عندئذ قلت: «إن كل ما قلته معقول بالتأكيد ومسوغ بحلاوة البلاغة والموسيقى، غير أن كلماتك تروق المرء أثناء سماعها فحسب، إن للمعذبين مواجيد من بأسائهم غائرة، حتى إذا ما فرغت كلماتك ولم تعد ترن في الآذان عاد هذا الأسى المتأصل ليثقل القلب مرة أخرى.»
فأجابت: هو ذاك، فهذا ليس العلاج بعد، إنما هو نوع من التسكين لحزن شديد ما يزال يستعصي على العلاج، أما العلاجات التي تنفذ إلى العمق فسوف أستخدمها في الوقت الملائم.
ومع ذلك فما أحسبك على اقتناع بأنك من الأشقياء حقا، أم نسيت كم اصطفاك الحظ بعطاياه وآثرك بهباته؟ ألا يكفي أنك حين فقدت أباك تولتك رعاية أناس من أعلى الطبقات، وجعلت صهرا لأرفع عائلات المدينة؟ فقد كنت عزيزها قبل أن تكون صهرها، وذاك لعمري أغلى صنف من الروابط جميعا، من ذا الذي يشك في أنك أسعد الناس حظا فيما حباك الله به من زوجة نبيلة وأبناء نجباء؟ ناهيك بألوان المجد الذي بلغته وأنت شاب بعد، وحظيت منه بما لم يحظ به أغلب البشر في كل العصور، وبحسبي أن أذكر ما توجك به الحظ السعيد مما لم يتوج به أحدا سواك، ويكفي أن أذكرك بذلك اليوم المجيد الذي تتضاءل بجانبه كل نعم الدنيا، ولا تنال من بهائه كل ألوان الرزايا مهما ثقلت وتراكمت، وأعني ذلك اليوم الذي رأيت فيه ابنيك قنصلين في آن معا يزفان من دارك بين تهنئة القناصل وتهليل الجماهير، إذ جلسا على مقاعد المجد بينما تلقي أنت خطاب التهنئة إلى الملك، وتنتزع الإعجاب لبلاغتك ونبوغك، في اليوم نفسه جلست في المدرج
Circus
بين القنصلين، في عرض فخم يليق بقائد منتصر، تتلقى الحفاوة وتسعد الجماهير التي احتشدت حولك في شغف وترقب.
أرى أنك قد أغلظت القول لإلهة الحظ
Fortuna ، لقد طالما لاطفتك ودللتك كمعشوق لها، وغمرتك بما لم تغمر به أحدا من قبلك، هل لك أن تراجع حساباتها وتوازن بين ما أعطت وما أخذت؟ هذه هي المرة الأولى التي ترمقك فيها بالنظر الشزر، ولو أحصيت أوقات الشقاء، من حيث الكم والكيف، فلن يسعك أن تنكر أنك كنت امرءا سعيدا حتى الآن، أما إن كنت تنكر ذلك باعتبار زوال هنائك الذي مضى وفوات سعدك وانقضاء أسبابه، فليس لك أن تدعي رغم ذلك أنك الآن شقي بائس ؛ لأن نفس الأشياء التي تراها بؤسا هي أيضا أشياء عابرة ككل شيء آخر، هل أنت غريب عن الحياة وافد على مسرحها لأول مرة غير ملم بمشهدها وغير مدرك لأمرها؟ أتظن أن هناك أي دوام لأي حال من أحوال البشر، وأنت تعلم أن هناك لحظة مفردة وشيكة سوف تأتي على المرء وتمحوه محوا؟ فرغم أن حظوظ الحياة قلما تدوم لأحد، فإن اليوم الأخير من عمر المرء فيه نوع من الموت لإلهة الحظ حتى إذا لازمته وبقيت معه، أي فرق إذن بين أن تهجرها أنت بالموت وأن تهجرك هي بالفرار؟!
1
عندما تشرع الشمس بعربتها الوردية
في نشر ضيائها،
صفحة غير معروفة