷺ كذا.
وأما صيغة (عن) فإنما كانت محتملة للأمرين لأنها في الأصل ليست صيغة أداء، وإنما هي بدل عن صيغ الأداء، ثم هي قد يكون الراوي نفسه عبر بها، فيقول الأعمش - مثلًا - ابتداء: عن إبراهيم، أو عن أبي وائل، أو يقول يحيى القطان: عن سفيان الثوري ...، ويسوق الإسناد.
ومن النصوص في هذا ما ذكره أحمد، عن سفيان بن عيينة قال: "سمعت محمد بن المنكدر يقول غير مرة: عن جابر، قال: وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرًا، فظننت أنه سمعه من ابن عقيل، حديث جابر: «أن النبي ﵇ أكل لحمًا، ثم صلى ولم يتوضأ» " (^١).
وقال عمرو بن أبي سلمة: "قلت للأوزاعي في المناولة أقول فيها: حدثنا؟ قال: إن كنت حدثتك فقل، فقلت: أقول: أخبرنا؟ قال: لا، قلت: فكيف أقول؟ قال: قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو " (^٢).
وذكر عباس الدوري قال: "سألت يحيى بن معين عن حديث ورقاء بن عمر أنه كان يقول في أولها: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد - فقيل له (يعني لابن معين): ترى بأسًا أن يخرجها إنسان فيكتب في كل حديث: ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد؟ قال: ليس به بأس " (^٣).
_________
(^١). "مسند أحمد" ٣: ٣٠٧، و" مسائل أبي داود" ص ٣٢٢.
(^٢). " تاريخ أبي زرعة الدمشقي " ١: ٢٦٤، ٢: ٧٢٣.
(^٣). "الكفاية" ص ٢١٥.
1 / 17
وقال ابن معين: "كان ابن عيينة يدلس فيقول: عن الزهري، فإذا قيل له: من دون الزهري؟ فيقول لهم: أليس لكم في الزهري مقنع؟ فيقال: بلى، فإذا استقصي عليه يقول: معمر، اكتبوا لا بارك الله فيكم" (^١).
وقال أبوحاتم: "عبدالله بن شوذب خراساني ثقة، وقع إلى الرملة، ويقول ابن شوذب: عن الحسن، ولم يره ولم يسمع منه" (^٢).
وربما ذكر الراوي اسم نفسه من أجل الابتداء بـ (عن)، فيقول سفيان بن عيينة مثلًا لتلاميذه: اكتبوا: سفيان، عن عمرو بن دينار (^٣).
وفي الأغلب الأعم فإن التعبير بصيغة (عن فلان) إنما هو من التلميذ أو من دونه، إما لأن الراوي لم يذكر صيغة أصلًا، فقد يبتدئ باسم شيخه مباشرة، كما يفعله كثير من الرواة، وخاصة عند الإملاء، أو يكون الشيخ بين تلاميذه، فيذكر المتن، وهم يذكرون الإسناد، أو العكس، ويسمونه الترقيع.
ومن النصوص في ذلك ما رواه إبراهيم الحربي، عن أبي زرعة الرازي، عن إبراهيم بن موسى الفراء الصغير، قال: سمعت جريرًا يقول: "ليس هذه الأحاديث التي أحدثكم عن الأعمش سمعتها كما أحدثكم، إنما كان الأعمش يذكر الإسناد، فيقول بعض أصحابه: خبر هذا كذا، وخبر هذا كذا، فنكتبه عنهم، ويذكر الخبر فيقول بعض أصحابه: إسناد هذا كذا وكذا، فنكتبه عنهم"، قال إبراهيم الحربي: "فحدثت بذلك ابن نمير، فقال: هكذا ينبغي أن يكون
_________
(^١). "التمهيد" ١: ٣١.
(^٢). "المراسيل" ص ١١٦.
(^٣). انظر: "التمهيد" ١: ٢٧.
1 / 18
سماع أبي، وابن فضيل، ووكيع، ونظرائهم: مرقعًا، ولكن هؤلاء كتموا ذلك، وذاك تكلم به" (^١).
وقال أبوداود: "سمعت أحمد سئل عن المحدث يذكر الحديث فيقال: مَنْ دون فلان؟ فيقول: فلان - هو جائز؟ قال: نعم، قلت: يؤلفه - أعني الذي يسمع هكذا -؟ قال: يؤلفه، وهل كان شريك يحدث إلا هكذا؟ كان يذكر الحديث فيقال: من ذكره؟ فيقول: فلان، فيقال: عمن؟ فيقول: فلان" (^٢).
وقال المروذي: "سمعت أبا عبدالله يقول: كان أبو بدر لا يقول: حدثنا، ولقد أرادوه على أن يقول: حدثنا خصيف، فأبى، وقال: أليس هو ذا أقول: خصيف؟ " (^٣).
وقد يكون الراوي قد ذكر صيغة حين التحديث، إما صريحة في الاتصال أو في الانقطاع، أو محتملة لهذا وهذا، والغرض حينئذٍ من التعبير بـ (عن) التخفيف على رواة الحديث وكتبته، كما قال الخطيب: "إنما استجاز كتبة الحديث الاقتصار على العنعنة لكثرة تكررها، ولحاجتهم إلى كتب الأحاديث المجملة بإسناد واحد، فتكرار القول من المحدث: حدثنا فلان، عن سماعه من فلان - يشق ويصعب، لأنه لو قال: أحدثكم عن سماعي من فلان، وروى فلان عن سماعه من فلان، حتى يأتي على أسماء جميع مسندي الخبر، إلى أن يرفع إلى رسول الله ﷺ، وفي كل حديث يرد مثل ذلك الإسناد
_________
(^١). "الكفاية" ص ٧١، وانظر: "المعرفة والتاريخ " ٢: ٨٢٩.
(^٢). "مسائل أبي داود" ص ٢٨١، و"الكفاية" ص ٢١٢.
(^٣). "علل المروذي" ص ١٦٣.
1 / 19
- لطال وأضجر، وربما كثر رجال الإسناد حتى يبلغوا عشرة وزيادة على ذلك، وفيه إضرار بكتبة الحديث، وخاصة المقلين منهم (^١)، والحاملين لحديثهم في الأسفار، ويذهب بذكر ما مثلناه مدة من الزمان، فساغ لهم لأجل هذه الضرورة استعمال: عن فلان" (^٢).
وما أشار إليه الخطيب فيه نصوص كثيرة عن الأئمة، من ذلك قول الوليد: "كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول: حدثنا يحيى، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، حتى ينتهي، قال الوليد: فربما حدثت كما حدثني، وربما قلت: عن، عن، عن، تخففًا من الأخبار" (^٣).
وروى أحمد بن محرز قال: "سمعت يحيى بن معين يقول: قال يحيى بن سعيد القطان: كل حديث سمعته من سفيان قال: حدثني وحدثنا إلا حديثين: سماك عن عكرمة، ومغيرة عن إبراهيم - ذكر يحيى بن معين الحديثين فنسيتهما-، وكل حديث شعبة قال: حدثني وأخبرني، وكل حديث عبيدالله قال: حدثني وأخبرني، فإذا حدثتك عن أحد منهم فلا تحتاج أن أقول لك: حدثني ولا أخبرني، ولا حدثنا ولا أخبرنا، فقال حبيش بن مبشر - يفسر ذلك بحضرة يحيى بن معين -: هذا بمنزلة رجلٍ قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، فإذا قال بعد ذلك: حدثنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، لم يحتج أن يقول: حدثنا يزيد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وقال عبدالله بن
_________
(^١). يعني بالمقلين من هو قليل المال.
(^٢). "الكفاية" ص ٣٩٠.
(^٣). "المعرفة والتاريخ" ٢: ٤٦٤، و"الكفاية" ص ٣٩٠.
1 / 20
رومي اليمامي بحضرة ابن معين: هو أن يقول فيه: حدثنا، قال: حدثنا، ثم إذا قال: فلان عن فلان، كان كله حدثنا" (^١).
وقال محمد بن عبدالله بن عمار: "قلت له: (يعني لحفص بن غياث) ما لكم حديثكم عن الأعمش إنما هو: عن فلان، عن فلان، ليس فيه حدثنا، ولا سمعت؟ قال: فقال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت أبا عمار، عن حذيفة يقول ...، قال: وذكر حديثًا آخر مثله، قال: وكان عامة حديث الأعمش عند حفص بن غياث على الخبر والسماع" (^٢).
وقال أبو زرعة: "سألت أحمد بن حنبل عن حديث أسباط، عن الشيباني، عن إبراهيم، قال: سمعت ابن عباس، فقال: عن ابن عباس، فقلت: إن أسباط هكذا يقول، فقال: قد علمت، ولكن إذا قلت: عن فقد خلصته، وخلصت نفسي، أو نحو هذا المعنى" (^٣).
ومراد أحمد أن أسباط يخطئ في جعله رواية إبراهيم سماعًا من ابن عباس، فأبدل بها أحمد صيغة عن، سترًا عليه، ولكي لا يظن موافقته على الخطأ.
وقال أحمد في محمد بن سيرين: "لم يسمع من ابن عباس شيئًا، كلها يقول: نبئت عن ابن عباس" (^٤)، والموجود في رواياته عن ابن عباس أكثره بالعنعنة أو
_________
(^١). "معرفة الرجال" ص ٢١٥، وانظر: "تاريخ الدوري" ١: ٣٠٦.
(^٢). تهذيب الكمال" ٧: ٦٣.
(^٣). "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص ٧٦٨، وانظر: " مسند أحمد " حديث (٢٠٤٩).
(^٤). "العلل ومعرفة الرجال" ١: ٤٨٧، ٢: ٥٩٥، و"المراسيل" ص ١٨٦.
1 / 21
بصيغة (أن)، والقليل منه فيه ما ذكره أحمد (^١).
وقال عبدالله بن أحمد: "قال أبي: رأيت سنيدًا عند حجاج بن محمد، وهو يسمع منه كتاب "الجامع" - يعني لابن جريج -، فكان في الكتاب: ابن جريج قال: أخبرت عن يحيى بن سعيد، وأخبرت عن الزهري، وأخبرت عن صفوان بن سليم، فجعل سنيد يقول لحجاج: قل يا أبا محمد: ابن جريج، عن الزهري، وابن جريج، عن يحيى بن سعيد، وابن جريج، عن صفوان بن سليم، فكان يقول له هكذا.
ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج، وذمَّه على ذلك، قال أبي: وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذه؟ يعني قوله: أخبرت وحدثت عن فلان" (^٢).
قال ابن حجر بعد أن ذكر هذه القصة: "وحكى الخلال عن الأثرم نحو ذلك. ثم قال الخلال: وروي أن حجاجًا كان منه هذا في وقت تغيره، ويرى أن أحاديث الناس عن حجاج صحاح، إلا ما روى سنيد" (^٣).
وروى المروذي قال: " قال أحمد: كان ابن إسحاق يدلس، إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد يبين، إذا كان سماعًا قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال، ثم قال: يقول: قال أبو الزناد، قال فلان، قال: وتنظر في كتاب يزيد بن هارون: عن
_________
(^١). انظر: "تحفة الأشراف" ٥: ٢٣١، و" أطراف المسند" ٢: ٢٧٢، ٣: ٢٦٠.
(^٢). "العلل ومعرفة الرجال" ٢: ٥٥١.
(^٣). "تهذيب التهذيب" ٤: ٢٤٤.
1 / 22
أبي الزناد، كلها" (^١).
وقد جاء في نص واحد عن حماد بن زيد الابتداء بها من المحدث، والتعبير بها عن صيغة أخرى للشيخ، فقال عفان: "جاء جرير بن حازم إلى حماد بن زيد فجعل يقول: حدثنا محمد قال: سمعت شريحًا، حدثنا محمد قال: سمعت شريحًا، فجعل حماد يقول: يا أباالنضر: عن محمد، عن شريح، عن محمد، عن شريح" (^٢).
فاتضح مما تقدم أن صيغة (عن) محتملة للسماع وعدمه، إذ قد تكون هي أصل الرواية فهي في نفسها محتملة للسماع وعدمه، وقد تكون مبدلة عن صيغ صريحة في الاتصال أو الانقطاع أو عن صيغ محتملة.
وقد تحدث المعلمي عن استخدام (عن) في الرواية فذكر أنها كلها من تعبير من دون الراوي (^٣)، والذي يظهر ما تقدم آنفًا أنها قد تكون من إنشاء الراوي نفسه، وإن كان الأغلب الأعم أنها من تعبير من دونه.
وذكر أيضًا أنها مبدلة إما من صيغة صريحة كحدثنا، وسمعت، أو من صيغة محتملة كحدث وقال، ولا يحتمل أن تكون مبدلة من صيغة صريحة في الانقطاع مثل بلغني عن فلان، لأن فعل هذا من تدليس التسوية، لكن المعلمي رجع مرة أخرى فسلَّم بوقوع ذلك، حيث يكون الراوي معروفًا بالتدليس، فالراوي إذا كان كذلك، لا فرق بين أن تكون روايته بـ (عن)، أو مصرحًا
_________
(^١). "علل المروذي" ص ٣٨.
(^٢). "العلل ومعرفة الرجال" ٣: ٧٩، وانظر أيضًا: ٢: ٥٣٦.
(^٣). "التنكيل" ١: ٨٢.
1 / 23
بالانقطاع (^١).
والذي ظهر لي أنها تستخدم بدلًا عن الصيغ الصريحة في الانقطاع مع المدلس ومع غيره، وقد تقدم في الأمثلة آنفًا ما يوضح ذلك، ويأتي له أمثلة تطبيقية في أماكن أخرى من هذا الكتاب.
بل إنها تستخدم مع إسقاط راو في وسط الإسناد، ثم تجعل الرواية بين من دونه ومن فوقه بـ (عن)، سواء كان بقصد التدليس، كما يفعله من يدلس تدليس التسوية، وسيأتي هذا بأمثلته، أو بغير قصد التدليس، كما يفعله مالك وغيره (^٢).
قال الجياني بعد أن تكلم على حديث أسقط فيه وهب بن جرير بن حازم أحد رواته، وربما ذكره: " وإنما كان يسقطه وهب بن جرير بن حازم في بعض الأحايين، ويسوقه معنعنًا: على طريق التخفيف، وتقريب الإسناد، أو تزيينه" (^٣).
وسيأتي في المبحث الثاني أنها تستخدم بغير قصد الرواية، فليست مبدلة عن صيغة أداء أصلًا.
فالخلاصة أن من قال: إن الرواة لا يبدلون (عن) إلا من صيغ صريحة في الاتصال، أو محتملة - لم يحرر قوله هذا جيدًا، والله أعلم.
ولما كانت هذه الصيغ محتملة للسماع وعدمه فقد شدد بعض الأئمة، فرأوا أن لا يقبل إلا ما فيه تصريح بالتحديث، وقد حكى هذا المذهب الحارث
_________
(^١). "التنكيل" ١: ٨٢، ٢٢٧ - ٢٢٩.
(^٢). "النكت على كتاب ابن الصلاح" ٢: ٦١٨ - ٦٢١.
(^٣). "تقييد المهمل" ٢: ٦٥٥.
1 / 24