جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين - عبد القيوم السندي
الناشر
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وبعد:
فإن القرآن الكريم بحر لا يدرك غوره، ولا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فما أحق الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تشغل به، ومما يسعدني أن أشارك في هذه الندوة المباركة التي يعزم مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة على عقدها بعنوان: عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه بكتابة بحث في موضوع: جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين.
ولا شك أن المملكة العربية السعودية منذ نشأتها وتوحيدها على يد مؤسسها صقر الجزيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود "يرحمه الله" سباقة إلى كل خير في مختلف المجالات، وتقدم للمسلمين في أرجاء المعمورة – دون تمييز بين الأبيض والأسود – كل ما ينفعهم في الدارين، من عقيدة صافية، ومنهج سديد، وكتاب مفيد، وجو آمن، وعيش رغيد. ومن سلسلة أعمالها الخيرة – التي لا تأتي في الحصر – قيام هذا الصرح الشامخ للعناية بكتاب الله تعالى باسم "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف" بالمدينة النبوية على يد منظم المملكة ومطورها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود "رزقه الله الصحة والعافية، وأمد في عمره في طاعته".
1 / 1
وهذه – في الحقيقة - سلسلة مترابطة ومتواصلة لعناية المسلمين حكامًا وشعوبًا وأفرادًا وجماعات بالقرآن الكريم – كلام الله - عملًا بقول المصطفى ﷺ:
"القرآن أفضل من كل شيء، فمن وقَّر القرآن فقد وقَّر الله، ومن استخف بالقرآن فقد استخفّ بحق الله تعالى"١.
والأمة الإسلامية عنيت بالقرآن الكريم عناية فائقة من لدن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، فقد حفظت لفظه، وكشفت عن معانيه، واستقامت على العمل به عملًا بقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (فصلت: ٣٠)، وأفنت أعمارها في البحث والدراسة فيه، وفي الكشف عن أسراره، ولم يترك علماء المسلمين ناحية من نواحيه إلا أشبعوها بحثًا وتمحيصًا، وألفوا في ذلك مؤلفات قيمة في التفسير، والقراءات وما يتعلق بها من علوم كعلم الرسم والضبط والفواصل (عد الآي) والوقف والابتداء، وتوجيه القراءات، وألفوا في فضائل القرآن وآداب تلاوته، وأحكام القرآن، وفي الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وفي إعجاز القرآن، وغريبه، وإعرابه، وقصصه، وفي أمثاله وأقسامه، ومنهم من ألف في تناسب آياته وسوره... إلى غير ذلك من علوم ومعارف يقول فيها الإمام بدر الدين الزركشي٢:
_________
١ الوجيز في فضائل الكتاب العزيز للقرطبي، ص:٩٧، وقد ذكره السيوطي في الجامع الكبير وعزاه إلى أبي نصر السجزي في الإبانة، والحكيم الترمذي في النوادر (مرسلا)، والحاكم في تاريخه (موصولًا)، انظر هامش الوجيز.
٢ هو بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي أحد العلماء الأثبات، ولد في القاهرة سنة (٧٤٥هـ)، له مؤلفات مفيدة وكثيرة عد منها محقق البرهان (٣٣) كتابًا، توفي في مصر سنة: (٧٩٤هـ)، ترجمته في: حسن المحاضرة للسيوطي:١/١٨٥، الدرر لابن حجر: ٣/٣٩٧، الشذرات لابن العماد: ٦/٣٣٥.
1 / 2
" ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره، ثم لم يحكم أمره،.."١
وكل ذلك بتسخير من الله (عزوجل) منزّل هذا الكتاب العزيز مصداقًا لقوله ﷾ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩)، وليس هذا إلا معجزة من معجزات هذا الكتاب الذي قال الله تعالى في وصفه: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت:٤٢)، ثم خص به من شاء من بريته وأورثه من اصطفاه من خليقته: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: ٣٢) .
هذا، وأسأل الله تعالى أن يوفقني لكتابة ما ينفعني وينفع الأمة الإسلامية في الدنيا والآخرة، ويكون إسهامًا مني في مجال إبراز دور المملكة العربية السعودية في خدمة القرآن الكريم وعلومه.
والله الموفق والمعين،،،
_________
١ البرهان: ١/١٢.
1 / 3
خطة البحث:
لقد قسمت البحث إلى: تمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة.
أما التمهيد: فيحتوي على:
(١) تعريف القرآن الكريم لغة واصطلاحًا.
(٢) مفهوم جمع القرآن الكريم.
(٣) صلة القرآن بالقراءات.
المبحث الأول:
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ﵁، وتحته مطالب:
المطلب الأول: أبو بكر وعهده.
المطلب الثاني: بواعث الجمع وأسبابه.
المطلب الثالث: المكلّف بالجمع.
المطلب الرابع: كيفية الجمع.
المطلب الخامس: وسائل الجمع.
المطلب السادس: نتائج الجمع وفوائده.
المبحث الثاني:
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان ﵁ وتحته مطالب:
المطلب الأول: عثمان بن عفان وعهده.
المطلب الثاني: بواعث الجمع وأسبابه.
المطلب الثالث: اللجنة المكلفة بالجمع.
المطلب الرابع: كيفية الجمع.
1 / 4
المطلب الخامس: عدد مصاحف عثمان، وإلى أين أرسلت؟
المطلب السادس: قضية الرسم المصحفي، من حيث كونه توقيفيًا أو غير توقيفي.
المطلب السابع: قضية إتقان الكتابة لدى الصحابة.
المطلب الثامن: نتائج الجمع وفوائده.
المبحث الثالث: وفيه مطلبان:
(١) الفروق المميزة بين الجمعين.
(٢) الأحرف السبعة ومراعاتها في الجمعين.
الخاتمة:
أهم نتائج البحث والدراسة.
منهجي في البحث:
لقد حاولت بقدر المستطاع أن تكون المعلومات مستقاة من المصادر الأصيلة. وترجمت للأعلام –عدا أشهر الصحابة – الوارد ذكرهم في ثنايا البحث في الحواشي.
ترجمت للخليفتين الراشدين (أبي بكر وعثمان) ولأعلام اللجنة المكلفة بجمع القرآن الكريم في صلب البحث، لما لهم من أهمية بالغة ودور كبير في المهمة.
وعرفت بلفظ (القرآن) لغةً واصطلاحًا، وأوضحت مفهوم الجمع، وبينت صلة القرآن بالقراءات في التمهيد لأهمية كل ذلك، وصلته الوثيقة بالموضوع.
1 / 5
وتعرضت لجمع القرآن الكريم في عهد الخليفتين الراشدين (أبي بكر وعثمان) فقط، حيث إن جمعهما هو الجمع الرسمي، أما ما قيل في جمعه من قبل غيرهما فلا أصل له.
وحاولت بقدر المستطاع أن يمتاز البحث بالجدية، والعمق والأصالة، والتركيز وحسن الترتيب، مع مراعاة كونه مفهومًا لدى عامة الناس ومقبولًا لدى خواصهم.
ملاحظة: لم أتطرق لسرد شبهات حول النص القرآني وجمعه وتفنيدها، لكونه عنوانًا مستقلًا، وخامس محاور الندوة.
هذا ما تهيأ لي، فإن كنت موقفًا فهو من الله تعالى، وله الشكر والمنة، وإن كان غير ذلك فلا ألومنّ إلا نفسي، واسأل الله العفو والصفح.
1 / 6
التمهيد
تعريف القرآن:
القرآن (لغةً) مأخوذ من (قرأ) بمعنى: تلا،وهو مصدر مرادف للقراءة، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: ١٧-١٨) أي قراءته.
ومنه قول حسان بن ثابت١رضي الله عنه في رثاء عثمان بن عفان رضي الله عنه٢:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا
أي: قراءة ٣.
و(القرآن) على وزن فعلان كغفران وشكران، وهو مهموز كما في قراءة جمهور القراء، ويقرأ بالتخفيف (قران) كما في قراءة ابن كثير٤.
وأصله من (القرء) بمعنى الجمع والضم، يقال: قرأت الماء في الحوض، بمعنى جمعته فيه، يقال: ما قرأت الناقة جنينًا، أي لم تضمَّ رحمها على ولد.
وسمى القرآن قرآنًا لأنه يجمع الآيات والسور ويضم بعضها إلى بعض٥.
_________
١ هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، وقيل أبو الوليد، شاعر رسول الله ﷺ وأحد المخضرمين، عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام، اشتهرت مدائحه في الغسانيين وملوك الحيرة، عمي قبل وفاته، وتوفي في سنة ٥٤هـ. التهذيب:٢/٢٢٧-٢٢٨، التقريب: ١/١٦١، الإصابة: ١/٣٢٦، الأعلام:٢/١٧٥-١٧٦.
٢ ستأتي ترجمته.
٣ البيت في ديوان حسان بن ثابت، وقد استدل به ابن عطية لتأكيد مصدرية القرآن، انظر: مقدمتان في علوم القرآن، ص ٢٨٤، والشمط: في الرجل شيب اللحية، اللسان، مادة (شمط):٧/٣٣٥-٣٣٦.
٤ قال الشاطبي: ونقل قرآن والقران دواؤنا.. حرز الأماني، البيت رقم: ٥٠٢.
٥ راجع لسان العرب (قرأ):١/١٢٨، مجاز القرآن لمعمر بن المثنى:١/١-٣، مناهل القرآن للزرقاني:١/١٤-١٥.
1 / 7
ولقد أصبح (القرآن) علمًا شخصيًا على كلام الله تعالى، ومنه قوله تعالى ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ ١.
واصطلاحًا:
" هو كلام الله تعالى المنزل على محمد ﷺ للبيان والإعجاز، المجموع بين دفتي المصحف،، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر جيلًا بعد جيل" وحول هذا المعنى تدور تعريفات كثير من الأصوليين، والفقهاء للقرآن الكريم٢.
يقول الدكتور/ محمد عبد الله دراز ٣:
" روعي في تسميته قرآنا كونه متلوًا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)،فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم
_________
١ سورة الإسراء: ٩، وانظر تعريف القرآن في الإتقان: ١/٥٠.
٢راجع تيسير التحرير لأمير بادشاه: ٣/٣، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي:١/٢٢٨، كشف الأسرار للنسفي مع نور الأنوار للملاجيون:١/١٧، إرشاد الفحول، ص:٢٩، واقرأ كلام النويري في رسالته: القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ، ص٥٥، المطبوعة مع شرح الطيبة للنويري.
(القرآن كلام الله، منه بدا، بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر) الطحاوية ١/١٦٨ (اللجنة العلمية) .
٣علم من أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، رزق الحظ الأوفر من علوم الإسلام، كما نهل من علوم أوربا الشيء الكثير، ولد في قرية (محلة دياي) بمحافظة كفر الشيخ عام ١٨٩٤، وحصل على العالمية الأزهرية عام ١٩١٦م، ونال الدكتوراه من فرنسا عام ١٩٤٧م، من مؤلفاته: التعريف بالقرآن، الأخلاق في القرآن، الدين، النبأ العظيم، توفي في مدينة لاهور بباكستان عام ١٩٥٨م، انظر فاتحة كتابه: النبأ العظيم، قال الزركلي: فقيه متأدب، الأعلام: ٦/٢٤٦.
1 / 8
المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر ١".
مفهوم جمع القرآن:
جمع القرآن يعني أمرين اثنين،وهما:
أ-حفظه واستظهاره في الصدور٢:
فقد حفظ الرسول ﷺ كل ما نزل عليه من الوحي في صدره الشريف، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ (الأعلى: ٦)، وكان الرسول ﷺ يعارض جبريل بالقرآن في كل عام مرة، وفي العام الذي انتقل فيه إلى رفيقه الأعلى عارضه مرتين.
كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره عن عائشة عن فاطمة ﵄ أنها قالت: أسَرَّ إليَّ النبيُّ ﷺ أنَّ جبريلَ كانَ يعارضُنِي بالقرآنِ كلَّ سنةٍ وأنهُ عارضَنِي العامَ مرَّتينِ ولا أراهُ إلا حضَرَ أجَلِي ٣".
وفي ذلك يقول الإمام أبو عمرو الداني٤:
_________
١النبأ العظيم ص: ١٢-١٣.
٢ومنه قول عثمان ﵁: ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ﷺ، أي حفظته، تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص:١٦٢.
٣ البخاري، فضائل القرآن: ٦/١٠١، المناقب، رقم:٣٣٥٣ن مسلم، فضائل الصحابة رقم: ٢٤٥٠، أبو داود رقم:٥٢١٧، مسند أحمد، رقم: ٢٥٢٠٩، وراجع فضائل القرآن لأبي الفضل الرازي، ص: ٥١، البرهان للزركشي:١/٢٣٢،لطائف الإشارات للقسطلاني: ١/٢٣.
٤ عثمان بن سعيد بن عثمان، أبو عمرو الداني، القرطبي، علم من أعلام القراء، ثقة حجة في القراءات وعلومها، ولد بدانية من بلاد الأندلس في: ٣٧١هـ، له أكثر من مائة مؤلف، أشهرها التيسير في القراءات السبع الذي نظمه الشاطبي في اللامية، توفي بدانية في ٤٤٤هـ، معرفة القراء الكبار: ١/٤٠٦، غاية النهاية: ١/٥٠٣.
1 / 9
وكان يعرض على جبريل ... في كل عام جملة التنزيل
فكان يقريه في كل عرضة ... بواحد من الحروف السبعة
حتى إذا كان بقرب الحين ... عرضه عليه مرتين١
كما حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب جم غفير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكذلك أبي بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، وزيد بن ثابت وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وغيرهم من الصحابة ﵃ وهم الذين دارت أسانيد قراءات الأئمة العشرة عليهم٢.
يقول العلامة ابن الجزري٣:
" ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي ﷺ قال: "إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت له: رب إذًا يثلغوا٤ رأسي حتى يدعوه خبزةً، فقال: مبتليك ومبتلى بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظان، فابعث جندًا أبعث مثلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق ينفق
_________
١ الأرجوزة المنبهة، البيت رقم: ٧٠-٧٢، ص:٨٧.
٢ انظر: الوجيز للقرطبي ص: ١٧٧، النشر: ١/٦، الإتقان:١/٢٢٢، مناهل العرفان:١/٢٤٢.
٣ محمد بن محمد بن محمد، شمس الدين أبو الخير، المعروف بابن الجزري، الدمشقي، علم من أعلام القراء، ولد ونشأ في دمشق سنة:٧٥١هـ، من أشهر مؤلفاته: النشر في القراءات العشر، غاية النهاية في طبقات القراء، منظومة الطبية في القراءات العشر، والدرة المضيئة في القراءات الثلاث، المقدمة الجزرية في التجويد، توفي في شيراز من مدن إيران الحالية عام ٨٣٣هـ، غاية النهاية: ٢/٢٤٧، الأعلام: ٧/٤٥.
٤ أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز، أي يكسر.
1 / 10
عليك" ١، فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته" أناجيلهم في صدورهم٢".
وقد ساعدهم على حفظه نزوله منجمًا ومفرقًا، ولم يكن هم الصحابة حفظ ألفاظ القرآن فحسب، بل جمعوا إلى حفظ اللفظ فهم المعنى، وتدبر المراد، والعمل بمقتضى ما تضمنه من الأحكام والآداب.
قال أبو عبد الرحمن السلمي٣: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن.. أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا٤.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، وهذا هو السر فيما روى أن ابن عمر ﵄ أقام على حفظ سورة البقرة ثمان سنين٥.
أ - كتابته كله حروفًا وكلمات وآيات وسورًا.
وقد حدث ذلك في الصدر الأول ثلاث مرات:
الأولى: في عهد النبي ﷺ، حيث كان النبي ﷺ ينادي واحدًا من كتاب الوحي فيأمره بكتابة ما نزل عليه من الوحي، وكان ﷺ يرشدهم
_________
١ مسلك: صفة الجنة ونعيمها، رقم: ٢٨٦٥، مسند أحمد برقم: ١٧٤١٤ (١٣/٣٨٧)، وانظره في الوجيز للقرطبي ص:١٧٥.
٢ النشر: ١/٦.
٣ هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي الكوفي، التابعي الجليل، شيخ الحسنين ﵄،ثقة ثبت، إليه انتهت القراءة تجويدًا وضبطًا، توفي بعد (٧٠هـ)، غاية النهاية:١/١٤١، معرفة القراء: ١/٥٢، التقريب: ١/٤٠٨.
٤ أخرجه أحمد في مسنده (٥/٤١٠)،وانظره في مجمع الزوائد للهيثمي (١/١٦٥)، والوجيز للقرطبي ص:١٣٧.
٥ الموطأ، باب ما جاء في القرآن: رقم: ١١، ١/٢٠٥.
1 / 11
إلى مواضع الآيات من السور (١، ولم ينتقل الرسول ﷺ إلى رفيقه الأعلى إلا والقرآن كله كان مكتوبًا، مرتب الآيات في سورها، غير أنه لم يكن مرتب السور، ولا مجموعًا في مصحف واحد، ولا موجودًا في مكان واحد، بل كان مفرقًا لدى الصحابة، وكان ذلك لما كان يتوقع من نزول ناسخ لآية حكمًا أو تلاوة٢.
والثانية: في خلافة أبي بكر ﵁ ٣.
والثالثة: على عهد عثمان بن عفان ﵁ ٤.
وسيأتي تفصيل كل ذلك في الصفحات التالية.
صلة القرآن بالقراءات:
هنا سؤال يطرح نفسه، هو أنه: هل القرآن والقراءات شيء واحدا؟ أي بينهما اتحاد كلّي، أو أنهما شيئان متغايران؟ أي بينهما تغاير كلي.
بين المتأخرين والمعاصرين من علماء القراءات في ذلك خلاف.
أ-يرى بعض المتأخرين من العلماء أن بينهما تغايرًا كليًا، أي هما شيئان مختلفان، لأن القرآن هو الوحي المنزل على محمد ﷺ للبيان والإعجاز، والقراءات: هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف أو في كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما...٥
_________
١ انظر: سنن أبي داود:١/٢٠٦، رقم:٧٨٦، والترمذي:٥/٢٥٤، رقم:٣٠٨٦، ومسند أحمد:١/٥٧، وجمال القراء:١/٨٤-٨٥، وتفسير الطبري:١/١٠٢، والقرطبي:٨/٦١، وراجع البرهان للزركشي:١/٢٣٢.
٢ انظر: الإتقان:١/١٦٤.
٣ ستأتي ترجمته.
٤ الإتقان: ١/١٨١، مناهل العرفان:١/٢٣٩.
٥ ذهب إليه العلامة بدر الدين الزركشي في البرهان: (٣١٨)، وتبعه في ذلك العلامة القسطلاني في لطائف الإشارات ١/١٧١) والبنا الدمياطي في إتحاف فضلاء البشر (١/٦٨) .
1 / 12
ب-ويرى بعض المعاصرين أنهما حقيقتان بمعنى واحد – أي بينهما اتحاد كلي -، وذلك لأن القرآن: مصدر مرادف للقراءة، والقراءات: جمع قراءة، إذًا فهمًا حقيقتان بمعنى واحد، كما أن أحاديث نزول القرآن على الأحرف السبعة تدل دلالة واضحة على أنه لا فرق بينهما، إذ كل منهما وحي منزل١.
ج- والذي نراه هنا – والله أعلم – هو أن نفصل القول في القراءات.
فالقراءات قسمان: المقبولة والمردودة.
أما المقبولة، فهي التي تتوفر فيها الشروط الثلاثة المتفق عليها لقبولها، وهي:
أن تكون القراءة متواترة، وأن توافق وجهًا من وجوه اللغة العربية، وأن توافق أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
وهذا القسم هو الذي قال فيه العلماء:
_________
(١) يجب على كل مسلم اعتقاد قرآنيته.
(٢) يقرأ به تعبدًا في الصلوات وخارجها.
(٣) يكفر جاحدُ حرفِ منه.
وهذا بعينه هو ما يقال في القرآن، وهل يقرأ القرآن إلا برواية من روايات القراءات المتواترة؟ كما نقرأ نحن اليوم برواية الإمام حفص عن عاصم، ويقرأ أهل ليبيا برواية الإمام قالون عن نافع، ويقرأ أهل موريتانيا ونيجيريا وبعض البلاد الأفريقية الأخرى برواية الإمام ورش عن نافع، وكذا يقرأ أهل إثيوبيا
١ انظر" في رحاب القرآن " للدكتور/ محمد سالم محيسن: ١/٢٠٩، وقد رد عليه الدكتور/ شعبان محمد إسماعيل واستبعد قوله وذهب إلى أنهما ليسا متغايرين تغايرًا كليًا كما أنهما ليسا متحدين اتحادًا كليًا، بل بينهما ارتباط وثيق كارتباط الجزء بالكل، انظر: القراءات أحكامها ومصدرها ص ٢٣،وهامشه على كتاب "اتحاف فضلاء البشر" للدمياطي: ١/٦٩.
1 / 13
وإريتريا والصومال وما جاورها برواية الإمام الدوري عن أبي عمرو، وقراءة الإمام أبي عمرو هي التي كانت رائجة في أكثر البلاد الإسلامية في عهد الإمام ابن الجزري (أي في القرن الثامن والتاسع الهجري) ١ كما هو حال رواية الإمام حفص اليوم، حيث تقرأ في أكثر من ثلثي العالم الإسلامي.
وعلى هذا، فالقرآن هو عين القراءات المتواترة، وبالعكس كذلك، فهما حقيقتان بمعنى واحد، أي بينهما اتحاد كلي.
وأما المردودة، فهي التي اختل فيها أحد الشروط الثلاثة لقبولها، أو كلها، وهي التي يطلق عليها: الشاذة، وقد قال العلماء فيها:
(١) لا يجوز اعتقاد قرآنيتها.
(٢) لا تجوز القراءة بها تعبدًا.
(٣) يجب تعزير من أصر على قراءتها تعبدًا وإقراءً.
وعلى هذا، فالقراءات: هي غير القرآن، وبينهما تغاير كلي، لأن الشاذة حتى لو ثبتت قراءة منها بسند صحيح لا يعتقد قرآنيتها، بل تعتبر من الأخبار الآحاد، والخبر الواحد من أقسام الحديث، والحديث غير القرآن٢.
_________
١ انظر: النشر: ١/٤١، ومنجد المقرئين.
٢ راجع لمزيد من التفصيل: القول الجاذ للنويري، ص: ٧٣-٨٨، ومقال الشيخ عبد الفتاح القاضي بعنوان: حول القراءات الشاذة والأدلة على حرمة القراءة بها، المنشور في مجلة كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ص:١٥ وما بعدها، وكتابه القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب، ص:٤-٨، وكتابنا: صفحات في علوم القراءات ص ١٧-٢٠.
1 / 14
المبحث الأول جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق ﵁
المطلب الأول: أبو بكر وعهده:
هو عبد الله بن عثمان (أبي قحافة) بن عامر بن كعب التيمي القرشي، أبو بكر الصديق، صهر رسول الله ﷺ، أول الخلفاء الراشدين، ولد بمكة بعد الرسول ﷺ بسنتين وأشهر، وبها نشأ، وهو أول من أسلم من الرجال، وأول من صلى مع الرسول ﷺ، وكان سباقًا إلى تصديق الرسول ﷺ فمن ثم لقب بالصديق، وهو مزامل النبي في هجرته، وضحى بنفسه وماله في الهجرة، وهو أفضل الناس بعد الرسول ﷺ بإجماع أهل السنة، وقد نزل فيه قرآن كثير١، ونشأ سيدًا من سادات قريش، وغنيًا من كبار أثريائهم وعالمًا بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، له في عصر النبوة مواقف مشرقة وجليلة، وهو صاحب المواقف البطولية يوم وفاة الرسول ﷺ، وفي قضية أهل الردة والمتنبئين، ففي عهده قضي على المرتدين، وقتل مسيلمة الكذاب، وفتحت اليمامة، وهو الذي نفذ جيش أسامة٢
ويمتد عهد خلافته من عام ١١ –١٣هـ، لمدة سنتين وبضعة أشهر، حيث بويع بالخلافة قبل دفن جثمان الرسول ﷺ وتوفي ﵁ بالمدينة في شهر جمادي الآخرة سنة ١٣هـ.
_________
١ تاريخ الخلفاء، ص: ٤٨.
٢ تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص: ٣١،٤٤،٧٣.
1 / 15
وفيه قال حسان بن ثابت ﵁ ١:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا (٢)
_________
١ طبقات ابن سعد: ٣/١٢٥، التهذيب: ٥/٣١٥، التقريب: ١/٤٣٢، غاية النهاية: ١/٤٣١، شذرات الذهب: ١/٢٤، الأعلام: ٤/١٠٢.
٢ تاريخ الخلفاء، ص: ٣٣.
المطلب الثاني: بواعث الجمع وأسبابه: بعد تولي أبي بكر ﵁ إمارة المسلمين واجهته أحداث جسيمة، خصوصًا ما كان من قبل أهل الردة، وما دار بعد ذلك من حروب طاحنة ومعارك عنيفة، خصوصًا ما كان في موقعة اليمامة٣، حيث استشهد فيها عدد كبير من الصحابة، منهم أكثر من سبعين من قراء الصحابة، فاشتد ذلك على الصحابة، ولا سيما على عمر ﵁ فاقترح على أبي بكر ﵁ أن يجمع القرآن، خشية ضياعه بموت الحفاظ وقتل القراء، فتردد أبو بكر لأول الأمر ثم شرح الله صدره لما شرح له صدر عمر ﵁، فكان هو أول من جمع القرآن بين اللوحين٤، وكان أحد الذين حفظوا القرآن كله٥. _________ قال الحموي: بين اليمامة والبحرين عشرة أيام، وهي معدودة من نجد وقاعدتها حجر، وتسمى اليمامة جوًا والعَروض – بفتح العين، وكان اسمها قديمًا: جوّا، فسميت اليمامة باليمامة بنت سهم بن طسم، (معجم البلدان:٥/٤٤٢)، أما غزوة اليمامة فكانت سنة ١٢هـ (شذرات الذهب:١/٢٣) قتل فيها عدو الله مسيلمة الكذاب، وآلاف من جنده وأعوانه، وفتحت على يد خالد بن الوليد صلحًا، واستشهد فيها أكثر من سبعمائة من كبار المهاجرين والأنصار. (الكامل لابن الأثير:٢/٢٤٣) وما بعدها)، وقيل: ١٢٠٠مقاتل (الشذرات:١/٢٣)، وانظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص ٧٦. ٤) راجع كتاب المصاحف لابن أبي داود: ١/١٦٥. ٥ تاريخ الخلفاء، ص: ٤٤، نقلًا عن ابن كثير في تفسيره، والنووي في التهذيب.
المطلب الثاني: بواعث الجمع وأسبابه: بعد تولي أبي بكر ﵁ إمارة المسلمين واجهته أحداث جسيمة، خصوصًا ما كان من قبل أهل الردة، وما دار بعد ذلك من حروب طاحنة ومعارك عنيفة، خصوصًا ما كان في موقعة اليمامة٣، حيث استشهد فيها عدد كبير من الصحابة، منهم أكثر من سبعين من قراء الصحابة، فاشتد ذلك على الصحابة، ولا سيما على عمر ﵁ فاقترح على أبي بكر ﵁ أن يجمع القرآن، خشية ضياعه بموت الحفاظ وقتل القراء، فتردد أبو بكر لأول الأمر ثم شرح الله صدره لما شرح له صدر عمر ﵁، فكان هو أول من جمع القرآن بين اللوحين٤، وكان أحد الذين حفظوا القرآن كله٥. _________ قال الحموي: بين اليمامة والبحرين عشرة أيام، وهي معدودة من نجد وقاعدتها حجر، وتسمى اليمامة جوًا والعَروض – بفتح العين، وكان اسمها قديمًا: جوّا، فسميت اليمامة باليمامة بنت سهم بن طسم، (معجم البلدان:٥/٤٤٢)، أما غزوة اليمامة فكانت سنة ١٢هـ (شذرات الذهب:١/٢٣) قتل فيها عدو الله مسيلمة الكذاب، وآلاف من جنده وأعوانه، وفتحت على يد خالد بن الوليد صلحًا، واستشهد فيها أكثر من سبعمائة من كبار المهاجرين والأنصار. (الكامل لابن الأثير:٢/٢٤٣) وما بعدها)، وقيل: ١٢٠٠مقاتل (الشذرات:١/٢٣)، وانظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص ٧٦. ٤) راجع كتاب المصاحف لابن أبي داود: ١/١٦٥. ٥ تاريخ الخلفاء، ص: ٤٤، نقلًا عن ابن كثير في تفسيره، والنووي في التهذيب.
1 / 16
ويتضح ذلك من الحديث الصحيح الذي روي عن زيد بن ثابت ﵁ وكان من كتاب الوحي، وقال فيه:
" أَرْسَلَ إِلِيَّ أَبُوبكرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامةِ وعندهُ عُمرُ فقالَ أبو بكرٍ إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرَّ١ يوم اليمامةِ بالنّاس وإِنِّي أخشَى أن يستَحرَّ القَتْلُ بالقرّاءِ في المواطن فيذْهبَ كثيرٌ من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمعَ القرآن. قال أبو بكر قلتُ لعمرَ كيفَ أفعلُ شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ فقال عمرُ: هو واللهِ خيرٌ فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالسٌ لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ ولا نتهمك كنتَ تكتبُ الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفني نقل جبلٍ من الجبال ما كانَ أثقلَ عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلتُ كيف تفعلان شيئًا لم يفعله النبي ﷺ فقال أبو بكر هو والله خيرٌ فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرحَ الله له صدر أبي بكرٍ وعمر فقمتُ فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسُبِ وصدور الرجال حتى وجدتُ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحدٍ غيره ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ (التوبة: ١٢٨،١٢٩) إلى آخرهما وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفّاه الله ثم عند عمر حتى توفّاه الله ثم عند حفصة بنت عمر٢".
وعلى هذا، فقد بدأ جمع القرآن في عهد أبي بكر ﵁ سنة ١٢هـ.
_________
١ أي اشتد.
٢ البخاري، التفسير: ٤٣١١، فضائل القرآن:٤٦٠٣،الأحكام:٦٦٥٤، الترمذي، التفسير: ٣٠٢٨، أحمد، مسند العشرة:٧٢، جمال القراء: ١/٨٦، وانظر: تخريجه مستوفىً في كتاب المصاحف لابن أبي داود: ١/١٦٩-١٧٩، وراجع المقنع للداني:٢-٣.
1 / 17
المطلب الثالث: المكلف بالجمع:
ذكر أبو بكر بن أبي داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ فَرِقَ أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه١.
ويبدو من هذا الأثر أن المكلف بجمع المصاحف في عهد أبي بكر اثنان، وهما: عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت.
غير أن جمهور العلماء على أن المكلف بالجمع هو زيد بن ثابت وحده، أما عمر ﵁ فلم يثبت أنه كان مكلفًا بالجمع، والأثر المذكور سابقًا منقطع، فلا يحتج به، وإن سُلّم فيكون المراد: الإشراف على الجمع، والنظر في الشهادة والكتابة.
وزيد هذا، هو:
ابن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، ولد في المدينة، ونشأ بمكة، وقتل أبوه وهو ابن ست سنين، وهاجر مع النبي ﷺ وهو ابن (١١) سنة، تعلم السريانية في سبعة عشر يومًا٢، وحفظ القرآن الكريم كله عن ظهر قلب في حياة الرسول ﷺ وكان من كتاب الوحي لرسول الله ﷺ مشهورًا بالصدق والأمانة، وتفقه في الدين حتى أصبح رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض على عهد عمر وعثمان وعلي ﵁، وكان يعد من
_________
١ كتاب المصاحف: ١/١٦٨-١٦٩، إسناده منقطع، لأن عروة لم يلق أبا بكر.
٢ انظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود: ١/١٥٦، ت: د/ محب الدين واعظ.
1 / 18
الراسخين في العلم، توفي سنة ٤٥هـ، ولما توفي رثاه حسان بن ثابت، وقال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا١.
لقد اختاره أبو بكر ﵁ لهذه المهمة العظيمة والخطب الجسيم لما تفرس فيه من الأمانة ورجاحة العقل وقربه من الرسول ﷺ واعتماده ﷺ عليه.
يقول العلامة الزرقاني٢ في ذلك:
" اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن، ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفاظ القرآن، ومن كتاب الوحي لرسول الله ﷺ، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته ﷺ وكان فوق ذلك معروفًا بخصوبة عقله، وشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه، واستقامة دينه٣.
وقال: ويؤيد ورعه ودينه وأمانته قوله (فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن) ٤.
ويشهد بوفرة عقله تردده وتوقفه أول الأمر ومناقشته لأبي بكر حتى راجعه أبو بكر وأقنعه بوجه الصواب.
وينطق بدقة تحريه قوله:
_________
١ تذكرة الحفاظ: ١/٢٩، تهذيب التهذيب: ٣/٣٩٩، غاية النهاية:١/٢٩٦، الإصابة:١/٥٦١، طبقات ابن سعد:٢/٢٧٣، الأعلام:٣/٥٧.
٢ محمد بن عبد العظيم الزرقاني، علم بارز من أعلام الأزهر، تخرج بهاء ودرس فيها، وتأليفه: مناهل العرفان خير دليل على طول باعه، وعلوم مكانته في علوم القرآن، توفي بالقاهرة سنة:١٣٦٧هـ، الأعلام:٦/٢١٠.
٣ مناهل العرفان:١/٢٥٠، وراجع الفتح:٩/١٣، والمقنع: ١٢٤.
٤ البخاري، فضائل القرآن: ٤٦٠٣، الترمذي، التفسير: ٣٠٢٨، أحمد،مسند العشرة المبشرين بالجنة:٧٢، ومسند النصار:٢٠٦٥٧.
1 / 19
(فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال)
المطلب الرابع: كيفية الجمع: استثقل زيد بن ثابت المهمة، إلا أنه حينما شرح الله له صدره باشر بها، وبدأ بجمع القرآن بوضع خطة أساسية للتنفيذ، اعتمادًا على مصدرين هامين، وهما: (١) ما كتب أمام الرسول ﷺ وبإملاء منه، وكان زيد نفسه من كتاب الوحي. (٢) ما كان محفوظًا لدى الصحابة، وكان هو من حفاظه في حياته ﷺ. وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب، حتى يتيقن أنه: أ-مما كتب بين يدي الرسول ﷺ، وذلك بشهادة شاهدين عدلين٢. ب-وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته. يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله ﷺ شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان٣. _________ ١ البخاري: فضائل القرآن: ٤٦٠٣. ٢ الإتقان: ١/٥٨. ٣ كتاب المصاحف:١/١٨١-١٨٢، وعنه السيوطي في الدرر المنثور: ٤/٣٣٢، وابن حجر في الفتح: ٩/١٥، وانظر فضائل القرآن لابن كثير (٢٧)، والإتقان: ١/١٦٦.
المطلب الرابع: كيفية الجمع: استثقل زيد بن ثابت المهمة، إلا أنه حينما شرح الله له صدره باشر بها، وبدأ بجمع القرآن بوضع خطة أساسية للتنفيذ، اعتمادًا على مصدرين هامين، وهما: (١) ما كتب أمام الرسول ﷺ وبإملاء منه، وكان زيد نفسه من كتاب الوحي. (٢) ما كان محفوظًا لدى الصحابة، وكان هو من حفاظه في حياته ﷺ. وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب، حتى يتيقن أنه: أ-مما كتب بين يدي الرسول ﷺ، وذلك بشهادة شاهدين عدلين٢. ب-وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته. يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله ﷺ شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان٣. _________ ١ البخاري: فضائل القرآن: ٤٦٠٣. ٢ الإتقان: ١/٥٨. ٣ كتاب المصاحف:١/١٨١-١٨٢، وعنه السيوطي في الدرر المنثور: ٤/٣٣٢، وابن حجر في الفتح: ٩/١٥، وانظر فضائل القرآن لابن كثير (٢٧)، والإتقان: ١/١٦٦.
1 / 20