وَكَذَلِكَ إذَا سَهَّلَ أَلفاظَهُ لم يَخْلط بهَا الألفَاظَ الوَحْشِيَّةَ النافرةَ الصَّعْبَةَ القياد، ويقفُ على مَرَاتِب القَوْلِ والوَصِفْ فِي فَنِّ بَعْد فَنٍّ، ويتَعَمَّدُ الصَّدقَ، والوفقَ فِي تَشْبيهاته وحِكَايَاتِه، ويُحْضِرُ لبَّهُ عندَ كلَّ مُخاطبةٍ وَوَصْفٍ، فَيُخَاطبُ الملوكَ بِمَا يَسْتَحِقُونَهُ من جَليلِ المُخَاطباتِ ويَتَوقَّى حَطّهَا عَن مَرَاتبها وأَنْ يَخْلطَهَا بالعَامَّةِ، كَمَا يَتَوقَّى أَن يرفَعَ العَامَّةَ إِلَى دَرَجَات المُلُوك. وَيُعدُّ لكُلَّ مَعْنى مَا يَلِيق بِهِ ولكُلِّ طَبَقَةٍ مَا يُشَاكِلُهَا حتَّى تكون الاستفادةُ من عقلهِ فِي وَضْعِه الكَلامَ مواضِعَهُ أكْثَرَ من الاستفَادةِ من قَوْلِه فِي تَحْسِين نَسْجِهِ، وإِبدَاعِ نَظْمهِ. ويَسْلكُ مِنْهَاجَ أصْحَاب الرَّسائل فِي بَلاغَاتهم وتَصَرُّفهم فِي مُكَاتَباتهم، فإنَّ للشِّعْرِ فُصُولًا كفُصُول الرَّسَائل، فيحتَاجُ الشَّاعِرُ إِلَى أنْ يَصِلَ كلامَهُ - على تَصرُّفِهِ فِي فُنُونِه - صِلَةً لَطِيفَة فيتخلَّصُ من الغَزَل إِلَى المَدِيح، وَمن المَدِيح إِلَى الشَّكْوَى، وَمن الشَّكْوَى إِلَى الاستماحَة، وَمن وَصِفْ الدِّيَار والْآثَار إِلَى وَصْف الفَيَافي والنُّوق، وَمن وَصْفِ الرُّعُود والبُروِق إِلَى وَصْفِ الرِّياض والرُّوَّاد، وَمن وَصْف الظِّلْمَان والأعْيار إِلَى وَصْفِ الخَيْلِ والأسْلحِة، وَمن وَصْف المفاوز والفَيافي إِلَى وَصْف الطَّردِ والصَّيْدِ، وَمن وَصْف اللَّيل والنُّجوم إِلَى وَصْف المَوَارد والميَاه والهَوَاجر والآل والحَرَابي وَالْجَنَادِب، وَمن الافْتِخَار إِلَى اقْتِصَاصِ مَآثِر الأسْلاِف، وَمن الاسْتِكانَةِ والخُضُوعِ إِلَى والاسِتْعَتاب والاعْتِذَار، وَمن الإِباء والاعتيَاص إِلَى الإجابَةِ والتَّسَمُّحِ بألْطَفِ تَخَلُّصٍ وأحْسَن حكايةٍ بِلَا انفصالٍ للمَعْنَى الثَّاني عَمَّا قبلَهُ بل يكونُ مُتَّصِلًا بِهِ ومُمْتَزِجًا معهُ، فَإِذا استَقْصَى المَعْنى وأحَاطَ بالمراد الَّذِي إِلَيْهِ يَسُوق القَوْلَ بأيْسَرِ وَصْفٍ وأخَفُ لَفْظٍ لم يَحْتَجْ إِلَى تطويلهِ وتكريرِهِ.
1 / 9