أحقا ما يحدث أن تلفظ الأميرة الحكيمة المجاهدة التي عمت شهرتها الآفاق كلا من المشرق والمغرب أنفاسها؟! وهي التي رفعت رايات الهلاليين وبيارقهم خفاقة مشرقة من فوق هودجها المجلل بشارات المجد، بدءا من تخوم أسوار الصين مرورا بالهند وسرنديب والأناضول مشرقا، حتى مشارف المغرب الكبير والأندلس غربا، تنكس أمامها هامات أعتى الملوك والأباطرة والأكاسرة والأمراء، تواكب ذلك كله حكمة عميقة الجذور والغايات والمقاصد.
وكما لو أن هاجسا خفيا وحد بين جميع قبائل وبطون عرب بني هلال، وهم يتدافعون خارجين مروعين من بيوتهم ومضاربهم وقصورهم في ذلك الصباح المبكر، هذا الهاجس هو الخوف الباطني الذي لا يعرف له سبب، والذي كان ظاهرا تماما على جميع الوجوه كلما تلاقت جموعهم وجموعهن. - لم أنم البارحة. - أجل. - لم أذق للنوم طعما. - لحظة واحدة فقط. - غمضة عين.
صحيح أن الجميع كانوا على دراية بمدى ما حل على كاهل الأميرة الأم - شماء - منذ سنين قريبة من مرض عضال، أضنى أطباء نجد والشام والأندلس ويئس الجميع من إمكانية شفائها.
ولم يعد يسمع منها وهي مسجاة على فراشها سوى تمتمة. - آجال! أعمار تنقضي!
لكن من يمكن له أن يصدق ويعي من تلك الجموع الغاضبة الحانقة التي تجمعت وفودها من كل صوب وكيان، فلم يقتصر الأمر على النجديين وحدهم، بل سرى مسراه أيضا إلى وادي الحجاز ومدن الطائف وتهامة وتعز وصنعاء وعدن وحضرموت وصرواح ومأرب سريان النار في الهشيم. - الشماء ماتت!
وعلى الفور توافدت الفرسان على مشارف نجد وساحاتها التي غصت بجنازات النساء النائحات والمبتهلات وطالبات الرحمة وشاعرات الموت ومنشداته.
وكان الأمر أكبر وأقسى من مجرد موت أميرة وقائدة، لها وحدها ثلث المشورة في الحرب والسلم والهجرة والتصالح والمهادنة والتحالف.
وكما لو أن هناك إحساسا خفيا جماعيا ناشب الجذور داخل الجميع عن مدى جسامة الكارثة الكبرى الجاثمة التي ستحط يوما على رءوس الجميع، لتمتص رحيق الحياة من جزيرة العرب شمالا وجنوبا. - ما الخبر؟
صحيح أن بوادر الأيام الصعبة لم تلحق عرب الجزيرة بأسرها سوى مع حلول المرض بالأميرة شماء الأم، الذي لازمها السنوات الأخيرة فأمسكها عن كل حركة ونشاط.
وهي بذاتها وتمامها السنوات التي نكست فيها الرايات الهلالية، دون تطلع لجهاد وفتوحات قوامها التعريب والتوحيد، وكأنه باستسلام أميرتهم الأم القهري لآلام مرضها العضال الطاعن استسلم الجميع انتظارا للحظة العافية التي امتدت لسنوات إثر سنوات إلى أن وقع المكتوب.
صفحة غير معروفة