وليس القصد من التعليل السابق أن شر كل شرير يقع على رأسه وحده، ولا أن صلاح كل صالح يعود عليه بالخير وحده، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك ما دامت الهيئة الاجتماعية جسما حيويا مترابط الأعضاء كما علمت؛ فلا بد أن يصيب أذى الشرير كثيرا من أعضاء المجتمع المتصلين به، كما أن اضطراب المعدة يحدث صداعا، وكذلك خير الصالح يشمل كثيرين أيضا؛ ولذلك يتوقف نجاح المجتمع على تغلب أبراره على أشراره، والعكس بالعكس.
وإذا كان ثواب البار غير مضمون له جزاء في حياته القصيرة، وكان الشرير يسلم في الأحوال الكثيرة من شر عمله، وإذا كان شر الشرير يلحق بسائر المجتمع، ويمكن جدا أن يصيب البار؛ فلا بد أن يتمثل لذهن القارئ هذا القول: إذن هذا الارتباط الاجتماعي غير حسن أو غير صالح؛ إذ لا يكفل العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، أو هو ذو عيوب، فينبغي البحث في عيوبه، ومعرفة ما إذا كان ممكنا إصلاحها، وإذا كان جزاء الإثم أو الصلاح يحتمل أن يكون مؤجلا، فذيوع هذه الفكرة كاف لأن يقتل روح الصلاح في البشر؛ لأن السواد الأعظم من الناس «سروريون»؛ أي إنهم لا يعملون بحسب الفضيلة حبا بالفضيلة نفسها، بل حبا في اللذة التي يتوقعونها من ورائها.
وهذا قول وجيه أيضا، وما غفل عنه العقل الاجتماعي؛ فقد جعل للآثام عقوبات أخرى - غير صدى شر الإثم الآنف ذكره - لا يستطيع الأثمة أن يتملصوا منها، أولاها: عقوبة تأنيب الضمير، فإن لم يخافوا الضمير فهناك: ثانيا؛ العقوبة الدينية، أي الوعيد بنار جهنم، فإن لم يحسبوا حسابا لهذه ولا لتلك فهناك: ثالثا؛ العقاب الحكومي الذي تفرضه القوانين. وإذا استطاع الآثم أن يتخلص من نوع العقوبة الأخير؛ فلأن في أنظمة المجتمع - لا في جسمانية المجتمع نفسها - عيوبا لا بد أن تنصلح في المستقبل أو تقل على تمادي الزمان، كما أنها كانت في القديم أفظع منها الآن، وقد تصلحت. (3-4) الغرض من العقاب
رأيت فيما تقدم أن شر الآثم أو المجرم وإن كان في بعض الأحوال أو في أكثرها يعود إليه، فلا بد أن يقع أولا على المجتمع، أو على جانب من المجتمع، أو على فرد واحد منه على الأقل؛ ولذلك يعد الإثم أو الجريمة ضد المجتمع في الدرجة الأولى.
وبهذا الاعتبار يبرر للنظام الاجتماعي فرض العقوبات على قدر الجرائم، وإنزالها بالمجرمين عاجلا، فمن ثمة سنت قوانين العقوبات. ولكن لماذا العقاب؟! وما غرض المجتمع منه؟
للمشترعين ثلاث نظريات بهذا الموضوع: (1)
أن يكون العقاب عبرة لغير المجرمين لكيلا يرتكبوا نفس الإثم، ولسان حال القضاء حينئذ: «لم يعاقب فلان لأنه سرق سلعة غيره، بل لكيلا تسرق السلع كلها.» ولكن ليست «العبرة» وحدها مقصودة من العقاب، وإلا لكان العقاب ظلما للمعاقب؛ لأن المراد به نفع الآخرين، أي تحسين أدبيتهم، على حساب غيرهم، أي بإيقاع العقاب على المعاقب. إذن لا بد من غرض آخر من العقوبات. (2)
تأديب المجرم نفسه حتى لا يعود إلى الإجرام. وهو غرض أصح من الغرض السابق، وإنما يعيبه عدم اتفاقه مع قانون الحكم بالموت على القاتل؛ لأن قتل القاتل ليس تأديبا له، بل هو حسم لشره، هو بتر عضو في جسم المجتمع لأنه لم يعد صالحا.
ناهيك عن أن بعض العقوبات لا تؤثر هذا التأثير في بعض المجرمين، كما أن بعض المجرمين يكفي التأنيب اللطيف لكي يتيبهم؛ ولهذا ذاع قانون «برانجه»، أي إيقاف تنفيذ العقوبة فيمن أخلاقه حسنة وليست له سابقة. (3)
جزاء المثل بالمثل؛ أي إيقاع أذى على المجرم يساوي الشر الذي أحدثه جرمه؛ لكي يفهم أن شر إثمه واقع على رأسه معجلا لا مؤجلا.
صفحة غير معروفة