تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين

كيليب إفريت ت. 1450 هجري
124

تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين

تصانيف

في وقت سابق، قادتني مثل هذه المشاعر التي أشرت إليها للتو (بالرغم من أنني لا أعتقد أن الشعور الديني قد نما بقوة لدي في أي يوم من الأيام) إلى الاعتقاد الراسخ بوجود إله، وبخلود الروح. وفي يومياتي كتبت ما يلي بينما أقف في قلب عظمة إحدى الغابات البرازيلية: «ليس من الممكن أن أعطي فكرة مناسبة عن هذه المشاعر السامية بالدهشة والإعجاب والتفاني، وهي التي تملأ العقل وتسمو به.» وأنا أتذكر جيدا أنني كنت مقتنعا أن الإنسان ينطوي على ما هو أكثر من النفس الذي يدخل إلى جسده ويخرج منه. أما الآن، فأكثر المناظر عظمة لن تبث في عقلي مثل هذه المشاعر والأفكار. وربما يصح القول بأنني قد أصبحت مثل رجل أصيب بعمى الألوان؛ لذا، فإن الاعتقاد السائد لدى البشر بوجود اللون الأحمر، ينفي أي قيمة لاستخدام عدم قدرتي على تمييز اللون الأحمر كدليل. وستكون هذه الحجة سليمة إذا كان كل البشر من جميع الأعراق لديهم هذا الاعتناق الداخلي بوجود إله واحد، لكننا نعرف أن ذلك بعيد كل البعد عن الواقع؛ ولهذا، لا يمكنني أن أرى أي قيمة لاستخدام مثل هذه الاعتقادات والمشاعر الداخلية كدليل على ما يوجد فعلا. إن تلك الحالة الذهنية التي أثارتها في المناظر العظيمة قبل ذلك، وهي التي ارتبطت بصورة وثيقة بالإيمان بالإله، لم تكن تختلف بصورة جوهرية عما ندعوه عادة بالشعور بالتسامي، وبالرغم مما قد يوجد من صعوبة في تفسير نشأة هذا الشعور، فلا يمكن تقديمه على أنه حجة بوجود الإله، مثلما أنه لا يمكننا تقديم ما يشبهه من المشاعر القوية الغامضة التي تثيرها فينا الموسيقى على أنه حجة على ذلك.

وأما عن الفناء، فما من شيء يوضح لي [بوضوح شديد] أنه اعتقاد قوي وشبه فطري، كالتفكير في وجهة النظر التي يقول بها الآن معظم علماء الفيزياء، وهي أن الشمس وجميع الكواكب، ستغدو باردة جدا بمرور الوقت؛ فلا تصبح مناسبة لاستمرار الحياة، إلا أن يصطدم جسم كبير للغاية بالشمس؛ فيمنحها حياة جديدة. ولما كنت أعتقد أن الإنسان سيصير في المستقبل البعيد أكثر كمالا بدرجة كبيرة مما هو عليه الآن، فإنني أجد أن التفكير بأن مصيره وهو وجميع الكائنات الواعية الأخرى إلى الاندثار التام، بعد مثل هذا التقدم البطيء المستمر على مدى فترة طويلة، فكرة ليست معقولة. أما بالنسبة إلى الذين يتقبلون تماما خلود الروح الإنسانية، فإن الهلاك التام لعالمنا لن يبدو مروعا جدا.

وثمة سبب آخر، مرتبط بالعقل لا بالعاطفة، للاقتناع بوجود إله ، وأنا أرى أن له ثقلا أكبر كثيرا من غيره. وهو ينبع من الصعوبة الشديدة، بل استحالة تصور أن هذا الكون الضخم والرائع، بما في ذلك الإنسان وقدرته على النظر في الماضي وكذلك المستقبل، هو نتيجة صدفة أو ضرورة. وحين أفكر في هذا، أجد أنني مرغم على أن أتطلع إلى سبب أول يتمتع بعقل ذكي يشبه عقل الإنسان بدرجة ما، وأنني أستحق أن أدعى مؤمنا. لقد كانت هذه النتيجة حاضرة في ذهني بقوة قرابة الوقت الذي كنت أكتب فيه «أصل الأنواع»، ومنذ ذلك الوقت، أصبحت تضعف تدريجيا، مع تعرضي للعديد من التقلبات. غير أن الشك يظهر مرة أخرى هنا؛ هل من الممكن أن نثق في عقل كعقل الإنسان، الذي أعتقد أنه تطور من عقل بسيط للغاية كعقول أدنى الحيوانات مرتبة، في التوصل إلى مثل هذه الاستنتاجات الخطيرة؟

لا يمكنني الزعم أنني قد ألقيت الضوء على هذه المعضلات ولو بقدر ضئيل للغاية. إن لغز بداية الأشياء جميعها من المشكلات التي لا يمكننا حلها، وأما بالنسبة لي، فإنني راض بأن أظل لا أدريا.

إن الخطابات التالية تكرر إلى حد ما ما ورد في السيرة الذاتية التي كتبها عن نفسه. ويشير الخطاب الأول إلى مقال «حدود العلم: حوار» الذي نشر في مجلة «ماكملان ماجازين»، في عدد يوليو 1861.]

من تشارلز داروين إلى الآنسة جوليا ويدجوود

11 يوليو [1861]

لقد أرسل إلينا أحدهم مجلة «ماكملان ماجازين»، ولا بد لي أن أخبرك بإعجابي الشديد بمقالك. بالرغم من ذلك، فعلي أن أعترف بأنني لم أستطع أن أفهم مقصدك بوضوح في بعض الأجزاء، والسبب الأساسي في ذلك على الأرجح هو أنني لم آلف تسلسلات الأفكار الميتافيزيقية على الإطلاق. أعتقد أنك تفهمين كتابي [أصل الأنواع] تمام الفهم، وهو أمر يندر حدوثه مع نقادي. إن الأفكار الواردة في الصفحة الأخيرة من المقال قد وردت على ذهني بنحو مبهم لمرات عديدة. وبفضل العديد من مراسلي، اتجهت مؤخرا إلى التفكير، أو بالأحرى إلى محاولة التفكير، في بعض النقاط الأساسية التي تناولتها، غير أن النتيجة هي أنني دخلت في متاهة ؛ الأمر يشبه التفكير في أصل الشر، وهو الأمر الذي تشيرين إليه. إن العقل يأبى أن ينظر إلى هذا الكون، بالحالة التي هو عليها، دون أن يفكر في أنه قد جرى تصميمه. بالرغم من ذلك، ففي الجوانب التي يتوقع فيها المرء تجلي التصميم بأكبر درجة، وأعني بذلك، في تركيب الكائنات الواعية، كلما زاد تفكيري في الموضوع، قل ما أستطيع أن أجده من دليل على التصميم. إن آسا جراي وآخرين غيره يعتقدون أن كل تباين، أو على الأقل كل تباين مفيد، (وهو ما يشبهه جراي بقطرات المطر التي لا تسقط في البحر وإنما تسقط على الأرض لتخصبها) قد صمم لحكمة. بالرغم من ذلك، حين أسأله عما إذا كان يعتقد أن كل تباين في الحمام الجبلي، والتي توصل منها الإنسان من خلال التراكم إلى الحمام النفاخ أو الهزاز، قد صمم لحكمة إمتاع الإنسان أم لا، فإنه لا يعرف بم يجيب. وإذا تقبل هو أو أي أحد غيره أن هذه التباينات عرضية، فيما يتعلق بغرضها (لكن ليس بالطبع فيما يتعلق بالسبب فيها أو أصلها)، فلا أرى أي سبب يجعله لا يصنف التباينات المتراكمة، والتي شكلت نقار الخشب المتكيف بصورة رائعة، على أنها قد صممت لحكمة؛ إذ سوف يكون من السهل تخيل أن الحوصلة المتمددة للحمام النفاخ أو ذيل الحمام الهزاز ذات فائدة لهذه الطيور في الطبيعة، لما لها من عادات حياتية غريبة. تلك هي الأفكار التي تثير حيرتي بشأن التصميم، غير أنني لا أدري إن كنت ستهتمين لمعرفتها أم لا ... ... [عن موضوع التصميم، كتب (في يوليو 1860) إلى الدكتور جراي:

كلمة أخرى عن «القوانين المصممة» و«النتائج غير المصممة». إنني أرى طائرا أريده طعاما لي؛ فآخذ بندقيتي وأقتله، وأنا أفعل ذلك «عن سابق تصميم مني». وثمة رجل بريء وصالح يقف تحت شجرة وتقتله صاعقة من البرق. هل تعتقد (وأنا أود حقا أن أعرف رأيك في ذلك) أن الإله قد قتل هذا الرجل «عن سابق تصميم منه»؟ إن الكثير من الأشخاص أو معظمهم يعتقدون ذلك، لكنني لا أعتقد ذلك ولا أستطيع أن أفعل هذا. إن كنت تعتقد ذلك، فهل تعتقد حين يلتهم طائر السنونو ناموسة أن الإله قد خطط مسبقا أن يلتهم ذلك السنونو تلك الناموسة في تلك اللحظة المحددة؟ إنني أعتقد أن الإنسان والناموسة في المأزق نفسه. إذا لم يكن موت الإنسان ولا موت الناموسة عن سابق تصميم، فأنا لا أجد أي سبب جيد للاعتقاد بأن «أول» مولد أو إنتاج تم عن سابق تصميم بالضرورة.]

من تشارلز داروين إلى دابليو جراهام

صفحة غير معروفة