إلا أن العواقب المشئومة للطواعين كانت واسعة التأثير، ولأنها كانت تظهر دون سابق إنذار، فقد نشأ اعتقاد شائع بأن السحرة هم من كانوا يستحضرونها. كان يحاكم المشتبه بهم، وحكم على رجال ونساء كثيرين بالإعدام؛ زعما أنهم يزاولون فنون السحر الأسود. استشرى أحد الطواعين في باريس عام 1466 وكان شديد الشراسة - حصد أرواح 40000 شخص - وكالعادة سعى أهلها إلى تقديم كباش فداء، من بينها سحرة ويهود وبرصان وظواهر فلكية. كانوا يلقون باللوم أيضا على ارتفاع الحرارة الشديد لشهر أغسطس، ولجأ المواطنون إلى التوسلات الدينية وصنعوا موكبا دينيا عظيما يجوب الشوارع، ولكن دون جدوى؛ فقد كان الوباء لا يزال في مرحلته الثائرة، بل ازداد عنفا حيث توغل في ضواحي المدينة.
تأخرت فرنسا عن إيطاليا في اتخاذ التدابير الوقائية؛ فقد كانت السلطات في بلدة برينول في منطقة بروفنس هي أول من يفطن عام 1451 إلى دور المسافرين الخطير في نقل الطاعون. وقد كانت خطوة كبيرة للأمام في مكافحة انتشار المرض عندما منع دخول الأشخاص إذا كانوا وافدين من بلدة عانت من الطاعون من قبل. بعد ذلك، طردت سلطات برينول أيضا أولئك الذين حامت حولهم الشكوك في إصابتهم بالطاعون، والذين حتما ماتوا في عزلة بعيدا عن الأنظار. وفيما بعد كانت السلطات، إلى جانب تفتيش المسافرين لدى وصولهم، تطلب إثباتا منهم بأن كافة البلدات التي سافروا عبرها كانت خالية تماما من الطاعون. من الواضح أنهم حددوا مصدر الخطر الأساسي: «جلب مسافر قادم من بعيد الطاعون إلى البلدة». نذكر أن الطاعون وصل إلى بنريث عن طريق أندرو هوجسون، ذلك الغريب الذي وفد من «مكان بعيد.»
اتخذ المزيد من تدابير الصحة العامة على نحو متزايد في فرنسا خلال القرن الخامس عشر؛ فقد جرى حظر بيع أثاث منازل وملابس الضحايا، بل كانت توجد محاولات لتطهير المنازل التي توفي بها شخص ما جراء إصابته بالطاعون. وعين جراحون ومساعدون، وكان يطلق عليهم الغربان لأنهم كانوا يرتدون أقنعة على شكل منقار طائر، وكانوا يلبسونهم عباءات سوداء خاصة أعطتهم مظهرا شريرا. كانت هذه ممارسة سليمة، وكانت أول صورة من صور الملابس الوقائية، وهي تؤكد على اعتقاد الأفراد الذين عاشوا في ذلك الزمان أن الطاعون يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر. كانت وظيفة الغربان هي تفقد الموتى وحملهم ودفنهم. اعتبر هؤلاء الجراحون ناقلين للعدوى، وكانت ملابسهم الغريبة بمنزلة تحذير للآخرين بالابتعاد.
أنشئت المستشفيات من أجل عزل الضحايا، وكان أولها في بلدية بورج أون بريس عام 1472، وأصبحت هذه المستشفيات تعرف فيما بعد باسم «بيوت الطاعون»، وكانت مجرد غرف انتظار للموت، وكانت حالما تغص بجثث الموتى لا تلبث أن يحل محلها آخرون ينتظرون الموت. أنشئت مكاتب خاصة في بلدات كثيرة من أجل تطبيق اللوائح المكافحة للطاعون.
كثيرا ما تعين إقامة الجنازات ليلا أو حظر إقامتها بالمرة بغية تقليل هلع العامة. وفيما بعد، نفي الفقراء وأمر الشحاذون والصعاليك بترك البلدة، وإلا عوقبوا بالجلد. نلمس هنا من جديد صورة من صور العدالة الجائرة. في آخر المطاف اتبعت فرنسا قواعد السلطات المعنية بالمسائل الطبية في إيطاليا، وبدأت في تنفيذ حجر صحي مدته أربعون يوما.
وبميزة الحكم على ما جرى من موقعنا الحالي، يمكننا أن نرى أنه لم تكن جميع هذه التدابير فعالة بنفس القدر، إلا أنه من الواضح أنه حتى في القرن الخامس عشر، فهم الأفراد أساسيات الأمراض المعدية، مميزين إياها عن الخرافات العمياء السائدة؛ فقد حاولوا بقوة مكافحة الوباء اللعين واستحدثت تدابير معقولة للصحة العامة في وقت مبكر جدا من عصر الطواعين. (2) القرن السادس عشر وحالة من عدم الاستقرار
خلال الفترة ما بين عامي 1520 و1600، في ظل فترة صاحبها نقص الغذاء، والمجاعات، والفيضانات، وانتفاضات الفلاحين والحروب الدينية، انتشرت أوبئة طاعون معدية ومتكررة على نحو متزايد في فرنسا، وكثيرا ما كان مكتب الصحة يعين رجالا مسلحين لتنفيذ اللوائح ولحفظ النظام المدني. دائما ما كان يسبب ظهور المرض في بلدة ما اضطرابا مجتمعيا، وكانت الجماهير الحانقة تهاجم المسافرين والسحرة والبرصان بالإضافة إلى سلب المنازل، وكانت السلطات تنزل بأولئك الذين يخالفون القواعد عقوبات شنيعة قد تصل إلى الإعدام.
أصبحت جنيف، بسبب موقعها المركزي في أوروبا واتباعها المبكر لمبادئ الإصلاح البروتستانتي في مطلع القرن السادس عشر، ملجأ للمضطهدين ونقطة انطلاقة للإرساليات التبشيرية. وقد اكتظت بالمهاجرين والنازحين الذين كانوا ينوون الاستقرار هناك، وكانت بؤرة لتمركز الطاعون. كانت حكومة جنيف على دراية بهذا الوضع، وبناء عليه اتخذت بعض التدابير الوقائية؛ فقد أنشأت بيتا للطاعون في وقت مبكر، كان مزودا بممرضين وممرضات، وعين مساعدون وحمالون بصفة رسمية من أجل نقل المرضى والموتى، وكان دورهم أيضا الإبلاغ عن ظهور حالات جديدة مصابة بالطاعون. الأرجح أنهم انخرطوا في عمليات نهب وابتزاز، هم أيضا بطبيعة الحال، لكن عام 1530، اتهم مواطنو جنيف الموقرون بعضا من هؤلاء المساعدين بنشر الطاعون عن عمد أثناء تأديتهم عملهم، واعترف أحد المقبوض عليهم تحت ضغط التعذيب، وبعدها خضع اثنان للتعذيب بالكماشة الملتهبة قبل قطع رأسيهما. جرد كاهن يدعى دون دوفو من رتبته الكهنوتية، وجرى تسليمه إلى السلطة العلمانية وأعدم. قطعت يدا امرأتين أمام منازل الضحايا المفترضين، ثم لقيتا نفس مصير الرجال.
اكتشفنا المدونة التاريخية التالية في الدورية الطبية البريطانية الصادرة عام 1869. في أوائل عام 1563، احتلت القوات الإنجليزية بقيادة اللورد وارويك ميناء هافر الذي يقع على الساحل الشمالي الفرنسي. كان الميناء تحت الحصار، وكانت القوات البالغ عددها 7000 جندي مكتظين معا ؛ ما يمثل ظروفا مثالية لاستشراء مرض معد. في السابع من يونيو أبلغ وارويك أن مرضا غريبا تفشى، وأن تسعة أفراد ماتوا على نحو مفاجئ. وبحلول السابع والعشرين من نفس الشهر، كان الجنود يموتون بمعدل 60 جنديا في اليوم الواحد، وقلما تعافى أولئك الذين أصابهم المرض. في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، كان قد لقي 500 فرد حتفهم. هاجم المرض الجنود في المقام الأول، حيث إن معظم الضباط فروا، والأطباء ماتوا. لم تكن القوات مكدسة فحسب، بل عانت أيضا من الحرمان؛ إذ لم يكن بمقدورهم الحصول على الماء العذب، حيث اقتصر الأمر على الخمر ومشروب التفاح، ولم يكن لديهم خضروات طازجة ولا لحوم.
بانتهاء يونيو، كان قد تبقى من السبعة آلاف رجل، ثلاثة آلاف فحسب مؤهلين لأداء الواجب. لم تدفن الجثث وطفت في مياه الميناء. أرسلت قوات جديدة، لكن حتى هؤلاء سرعان ما سقطوا أيضا ضحايا للمرض.
صفحة غير معروفة