انتهى من تلك الحرب، فذهب إلى القسطنطينية ليستريح من وعثائها، فلم يستقر حتى هبت في وسط أوروبا ريح تحمل صراخ قوازق الأكرين، وتبلغ آلامهم إلى جميع ممالك أوروبا.
وقد استغاث أولئك الأقوام بأحمد باشا؛ فاستعد ليحارب بولاندا، وينصف أقوامها.
ونحن إنما جئنا بتاريخ ذلك البطل هنا ليكون منسجما مع بقية الحديث.
ندع الآن تلك الوقائع والمعاهدات، والحروب والإغارات، ونرجع إلى القسطنطينية محط رحال آل عثمان بهجة الإسلام وقرة عينه.
سر أيها القارئ في ناحية بيوكدرة، تلك الناحية المشهورة بجمال موقعها، وطيب هوائها، وحسن أخلاق سكانها، جل بنظرك في أنحائها تجد في الشرق على شاطئ البحر قصرا شامخ البنيان عالي الأركان مرمري العمد، فخم الأثاث، حافلا بآله، عامرا بصحبه، ادخل إليه تجده ملآن بالخدم والحشم، ولا عجب فهذا هو قصر الصدر الأعظم ثاني رجل في الإسلام.
ودعنا الآن من وصف داخل القصر، وسر بنا إلى أوسع قاعات الدور الأسفل، تجد غرفة مفروشة على النمط الغربي المحض.
جلس في صدرها رجل، وخط الشيب ناصيته، بشوش الوجه، ربع القامة، كبير الشاربين، ينبعث الذكاء من عينيه، تدل ملامحه على التؤدة والروية، وهو رجل الدولة ومصباحها، وقائدها وهاديها، هو أحمد باشا كوبريلي.
وأمام ذلك الوزير جلس رجل يدل لباسه على أن قوزاقي، من سكان الأكرين، ابتدأ الحديث بينهما، فكان كما يأتي:
قال القوازقي: إنا لم نلجأ لجناب الوزير الكبير إلا ونحن على علم تام بأنا سنلاقي عضدا قويا، وكنفا نحتمي به، فننجوا من مصائب كادت تقضي على حياتنا لسوء معاملات النبلاء لنا واستعبادهم إيانا كأنا خلقنا لنكون لهم خدما وعبيدا. - وهل هناك أيها الرجل فرق كبير بين الشعب وما يسمونهم النبلاء؟ - نعم يا مولاي فإني أصرح بذلك، والأسف يقطع نياط ذلك القلب المسكين، الذي إنما يبكي على دولته التي سوف يمحيها حكم الدهر، بل حكم حكامها السفلة الذين ينقادون إلى ما يفعلون بطمعهم الأشعبي، واستبدادهم المميت.
أصرح يا مولاي أن نبلاء بولاندا يرون في أنفسهم حكام المملكة وأصحابها، يستعبدون الشعب، ويجرونه بيد من حديد سوف تقذفنا وإياهم في هاوية التعاسة والشقاء، إنهم يا مولاي يقودون الشعب للعمل بلا أجر، يكممون من يقول الحق، يقتلون من يعارضهم، يسوقوننا للموت كالأغنام للذبح. - ولكن أهل فقدت العدالة؟ وساد الظلم؟ وعدمتم محاكم تنجيكم مما أنتم فيه؟ أليس في الأمة من رجل بمعنى الكلمة يقودها حيث ترقى وتعتز؟! - إن لبولاندا يا سيدي الوزير مجلسا يطلق عليه اسم «الديت» وهناك تنفذ القوانين ويصدق عليها، هناك يحكمون على الشعب حكمهم الذي لا يقبل النقض والإبرام، ولكن الغريب المزري بشرف الأمة البولاندية، هو أنه إذا تغيب نبيل وقت التصديق على قانون، بل كان حاضرا وعارض، فإن ذلك القانون يعد لاغيا، فهم والحالة هذه يصدقون على قوانين في صالحهم أكثر مما هي في صالحنا، فهم في نعمة ورفاهية، ونحن في نقمة وبلاء. - يا للفظاعة! هل الإنسان يفعل ذلك بأخيه في الإنسانية وشريكه في المرافق الحيوية؟!! ولكن على كل حال إنكم استعنتم بتركيا، وهي ستعينكم، وهي في غنى أيضا عن أية مساعدة حربية كانت أو مالية.
صفحة غير معروفة