تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
تصانيف
ويتضح أيضا شوقه للعودة في كلمات مثل: «إنه لمن المبهج أيضا أن أفكر في أنني سأشهد سقوط أوراق الشجر وأستمع إلى غناء أبي الحناء في شروزبيري في الخريف القادم. إنني أشعر تماما وكأنني صبي بالمدرسة، وإنني لأشك فيما إن كان أي صبي قد اشتاق إلى عطلاته على الإطلاق بقدر شوقي إلى رؤيتكم جميعا مجددا. لقد بدأت الآن، بالرغم من أن نصف العالم يفصل بيني وبين بيتي، في التخطيط للأمور التي سأفعلها والأماكن التي سأزورها خلال الأسبوع الأول من عودتي.»
ومن السمات الأخرى التي تتضح في خطاباته، دهشته وابتهاجه حين يسمع بأن مجموعاته وملاحظاته قد أتت ببعض النفع. يبدو أنه لم يبدأ في الاعتقاد إلا تدريجيا بأنه سيكون أكبر كثيرا من مجرد جامع للعينات والحقائق التي سيستخدمها العظماء من رجال العلم. إضافة إلى ذلك، يبدو أنه كانت لديه الكثير من الشكوك بشأن قيمة مجموعاته؛ فهو يكتب إلى هنزلو عام 1834: «لقد بدأت أعتقد بالفعل أن مجموعاتي رديئة للغاية حتى إنك لم تدر ما تقوله بشأنها؛ لقد أصبحت الأمور الآن في الاتجاه المعاكس تماما؛ فأنت مذنب لإثارتك جميع مشاعر الخيلاء لدي إلى أقصى درجة؛ فإذا كان العمل الجاد سيكفر عن مثل هذه الأفكار، فإنني أتعهد بألا أبخل به.»
بعد عودته إلى لندن واستقراره بها، بدأ يدرك قيمة ما أنجزه، وكتب إلى القبطان فيتزروي: «مهما كانت الطريقة التي يتذكر بها الآخرون رحلة «البيجل»، فالآن بعد أن انقشعت الأجزاء الصغيرة المزعجة من الذاكرة تقريبا، أرى أن «الحادثة الأفضل في حياتي على الإطلاق» هي الفرصة التي وفرها لي عرضك باصطحابي كرفيق ومختص بالتاريخ الطبيعي. إنني كثيرا ما أرى صورا مبهجة وواضحة للغاية، لما رأيته على متن «البيجل»، تمر أمام عيني. وإنني لن أتنازل عن هذه الذكريات وما تعلمته في التاريخ الطبيعي، مقابل عشرين ألفا في العام.»
وفي اختياري للمجموعة التالية من الخطابات، كنت مدفوعا بالرغبة في تقديم أكبر قدر ممكن من التفاصيل الشخصية؛ فلم أورد سوى عدد قليل من الخطابات العلمية لتوضيح طريقته في العمل، وكذلك رأيه في النتائج التي حققها. وفي عمله «يوميات الأبحاث»، يقدم هو بنحو عارض نبذة عن طبيعته الشخصية، وسوف تساعد الخطابات الواردة في هذا الفصل على توضيح الانطباع الذي تولد عن شخصيته لدى الكثير من قراء هذا العمل.]
من تشارلز داروين إلى آر دابليو داروين
باهيا، أو سان سلفادور، البرازيل [8 فبراير 1832]
لقد اكتشفت بعد كتابة الصفحة الأولى أنني كنت أكتب إلى أخواتي
أبي العزيز
إنني أكتب لكن هذا الخطاب في الثامن من فبراير، بعد يوم من إبحارنا من سانت جاجو (الرأس الأخضر)، وأنا أنوي أن أستغل فرصة الالتقاء بأي باخرة متجهة إلى الوطن، وذلك بالقرب من خط الاستواء. أما تاريخ ذلك، فسوف يتحدد حين تأتي الفرصة. سأبدأ الآن في سرد مختصر لتقدمنا في الرحلة منذ يوم مغادرتنا لإنجلترا. لقد أبحرنا، كما تعرفن، في السابع والعشرين من ديسمبر، ومن حسن حظنا أننا ننعم منذ هذا الوقت وحتى الآن بنسيم لطيف ومعتدل. وقد ثبت بعد ذلك أننا قد أفلتنا من ريح عاصفة شديدة في القناة الإنجليزية، وأخرى في ماديرا، وثالثة عند ساحل أفريقيا. وبالرغم من أننا قد أفلتنا من تلك الريح العاصفة، فقد شعرنا بعواقبها والمتمثلة في بحر متلاطم الأمواج. في خليج بيسكاي، طغى البحر بالأمواج، وقد كان ما تحملته من ألم بسبب دوار البحر، يفوق كل ما تصورته على الإطلاق. أعتقد أنكن تتطلعن إلى معرفة ذلك؛ ولسوف أخبركن بتجربتي القاسية في هذا الشأن. ليس لأحد لم يقض في البحر سوى أربع وعشرين ساعة أن يزعم أن دوار البحر غير مريح؛ فالمعاناة الفعلية لا تبدأ إلا بعد أن تصبح مستنزف القوى جدا بحيث تشعر بالإغماء من أقل مجهود. ولم أجد شيئا يجديني نفعا سوى الاستلقاء على شبكة النوم. لا بد لي أن أستثني وصفتكن لتناول الزبيب على وجه التحديد؛ فهو الطعام الوحيد الذي تتحمله المعدة في تلك الظروف.
في الرابع من يناير، لم نكن نبعد عن ماديرا سوى عدد قليل من الأميال، لكن لما كان البحر متلاطم الأمواج، وكانت الجزيرة تقع باتجاه الريح، فقد رأينا أن الإسراع إليها ليس بالفكرة السديدة. وقد اتضح بعد ذلك أنه من حسن حظنا أننا جنبنا أنفسنا عناء المحاولة. وقد كنت أشعر بدوار شديد للغاية حتى إنني لم أستطع القيام لرؤية الأفق البعيد. وفي مساء السادس من يناير، أبحرنا إلى ميناء سانتا كروز، وحينها فقط، شعرت لأول مرة بتحسن طفيف، وظللت أصور لنفسي بهجة نمو الفواكه الطازجة في الوديان الجميلة، بينما أقرأ وصف هومبولت لمناظر الجزيرة الرائعة، حتى أخبرنا رجل شاحب ضئيل الحجم بأن علينا تنفيذ الحجر الصحي الصارم لمدة اثني عشر يوما، ويمكنكن أن تتخيلن إحساسنا بخيبة الأمل حينئذ. ساد السفينة صمت كالموت إلى أن صاح القبطان: «ارفعوا شراع السارية الأمامية.» وغادرنا هذا المكان الذي تمنينا زيارته لفترة طويلة.
صفحة غير معروفة