وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .
ثم التفت نحو نديمه قائلا: «يسرنا وجود الشاعر البعلبكي في بلادنا، وسوف نقربه ونكرمه» وبعد دقيقة زاد بصوت منخفض «إنما الشاعر طائر غريب المزايا، يفلت من مسارحه العلوية يجيء هذا العالم مغردا، فإن لم نكرمه يفتح جناحيه، ويعد طائرا إلى مواطنه».
وانقضى الليل ... فخلع الفضاء أثوابه المرصعة بالنجوم، ولبس قميصه المنسوجة من أشعة الصباح، ونفس أمير البلاد تتمايل بين عجائب الوجود وغرائبه، وخفايا الحياة وأسرارها.
السم في الدسم
في صباح يوم من أيام الخريف الذهبية التي تظهر شمال لبنان بكل مظاهره العلوية، اجتمع سكان قرية «تولا»، حول الكنيسة القائمة في وسط منازلهم يتساءلون، ويتبادلون الآراء في سفر فارس الرحال الفجائي إلى مكان قصي لا يعلم به غير الله، تاركا عروسته الصبية التي تزوج بها منذ ستة أشهر.
كان فارس الرحال شيخ القرية وزعيمها، وقد ورث هذه المنزلة عن أبيه وجده، ومع أنه لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، فقد كان في شخصيته ما يوعز الاحترام والوقار في قلوب مواطنيه، وعندما اقترن في أواسط الربيع الغابر بسوسان بركات قال الناس: ما أسعده فتى، فهو قد حصل قبل أن يبلغ الثلاثين على كل ما يتمناه الإنسان من السعادة في الحياة الدنيا.
ولكن في ذلك الصباح عندما استيقظ سكان تولا، قيل لهم إن الشيخ فارس قد جمع ما تيسر له من المال، وركب فرسه وغادر القرية دون أن يودع نسيبا أو صديقا، تعاظمت ظنونهم، وأخذوا يتساءلون عن الأسباب الخفية التي جعلته يتركهم، ويترك عروسته، ومنزله، وحقوله، وكرومه.
إن الحياة في شمال لبنان أقرب إلى الاشتراكية منها إلى كل تعليم آخر؛ فالقوم هناك يتساهمون أفراح الوجود وشدائده، مدفوعين بأميال فطرية وضعية، فإذا ما جاءت الأيام بحادث إلى قرية ينصرف سكانها بكليتهم إلى استقصاء ذلك الحادث حتى تجيء الأيام إليهم بأمر آخر.
تلك هي العوامل التي صرفت سكان تولا عن أعمالهم اليومية، فاجتمعوا حول كنيسة مارتولا يتحدثون ويتساءلون، ويتبادلون الآراء بسفر فارس الرحال.
وبينما هم على هذه الحالة، وإذا بالخوري إسطفان كاهن القرية يقترب منهم منحني الرأس منقبض الملامح، فدنوا منه مستطلعين فظل ساكنا يفرك يدا بيد، وبعد هنيهة قال: لا تسألوني ... لا تسألوني، كل ما أعرفه يا أبنائي هو هذا: قرع فارس باب منزلي قبل طلوع الفجر، ولما فتحت له وجدته متمسكا بمقود فرسه، وعلى وجهه أمارات الحزن الشديد، فسألته مستغربا عما يريد فقال: «جئت لأودعك يا أبتي، فأنا مسافر إلى ما وراء البحار، ولن أعود إلى هذه البلاد وأنا حي»، ثم وضع في يدي رسالة مختومة باسم صديقه نجيب مالك، وطلب إلي أن أسلمها إليه يدا بيد، فعل هذا واعتلى فرسه وراح مسرعا قبل أن أستوضح أمره، هذا كل ما أعرفه فلا تسألوني الزيادة. فقال أحد الواقفين: لا شك أن في الرسالة ما ينبئنا عن سبب سفره؛ لأن نجيب مالك كان أعز صديق له في القرية.
صفحة غير معروفة