ناديتكم في سكينة الليل؛ لأريكم جمال البدر، وهيبة الكواكب، فهببتم من مضاجعكم مذعورين، وقبضتم على سيوفكم، ورماحكم صارخين «أين العدو لنصرعه؟» وعند الصباح وقد جاء العدو بخيله، ورجله ناديتكم، فلم تهبوا من رقادكم، بل ظللتم تغالبون مواكب الأحلام.
قلت لكم: تعالوا نصعد إلى قمة الجبل، لأريكم ممالك العالم، فأجبتم قائلين «في أعماق هذا الوادي عاش آباؤنا، وجدودنا، وفي ظلاله ماتوا، وفي كهوفه قبروا، فكيف نتركه ونذهب إلى حيث لم يذهبوا؟».
قلت لكم: هلموا نذهب إلى السهول، لأريكم مناجم الذهب، وكنوز الأرض، فأجبتم قائلين: «في السهول تربض اللصوص وقطاع الطرق».
قلت: تعالوا نذهب إلى الساحل حيث يعطي البحر خيراته، فأجبتم قائلين: «ضجيج اللجة يخيف أرواحنا، وهوى الأعماق يميت أجسادنا». •••
لقد كنت أحبكم يا بني أمي، وقد أضر بي الحب ولم ينفعكم، واليوم صرت أكرهكم، والكره سيل لا يجرف غير القضبان اليابسة، ولا يهدم سوى المنازل المتداعية.
كنت أشفق على ضعفكم يابنى أمي، والشفقة تكثر الضعفاء، وتنمي عدد المتوانين، ولا تجدي الحياة شيئا، واليوم صرت أرى ضعفكم؛ فترتعش نفسي اشمئزازا، وتنقبض ازدراء.
كنت أبكي على ذلكم وانكساركم، وكانت دموعي تجري صافية كالبلور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة، بل أزالت الغشاء عن عيني، ولا بللت صدوركم المتحجرة، بل أذابت الجزع في قلبي، واليوم صرت أضحك من أوجاعكم، والضحك رعود قاصفة تجيء قبل العاصفة، ولا تأتي بعدها.
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
أتريدون أن أريكم أشباح وجوهكم في أحواض المياه الهادئة؟ تعالوا إذن، وانظروا ما أقبح ملامحكم.
هلموا وتأملوا فقد جعل الخوف شعور رؤوسكم كالرماد، وعرك السهر عيونكم؛ فأصبحت كالحفر المظلمة، ولمست الجبانة خدودكم، فبانت كالخرق المتجعدة، وقبل الموت شفاهكم، فأمست صفراء كأوراق الخريف.
صفحة غير معروفة