تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
تصانيف
من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
بالبارايسو، 23 أبريل، 1835
عزيزتي سوزان
لقد تلقيت منذ بضعة أيام خطابك الذي أرسلته في نوفمبر؛ والخطابات الثلاثة التي أشرت إليها من قبل ما تزال مفقودة، لكنني لا أشك في أنها ستظهر. لقد عدت منذ أسبوع من رحلتي عبر الأنديز وصولا إلى مندوزا. إنني لم أقم برحلة بهذا النجاح منذ أن غادرت إنجلترا، لكنها كانت باهظة الثمن جدا. إنني على يقين بأن أبي لن يكون نادما على قيامي بها، لو أنه أدرك كم استمتعت بها؛ بل كان ذلك شيئا يفوق الاستمتاع، فلا يمكنني التعبير عما شعرت به من سرور بهذه الخاتمة الرائعة لعملي الجيولوجي بأكمله في أمريكا الجنوبية. إنني لم أكن أستطيع النوم في الليل بالفعل بسبب التفكير فيما أقوم به من عمل بالنهار. لقد كانت المناظر جديدة للغاية وجليلة للغاية؛ فكل شيء يبدو بمنظور مختلف من على ارتفاع 12 ألف قدم عما قد يبدو عليه من بلد منخفض. لقد رأيت العديد من المناظر الطبيعية التي هي أجمل منها، لكنها لم تكن قط بهذا الطابع المميز. وبالنسبة إلى الجيولوجي، توجد أدلة واضحة على وجود عنف شديد؛ إذ إن طبقات الأبراج الصخرية الأعلى تتحرك من جانب إلى جانب كقاعدة فطيرة متشققة.
لقد مررت ببورتيلو باس، والذي قد يكون به بعض الخطر في هذا الوقت من العام؛ ولهذا لم أستطع أن أتأخر هناك. وبعد أن قضيت يوما في مدينة مندوزا الغبية، بدأت في العودة من خلال أوسباليت، وقد تمهلت في ذلك كثيرا. لقد استغرقت الرحلة كلها اثنين وعشرين يوما فقط. لقد كان السفر مريحا في هذه الرحلة، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لي؛ إذ إنني كنت أحمل «سريري» معي! وقد كانت مجموعتي تتألف من عدد من العمال بالأجر اليومي وعشرة بغال، كان اثنان منها يحملان المتاع، أو الطعام بالأحرى، في حالة هطول الثلوج. بالرغم من ذلك، كانت الأمور كلها مواتية لي؛ فلم تسقط على الطريق ذرة ثلج واحدة. لا أعتقد أن أيا منكم سيكون مهتما كثيرا بالتفاصيل الجيولوجية، لكنني سوف أذكر ما توصلت إليه من نتائج أساسية فحسب: إضافة إلى اكتساب مقدار محدد من الفهم لوصف القوة التي أدت إلى رفع هذا الخط الكبير من الجبال وطريقتها في ذلك، يمكنني أن أبرهن بوضوح على أن أحد جزأي الخط المزدوج يعود إلى زمن متأخر عن الزمن الذي يعود له الجزء الآخر بفترة طويلة. وفي الخط الأقدم، وهو الذي يمثل سلسلة جبال الأنديز الحقيقية، يمكنني أن أصف نوع الصخور الذي يتكون منها وترتيبها. وأهم ما يميزها من الصفات، هي أنها تضم طبقة من الجص يبلغ سمكها 2000 قدم تقريبا، وأنا أعتقد أن وجود هذه المادة بهذه الكمية هو شيء لا مثيل له في العالم. وأما الأمر ذو النتيجة الأهم، فهو أنني قد وجدت حفريات لأصداف (من على ارتفاع 12 ألف قدم). وأعتقد أن فحص هذه الحفريات سوف يمدنا بالعمر التقريبي لهذه الجبال، مقارنة بطبقات أوروبا. وفي الخط الآخر من السلسلة الجبلية، ثمة افتراض (يقين، في رأيي) قوي أن هذه الكتلة الضخمة من الجبال، والتي تصل قممها إلى ارتفاع 13 أو 14 ألف قدم، حديثة جدا؛ بحيث يمكن أن تكون معاصرة مثل سهول باتاجونيا (أو الطبقات «العليا» من جزيرة وايت). وإذا نظرنا إلى هذه النتيجة باعتبارها نتيجة محققة [لقد حازت أهمية هذه النتائج على اهتمام علماء الجيولوجيا وتقديرهم]، فسوف تكون تلك حقيقة مهمة في نظرية تكون العالم؛ ذلك أنه إذا كانت هذه التغيرات المدهشة قد حدثت في وقت قريب للغاية في قشرة الكرة الأرضية، فلا يوجد سبب يدعونا إلى افتراض حدوث فترات سابقة من العنف المفرط. وتتسم هذه الطبقات الحديثة بصفة مميزة للغاية وهي أنها تحتوي على خطوط من العروق المعدنية من الفضة والذهب والنحاس وغير ذلك، وهي التي ما زلنا ننظر إليها حتى الآن على أنها تعود إلى تكوينات سابقة. وفي هذه الطبقات نفسها، وبالقرب من أحد مناجم الذهب، وجدت مجموعة من الأشجار المتحجرة تقف منتصبة، وقد ترسبت حولها طبقات من الحجر الرملي الناعم؛ فتعطي انطباعا بأنها لحاؤها. وتغطي هذه الأشجار أيضا طبقات أخرى من الحجر الرملي وتيارات من الحمم البركانية، والتي يصل سمكها إلى عدة آلاف من الأقدام. لقد ترسبت هذه الصخور تحت الماء، غير أنه من الجلي أن البقعة التي نمت فيها الأشجار، قد كانت قبل ذلك فوق مستوى سطح البحر بالطبع؛ ومن ثم، فمن المؤكد أن الأرض قد انخفضت بمقدار عدة آلاف من الأقدام على الأقل وذلك نظرا لسمك الترسبات الفوقية تحت المائية. غير أنه يؤسفني أنكم ستخبرونني بأنني أضجركم بأوصافي ونظرياتي الجيولوجية ...
لقد جعلني سردك لزيارة إيرازموس إلى كامبريدج أتوق إلى العودة إلى هناك. ولا يمكنني أن أتخيل شيئا أكثر بهجة من جولته التي يقوم بها يوم الأحد إلى كينجز وترينيتي، وإلى هذين المتحدثين العملاقين؛ هيوويل وسيجويك. أتمنى أن تظل مواهبك الموسيقية على الدرجة نفسها من القوة؛ فسوف أكون نهما للغاية للاستماع إلى عزفك على البيانو ...
إنني لم أحدد بعد ما إن كنت سأبيت في نزل «لايون» في أول ليلة أصل فيها عن طريق «واندر»، أم أزعجكم جميعا في سكون الليل، أما فيما عدا ذلك، فكل شيء مخطط تماما. إن كل شيء في شروزبيري يبدو في عقلي أكبر وأجمل، وأنا على يقين أن أشجار السنط والزان النحاسي قد أصبحت كبيرة، وسوف أعرف كل أجمة، وأزعجكن أيتها الفتيات وأطلب منكن الاحتفاظ ببعض الأشجار حين تبدأ كل منكن في قطعها. وأما بالنسبة إلى المنظر من خلف المنزل، فإنني لم أر شيئا مثله. وينطبق الأمر نفسه على شمال ويلز؛ سنودن يبدو في عقلي أعلى وأجمل بكثير من أي قمة في السلسلة الجبلية الموجودة هنا. أعرف أنك ستقولين إنه قد حان وقت الرجوع نظرا لما أصابني من وهن شديد، والواقع أن ذلك صحيح وأنا أتوق لأن أكون معكم. وبغض النظر عن الأشجار، فأنا أعرف الحال التي سأجدكم جميعا عليها. لقد صرت أهذي بالكلام؛ فإلى اللقاء. خالص مودتي إليكم جميعا، وأنا أرجو المعذرة من أبي.
أخوك المحب دائما
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
صفحة غير معروفة