194

عزاء الفلسفة

تصانيف

وأخيرا، إذا اعتقد أي شخص أن أمرا ما على غير ما هو في الحقيقة، لا تكون هذه «معرفة»، ليس هذا فحسب، بل تكون رأيا كاذبا جد بعيد عن حقيقة المعرفة، إذن ، إذا كان شيء ما مقدرا له أن يحدث بحيث يكون وقوعه غير يقيني وغير ضروري، فمن ذا يمكنه أن يعرف مسبقا أنه سيحدث؟ فمثلما أن المعرفة ليست بالأمر المشوب بالكذب، كذلك الشيء المدرك بالمعرفة لا يمكن أن يكون غير ما هو مدرك، والحق أن السبب في خلو المعرفة من الخداع هو أن من الضروري للأشياء أن تكون بالضبط كما تدركها المعرفة.

السؤال، إذن، هو: هل يمكن لله أن يعرف مسبقا أن هذه الأشياء سوف تحدث، إذا كانت هذه الأشياء غير يقينية؟ فإذا ما حسب أنها سوف تحدث حتما بينما هناك احتمال قائم بألا تحدث فإنه يكون مخدوعا وحاشاه! ولكن إذا كانت معرفته بأنها سوف تحدث هي من ذلك الصنف الذي يجيز احتمال أن تحدث أو لا تحدث، فأي صنف من المعرفة هذا الذي لا يدرك أي شيء على اليقين؟! وأي فرق بينها وبين النبوءة المضحكة لتيريسياس

Tiresias

في ساتيرات هوراتيوس: «أيما شيء أقوله فهو إما سوف يحدث وإما لا يحدث؟»

4

وكيف تعلو العناية الإلهية على الظن إذا كانت، شأن البشر، تعتبر تلك الأشياء التي وقوعها غير يقيني أشياء غير يقينية؟ فإذا كان التشكك أو عدم اليقين محالا على المصدر الأوثق لكل الأشياء؛ فإن الحدوث المستقبلي للأشياء التي يراها الله مسبقا بوثوق كأحداث مستقبلية لا بد من أن يكون يقينيا، إذن لا حرية هناك لأفكار الإنسان وأفعاله؛ لأن العقل الإلهي في رؤيته المسبقة لكل شيء دون أي ضلال أو زيف إنما يقيد أفكار الإنسان وأفعاله بمسلك واحد في الحدوث.

وما أن نسلم بهذا حتى يتبدى بوضوح مدى السقوط الذريع لكل الشئون البشرية، سدى هو الثواب المقدم للأخيار والعقاب المقدم للأشرار؛ لأنهم لم يستحقوه بأي حركة حرة أو إرادية للنفس، وهكذا فإن ما نعده الآن ذروة العدل - عقاب الأشرار وثواب الأخيار - يضحي ذروة الظلم كله، ما دام البشر مدفوعين للخير أو الشر لا بإرادتهم بل بضرورة قاهرة لما يتعين أن يكون، بذلك لن يكون للرذيلة ولا للفضيلة أي وجود، وسيكون كل استحقاق مختلطا مشتبها، وليس بالإمكان تصور ما هو أسوأ من ذلك، فإذا كان نظام الأشياء مستمدا من العناية، ولا مجال ثم للقصد البشري، فإن شرورنا أيضا مستمدة من خالق كل شيء.

لا جدوى إذن في أن نرجو أي شيء أو ندعو بأن نوقى أي شيء، فأي شيء يمكن أن يرجوه المرء أو يصلي للنجاة منه، إذا كان كل ما يمكن أن يراد هو شيء مقيد بقيد صارم؟

وهكذا تنتفي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الإنسان والله - أي الرجاء والدعاء، فنحن نفترض أننا بالخشوع الواجب أمام الله نفوز بالمردود الذي لا يقدر بثمن - بالنعمة الإلهية، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن للبشر به أن يخاطبوا الله ويصلوا أنفسهم بذلك الضياء المحجوب قبل أن يمنحوه عن طريق الابتهال والتضرع.

وإذا كان التسليم بضرورة الأحداث المستقبلية يعني أن الرجاء والدعاء لا تأثير لهما، فأي سبيل سيكون لنا لكي نصل أنفسنا بمليك العالم ونتحد به؟ لذلك لا بد للجنس البشري، مثلما كنت تنشدين الآن، من أن يكون منبتا عن مصدره هزيلا واهنا على الدوام.

صفحة غير معروفة