في هذه الأمثلة المختلفة تجد المرء بين مسرات مختلفة بعضها يباين بعضا، وبعضها أكثر إغراء من بعض له لا لغيره، فلا بد له من الاختيار، فما الذي يوجب اختياره لهذا دون ذاك؟ (4-2) هل المسرة العظمى جيدة؟
أول ما يبدر لذهنك أن تقوله هو أنه يختار المسرة العظمى له؛ فهي الجيد المبتغى، أو أنه يختار الغاية التي تصحبها مسرات أكثر من سواها. فالمتهور يختار المضاربة على قنية العقار؛ لأن فيها سلسلة من المسرات العديدة فيما هو يضارب، وحين يربح، حتى حين يخسر.
ولكن المسرة لا قياس لها ولا قدر؛ فالذي يرغب في قنية العقار يفضل السرور بربحه المضمون على السرور المتتابع في المضاربة، والذي يسمع الموسيقى يفضل التمتع بجمالها على السرور المتتابع في الرقص أو في المقامرة. فتعدد المسرات لا يضمن جودتها كغاية مرغوبة، ووفرة الربح السريع لا تضمن جودته عند صاحب العقار الذي يفضل الربح المعتدل المضمون البطيء، إذن ما هي المسرة الجيدة حقيقة؟ (4-3) المسرة الجيدة ما أرضت هوى النفس
هي ما أرضت هوى النفس رضى تاما، فإن كان المضارب يعتقد أن المضاربة تبلغه إلى رضى النفس هذا كانت المضاربة تؤدي إلى غايته الجيدة. فوظيفة الحكم العقلي هنا هي أن يقرر إن كانت المضاربة تؤدي إلى هذه الغاية أو إلى الندم، فإذا أجود الغايات السارة، أو أجود المسرات هو السعادة بعينها.
فتعدد المسرات واختلافها ينقل بحثنا إلى موضوع أدبية الفعل؛ حيث نبحث في كيفية الاختيار بين جيد وجيد، وتقرير الجيد والرديء، وما هي القوة الحاكمة وطبيعتها، وكيف تضل وتصيب. فإلى الفصل التالي.
الفصل الثاني
الحكم
(1) الحكم بالنسبة إلى الفعل (1-1) السلوك القابل الحكم
علمت مما تقدم أن الفعل لا يعد سلوكا أو تصرفا إلا متى أسند إلى الأدبية؛ أي إن السلوك هو فعل أدبي، ولا يعد الفعل أدبيا إلا متى كان مرادا، فالسلوك إذن هو فعل مراد، فإذا لم يكن الفعل مرادا؛ أي تأمر به الإرادة، أو لم تكن هناك إرادة لتأمر به وتنهى عنه فلا وجه للحكم عليه أو فيه؛ لأنه ليس أدبيا، بل هو خارج عن السنن الأدبية.
فهياج البحر وتحطيمه للسفن لا يعد سلوكا يستوجب الحكم عليه إن كان حقا أو غير حق، أو صوابا أو غير صواب؛ لأنه ليس هناك إرادة صادرة من ذاتية بشرية موجهة الفعل في وجهته؛ ولذلك كان زركسيس الآشوري أحمق حين أمر بجلد البحر؛ لأن البحر حطم الأرماث التي كان جيشه مزمعا أن يعبر عليها من آسيا إلى أوروبا في مضيق البوسفور.
صفحة غير معروفة