فنظر إلى وجهي بشيء من الاهتمام وقال: «حبذا لو كان للإنسان بعض أطباع الطيور. حبذا لو كسرت العواصف أجنحة البشر، وهشمت رؤوسهم، ولكن الإنسان مطبوع على الخوف والجبانة، فهو لا يرى العاصفة مستيقظة حتى يختبئ في شقوق الأرض ومغاورها».
فقلت وقصدي متابعة الحديث: «نعم إن للطير شرفا ليس للإنسان، فالإنسان يعيش في ظلال شرائع، وتقاليد ابتدعها لنفسه، أما الطيور فتحيا بسبب الناموس الكلي المطلق الذي يسير بالأرض حول الشمس».
فلمعت عيناه وانبسطت ملامحه كأنه وجد بي تلميذا سريع الفهم ثم قال: «أحسنت، أحسنت، فإذا كنت تعتقد حقيقة بما تقول، فاترك الناس وتقاليدهم الفاسدة وشرائعهم التافهة، وعش كالطيور في مكان بعيد خال إلا من ناموس الأرض والسماء».
فقلت: «إني اعتقد بما أقول يا سيدي».
فرفع يده وقال بصوت يمازجه التعنت، والتصلب: «الاعتقاد شيء والعمل به شيء آخر، كثيرون هم الذين يتكلمون كالبحر، أما حياتهم فشبيهة بالمستنقعات، كثيرون هم الذين يرفعون رؤوسهم فوق قمم الجبال، أما نفوسهم فتبقى هاجعة في ظلمة الكهوف».
قال هذا ولم يدع لي فرصة للكلام، بل قام من مكانه، ومدد الشحرور على جبة قديمة بقرب النافذة، ثم تناول رزمة من القضبان اليابسة، وألقاها في الموقدة قائلا: «اخلع حذائك، وجفف قدميك، فالرطوبة أضر بالإنسان من كل شيء آخر، جفف أثوابك جيدا ولا تكن خجولا».
فاقتربت من النار، والبخار يتصاعد من أثوابي الرطبة، أما هو فوقف في باب الصومعة محدقا بالفضاء الغضوب.
وبعد هنيهة سألته قائلا: «هل جئت إلى هذه الصومعة منذ زمن بعيد؟».
فأجاب دون أن يلتفت نحوي: «جئت إلى هذه الصومعة عندما كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه».
فسكت قائلا في سري: «ما أغرب هذا الرجل، وما أصعب السبيل إلى حقيقته، ولكن لا بد من محادثته، ومعرفة خفايا روحه، وسوف أصبر حتى يتحول شموخه إلى اللين والدعة».
صفحة غير معروفة