إذن ما إن عقد اجتماع المشورة حتى تحولت المدينة - نجد - بأسواقها القديمة وقلاعها وتلالها إلى خلية نحل هائلة الحركة، فرفعت الأعلام والبيارق والرايات الهلالية.
وازدانت مشارب الشاي والساحات العامة بالشباب المنتظم وكتائبه التي أحسن أبو زيد الهلالي تدريباتهم، حالما انتهت سنوات نفيه لدى القبائل الزحلاوية ببقاع لبنان، وعودته من جديد إلى أهله وقبائله، بل هو نقل وأضاف إلى فنون الحرب والاقتتال البرية والبحرية مما تعلمه وبرع فيه.
وكان الأمير الزحلان قد دفع به إلى كبار معلمي عصره في إعداد الفرسان وتدريبهم فنون الحرب وخداعاتها وحيلها، وما تستلزمه من إلمام بلغة الأعداء ومعرفة طبائع الناس والبلدان والأسلحة، وكيفية نقل الجنود والاقتتال البحري وحصار المدن والسواحل.
حتى إذا ما حقق مراده في العودة إلى أحضان قبائله الهلالية، عاد محملا بخبرات الشعوب البحرية من بقاع لبنان التي تربى بها إلى مطلع شبابه.
فلقد كان فارس الهلالية أبو زيد مولعا منذ صباه المبكر بالسفر والترحال بحثا عن كل جديد، وساعده في هذا وجوده في بيئة بحرية تتيح له الإبحار والتجوال عبر بلاد الله الواسعة الفسيحة مشرقا ومغربا.
ولكم أتاح له البحر الشاسع المدى إطلاق خياله المنتفخ بدوره دون انغلاق وتوقف عند حياة البدو وطبائعهم وخوفهم الدائم منه ومن أمواجه العاتية، كما ساعد أبا زيد الهلالي في غزوه وترحاله الدائم دون توقف معرفته الواسعة بلغات ولهجات وطبائع الشعوب، من قريبة متاخمة إلى بعيدة مترامية لم يسمع بها قبل.
ومن هنا تحقق تفوق أبي زيد نتيجة لأسباب تجاوبه في القيادة ووضع الخطط والتنكر ودراسة وتعرف أنماط حياة كل وأي كيان وقبيلة وبطن عربية، ابتداء من ربوع الشام حيث طرابلس المشرق وانتهاء بطرابلس عرب المغرب.
وهي الخبرات التي حملها إلى نجد معدا بها فيالق الهلاليين وكتائبهم وألويتهم، مستفيدا من تكامل البلدان والكيانات العربية، التي آن أوان توحيدها ولو استدعى الأمر حد السيف، وهو ما عبر عنه ونقله إلى شباب المجاهدين الهلاليين ضد همجية وخرافة العالم القديم.
فما إن قاربت طبول الحرب الهلالية طرقها المدوي من كيان إلى آخر ومن مضرب إلى ما يتخمه، حتى تدخل بعض العقلاء في اجتماع المشورة مطالبين بالتروي، ولو لإعادة مراجعة قرار الهجرة والحرب وما يستلزمه من إعداد ورص للصفوف والمؤن.
فمثل هذا القرار يستلزم معرفة أكثر اتساعا بمسالك الطريق الذي يسلكه الألوف المؤلفة من الهلاليين، وريادته عبر الشام وما بين الرافدين مرورا بفلسطين ومصر وليبيا إلى قرطاج تونس التي يعرفها الهلاليون أكثر من غيرهم، وسبق أن نزلت جحافلهم أرضها الخضراء الوارفة كجنات تغذيها شرايين الأنهار قرونا عقب قرون، حيث أطلقوا عليها «تؤنس»، أي «أنس الغريب».
صفحة غير معروفة