2
ويغفل أنه كان من المحال في مطلع القرن السادس أن يتقلد أي شخص وثني أعلى مناصب الدولة مثلما فعل بوئثيوس، ويغفل قول «الفلسفة» في الكتاب الثالث «إنه الخير الأسمى إذن ذاك الذي يدبر كل شيء بقدرة ورأفة.» ورد السجين عليها بأنه سعيد على الأخص بالكلمات نفسها التي تستخدمها، وهي إيماءة بأنه يتذكر هويته المسيحية حتى وسط التعليم الفلسفي كلما راودت مسامعه أصداء من الكتاب المقدس.
3
وإذا كان «العزاء» يخلو حقا من أي إشارة صريحة إلى المسيحية، فإنه يخلو بالمثل من أي شيء يتناقض معها على نحو قاطع، صحيح أنه يعتمد على «نظرية التذكر» الأفلاطونية التي تفترض وجودا سابقا للروح قبل الولادة، ويعتمد على فكرة «ديمومة العالم» التي تنطوي على إنكار للخلق من عدم (في محاورة طيماوس) إلا أن هاتين الفكرتين، بعد كل شيء، لا تشكلان جوهر العزاء.
وأقرب إلى الصواب أن نقول، ببساطة، إن بوئثيوس، وهو الفيلسوف المكتمل الأداة، أراد لعزائه أن يكون فلسفيا (كما يشي العنوان) لا أن يكون دينيا، ومن ثم فقد آثر ألا يستعين بأي حجة خارجة عن نطاق الموضوع الذي يتناوله،
4
وأن يلتزم من ثم بمناهج الفلسفة ولا يجلب أي شيء من معطيات الوحي، ويبقى طوال النص محافظا على التمييز الصارم بين الإيمان والعقل، إنه، ببساطة، يريد ألا يقع في «خطأ مقولي»
category mistake ، وهل يسأل من ألف كتابا في الحساب لماذا لا يستخدم المنهج الهندسي؟!
في كتابه «تطور فكر العصر الوسيط» يقول ديفيد نولز: «لعل التفسير يكمن في تغير الموقف تجاه الفلسفة منذ العصور الوسطى الأخيرة، فالحق أنه ما بين عصر أوغسطين وعصر سيجر البرابانتي كان الاعتقاد العام بين كل من يفكر تفكيرا جادا هو أن هناك وصفا عقلانيا صادقا واحدا للإنسان والكون وإله ذي قدرة شاملة وعناية، وهو وصف صحيح بنفس الدرجة التي تصح بها حقائق الوحي المسيحية، إن العظام من القدماء، رغم وثنيتهم، قد بلغوا هذه الحقيقة وعبروا عنها في فلسفتهم لو اكتنه المرء تعليمهم بأمانة، وبالاستعانة بهم يمكن تقديم جواب شاف عن مشكلات الحياة والمصير الإنسانيين، كانت هذه الإجابات هي ما مكن العقل الإنساني من أن يواجه العالم ويواجه كل كوارث الحياة، وبوسع المرء بغير شك، فيما وراء الحجج العقلية، في العالم الغيبي للروح، أن يلتقي بالحب الشخصي للمسيح وأن يتلقى بركته.»
5
صفحة غير معروفة